تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

وهو لم يكن على شىء من تقاليدكم ، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإلى هذا أشار بقوله :

(وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي وما أنزلت التوراة على موسى ، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال ، وقد قالوا : إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة ، وبين موسى وعيسى حوالى ألف سنة. أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له؟.

وخلاصة ذلك ـ أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود ، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى ، فكيف كان إبراهيم على الحق ، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم ، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموها أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى ، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه؟.

وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر عيسى عليه السلام ، وقد قامت عليكم الحجة ، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته ، ومنكم من فرّط وقال إنه دعىّ كذاب ، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ.

(فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟) من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيّا ، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟.

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه ، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه ، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتم ، أو أدركتم علمه بالسماع.

ثم صرّح بما فهم من قبل تلويحا فقال :

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) أي إن اليهود

١٨١

والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم ـ كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام ، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى ، إذ هو مطيع لله ، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها ، خاشع له بقلب متذلل ، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم ، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب.

وصفوة القول ـ إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه ـ لم يكن على ملة أحد منهم ، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية ، مسلما لله ، مخلصا له.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) معه : أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ـ هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين ، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين ، وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء ، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء.

وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان ، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله.

ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال :

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة والتأييد ، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم ، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم ، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

١٨٢

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

تفسير المفردات

ودّ الشيء : أحبه ، طائفة : أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء ، والآيات هنا ما يدل على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلبسون : أي تخلطون ، وجه النهار : أي أوّله تقول : أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار ، آمن له : صدّقه وسلّم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف «وما أنت بمؤمن لنا» والفضل : الزيادة ، والمراد به هنا النبوة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم ، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان ، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.

١٨٣

ذكر هنا شأنا آخر لهم ، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين ، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين ، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك ، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين.

أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون ، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس ، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين ، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ».

روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية.

الإيضاح

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم ، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال ، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية ، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات الدالة على نبوته ، فهم يعبثون بعقولهم ، ويفسدون فطرتهم باختيارهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يفطنون إلى سوء حالهم ، وأنهم ألغوا عقولهم ، فلم تفكر فى الحجج التي آتاها الله لنبيه ، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم.

وفي نفى الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

١٨٤

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟) أي لأى سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون ، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده ، والبشارة بنبىّ من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة ، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى «يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ» (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وتكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل ، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدىّ بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض ، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم ـ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ـ إلى قوله واسع عليم.

ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا : لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه ، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب ، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول ، بل هم قد فعلوا ذلك.

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : صلّت يهود مع محمد صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه

١٨٥

وليس بالغريب منهم أن يلجأوا إلى مثل هذه الحيلة ، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه ، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد صلى الله عليه وسلم عند ما دعاه إلى الإسلام : هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا).

وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء ، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين ، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها ، ويكون ذلك وازعا لهم.

وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم ، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف ، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن ، وما يصدر من سواهم قبيح.

وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا ، وهم الذين أسلموا منهم ، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه ، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم.

(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته ، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه ، ومن يهد الله فلا مضلّ له ، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير ، بل يحبط تدبيرهم له.

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) هذا من كلام اليهود ، وجملة (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراضية بينه وبين ما سبقه.

والمعنى ـ لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

١٨٦

وتلخيص المراد ـ لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبىّ من غير بنى إسرائيل ، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.

وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبى من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبى صلى الله عليه وسلم لا اعتقادا ، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة.

وصفوة القول ـ ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي قل لهم : إن الرسالة فضل من الله ومنة ، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق ، فيعطيه من هو له أهل.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته ، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بنى إسرائيل ، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا ، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه ، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه ، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ

١٨٧

بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

تفسير المفردات

تأمنه ، من أمنته بمعنى ائتمنته ، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا ، والمراد بالقنطار العدد الكثير ، وبالدينار العدد القليل ، والأميون : هم العرب ، والسبيل : المؤاخذة والذنب ، وبلى كلمة تقع جوابا عن نفى سابق لتثبته ، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك ، وإذا كان الالتزام من طرفين يقال عاهد فلان فلانا عهدا ، ويشترون : أي يستبدلون ، والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون ، والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة ، والثمن القليل : هو العوض الذي يأخذونه أو الرّشا ، وجعل قليلا لأن كل ما يفوّت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل ، ولا خلاق لهم : أي لا نصيب لهم ، ولا يكلمهم الله : أي يغضب عليهم ، ولا ينظر إليهم : أي يسخط عليهم ويستهين بهم ، ولا يزكيهم : أي لا يثنى عليهم

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين ، ليرجعوا عن دينهم ، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها ، زعما منهم أنهم شعب الله المختار ، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر ، ولا إلى أمة أخرى.

١٨٨

أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات ، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل ، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين.

الإيضاح

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم ، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بنى إسرائيل.

والخلاصة ـ إن أهل الكتاب طائفتان :

(١) طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشىّ ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه.

(٢) طائفة أخرى تخون الأمانة ، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة.

ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشى دينارا فجحده.

ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب.

وخلاصة هذا ـ إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له ، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله ، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه ، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه.

روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

١٨٩

فرد الله عليهم بقوله :

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه ، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين ، ولا أكل أموالهم بالباطل ، وهم يعلمون ذلك حق العلم ، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجأوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا ، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأى والهوى ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم ، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون.

روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : «لما نزلت (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى قوله (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب أعداء الله ، ما من شىء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمىّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي بلى عليكم في الأميين سبيل ، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات ، فمن أقرضك مالا إلى أجل ، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شىء وجب عليك الوفاء به ، وأداء الحق له فى حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي ، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة.

وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته ، بل العبرة عندهم بالمعاهد ، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له ، ولا يجب الوفاء لغيره.

والعهد ضربان :

(١) عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.

(٢) عهد الله تعالى ، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.

واليهود لم يفوا بشىء منهما ، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم

١٩٠

واتبعوا النور الذي أنزل معه ، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر ـ محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة.

وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود ، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه ، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله.

وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأى من اليهود ليسوا على حظ من التقوى ، وهى الدعامة الأساسية في كل دين قويم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون ، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم : لنؤمننّ به ولننصرنّه ـ ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا ـ أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها ، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة ، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم.

قال القفال : هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه ، وقد يأمره بحجبه عنه ، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ا ه.

وصفوة القول ـ إن الله توعد الناكثين للعهد ، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم ، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة ، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.

١٩١

ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر ، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات ، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم.

فالوفاء بها آية الدين البينة ، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران ، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض ، والثقة روح المعاملات وأساس النظام.

والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة النفاق فقال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أوتمن خان».

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضى الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».

فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود ، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا ، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط ، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية.

أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيىّ بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها ، وأخذوا على ذلك الرّشا.

وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال : «كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها ، فقدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألك بينة؟ قلت لا ، فقال لليهودى احلف ، فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالى ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الآية».

قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك ، والعمدة فى ذلك ما ثبت في الصحيح.

١٩٢

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

تفسير المفردات

لىّ اللسان بالكتاب : فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس ، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي ، لكنهم لوّوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده ، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا.

المعنى الجملي

بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب ، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة ، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله.

روى عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا الإيذاء له والإغراء به ، غيّروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة.

الإيضاح

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما ، يفتلون ألسنتهم

١٩٣

بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله ، ولكنه من عند أنفسهم.

وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام ، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت.

وجاء في سورة النساء قوله تعالى : «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ» فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته.

وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها.

ثم أكد ما سبق بقوله :

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي إنهم كاذبون فيما يقولون ، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما ، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه ، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين.

وليس ذلك بالغريب عليهم ، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب ، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة ، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم (أمة محمد بخير).

فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا ، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين ، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

١٩٤

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون ، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

تفسير المفردات

البشر : الإنسان ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو جمعا ، والحكم : الحكمة وهى فقه الكتاب ومعرفة أسراره ، وذلك يستلزم العمل به ، والعباد : واحدهم عبد بمعنى عابد ، والعبيد : جمع لعبد بمعنى مملوك ، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله ، والربانيين واحدهم ربانى وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب ، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهى إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته ، روى أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس : اليوم مات ربّانى هذه الأمة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد

١٩٥

دعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل نصرانى من أهل نجران : أو ذاك تريد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرنى فأنزل الله الآية.

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : بلغني «أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال لا ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله (ما كان لبشر) الآيتين».

الإيضاح

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا ينبغى لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه ، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة ، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله ، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به ، ويحثهم على معرفة شرائع دينه ، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته ، ومعلمى الناس الكتاب.

ومعنى قوله من دون الله : أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة ، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده ، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي».

ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله ، بل وإن أمرهم بعبادة الله.

ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء ، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله ، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده ، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة ، ومن ثم قال تعالى : «فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ

١٩٦

الْخالِصُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» الآية.

فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا ، ويقول صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه ، وفي رواية : فأنا منه برىء ، هو للذى عمله» رواه مسلم وغيره.

وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد : من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه أحمد.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه ، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهى تعليم الكتاب ودراسته ، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله ، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا ، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ومثال ذلك أن تقول : ما كان لمحمد أن أكرمه ، ثم يهيننى ويستخفّ بي ، وقد نقل عن مشركى العرب عبادة الملائكة «وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله» فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له والنهى عن عبادة غيره ، ومن ثم قال :

(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟) أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود

١٩٧

للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له ، إذ لو فعل ذلك لكفر ، ونزعت منه النبوة والإيمان ، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله ، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة ، وأرواحا طيبة ، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله.

وأثر عن على كرم الله وجهه أنه قال : قصم ظهرى رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسّك ، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه ، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع».

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))

تفسير المفردات

الميثاق : العهد المؤكد الموثّق ، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة ، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ، وأخذتم : أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى : «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ» والإصر : العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.

١٩٨

المعنى الجملي

سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم ، وإظهارا لعنادهم ، ودحضا لمزاعمهم ، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبى من العرب.

وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها ، وهى أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة ، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم ، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا ، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة ، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد ، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبى آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول ، إذ المقصود تصديق دعوته ، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.

فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شىء من شريعة الأول وجب التسليم له ، وإلا صدّقه في الأصول التي هى واحدة في كل دين ، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية ، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين ، فمثل هذا قد يأتى فى الشريعة الواحدة ، ففى كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام ، وآخر

١٩٩

بإطعام الطعام ، وما سبب هذا إلا حال الشخصين ، فكل منهما أدى ما سهل عليه.

ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.

وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم ، وفي حال البلاد فى اليسر والرخاء ، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات ، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى ، والقوانين صارمة في واحدة ، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة.

وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع ، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.

أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شىء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام ، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل ، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.

وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء ، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.

وصفوة القول ـ إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى ـ أنه إذا جاء نبى بعده ، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره.

وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.

(قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟) أي قال الله تعالى للنبيين : أأقررتم بالإيمان والنصر له ، وقبلتم العهد على ذلك؟

٢٠٠