تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ومن تبعهم بإحسان.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، ويترك الإذعان لها ـ فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات ، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق ، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم ـ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له ـ بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات ، وجئتهم بالحق ـ فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له ، معرضا عما سواه ، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين.

والخلاصة ـ إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة ، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد ، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب ـ وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة ، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة ـ أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة ، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه ، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟

ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه ، ثم يقول له : أفهمتها؟

١٢١

وفي ذلك تعيير لهم بالبلادة وجمود القريحة وتوبيخ لهم على العناد وقلة الإنصاف (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن أسلموا هذا الإسلام الذي هو روح الدين ، فقد فازوا بالحظ الأوفر ونجوا من مهاوى الضلال ، فإن إسلامهم على هذا الوجه يستتبع اتباعك فيما جئت به ، لأن من هذه حاله فهو مستنير القلب متجه إلى طلب الحق ، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى لاح له وظهر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه فلن يضيرك ذلك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ ، وقد أديته على أتم وجه وأكمله.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة ، فوقع اليأس من اهتدائه ، وبمن يرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

تفسير المفردات

المراد بالذين يكفرون هم اليهود خاصة ، وقوله بغير حق أي بغير شبهة لديهم ، وحبط العمل بطل ، والبشارة والبشرى الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه ، واستعمالها فى الشر جاء على طريق التهكم والسخرية.

المعنى الجملي

بعد أن بين في الآيات السابقة حقيقة الدين الذي يقبله الله ، وأنه الإسلام لوجهه تعالى ، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم

١٢٢

العلم ، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركى العرب للنبى صلى الله عليه وسلم ، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا ، فما عليه إلا البلاغ.

انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة ، وعيّر الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم ، لأن الأمة في تكافلها ، وجرى لا حقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة.

وقد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل ، فإنهم همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم زمن نزول الآية ، إذ السورة مدنية كما همّ بذلك قومه الأميون بمكة من قبل ، وكان كل من الفريقين حربا له ، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين ، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي إن الذين كفروا بآيات الله من اليهود كما تشهد بذلك كتبهم قبل القرآن ، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم.

وفي ذكر هذا الوصف ما يزيد بشاعته وانقطاع العذر الذي ربما لجئوا إليه ، ويقرر أن العبرة في مدح الشيء وذمه تدور مع الحق وجودا وعدما ، لا مع الأشخاص والأصناف.

أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن الجراح قال : «قلت يا رسول الله : أىّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجل أمر بمنكر ونهى عن معروف ، ثم قرأ الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار فى ساعة واحدة ، فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم».

١٢٣

(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شىء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها.

ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء ، وأثرهم في ذلك يلى أثرهم ، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم ، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية ، والنظريات العويصة.

انظر إلى الفارق بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل ، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقار به ، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة.

وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده ، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر ، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة ، والجدل بالتي هى أحسن لمن هم فى المرتبة الوسطى ، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء ، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى ، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم ، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل ، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.

والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة ، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب ، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا ، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه ، مع الإخلاص والصدق.

فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل ، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.

١٢٤

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، ومن أحقّ بهذا العذاب من أولئك الطغاة الذين أسرفوا في الشر وقتلوا النبيين أو كانت نفوسهم كنفوس من قتلوا ولم يمنعهم عن القتل إلا العجز؟ كما قال تعالى : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ـ يحبسوك ـ أَوْ يَقْتُلُوكَ».

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن هؤلاء الذين فعلوا تلك القبائح يبطل الله أعمالهم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلأنهم لم ينالوا بها حمدا ولا ثناء من الناس ، إذ هم كانوا على ضلال وباطل ، ولعنهم الله وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله ، وذلك هو حبوطها في الدنيا ، وأما في الآخرة فلا ثواب لها ، بل قد أعد لهم العذاب الأليم ، والخلود في الجحيم.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه ، وقد نفى الله عنهم الناصر الذي يدفع العذاب عنهم ، لأنهم لما قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق ، ولم يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتلهم ـ جوزوا بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين.

وقد جعل الله وعيدهم ثلاثة أصناف :

(١) اجتماع أسباب الآلام والمكاره وهو العذاب الأليم.

(٢) زوال أسباب المنافع بحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة ؛ ففى الدنيا بإبدال لمدح بالذم والثناء باللعن ، وفي الآخرة بما أشار إليه بقوله : «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً».

(٣) دوام هذا العذاب وهو ما أشار إليه بقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

١٢٥

قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

تفسير المفردات

ألم تر : استفهام لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم ، والذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ، والنصيب : الحظ ، والكتاب : التوراة ، ليحكم بينهم : أي ليفصل بين اليهود والداعي لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، والتولي : الإعراض بالبدن ، والإعراض يكون بالقلب ، والافتراء : الكذب ، واليوم : هو يوم الحساب والجزاء ، ما كسبت : أي ما عملت من خير أو شر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة ، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط ، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم ، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين ، فلا تذهب نفسه

عليهم حسرات ، ولا يحزنه إعراضهم ـ انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم ، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا ، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء ، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصى ولا باجتراح الآثام ، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.

أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدارس ـ مدرسة اليهود لدراسة التوراة ـ على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ،

١٢٦

فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أىّ دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم ودينه ، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلمّوا إلى التوراة فهى بيننا وبينكم ، فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ألم تر إلى هؤلاء الذين تستحق أن تعجب لهم من اليهود ـ كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم؟ (وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها).

وقد كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم ماضوا العزيمة على قبول حكمه حتى إذا جاء على غير ما أحبوا خالفوه ونكصوا على أعقابهم ، فقد زنى بعض أشرافهم وحكّموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه ، إذ هم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.

وقوله نصيبا من الكتاب هو ما يحفظونه من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم وقد فقدوا سائره ، وهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به.

فهذه الكتب الخمسة التي تسمى بالتوراة وتنسب إلى موسى عليه السلام ، لا يوجد دليل على أنه هو الذي كتبها ، إذ ليست محفوظة حتى يمكن الحكم عليها ، بل قام الدليل لدى بعض الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بخمسمائة سنة ، كما لا تعرف اللغة التي كتبت بها أول مرة ، ولا دليل على أن موسى كان يعرف اللغة العبرية ، وإنما كانت لغته المصرية ، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة ، ومن ترجمها؟

(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي إنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تتولى طائفة منهم بعد تردد وجذب ودفع ، وقد كان من دواعى الإيمان به ألا يترددوا في إجابة الدعوة إليه ، إذ هو أصل دينهم ، وعليه بنيت عقيدتهم.

١٢٧

وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله ، بل ذلك دأبهم فى عامة أحوالهم.

وإنما جىء بكلمة (فريق) للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق ، ومنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له ، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.

وخلاصة ذلك ـ إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء ، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين ، واعتقدوا أن هذا كاف في نجاتهم.

ومن استخفّ بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحقه ـ تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي ، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين ، ويتهاون فى أداء الطاعات ، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات ، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين ، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات ، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا ، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.

والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله ، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته.

أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم ، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

١٢٨

والمراد بالأيام المعدودات هى أربعون يوما وهى مدة عبادتهم للعجل ، وقال الأستاذ الإمام : إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شىء.

(وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وقد أطمعهم وخدعهم ما كانوا يفترون على الله من نحو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه إلا تحلّة القسم (مدة قصيرة).

والخلاصة ـ إن مثل هذا التحديد للعقوبة من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم إذ هو مما لا يعرف بالرأى ولا بالفكر ، بل بالوحى من الله ، والعهد منه كما قال في سورة البقرة «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟».

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء فى يوم لا ريب فيه؟

وفي هذا الاستفهام تهويل لما سيكون ، واستعظام لما أعدّ لهم ، وأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه ، وأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعللاتهم وأباطيلهم تطمّع بما لا يكون.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه ، ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها ، ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين أو مذهب خاصّ ، إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله ، ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله ، فإن الجزاء يومئذ إنما يكون بما في داخل الصدور لا بما في خارجها ، وبما أحدثته الأعمال فيها من صفات حسنة أو قبيحة.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فهناك العدل الكامل ، فلا ينقص أحد من جزاء ما كسب ولا يزاد في عذابه شىء ، والعبرة حينئذ بتأثير العمل في النفس ، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بها ، واستغرق وجدانها ، كانت خالدة في النار ، لأن عملها لم يدع للإيمان

١٢٩

أثرا صالحا يعدّها لدار الكرامة ، وإن لم يبلغ هذا القدر بأن غلب عليها العمل الصالح ، أو استوى الأمران ، جوزيت على كل بحسب درجته ومقداره.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

تفسير المفردات

الملك : السلطة والتصرف في الأمر بيدك الخير : أي بقدرتك التي لا يقدر قدرها ، الخير كلّه تتصرف فيه أنت وحدك ، الولوج : الدخول ، والإيلاج : الإدخال ، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل والعكس بالعكس بحسب المطالع والمغارب فى أكثر البلدان.

المعنى الجملي

كان الكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب ؛ فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ، ويمشى فى الأسواق ، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل ، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبىّ من غير آل إسرائيل ، فجاءت هذه الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم في مقام عناد المنكرين ، ومكابرة الجاحدين ، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه ، وكأنه يقول له : إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم

١٣٠

البرهان ، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم ، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء ، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء.

روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم ، هم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

الإيضاح

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام فى الكائنات ، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك ، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب ، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوىّ الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة وإعداد القوة بقدر المستطاع ، كما نزعه من بنى إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم.

