تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

(إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا جواب من إبراهيم حين كسر الأصنام التي تعبد من دون الله ، وسفّه أحلام عابديها ، فسأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

فأنكر الملك الطاغية هذا الجواب.

و (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي أنا أحيى من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه ، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله.

وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها ، وإزالة الحياة بالموت ـ وفي جواب نمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة ، من أجل هذا أوضح إبراهيم جوابه كما حكى سبحانه عنه.

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي إن ربي الذي يعطى الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته ، هو الذي يطلع الشمس من المشرق ، فهو المكوّن لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع ، والسنن الحكيمة التي نشاهدها ، فإن كنت تستطيع أن تفعل كما يفعل ، فغيّر لنا شيئا من هذه النظم ، فالشمس تطلع من المشرق فحوّلها وائت بها من المغرب.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي فدهش ولم يجد جوابا ، وكأنما ألقمه حجرا.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يهدى من أعرض عن قبول الهداية ، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت ، ويترك ما أعطاه الله من الفهم ، اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه ، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضلّ صلالا بعيدا.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ

٢١

قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

تفسير المفردات

القرية : الضيعة ، والمصر : الجامع ، وقد أبهم الله القرية فلم يذكر مكانها ولا المارّ عليها ، بل اقتصر على موضع العبرة ، وما به تقوم الحجة ولم يعن بما فوق ذلك حتى لا يشغل القارئ أو السامع به ، ومن ثم اختلف المفسرون فيها ؛ فمن قائل إنها بيت المقدس وإن المار عليها هو عزير بن شرخيا ، ومن قائل هى دير هرقل على شط دجلة والمار هو أرميا من سبط هارون عليه السلام ، وخاوية : أي ساقطة من خوى البيت إذا سقط ، والعروش : واحدها عرش وهو سقف البيت وكل ما هيئ ليستظل به ، والمراد منه أن العروش سقطت أوّلا ثم سقطت الحيطان عليها ، وأنى : بمعنى كيف ، والحياة هنا العمران ، والموت : الخراب ، وأماته : أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا مثل ما حدث لأهل الكهف ، والبعث : الإرسال من بعثت الناقة إذا أطلقتها من مكانها ، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أوّلا حيا عاقلا مستعدا للنظر والاستدلال ، وقد دلت تجارب الأطباء في العصر الحديث على أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا لكنه يكون فاقد الحسّ والشعور ، وهو المسمى لديهم بالسبات وهو النوم المستغرق ويستعمله أهل الرياضيات في الهند ، فقد شوهد شاب قد نام نحو شهر ثم أصيب بدخل في عقله ، وآخرون ناموا أكثر من ذلك ، ومتى ثبت هذا فالذى يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة ، فهذا من الممكنات لا من المستحيلات وقد تواتر به النص فيجب التسليم به ، والتجارب التي

٢٢

عملت تقرب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة ، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته ، ولم يتسنه : أي لم يتغير ولم يفسد ، من قولهم تسنه الشيء مرت عليه السنون والأعوام ، وآية : علامة دالة على قدرة الله ، وننشزها : أي نرفعها من الأرض ونردها إلى أماكنها من الجسد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر محاجة إبراهيم لذلك الكافر وإلزامه الحجة ، بإثباته أن لهذا الكون إلها قادرا على كل شىء ، واحدا لا شريك له في الملك والتدبير ، ذكر هنا ما يدل على إثبات البعث والنشور ، ويرشد إلى هداية الله للمؤمنين ، وإخراجهم من ظلمات الشبه إلى نور اليقين ، ولا غرابة في وقوع الشبهة للمؤمن ثم طلبه المخرج منها بالدليل والبرهان ، فيهديه الله بما له من الولاية والسلطان على نفسه ، ويخرجه من الحيرة التي تعرض له إلى الطمأنينة التي تثلج قلبه وتملؤه بردا ويقينا.

