تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي إن الشيطان يخوّف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل ، ويخيّل إليهم أن الإنفاق يذهب بالمال ، ولا بد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان ، وسمى ذلك التخويف وعدا [والوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر ، والشيطان لم يضف مجىء الفقر إليه] مبالغة فى الإخبار بتحقق وقوعه ، وكأن مجيئه بحسب إرادته وطوع مشيئته.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) أي إن الله وعدكم على لسان نبيكم ، وبما أودعه فى الفطر السليمة من حب الخير والرغبة في البر ـ مغفرة لكثير من خطاياكم ، وخلفا فى الدنيا من جاه عريض ، وصيت حسن بين الناس ، ومال أزيد مما أنفق ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ». روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» ومعنى الدعاء للمنفق بالخلف أن يسهل له أسباب الرزق ، ويرفع شأنه عند الناس ، والبخيل محروم من مثل هذا. ومعنى الدعاء على الممسك بالتلف أن يذهب ماله حيث لا يفيده.

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إن الله واسع الرحمة والفضل ، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقون ، وهو عليم بما تنفقون ، فلا يضيع أجركم ، بل يجازيكم أحسن الجزاء

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) أي إنه تعالى يعطى الحكمة والعلم النافع المصرّف للإرادة لمن يشاء من عباده ، فيميز به الحقائق من الأوهام ، ويسهل عليه التفرقة بين الوسواس والإلهام

وآلة الحكمة العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها ، وفهم الأمور

٤١

على حقيقتها ـ ومن أوتى ذلك عرف الفرق بين وعد الرّحمن ووعد الشيطان ، وعضّ على الأول بالنواجذ وطرح الثاني وراءه ظهريا.

وقد فسر حبر الأمة عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في القرآن أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بأسراره وحكمه ، ومن فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات ـ لا يكون وعد الشيطان له الفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له من البذل والإنفاق.

والآية الكريمة رافعة شأن الحكمة بأوسع مالها من المعاني ، وهادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أي ومن يوفقه الله لهذا النوع النافع من العلم ، ويرشده إلى هداية العقل ، ووجيهه الوجهة الصحيحة ـ فقد هدى إلى خيرى الدنيا والآخرة ، فهو يسخر القوى التي خلقها الله له من سمع وبصر وشعور ووجدان في النافع من الأشياء ، ويعدّها لتنفيذ ما يرغب فيه ، ثم بعدئذ يفوض الأمر إلى بارئه الذي فطره وسوّاه ، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه ، وبهذا لا يستسلم لوساوس الشيطان ، ولا يقض مضجعه ما يجده من مكدرات الحياة وآلامها ، ولا ما تسوقه إليه من محنها وأرزائها ، اعتقادا منه أن كل شىء بقضاء الله وقدره ، وبهذا يستريح باله ، وتهدأ ثائرته ، ويجد في قلبه بردا وسلاما لمزعجات الليالى والأيام.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به ، ويجعل الإرادة مصرفة له ، خاضعة لمشيئته ، إلا ذوو العقول السليمة ، والنفوس التي تغوص في بحر الحقائق ، وتستخرج منها ما هو نافع في هذه الحياة ، وبه سعادتها ، وتجعله سلما ترقى به في معارج الفلاح لتصل به إلى خير العقبى ـ حشرنا الله في زمرة أولئك

٤٢

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠))

تفسير المفردات

النذر في اللغة : العزم على التزام شىء خاص فعلا أو تركا. وفي الشرع التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تعالى حكم النفقة والبذل في سبيله ـ عمم الحكم هنا في كل نفقة ، سواء أكانت في طاعة أم في معصية ، وبين أن الله عليم بها ومجاز عليها.

إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فعلينا أن نختار لأنفسنا أفضل ما نحب أن يعلمه ربنا عنا.

الإيضاح

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) في خير أو شر ، صادرة عن إخلاص أو عن رياء ، أتبعت بمنّ أو أذى أو لم تتبع بذلك ، سرا كانت أو علانية.

(أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) فى طاعة أو في معصبة فهو قسمان :

(١) نذر قربة وبرّ ، وهو ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى كأن ينذر بذل مقدار معين من المال ، أو صلاة نافلة ، كقوله إن شفى الله مريضى فلله علىّ أن أتصدق بكذا.

(٢) نذر لجاج وغضب ، وهو ما يقصد به حث النفس على شىء أو منعها عنه ، كقولك إن كلمت فلانا فعلىّ كذا.