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) للعزة آثار وللذل مثلها ، فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكا للقلوب بجاهه أو علمه النافع للناس ، مع بسطة في الرزق وإحسان إلى الخلق.

والذليل يرضى بالضيم والمهانة ، ويضعف عن حماية الحريم ، ومقاومة العدو المهاجم ، ولا عز أعظم من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده ، فأعدّوا لكل أمر عدته ، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة ، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ،

١٣١

ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا كما قال تعالى : «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ».

والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا ، انظر إلى الشعوب الشرقية على كثرة عدد كل شعب منها ، كيف سادها وتحكم فيها ملوك الغرب على قلة عددهم ، وما ذاك إلا لفشوّ الجهل وتفرق الكلمة والتخاذل في مقاومة الغاصب ، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته ، والسعى في إزالة طغيانه ، وتحكمه في الرقاب والبلاد.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بقدرتك الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك بحسب مشيئتك ، ولا يملكه أحد سواك ، وخص الخير بالذكر مع أن كلا من الخير والشر بيده وقدرته كما يدل على ذلك قوله :

(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن المناسب للمقام ذكر الخير فقط ، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي وضعف أتباعه وقلة عددهم ، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز ، وأن يذكّره بأن الخير كله بيده ، فلا يعجزه أن يعطى نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطان ما وعدهم ، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم كما قال «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ».

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي إنك تدخل طائفة من الليل فى النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار ، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك.

والخلاصة ـ إنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة ، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الموين (الليل والنهار) ما يكون سببا في نقص الآخر.

١٣٢

فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتى النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته من العرب وتنزعهما ممن تشاء كبنى إسرائيل ، فما مثل تصرفك في شئون الناس إلا مثل تصرفك فى الليل والنهار.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر (والحياة والموت معنويان) والنخلة من النواة والإنسان من النطفة ، والطائر من البيضة (والحياة والموت حسيان).

(وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) كالجاهل من العالم ، والكافر من المؤمن ، والنواة من النخلة ، والبيضة من الطائر.

وقد أثبت علماء الطب أن في النطفة والبيضة والنواة حياة ، ولكن هذه حياة اصطلاحية لأهل هذا الفن ، لا في العرف العام الذي جاء به التنزيل.

قال الدكتور المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه الإسلام والطب الحديث : قيل في تفسير ذلك : كإنشاء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان ؛ ولكن النطفة هى حيوانات حية ، وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حى من حى فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير والله أعلم ، فإذا قيل : إن معنى الآية خلق آدم من طين أي خلق حىّ من ميت فهذا صحيح ، ولكنه ليس المقصود من الآية والله أعلم ، لأنها تشير إلى أن الخلق شىء عادى يحصل يوميا بدليل ورودها بعد (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بالتعاقب وهذا شىء اعتيادى ، فالله يضرب لنا مثلا نشاهده يوميا.

والتفسير الحقيقي هو (إخراج الحي من الميت) كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة ، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره ، والغذاء شىء ميت ، ولا شك في أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه ، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت ، وقد كتب علماء الحيوان فقالوا : إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى

١٣٣

لحمها ، وهذه أهم علامة على أنها حية ، وكذا الطفل يتغدى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.

وأما إخراج الميت من الحي ، فهو الإفرازات مثل اللبن (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنبات) فإن اللبن سائل ليس فيه شىء حي ، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية ، وهذه تخرج من الحيوان الحي ، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، والله أعلم بمراده ا ه.

وقد استعمل القرآن لفظ الحياة فيما يقابل الموت ، سواء أكانت الحياة حسية أم معنوية وسواء أكان لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا.

وهذه العبارة ـ يخرج الحي من الميت ـ إلى آخره مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتى الملك من يشاء ، فقد أخرج من العرب الأميين سيد المرسلين ، إذ أعدهم بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة لأن يكونوا أقوى الأمم استعدادا لقبول هذا الدين الجديد الذي هدم بناء الاستعباد ، وأقام على أنقاضه صرح الاستقلال حين كان بنو إسرائيل وغيرهم يرسفون في قيود التقليد ، وأغلال الاستبداد من الملوك والحكام.

وما الإعطاء لمن أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي عليها مدار النظام ، وبها الإبداع والإحكام.

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إن الأمر كله بيدك وليس أحد فوقك يحاسبك ؛ فأنت القادر على أن تنزع الملك من العجم وتذلهم ، وتؤتيه العرب وتعزهم وذلك أهون شىء عليك.

وقد ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه.

(١) بمعنى التعب كما في هذه الآية.

(٢) بمعنى العدد كما في قوله «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ».

(٣) بمعنى المطالبة كما في قوله «فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ».