الإيضاح

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أرأيت مثل الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها ، أي ما رأيت مثله فتعجب منه ، لأن حاله بلغت من الغرابة حدّا لا يرى لها مثل.

(قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي قال : كيف يعمر الله هذه القرية بعد حرابها؟ ومراده بذلك استبعاد عمرانها بالبناء والسكان بعد أن خربت وتفرّق أهلها.

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي فجعله الله فاقد الحسّ والحركة دون أن تفارق الروح البدن ، ثم أعاده إلى ما كان عليه أوّلا.

(قالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى

٢٣

طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي قال له بعد مبعثه كم يوما لبثت يا عزير؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم بناء على ظنه وتخمينه ، فقال له : ما لبثت هذا المقدار؟ بل لبثت مدة متطاولة. ومع ذلك لم يلحق طعامك وشرابك تغيّر مما تجرى العادة بمثله حين مرور الزمان وتطاول الأعوام.

والقصد من السؤال إظهار عجزة عن الإحاطة بشئونه تعالى ، وليطّلع أثناء ذلك على بدائع قدرته بإبقاء الغذاء الذي لم يتسارع إليه الفساد مع مضى الزمن الطويل ، وليعلمه أن إحياءه كان بعد مدى طويل ، وبذا يزول من نفسه الاستبعاد الذي خطر على باله أولا.

(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه ، وتقطعت أوصاله وتمزقت ، ليستبين لك طول لبثك ، وتطمئن بذلك نفسك.

(وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك وإحياء حمارك ، وحفظ ما معك من الطعام والشراب ، ليزيل تعجبك ، ونريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك ، ولنجعلك آية للناس.

أما كونه آية له فواضح ، وأما كونه آية للناس فلأن علمهم بموته مائة عام ثم بحياته بعد ذلك يكون من أكبر الآيات التي يهتدى بها من يشاهدها ، إلى كمال قدرة الله وعظيم سلطانه.

وبعد أن أراه الآية التي تكون حجة على من رآها في قوله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) نبهه إلى الدليل الذي يحتج به على إمكان البعث في كل مكان وزمان ، وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فقال :

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي إن القادر على أن يكسو هذه العظام لحما ويمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم حى ـ قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية ، وكذلك القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى آلاف السنين ، فبعض أفعاله تعالى يشبه بعضا.

٢٤

وخلاصة ذلك ـ إننا كما أطلعناك على بعض آياتنا الخاصة الدالة على قدرتنا على البعث ، نهديك إلى الآية الكبرى الدالة على كيفية التكوين ، وبمثل هذا يحتج القرآن في مثل قوله : «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» وفي قوله : «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» وفي قوله : «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً».

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فلما ظهر له إحياء الميت عيانا قال : أعلم علما يقينيّا مؤيدا بآيات الله في نفسى وفي الآفاق ، أن الله على كل شىء من الأشياء التي من جملتها ما شاهدته ، قدير لا يستعصى عليه أمر.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

تفسير المفردات

فصرهن : أي ضمهن ، سعيا : أي مسرعات طيرانا ومشيا ، وعزيز : أي غالب على أمره ، حكيم : أي لأنه جعل أمر الإعادة وفق حكمة التكوين.

المعنى الجملي

ذكر في هذه الآية مثالا آخر يدل على إثبات البعث ، وفيه دلالة على ولاية الله للمؤمنين ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وكرر المثل لإثبات البعث ، ولم يذكر إلا مثالا واحدا لإثبات الربوبية ، لأن منكرى البعث أكثر من منكرى الألوهية.

٢٥

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟) أي واذكر وقت قول إبراهيم لربه ، أرنى كيف يكون إحياء الموتى؟ وما وقع حينئذ من عجيب صنعه تعالى لتقف على هدايته تعالى للمؤمنين وولايته لهم.

وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات لأمرين :

(١) أن إيجاب ذكر الوقت يستلزم ذكر ما وقع فيه.