٤٣

واتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالأول ، وهو مخير في الثاني بين الوفاء بما التزمه ، وكفارة يمين.

وكل هذا إن كان النذر في طاعة ، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة ، فإن نذر فعل معصية جرم عليه فعله ، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «النذر نذران ، فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى ، وفيه الوفاء ، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ، ولا وفاء فيه ، ويكفره ما كفر اليمين».

ومن نذر مباحا فعله ، لأن فسخ العزائم من ضعف الإرادة ، ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذرت أن تضرب بالدّف وتغنى يوم قدومه بالوفاء.

(فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) ويجازى عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهذا ترغيب وترهيب ، ووعد ووعيد.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي وما للذين ظلموا أنفسهم ولم يزكوها من رذيلة البخل ، أو من رذيلة المن والأذى ، وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الأمة بترك الإنفاق في مصالحها العامة ـ من أنصار لهم ينصرونهم يوم الجزاء ، فيدفعون عنهم بجاههم أو بمالهم ، وهذا كقوله : «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ».

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لأولئك الباخلين بمالهم من المسلمين على المصالح العامة التي فيها خير للأمة ، وفيها سعادتها وعزها ، فالمال هو قطب الرحى ، وعليه تدور مصالح الأمم في هذا العصر عصر المال ، ومن ثم تدهورت الأمم الإسلامية وصارت في أخريات الأمم مدنية ورقيّا وحضارة وتقدما ، وفشا الجهل بين أفرادها ، وأصبحت في فقر مدقع ، وقد كان في مكنتهم أن ينشلوها من وهدتها ، ويرفعوها من الحضيض الذي وصلت إليه يبذل شيء من المال الذي يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم ، والفضل الكبير ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

٤٤

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن الله يعلم ما تنفقون ويجازيكم عليه إن خيرا وإن شرا ـ بيّن هنا سبيل إعطاء الصدقات ، وما يتبع في ذلك من السر والعلانية ، وأيهما الأفضل.

الإيضاح

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي إن تظهروا الصدقات فنعم عملا إظهارها ، لما فيه من الأسوة الحسنة ، فيقتدى بالمتصدق كثير من الناس ، ولأن الصدقة من شعائر الإسلام التي لو أخفيت لتوهم منعها.

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي وإن تعطوها الفقراء خفية فهو أفضل ، لما في ذلك من البعد عن شبهة الرياء ، ولما دلت عليه الآثار والأحاديث ، أخرج أحمد عن أبي أمامة «أن أباذر قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال : صدقة سرّ إلى فقير ، أو جهد من مقلّ ثم قرأ الآية». وروى الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» وروى البخاري : إن من السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم القيامة ، إذ لا ظل إلا ظله «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقة السر في التطوع نفضل على علانيتها سبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا ، وهكذا الحكم في جميع الفرائض والتطوع.

وقال أكثر العلماء : إن أفضلية السر على العلانية إنما هى في التطوع

٤٥

لا في الفريضة ، فإن إظهارها أفضل لإظهار شعيرة من شعائر الدين ، وقوة الدين بإظهار شعائره ، ولما في ذلك من القدوة الحسنة ، ولأن احتمال الرياء بعيد في أداء الفرائض ، بل قالوا أيضا : إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته ولو كانت تطوعا.

والمخلص في صدقته لا يعسر عليه حين الصدقة في المصالح العامة ـ أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء ، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والاقتداء ، بأن يرسل حوالة مالية لجمعية خيرية ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لرئيسها أو أمين صندوقها فحسب ، وقد جرت عادة الجميعات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بلسان أعضائها أو بلسان الجرائد والمجلات ونحوها ، وذلك أوسع طرق الشهرة وأبعدها مدى في عصرنا.

وقد فهم من قوله (الفقراء) ولم يقل فقراءكم أعنى المسلمين ـ أن صدقة التطوع تعطى للمسلم والكافر والبر والفاجر ، لأن الله كتب الرحمة والإحسان في كل شىء فقد ورد في الصحيحين : «فى كل ذى كبد حرّى أجر» أي في جميع الأحياء وتمنع الزكاة التي هى أحد أركان الإسلام عن الكافر. ومثلها زكاة الفطر.

كما فهم من التصريح به أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه ، إذ يدعى الغنىّ الفقر ، ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس ، فعلينا أن نجزى ونعطى الفقراء حقا لا مدعى الفقر.

(وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم ، لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي فما تفعلونه في صدقاتكم من الإسرار والإعلان ، فالله خبير به ، عليم بأمره ، ومجازيكم عليه ، وفي هذا ترغيب في إعطاء الصدقات سرا.

٤٦

وقد روى أنه لما نزل قوله (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الآية قالوا يا رسول الله : أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت الآية (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ...) إلى آخرها.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

تفسير المفردات

الهدى ضربان : هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة ، وهو على الله تعالى ، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو على النبي صلى الله عليه وسلم ، وابتغاء وجه الله طلب مرضاته ، أحصروا منعوا وحبسوا في طاعته لغزو أو تعلم علم ، ضربا في الأرض أي سيرا فيها للكسب والتجارة ، والتعفف إظهار العفة وهى ترك الطلب ومنع النفس مما تريد ، والسيما العلامة التي يعرف بها الشيء ، وإلحافا أي إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم ، بين هنا أنه لا ينبغى التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره ، لأن الصدقة لسد خلّته ، ولا دخل لها بإيمانه ، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما ، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود

٤٧

أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.

وأخرج ابن جرير وغيره أن ناسا من الأنصار لهم صهر وقرابة من المشركين ، كانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ، ويريدونهم أن يسلموا فنزلت الآية.

وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدّقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآية.

الإيضاح

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين ، إن أنت إلا بشير ونذير ، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهى عن الرذائل كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث.

(وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم ، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن ، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم فى الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم ، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون ، ثم سرى شرهم إلى غيرهم ، فتختل نظم المجتمع ، ويفقد الأمن فى الأمة.

وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم ، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء ، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.

(وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة

٤٨

عند المنفق عليه ، وإنما تنفقون لوجه الله ، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقّا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزّاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته ، وهذا كقوله : «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً».

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا ، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقىّ أنفسكم ، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان ، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته ـ لا يضيع عليكم ما تنفقون ، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا.

وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم ، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته ، وتقوم به سنته في صلاح البشر.

ثم بين أحق الناس بالصدقة فقال :

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي اجعلوا ما تنفقون للذين ذكر الله صفاتهم الخمس التي هى من أجلّ الأوصاف قدرا :

(١) الإحصار في سبيل الله ، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله ، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها ، وحبسوا أنفسهم لها ، وتجب نفقتهم في بيت المال ، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية فى العصر الحديث ، فإن حبس الشخص نفسه في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد وطلب العلم ، وكان يستطيع الكسب في أوقات فراغه لم يحلّ له الأخذ من الصدقة.

(٢) العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو ، وهذا هو المقصود بقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ).

٤٩

(٣) التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدى الناس ، فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ).

(٤) أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف ، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع ، ولا برثاثة في الثياب ، فربّ سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رثّ الثياب ، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا ، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه ، وحسن بزّة فتحكم عليه في لحن قوله ، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس ، وهذا ما أشار إليه بقوله : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ).

(٥) ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية ، وقد يكون المعنى ـ أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس».

والسؤال محرم لغير ضرورة ، روى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تحلّ الصدقة لغنىّ ولا لذى مرّة سوىّ» والمرة بكسر الميم القوة ، والسوىّ هو السليم الأعضاء ، والمراد به القادر على الكسب.

وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال : ما يغدّيه أو يعشّيه».

٥٠

وروى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا ، فليستقلّ منه أو ليستكثر».

وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدّق منه ويستغنى به عن الناس ، خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه».

فمن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل ـ لا يعطي شيئا ، فقد رأى عمر رضى الله عنه سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر فيه فإذا هو خبز ، فأمر أن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة.

وقد روى أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفة وهم أربعمائة من فقراء المهاجرين رصدوا أنفسهم لحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله ، ولم يكن لأكثرهم مأوى ، لذلك كانوا يقيمون في صفّة المسجد (موضع منه مظلّ) وقد هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها ، فهم محصورون في سبيل الله بهذه الهجرة ، ومحصورون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن.

وقد كان حفظه حينئذ من أفضل العبادات على الإطلاق ، لأنهم ما كانوا يحفظونه إلا للفهم والاهتداء والعمل به ، وحفظ الدين بحفظه ، وكانوا يحفظون بيان النبي صلى الله عليه وسلم له بسنته القولية وسنته العملية.

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوما على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : «أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائى».

