تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق ـ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ـ وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؟ فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» الآية ، قال فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» إلى آخرها.

وقوله نسخها الله : أي أزال ما أخافهم من الآية الأولى وحوّله إلى وجه آخر.

وقد قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربّوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها ، وأثرت في قلوبهم عاداتها ، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدى الرسول ونور القرآن ، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى ، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عز وجل ، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها ، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة ، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به.

وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية ، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.

(فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له ، وبعذب بعدله من يشاء أن يعذبه ، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل ، ومن العدل

٨١

أن يجازى المسيء بقدر إساءته ، والمحسن على قدر إحسانه ، ومن الفضل أن يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعافها أو يزيد ، ولا يضاعف السيئة.

والذنب المغفور هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس وليس كما يزعم الجاهلون أن الأمور فوضى والكيل جزاف ، فيقيمون على الذنوب ويصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة ـ اقرأ قوله تعالى في دعاء الملائكة للمؤمنين «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

ومحاسبة الله لعباده أن يريهم أعمالهم الظاهرة والباطنة ، ويسألهم لم فعلوها؟ ثم إن شاء غفر وإن شاء عذب ، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له فالله يغفرها له ، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها ، وهو المختار يفعل ما يشاء.

ولا يخفى ما في الآية من الإنذار والتخويف ، وليس فيها قطع بمغفرة ذنب وإن كان صغيرا ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية أنه قال : أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف ، فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا

٨٢

رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

تفسير المفردات

لا نفرق بين أحد من رسله : أي إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء لا يفضل بعضهم بعضا ، سمعنا : أي سماع تدبر وفهم ، والتكليف : الإلزام بما فيه كلفة ، والوسع :

ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر ، والاكتساب يفيد الجد في العمل ، والمؤاخذة المعاقبة لأن من يراد عقابه يؤخذ بالقهر ، ما لا طاقة لنا به : أي ما لا قدرة لنا عليه ويشقّ علينا فعله ، والإصر : العبء الثقيل يأصر صاحبه ويحبسه مكانه ، إذ لا يطيق حمله لثقله ، والمراد به التكاليف الشاقة ، مولانا : أي مالكنا ومتولى أمورنا.

المعنى الجملي

افتتح سبحانه هذه السورة ببيان أن القرآن لا ريب فيه ، وأنه هدى للمتقين ، وبين صفات هؤلاء وأصول الإيمان التي أخذوا بها ، ثم ذكر خبر الكافرين والمرتابين ، ثم أرشد فيها إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق ، وحاجّ الضالين من الأمم السالفة ولا سيما اليهود ، فإنه قد بلغ في حجاجهم مبلغا ليس بعده زيادة لمستزيد ـ وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول صلوات الله عليه وللمؤمنين ، ثم لقنهم من الدعاء ما يرضيه ، ثم ذكر تمام خضوعهم وإخباتهم إلى ربهم الذي رباهم وخلقهم في أحسن تقويم ، وميزهم بالفطر السليمة والخلق الكامل ، وطهر نفوسهم وزكاها من الأدناس والأرجاس حتى وصلوا إلى طريق السعادة ، وفازوا بخيرى الدارين ، وهذا منتهى الكمال الإنساني ، وغاية ما تصبو إليه نفوس البشر.

٨٣

الإيضاح

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي صدّق الرسول بما جاء به الوحى من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان ، وتخلّق به كما قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن ، وكذلك المؤمنون من أصحابه.

وقد كان من أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وعلت هممهم فأتوا بالعجب العاجب من فتح البلاد والشعوب وسياستها سياسة عدل وحكمة مما شهد لهم به أعدى أعدائهم ، وسجله لهم التاريخ في سجلّ الدول العظيمة الرقىّ والتقدم حين كان الناس في ظلام دامس ، وحين كانت أرقى الأمم في تلك العصور تسوس رعاياها بالخسف والعسف ، فأنقذها مما ترسف فيه من قيود الاستعباد وجعلها تتنفس في جوّ من الحرية لم تر مثله ـ وكفى بالله شهيدا لهم.

(كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته ، وتمام حكمته في نظام خليقته ، وبوجود الملائكة وسفارتهم بين الله والرسل ينزلون بوحيه على قلوب أنبيائه ، أما البحث عن ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم فمما لم يأذن به الله.

وآمن كل منهم إجمالا فيما أجمله القرآن وتفصيلا فيما فصله ـ بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها هداية للبشر بحسب ما فصل في قوله : «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» الآية.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي ويقولون إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء كثر قوم الرسول أو قلوا ، والتفضيل الذي جاء في قوله تعالى : «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» إنما هو في مزايا أخرى فوق الرسالة.

وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

٨٤

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وقالوا بلّغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم ، وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد ، وهذا مما يبعث النفس إلى العمل به إلا إذا عرض لها مانع يمنعها منه.

والمخلصون في إيمانهم يحاسبون أنفسهم على ما يقع منهم من تقصير تأتى به العوارض الطارئة ، ويأبون إلا الكمال ، ومن ثم كان من شأنهم أن يقولوا :

(غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة ، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقى في مراتب الكمال.

وإنما يكون ذلك بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة ، وبهذا يمّحى أثر الذنب من النفس في الدنيا ، فترجع إلى الله في الآخرة نقيّة زكية.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا يكلف الله عباده إلا ما يطيقون ، ويتيسر لهم فضلا منه ورحمة ، وهو كقوله : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وهذا إخبار من الله بعد تلقيهم تكاليفه بالطاعة والقبول بآثار فضله ورحمته لهم ، إذ كلفهم ما يتسنى لهم فعله ، ولا يصعب عليهم عمله.

وفيه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير ، وبتيسير ما ربما يفهم من الآية السالفة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) من المشقة والتعسير.

(لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي لها خير ما كسبته لنفسها من قول أو فعل ، وعليها ضرّ ما جدّت فيه من شر.

وأضيف الاكتساب إلى الشر لبيان أن النفس مجبولة على فعل الخير ، وتفعل الشر بالتكلف والتأسى ، إذ الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان ، ولا يحتاج إلى مشقة فى فعله بل يجد لذة في عمله ، كما يشعر بالميل إلى عبادة الله ، لأن شكر المنعم مغروس فى طبعه.

٨٥

وأما الشر فإنه يعرض للنفس لأسباب ليست من طبيعتها ، ولا من مقتضى فطرتها ولا يخفى عليها إذ ذاك أنها

ممقوتة في نظر الناس ، وأنها مهينة في قرارة نفوسهم.

فالطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه وهو يشعر بقبحه ، وهكذا شأنه عند اجتراح كل شر ، فتراه يشعر بقبحه ، ويجد بين جوانحه وازعا يقول له :

لا تفعل ، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه.

والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس ، والعبارة الجامعة له أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

والخلاصة ـ إن للنفس ثواب ما كسبت من الخير ، وعليها عقاب ما اجترحت من الشر.

وفي هذا ترغيب في عمل الخير ، والمحافظة على أداء الواجبات الدينية ، فإن اختصاص نفع الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله ، وتحذير له من الإخلال به لأن مضرة ذلك تحيق به لا بغيره ، واقتصار مضرة الفعل بفاعله من أشد الزواجر عن مباشرته.

وبعد أن بين سبحانه حال المؤمنين في السمع والطاعة ، وطلبهم المغفرة مما يتّهمون به نفوسهم من التقصير ، وذكر فضله على عباده في عدم تكليفهم ما لا يطيقون ـ علمهم ما يدعون به ربهم فقال :

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) علمنا سبحانه أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تفضلا منه ، وإحسانا علينا ، إذ كان ينبغى العناية والاحتياط والتذكر ، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان ، أو يقل وقوعها منا ، فيكون ذنبنا جديرا بالعفو والمغفرة.

ذاك أن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء ، وترك إجالة الفكر فيه ، ليستقر في النفس ، ومن ثم ينسى الإنسان ما لا يهمّه ويحفظ ما يهمه ، ويؤاخذ الناس

٨٦

بعضهم بعضا بالنسيان ، ولا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى ، فإنه إن لم يفعل ما يأمره به نسيانا رماه بالإهمال والتقصير وآخذه على ذلك.

وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروّى ، ومن ثم أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الشيء خطأ ، فإذا رمى امرؤ صيدا فأخطأ وأصاب إنسانا فقتله أوخذ به في الشريعة والقوانين الوضعية.

وبهذا تعلم أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة ، وجرى عليه العرف في المعاملات والقوانين ، ولو لم يكن كل منهما مقصرا ما جاز هذا وما حسن ، وكذلك يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ.

والخلاصة ـ أن المراد من الآية أن الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما إذا وقع الإنسان فيهما بعد بذل الجهد والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة ، ثم لجأ إلى الدعاء الذي يقوى في النفس خشية الله ورجاء فضله ، فيكون هذا الإقبال نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير.

وما رواه ابن ماجه والبيهقي في السنن عن ابن عباس مرفوعا «إن الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فهو وعد من الله بالتجاوز عنها يوم القيامة رحمة منه وفضلا.

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي ربنا لا تكلفنا ما يشق علينا فعله ، كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبنى إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس ، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو من ذلك.

وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه لا يكلفنا ما يشقّ علينا كما صرح بذلك في قوله : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وامتنان علينا وإعلام لنا بأنه كان يجوز

٨٧

أن يحمل علينا الإصر ، فيجب علينا أن نشكره لذلك ، فنحن ندعوه استشعارا للنعمة والشكر عليها.

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات أو من البلايا والمحن ، ولا ما يشق علينا من الأحكام ، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله والنهوض به ، حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرّطين في دينهم.

(وَاعْفُ عَنَّا) أي امح آثار ذنوبنا فلا تعاقبنا عليها.

(وَارْحَمْنا) بتوفيقك إيانا للسير على سنتك التي جعلتها وسيلة لسعادة الدارين.

وهذه الجمل الثلاث نتائج لما قبلها من الجمل التي افتتحت بلفظ (رَبَّنا) فاعف عنا مقابل لقوله (لا تُؤاخِذْنا) واغفر لنا مقابل لقوله (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) وارحمنا مقابل لقوله (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة.

(أَنْتَ مَوْلانا) أي أنت مالكنا ومتولى أمورنا ، فأنت الذي منحتنا الهداية ، وأيدتنا بالتوفيق والعناية.

(فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بإقامة الحجة عليهم والغلبة حين قتالهم ، والأول أشد أثرا وأقوى فعلا ، فإنه نصر على الروح والعقل ، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب.

وما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألسنتنا وتتحرك به شفاهنا فحسب ، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التي هى طريق الاستجابة ، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه ، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان ، مع مخالفة أحكام الشريعة ، وتجافى السنن التي سنها الله ، فهو بدعائه كالساخر من ربه ، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان.

٨٨

ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته ، وتنكبنا سنته في خليقته ، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا فلم يستجب لنا دعاء ، وكنا نحن الجانين على أنفسنا ، المستحقين لهذا الخذلان.

فإذا اتخذ المسلمون العدّة وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه ، وساروا على السنن التي هدى إليها البشر ، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم ، فقد ورد في الأثر : إن هذه الأمة لا تغلب من قلة.

وفّقنا الله إلى العمل بسنته ، والسير وفق شريعته ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

خلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة

(١) دعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم.

(٢) عدم اتخاذ أنداد له.

(٣) ذكر الوحى والرسالة ، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده ، وتحدى الناس كافة بالإتيان بمثله

(٤) ذكر أسّ الدين وهو توحيد الله.

(٥) إباحة الأكل من جميع الطيبات.

(٦) ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأحكام الصيام ، والحج والعمرة ، وأحكام القتال والقصاص.

(٧) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله.

(٨) تحريم الخمر والميسر.

(٩) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.

(١٠) أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة.

(١١) تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه.

(١٢) أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك.

٨٩

(١٣) وجوب أداء الأمانة.

(١٤) تحريم كتمان الشهادة.

(١٥) خاتمة ذلك كله ، الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به.