(٢) أن ذكر الوقت يشتمل على ما فيه بالتفصيل ، فإذا استحضر كان كل ما فيه حاضرا لا يشذ عنه شىء.

وصرح بذكر إبراهيم دون الذي مرّ على القرية ، لأن في سؤاله من الأدب مع الله والثناء عليه ما ليس في سؤال ذاك ، فالصورة في الأول صورة الإقرار مع طلب الزيادة فى العلم ، والصورة في الثاني صورة الإنكار.

وبدأ سؤاله بكلمة (رب) المفيدة لعنايته تعالى بعبيده ، وتربيته لعقولهم وأرواحهم استعطافا وثناء على الله أمام الدعاء.

وخلاصة المعنى ـ يا رب أرنى بعيني كيفية إحيائك للموتى.

(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) أي قال : ألم تعلم ذلك وتؤمن يأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته؟ قال بلى علمت ذلك وصدقت بالخبر ، ولكن تاقت نفسى للخبر والوقوف على كيفية هذا السر ليطمئن قلبى بالعيان بعد خبر الوحى.

وفي قوله تعالى لإبراهيم : «أولم تؤمن» وهو العليم بإيمانه ويقينه ـ تنبيه وإرشاد إلى ما ينبغى أن يقف عنده الإنسان ولا يعدوه ، فإن الإيمان بهذا السر الإلهى والتسليم فيه لخبر الوحى ، هو غاية ما يطلب من البشر ، ولو كان وراء ذلك سبيل آخر لبينه الله تعالى.

٢٦

وفي إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين ، ومنع لهم عن التذكر في كيفية الخلق والتكوين ، فإن هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه.

وليس في سؤال إبراهيم ما يشعر بالشك ، فالإنسان قد جبل على طلب المزيد في العلم والرغبة في الوقوف على أسرار الخليقة ، وأكمل الناس علما أشدهم رغبة في طلب الوقوف على المجهولات.

فطلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية ، لا طلب للطمأنينة بالبعث إذ قد عرفه بالوحى والدليل.

وإنا الآن لا نؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينيا ولا نعرف كيفيتها ، ونودّ لو نعرفها ، فهذا الأثير (التلغراف اللاسلكى) ينقل أخبار العالم في لحظة ، ولا نعرف كيفية ذلك ، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية ، والقارات البعيدة ، ومثله أصوات المذياع (الراديو) التي تنشر في جميع أقطار العالم بكل اللغات ، وتسمع في أرجاء المعمورة ، ولا يعرف كثير من الناس كيف تصل إليهم.

ثم بين سبحانه أنه أجابه إلى ما طلب.

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن إبراهيم بعد أن طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى ـ أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير ، فيقطعهنّ أجزاء ، ثم يفرقها على عدة جبال بحضرته وأرضه ، ثم يدعوها فتجيبه مسرعة ـ والطير أشد الحيوان نفورا من الإنسان غالبا ـ وقد فعل إبراهيم ذلك.

قال المرحوم النطاسي عبد العزيز باشا إسماعيل في رسالته (الإسلام والطب الحديث) أثناء كلامه في المعجزات التي وقعت على أيدى الأنبياء ليتجلى لك ما ربما غاب عن فكرك ، وندّ عن بالك ، وتفهم ذلك حقّ الفهم قال :

المعجزات كلها من صنع الله مباشرة ، ومعناها سنة جديدة ، بخلاف ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونموّ الحيوان والنبات ، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد

٢٧

ونظم وضعها الله لا تتغير ، وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس ، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لتعوّدنا إياه ، ولكن إن أتي الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان ، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحدث المعجزات إلا على أيدى الأنبياء ، لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين ، فهى أشد على من يكون واسطة فيها ، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

وصفوة القول ـ إن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها ، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة ، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية ، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله ، لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها ، ولا يدرك طريق صنعها ، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى طبيعى ، ولذلك هو يتكرر في الظروف نفسها على يد كل إنسان ـ هذا كلامه باختصار.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ

٢٨

عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

تفسير المفردات

سبيل الله : ما يوصل إلى مرضاته تعالى ، الحبة : واحدة الحب ، وهو ما يزرع ليقتات به ، المنّ : أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن إليه ويظهر به تفضله عليه ، والأذى : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه كأن يقول له : إنى قد أعطيتك فما شكرت ، قول معروف : أي كلام حسن وردّ جميل على السائل كأن يقول له : رزقك الله ، أو عد إلىّ مرة أخرى أو نحو ذلك ، ومغفرة : أي ستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره مما يثقل على النفوس احتماله ، وخير : أي أنفع وأكثر فائدة ، رئاء الناس : أي مراءاة لهم لأجل أن يروه فيحمدوه ، ولا يقصد ابتغاء رضوان الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين وترقية شأن الأمة بالقيام بما يصلح شؤنها ، فمثله : أي فصفته ، وصفوان : أي حجر أملس ، والوابل : المطر الشديد ، والصلد : الأملس الذي ليس عليه شىء من الغبار ، ويقال فلان لا يقدر على درهم : أي لا يجده ولا يملكه.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذى مر على قرية ، ولإبراهيم صلوات الله عليه ، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفّون فيها أجورهم بغير حساب ، فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة ، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله ـ ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة ، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك ، ثم ذكر أن المنّ والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء ، وضرب لهذا مثل الصفوان.

٢٩

الإيضاح

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي مثل الذين ينفقون المال يبتغون به رضا الله وحسن مثوبته كمن يزرع حبة فى أرض مغلة فتنبت سبع سنابل : أي تخرج ساقا تتشعب منه سبع شعب في كل سنبلة منها مائة حبة كما يرى في كثير من الحب كالذرة والدّخن.

وقد عنى بتطبيق هذا المثل علميا بعض أعضاء الجمعية الزراعية بمصر في مزارع القمح التي لها في التفتيش النموذجى وفي غيره ، فهدتهم التجارب إلى أن الحبة الواحدة لا تنبت سنبلة واحدة بل أكثر ، وقد وصلت أحيانا إلى أربعين ، وأحيانا إلى ست وخمسين ، وأحيانا إلى سبعين ، كما دلتهم أيضا على أن السنبلة الواحدة تغل أحيانا ستين حبة أو أكثر ، وقد عثر في عام (١٩٤٢ م) أحد مفتشى الجمعية على سنبلة أنبتت سبعا ومائة حبه وعرض نتيجة بحثه على الإخصائيين من رجال الجمعية وغيرهم في حفل جامع ، ورأوا تلك السنبلة وعدوها عدّا ، فاتفقت كلمتهم على صدق ما عدّ ورأى ، وشكروه على جهوده الموفقة ـ والزمان كفيل بتأييد قضايا الكتاب الكريم مهما طال عليها الأمد وكلما تقدم العلم ظهر صدق ما أخبر به.

وخلاصة ذلك ـ إن المنفق في إرضاء ربه وإعلاء دينه كمثل أبرك بذر زرع فى أخصب أرض ، فنما نموّا حسنا فجاءت غلته سبعمائة ضعف.

(وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فيزيده زيادة لا حصر لها.

أخرج ابن ماجه عن علىّ وأبي الدرداء كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك ، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم» ثم تلا هذه الآية.

وعن معاذ بن جبل أن الغزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.

٣٠

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى لا ينحصر فضله ، ولا يحد عطاؤه ، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة كالمنفقين في إعلاء شأن الحق ، وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد ، حتى إذا ما ظهرت آثار ذلك في قوة ملتهم وسعادة أمتهم جنوا من ذلك أجلّ الفوائد وعاد ذلك عليهم بالخير الوفير.

ولنعتبر بما نراه في الأمم العزيزة الجانب التي ينفق أفرادها في إعلاء شأنها بنشر العلوم والمعارف وتأليف الجماعات الخيرية التي تقوم بها المصالح العامة ، ولنوازن بين هؤلاء وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة ، نر صعاليك الأولين ذوى عزة ومنعة لا يجاريهم فيها ثراة الآخرين.