ولا يحل لأهل التكايا ومشايخ الطرق أن يأكلوا أموال الناس ، لأنهم لم ينقطعوا لتعلم علم ولا غزو في سبيل الله ، بل قصارى أمر الأولين أن يأكلوا الصدقات والأوقاف ليعبدوا الله في هذه التكايا ، فهى لهم كالأديار للنصاري وهم فيها كالرهبان ، وإن كان بعضهم قد يتزوج.

٥١

وكذلك مشايخ الطرق الذين ينزلون بجماعتهم بلدا بعد آخر ، ويكلفون من يستضيفونه الذبائح والشيء الكثير من الطعام ، ثم لا يخرجون إلا مثقلين بالمال والهدايا ، بل قد يسلبون وينهبون باسم الدين وفي معرض الكرامات ، فهؤلاء الأوغاد يشبهون أنفسهم بأهل الصفة ، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل ـ أصلا في الكتاب والسنة «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا».

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه حسن النية والإخلاص له فى العمل ، ولا تحرى النفع به وإيتاؤه أحق الناس به ، فهو يجازى عليه بحسب هذا.

ولا يخفى ما في هذا من الترغيب في الإنفاق ، ولا سيما على مثل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

المعنى الجملي

بعد أن رغب سبحانه في الآيات السالفة في الإنفاق وبين فوائده للمنفقين والمنفق عليهم ، وللامة التي يتعاون أفرادها ويكفل أقوياؤها ضعفاءها ، وأغنياؤها فقراءها ، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة التي تجعل الأمة عزيزة الجانب محوطة بالكرامة فى أعين الأمم الأخرى ، كما بين آداب النفقة والمستحقين لها ، وأحق الناس بها إلى نحو من هذا.

بين هنا فضيلة الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال ومضاعفة الأجر على ذلك.

الإيضاح

المعنى ـ إن الذين ينفقون أموالهم في جميع الأزمنة وفي سائر الأحوال ، ولا يحجمون عن البذل إذا لاح لهم وجه الحاجة إلى ذلك ، لهم ثوابهم عند ربهم

٥٢

فى خزائن فضله ، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله.

ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع فى قلوبهم ، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم ، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خلّه محتاج أو آسوا جراح مكلوم ، أو أشبعوا بطن جائع ، أو جهزوا جيشا يسدّون به ثغرة فتحها عدو ، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

وإنما قدم الليل على النهار ، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية ، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه ، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.

وقد روى أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ أنفق أربعين ألف دينار ، عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر ، وعشرة بالعلانية.

وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في علىّ كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما ، وبالنهار درهما ، وسرا درهما ، وعلانية درهما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حملك على هذا؟ قال : حملنى أن أستوجب على الله الذي وعدنى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن ذلك لك».

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)

٥٣

يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

تفسير المفردات

يأكلون : أي يأخذون ويتصرفون فيه بسائر أنواع التصرفات ، والربا لغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد ، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله ، والخبط : الضرب على غير اتساق ، يقال ناقة خبوط إذا وطئت الناس وضربت الأرض بقوائمها ، ويقال للرجل يتصرف في الأمور على غير هدى : هو يخبط خبط عشواء [العشواء الناقة الضعيفة البصر] والمسّ : الجنون ، يقال مسّ الرجل فهو ممسوس إذا جنّ ، والموعظة : العظة والزجر ، والمحق : نقص الشيء حالا بعد حال كمحاق القمر ، ويربى : يزيد ويضاعف ، لا يحب : أي لا يرتضى ، والكفار : المقيم على الكفر المعتاد له ، والأثيم : المنهمك في ارتكاب الآثام ، اتقوا الله : أي قوا أنفسكم عقابه ، وذروا : أي اتركوا ، فأذنوا : أي فاعلموا ، بحرب من الله : أي بغضب منه ، وحرب من رسوله بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره ، واعتباركم أعداء له في كل عصر ، لا تظلمون : أي لا تفعلون

٥٤

الظلم بغرمائكم بأخذ الزيادة ، ولا تظلمون بنقص شىء من رأس المال ، العسر : الإعسار ويكون بفقد المال أو كساد المتاع ، والنظرة : الانتظار ، والميسرة : اليسار والسعة.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة ، والمتصدق يعطى المال من غير عوض ابتغاء وجه الله ـ وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابى يأخذ المال بلا عوض يقابله.

وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل ، وفيم يكون؟ حتى نتفهمه حق الفهم ، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.