وعلى الجملة فقد فصلت فيها الأحكام ، وضربت الأمثال ، وأقيمت الحجج ، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه ، ومن ثم سميت فسطاط القرآن.

سورة آل عمران

هذه السورة مدنية ، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادّين.

ووجه اتصالها بما قبلها أمور :

(١) إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به ـ فقد ذكر فى الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك ، وفي الثانية طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ، ويقولون كل من عند ربنا.

(٢) إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم ، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى ، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.

(٣) إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب ، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى ، وفي الثانية عكس هذا ، لأن النصارى متأخرون فى الوجود عن اليهود ، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول.

(٤) إن في آخر كل منهما دعاء ، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدى الدعوة ومحاربى أهلها ، ورفع التكليف بما لا يطاق ، وهذا

٩٠

مما يناسب بداءة الدين ، والدعاء في الثانية يرمى إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.

(٥) إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها ، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين ، وختمت هذه بقوله : «وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

٩١

تفسير المفردات

(الم) تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأى الذي عليه المعوّل أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هى حروف للتنبيه كألا ، ويا ، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعى العناية بفهمه ، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال (ألف. لام. ميم) كما يقال (واحد. اثنان.

ثلاثة) وتمد اللام والميم ، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر ، وفتحها وطرح الهمزة من (الله) للتخفيف والإله : هو المعبود ، والحي : ذو الحياة وهى صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة ، والقيوم : القائم على كل شىء بكلاءته وحفظه ، ونزّل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم ، وعبر عن الوحى مرة بالتنزيل ، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحى أعلى من الموحى إليه ، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شكّ فيه ، ما بين يديه هى الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين ، والتوراة : كلمة عبرية معناها الشريعة ، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها ، وهى : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر اللاويين ، وسفر العدد ، وسفر تثنية الاشتراع ، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق ، وهى كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بنى إسرائيل وملوكهم قبل المسيح ، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل ، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه ، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة ، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهى كتب مختصرة فى سيرة المسيح عليه السلام وشىء من تاريخه وتعاليمه ، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة ، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس

٩٢

ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا ، والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام ، والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل ، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا ألا ترى إلى قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» والانتقام من النقمة وهى السطوة والتسلط ، يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ، والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها ، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف ، والأرحام واحدها رحم وهى مستودع الجنين من المرأة ، والمحكم من أحكم الشيء بمعنى وثّقه وأتقنه ، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء ، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا ، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس ، والزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة ، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه ، والراسخون في العلم : هم المتفقهون فى الدين ، ومن لدنك : أي من عندك ، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه ، وجمع الناس حشرهم للحساب والجزاء ، لا ريب فيه : أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحقّ.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا ، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حىّ لا يموت ، وأن عيسى يأتى

٩٣

عليه الفناء؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شىء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء ، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذّى كما يغذى الصبى ، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا ، فأنزل الله «الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» إلى آخر تلك الآيات.

ووجه الرد عليهم فيها ـ أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفى عقيدة التثليث بادئ ذى بدء ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيّا قيوما : أي قامت به السموات والأرض وهى قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده ، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده ، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبى مثلهم ، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل ، وعيسى لم يكن واهبا للعقول ، ثم قال : إنه لا يخفى عليه شىء ليردّ على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات ، فإن الإله لا يخفى عليه شىء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك ، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب ، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية ، فالمخلوق عبد كيفما خلق ، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء ، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه ، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة.

ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين ، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه ، وهو الأصل الذي دعى الناس إلى تدبر معانيه والعمل به ،

٩٤

وإليه يرجع في فهم المتشابه ، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته ، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين : فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد ، وفرقة يقولون آمنا به ونفوّض علمه إلى ربنا ، وقد دعوه ألا يضلّهم بعد الهداية ، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة.