١٣٤

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

تفسير المفردات

الأولياء واحدهم ولىّ وهو النصير ، تقاة : أي اتقاء وخوفا ، ويحذركم : أي يخوفكم ، والأمد : المدة لها حد محدود ، محضرا : أي حاضرا لديها.

المعنى الجملي

بعد أن نبّه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه ، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطى من يشاء ويمنع من يشاء ـ أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله ، وأن يلتجىء إلى غير جنابه.

وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم ، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعى فى البشر.

وروى عن ابن عباس أنه قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون (يلازمون) نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم ، فقال

١٣٥

رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر ، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصطف المؤمنون الكافرين فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشئون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين ، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.

وخلاصة هذا ـ نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة ، بل ينبغى أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب ، ومن ثم تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.

فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين فلا مانع منها ، فقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة وهم على شركهم ، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته فى أمور الدنيا.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين فليس من ولاية الله في شىء ، أي فليس بمطيع له ولا ناصر لدينه ، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة ، ويكون من الكافرين كما جاء في الآية الأخرى «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ».

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم فى كل حال إلا في حال الخوف من شىء تتقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتّقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية «أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، وإذا فلا مانع

١٣٦

من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شىء يضر بالمسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هى جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التّقيّة بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقى ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه ملىء بالإيمان وفيه نزلت الآية «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».

وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة : أتشهد أنى رسول الله؟ قال نعم فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال إنى أصمّ (ثلاثا) فقدّمه وقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.

وهى من الرخص لأجل الضرورات العارضة ، لا من أصول الدين المتبعة دائما ، ومن ثم وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية ، ومن كمال الإيمان ألا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى «فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وقال : «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ».

وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين ويصبرون عليه.

ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم فى وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع ؛ فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم

١٣٧

«ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» وعن عائشة قالت : استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة» ثم أذن له فألان له القول ، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ، فقال يا عائشة : «إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه» رواه البخاري.

وروى قوله صلى الله عليه وسلم «إنا لنكشر (نبتسم) فى وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم» (تبغضهم).

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي عقاب نفسه ، وفائدة ذكر (نفسه) الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى وهو القادر على إنفاذه ولا يعجزه شىء عنه.

وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه ، لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته.

(وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم ، فيجزى كلا بما عمل (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم ما تنطوى عليه نفوسكم إذ توالون الكافرين أو توادّونهم أو تتقون منهم ما تتقون ، فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر جازاكم عليه ، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين ولا على أهله ، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض ، لأنه الخالق لها كما قال : «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ».

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على عقوبتكم فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه ، إذ ما من معصية خفيّة كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها قادر على عقاب فاعلها (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) أي احذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير حاضرا لديها ،

١٣٨

فيكون ذلك غبطة وسرورا لها ، وتنعم بما أحسنت ، وتبتئس المسيئة وتغتم بما أساءت وتود أن ما عملت من السوء كان بعيدا عنها لم تره حتى لا تؤاخذ بجريرته.

ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لها.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي احذروا من سخط الله بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء «وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون».

(وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال الحسن البصري : ومن رأفته أن حذرهم نفسه ، وعرفهم كمال علمه وقدرته ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه ا ه.

ومن رأفته أيضا أن جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير ، مبغضة لما يعرض لها من الشر ، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

تفسير المفردات

المحبة : ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه ، فيدعوها ذلك إلى التقرب إليه ، يغفر لكم : أي يتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة ، فإن تولوا : أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله ، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد ذلك بالوعيد الشديد ـ ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال

١٣٩

أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه ، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته ، مستحقا لغفران ذنوبه.

روى أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا «نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» فأمر الله نبيه أن يقول لهم : إنى رسول الله إليكم أدعوكم إليه ، فإن كنتم تحبونه فاتبعونى وامتثلوا أمرى يحببكم الله ويرض عنكم.

الإيضاح

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي قل لهم : إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبا للثواب فيما عنده ، فاتبعونى بامتثال ما نزل به الوحى منه إلىّ ، يرض الله عنكم ويتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة ، والاعتقادات الباطلة ، ويبوئكم في جوار قدسه ، إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح ، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل ، ويمحوان منها ظلمة الباطل ، وأثر ذلك المغفرة ورضوان الله.

وهذا حجة على من يدعى محبة الله في كل زمان وأعماله تكذب ما يقول ، إذ كيف يجتمع حب مع الجهل بالمحبوب ، وعدم العناية بأوامره ونواهيه ، فهو كما قال الورّاق :

تعصى الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمرى في القياس بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحبّ مطيع

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبب إليه بطاعته ، وتقرب إليه باتباع نبيه ، إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل ، فيغفر لها ما فرط من زلاتها ، ويتجاوز عن سيئاتها.

روى أنه لما نزل قوله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ...) قال عبد الله بن أبيّ : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله :

١٤٠