هذا وإن الناس بمقتضى الفطرة يقتدى بعضهم ببعض ، فمن بذل شيئا في سبيل المصلحة العامة كان قدوة لمن يبذل بعده ، فالناس يتأسى بعضهم ببعض من حيث لا يشعرون.

والفضل الأكبر للسابقين الأولين في عمل الخير ، فهم الذين يضعون الأسس لعمل الخير ، فهم الفائزون برضوان الله ، ولهم أجرهم وأجر من اقتدى بهم

أخرج الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

ثم بين ثواب الإنفاق في الآخرة بعد بيان منافعه في الدنيا فقال :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين يبذلون أموالهم يبتغون بذلك مرضاة ربهم ، ولا يتبعون ذلك بمنهم على من

أحسنوا إليهم ولا بإيذائهم ، لهم عند ربهم ثواب لا يقدر قدره ، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس وتفزعهم الأهوال ، ولا هم يحزنون حين يحزن الباخلون الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله ، إذ هم أهل السكينة والاطمئنان والسرور الدائم.

٣١

والحكمة في تعليق هذا الثواب على ترك المنّ والأذى ، أن الإنفاق في سبيل الله يراد به وجه الله وطلب رضاه ، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه لأنه لا يد له قبله ، ولا صنيعة له عنده ، تستحق ـ إن لم يكافئه عليها ـ المن والأذى فعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه.

ثم وضع سبحانه دستورا لحسن المعاملة بين الناس فقال :

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي كلام حسن وردّ جميل على السائل ، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى ، لأنه وإن خيّب رجاءه فقد أفرح قلبه وهوّن عليه ذل السؤال ، وهذا القول تارة يتوجه إلى السائل إن كانت الصدقة عليه ، وتارة أخرى يتوجه إلى المصلحة العامة ، كما إذا احتيج لجمع المال لدفع عدوّ مهاجم أو بناء مستشفى أو مدرسة أو نحو ذلك من أعمال الخير والبر ولم يكن لدى المرء مال ، فعليه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث العاملين على العمل ، وينشطهم إليه ، ويبعث عزيمة الباذلين على الزيادة في البذل ، أما الصدقة التي يتبعها أذى فهى مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء ، ومن آذى فقد بغّض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم ، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء.

ومن الخير للأمة أن يظهر أفرادها في مظهر المتعاونين كما قال : «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» وذلك مما يعزز مقامها ، ويحفظ كرامتها ، ويجعلها مهيبة في أعين الناس أجمعين.

وخلاصة المعنى ـ إن مقابلة المحتاج بكلام يسره وهيئة ترضيه ، خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة ، ولا فارق بين أن يكون المحتاج فردا أو جماعة ، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه ، وإظهار استهجانه ، وتشكيك الناس في فائدته ، لا توازى إحسان القول فى ذلك العمل الذي تطلب المساعدة له ، والإغضاء عن التقصير الذي ربما يقع من

٣٢

العاملين فيه ، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك أجدى لها من شىء من المال تعطيه مع مقالة السوء وفعل الأذى.

وقد قررت هذه الآية مبدأ عامّا في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقد دلت على أن الخير لا يكون طريقا إلى الشر ، وعلى أن الأعمال الصالحة يجب أن تكون خالية من الشوائب التي تفسدها وتذهب بفائدتها كلها أو بعضها ، وعلى أن من عجز عن نوع من أنواع البرّ فعليه أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدى إلى مثل غايته ، فمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤذى ، فعليه أن يجبر قلب الفقير بقول المعروف.

(وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أي والله غنى عن صدقة عباده ، فلا يأمرهم ببذل المال لحاجة إليه ، بل ليطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية ، ليكونوا أعزاء ، بعضهم لبعض ناصر ومعين.