الإيضاح

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين ، فإنه أثبت الوحى وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم ، وهذا تصديق جملى لأصل الوحى إليهم ، لا تصديق تفصيلى لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمى إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا ، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به ، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه ، بل ما ثبت منها صحته فقط.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس ، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال : «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه ، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك ، ففى سفر التثنية (فعند ما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها ـ أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا : خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ،

٩٥

ليكون هناك شاهدا عليكم ، لأنى عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ، ويصيبكم الشر في آخر الأيام ، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم ـ إلى أن قال لهم : وجّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم ، لكى توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هى حياتكم ، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها).

وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بنى إسرائيل نبى مثله بعد.

(فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت ، بل كتبا كغيرهما بعده).

إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة ، والقرآن يثبت ذلك ، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة ، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده ، وعلى غيره من الأخبار ، وهذا كاف في الاحتجاج على بنى إسرائيل بإقامة التوراة ، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة ، وأسفارها كلها كتبت بعد السّبى يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها ، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هى أصل دينهم ، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ؛ ولا نعلم ماذا كان أمرها ، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرّب بختنصّر الهيكل ، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت ، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها ، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية ، ولكن من أين جمع

٩٦

عزرا تلك الكتب بعد فقدها؟ وعلى أي شىء اعتمد في إصلاح غلطها؟ فإن قالوا إنه بالإلهام ؛ فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لاثقة بنقلهم ، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد.

وأنزل الله الإنجيل على عيسى ، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك ، فإن التوراة كتبت زمن نزولها ، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت ، ولكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم ، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح ، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان ، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم ، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله ، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة.

وخلاصة ذلك ـ إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه واتباعه حين يبعث ، فقد اشتملتا على البشارة به والحث على طاعته ـ ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه.

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل ، وجاء في آية أخرى «الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان» والميزان هو العدل.

فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل ، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس.

وقصارى ذلك ـ إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزّل من عند الله وما قام به العدل فهو حكم منزّل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطى للعقل والعدل ـ الفرقان والميزان ـ كما أنه سبحانه هو المنزّل للكتاب ، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي إن الذين كفروا بآيات الله

٩٧

الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل ، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك ـ لهم عذاب شديد بما يلقى الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم ـ وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية.

(وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي إن الله بعزته ينفذ سنته ، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه ، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه ، ولا حال الكافر ، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان ، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

وفي التعبير بعدم خفاء شىء عليه ـ إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النّطف إلى العلق إلى المضغ ، ومن ذكورة وأنوثة ، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك ، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما ، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة ، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير ، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته ، الحكيم المنزّه عن العبث ، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة ، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل «ليس في الإمكان أبدع مما كان».

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة ، بعيد من الاحتمال والاشتباه ، ومتشابه وهو ضربان :

٩٨

(١) ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش.

(٢) ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة.

وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله : «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه ، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته ، ووصفه بالمتشابه في قوله : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً» بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا فى الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال : «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وقوله : «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» أي إن ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل ، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفّرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروىّ ، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم ، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه ، فهو من جنسه ، وجنسه لا يتجزأ فهو هو ، ومعنى ابتغاء تأويله ـ أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم ، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد ، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم ، والقرآن ملىء بالرد عليهم من نحو قوله : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ».

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان :

٩٩

(١) رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة ، وجعل قوله : والراسخون فى العلم كلام مستأنف ، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ، واستدلوا على ذلك بأمور منها :

(ا) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله.

(ب) أن قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.

وهذا رأى كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبىّ بن كعب وعائشة.

(٢) ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ (العلم) ويجعل قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا) كلام مستأنف ، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون ـ وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة ، وكان ابن عباس يقول : أنا من الراسخين في العلم ، أنا أعلم تأويله.

وردّوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة ، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه ، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما ينفق مع فهم المحكم ، وبأن قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لا ينافى العلم ، فإنهم لرسوخهم فى العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون ، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجب ، فإن الجاهل في اضطراب دائم ، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك.

ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة ـ ضرورى لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها ، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك ، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن ، ولا يعلم تأويل ذلك : أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء ، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحس والعقل ، ولا يستشرفون بأنظارهم إلى معرفة حقيقة

١٠٠