الربا ضربان : ربا النسيئة ، وربا الفضل

فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل ، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية ، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه ، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل ، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عنى دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم الله عزّ وجل في إسلامهم عنه ا ه.

والتعامل بهذا النوع من الكبائر ، وقد ورد في الحديث «لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده»

والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي ، أو أقة عنب مصرى بأقة وربع من عنب أزمير ، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين (الذهب والفضة) لما جاء فى الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب ، والورق بالورق

٥٥

(الفضة) والبرّ بالبرّ والتمر بالتمر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد».

والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.

أسرار تحريم الربا

زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب ، بلاد المدنية والحضارة ، ونهلوا من مناهل العلم هناك ، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هى مناط العزة والقوة في العصر الحديث ، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدى الأجانب إلا بتحريم الربا ، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش ، ومن كان منهم غنيّا لا يعطى ماله بالربا ، فمال الفقير يذهب ، ومال الغنى لا ينمو ، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كاداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.

وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت ، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص ، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكّمون الدين في شىء من أعمالهم ومكاسبهم ، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا ، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم ، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين ، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين؟ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك ، فلما ذا لانتقن سائر المكاسب لنعوّض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم ، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شىء؟.

وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا ، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم ، فالدين لم يكن عاثقا لهم عن الرقى ، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل ، والحث على الكسب كما قال تعالى : «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» وقال : «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ».

٥٦

فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين ، وما سقطت بعد ما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك ، إلى أن صارت تجعل علة الرقى سببا فى الانحطاط ، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا ، ولا ذهب ملكنا ، وكان الدين وحده هو العاصم لنا.

فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام ، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم ، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس ، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر ، ثم قلدوا غيرهم فيها ، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث فى أكثر الأقطار ، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل ، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.

فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.

ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرّم الدين الربا فيما يلى :

(١) إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات ، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ، فيألف الكسل ، ويمقت العمل ، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل ، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم ، فلا يرأف بفقير ، ولا يشفق على بائس ، ولا يرحم مسكينا ، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد ، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات ، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم. ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.

(٢) إنه يؤدى إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات ، إذ هو ينزع

٥٧

عاطفة التراحم من القلوب ، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس ، ويحل القسوة محل الرحمة ، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه ، ومن جرّاء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية ، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال ، وأضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة ، والمرة بعد المرة.

ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم ، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه ، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود ، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيّا عنه بألا يحدّث أحدا بأنه اقترض منه ، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.

(٣) إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض ، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض ، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم «حرمة مال الإنسان كحرمة دمه».

ولا ينبغى اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يد المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل ، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة ، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن ، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.

(٤) إن عاقبته الخراب والدمار ، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم ، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا ، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».

والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه من الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها ، ويغريهم

٥٨

بالمزيد من الاستدانة ، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم ، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل ، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولى الدائنون قسرا على كل ما يملكون ، فيصبحون فقراء معدمين ، صدق الله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).

وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه فى مؤتمر القانون الإسلامى في شهر يوليو سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن فى معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال ، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة ، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.

فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم ، بل لم يحرّمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحى ، أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع ، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر ، وأن إثمه أكبر من نفعه ، والدرجة الثانية تحريم جزئى له ، والثالثة تحريمه التحريم الكلى القاطع.

فهل يطيب لكم أن تدرسوا معى المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا؟

إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التامّ على مسلكه في شأن الخمر ، لا في عدد مراحله فحسب ، بل حتى في أماكن نزول الوحى وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.

نعم ، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا ، وكان أول موضع منها وحيا مكيّا والثلاثة الباقية مدنية ، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.

٥٩

ففى الآية المكية يقول الله جلت حكمته «وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله» هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله ، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا ، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية (١٦ ـ ٦٧) حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب ، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية ، وتنبيها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.

أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم ، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين ، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنصّ الصريح ، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهى يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن ، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر (٢ ـ ٢١٩) حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهى صريح ، وقد جاء هذا النهى بالفعل في المرحلة الثالثة ، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة (٤ ـ ٤٣).

وكذلك لم يجىء النهى الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة ، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة (٢ ـ ١٣٠) وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا ، بل ختم بها التشريع القرآنى كله على ما صح عن ابن عباس ، وفيها النهى الحاسم عن كل ما يزيد على رأس ما الدين حيث يقول الله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ،

٦٠