فهو غنى عن صدقة يتبعها منّ أو أذى ، لأنه لا يقبل إلا الطيبات ، حليم لا يعجل بعقوبة من يمنّ أو يؤذي.

وفي هذه الجملة سلوة للفقراء ، وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغنى الحليم ، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم ، وعدم تعجيل العقوبة على كفرهم بنعمته تعالى ، إذ من وهبهم المال فإنه يوشك أن يسلبه منهم.

وبعد أن أبان سبحانه فيما سلف أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على الإنفاق في سبيله ـ أقبل يخاطب عباده المؤمنين وينهاهم نهيا لا هوادة فيه عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي إن المن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها ، وهو تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة للأفراد ، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتها

٣٣

إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة ـ إذ أن كل عمل لا يؤدى إلى الغاية منه فقد حبط وبطل كأن لم يكن ، فما بالك إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها؟.

ونحو ذلك ما يقال : إن صلاة المرائى باطلة ، على معنى أن الغرض منها وهو توجه القلب إلى الله واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه لم يحصل ، لأن قلب المرائى إنما يتوجه إلى من يرائيه لا إلى ذى العظمة والجبروت ، والملك والملكوت.

وفي ذلك مبالغة أيّما مبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين اللتين قد أولع الناس بهما ؛ فالنفوس مغرمة بذكر ما يصدر منها من الإحسان تمدحا وتفاخرا ، وذلك طريق إلى المن والإيذاء ، ولا سيما إذا آنس المتصدق تقصيرا في شكر الناس له على صدقته ، أو احتقارا لها ، فهو حينئذ لا يكاد يملك نفسه عن المنّ والأذى.

(كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا تبطلوا صدقاتكم بإحدى هاتين الرذيلتين فتكونوا مشبهين من ينفق ماله مرائيا الناس : أي لأجل أن يروه فيحمدوه ، لا لابتغاء مرضاة الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين ، وترقية شأن الأمة بما يصلح شئونها ، وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا.

والخلاصة ـ إن كلا من المرائى وذى المن والأذى أتى بعمل غير مقبول ولا صحيح بل هو باطل ومردود عليه.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي إن صفة عمل المنافق المرائى كصفة تراب على حجر أملس نزل عليه ماء مطر شديد ، فأزاله وترك الحجر صلدا نقيا لا تراب عليه.

والوجه المشترك بينهما ، أن الناس يرون أن لهؤلاء المرائين أعمالا كما يرى التراب على الصفوان ، فإذا جاء يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله وذهب ، لأنه لم يكن لله ، كما يذهب الوابل من المطر ما كان على الصفوان ، فيتركه أملس لا شىء عليه

٣٤

(لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي إنهم لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثمرة لا في الدنيا ولا في الأخرى ، أما في الدنيا فلأن المنان المؤذى بغيض إلى الناس ، كالبخيل الممسك ، والمرائي لا يخفى على الناس فعله.

ثوب الزياء يشفّ عما تحته

فاذا اكتسيت به فإنك عار

وأما في الآخرة فلأن المنّ والأذى كالرياء مناف للإخلاص ، ولا أجر عند الله إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرّون تزكية نفوسهم وإصلاح أحوالهم.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى ما فيه خيرهم ورشادهم ، فإن الإيمان هو الذي يهدى قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها ، والاحتراس من الإتيان بما يذهب فائدتها.

وفي هذا تعريض بأن كلا من الرياء والمنّ والأذى من صفات الكافرين التي ينبغى للمؤمنين أن يتجنبوها.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

تفسير المفردات

ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضوانه ، وتثبيتا من أنفسهم أي لتمكين أنفسهم فى مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها عند بذلها بحيث لا ينازعها فيه زلزال البخل

٣٥

ولا اضطراب الحرص ، والجنة : البستان ، والربوة المكان المرتفع من الأرض ، وأشجار الربى أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وفعل الشمس فيها ، وآتت أكلها : أي أعطت صاحبها أكلها ، والاكل كل ما يؤكل والمراد هنا الثمر ، وضعف الشيء مثله ، والطلّ المطر الخفيف ، والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها إلى السماء حاملة الغبار فتكون كهيئة العمود ، والنار أي السموم الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمنّ والأذى ، ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، قفّى على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم ، فبضدها تتبين الأشياء.

الإيضاح

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) أي مثل المنفقين أموالهم ابتغاء رضوانه تعالى ، وتمكينا لأنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها حين البذل حتى يكون ذلك سجية لها ، كمثل جنة جيدة التربة ملتفة الشجر ، عظيمة الخصب ، تنبت كثيرا من الغلات ، نزل عليها مطر كثير فكان ثمرها مثلى ما كانت تغلّ ، وإن لم يصبها الوابل فطلّ ومطر خفيف يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها ، وهكذا كثير البر كثير الجود إن أصابه خير كثير أغدق ووسّع في الإنفاق ، وإن أصابه خير قليل أنفق بقدره ، فخيره دائم ، وبره لا ينقطع.

وإنما قال من أنفسهم أي بعض أنفسهم ، ولم يقل لأنفسهم ، لأن إنفاق المال وجه من وجوه التثبيت والطمأنينة ، وبذل الروح وجه آخر ، وكماله ببذل الروح

٣٦

والمال معا كما جاء في قوله سبحانه في سورة الحجرات «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

وقد هدانا الله بهذا إلى أن نقصد بأعمالنا طلب رضاه وتزكية نفوسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال ، فإن نحن فعلنا ذلك جوزينا خير الجزاء.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو يجازى كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به ، وفي ذلك تحذير من الرياء الذي يظن صاحبه أنه يغشّ الناس بإظهاره خلاف ما يضمر.

فعليك أيها المنفق أن تخلص لربك الذي لا يخفى عليه ما تنطوى عليه سريرتك ، ثم ضرب مثلا لمن ينفق ماله ويتبعه بالمنّ والأذى فقال :

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي هل يود الإنسان أن تكون له جنة معظم أشجارها الكرم والنخل ـ وهما أجلّ الأشجار وأكثرها نفعا ـ حاوية لأنواع أخرى من الثمرات ، تجرى فيها الأنهار فتسقيها ماء غدقا ، علّق بها آماله ، ورجا أن ينتفع بها عياله ، وقد أصابه الكبر وأقعده عن الكسب ، وله ذرية ضعفاء لا يستطيعون أن يقوموا بشأنه وشأنهم ، ولا مورد له غير هذه الجنة.

وبينا هو على تلك الحال إذا بجنته قد أصابها إعصار فأحرقها بما فيه من سموم النار وهو أحوج ما يكون إليها ، وبقي هو وأولاده حيارى لا يدرون ماذا هم فاعلون؟

وهكذا حال من يفعل الخير ويبذل المال ويحبط عمله بالرياء أو بالمنّ والأذى ، فإنه يأتى يوم القيامة وهو أشد ما يكون حاجة إلى ثواب ما بذل ، لكنه يجد إعصار الرياء والمنّ والأذى أبطل ما فعل من الخير وجعله هباء منثورا فأصبح يقلب كفيه نادما ولات ساعة مندم.

٣٧

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره ، والنخل بشجره ، لأن كل شىء فى النخل نافع للناس في شئون معايشهم ، سواء في ذلك ورقه وجذوعه وأليافه وعثا كيله فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغيرها.

والمراد بقوله (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) مع كون الجنة من نخيل وعنب ـ المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي مثل هذا البيان بضرب الأمثال التي بلغت الغاية في الوضوح ـ يبين الله لكم دلائل شريعته وأسرارها وفوائدها وغاياتها ، لتتفكروا فيها وتعتبروا بما اشتملت عليه من العبر ، فتضعوا نفقاتكم فى مواضعها ، وتقصدوا بها أن تكون خالصة لوجهه تعالى بدون رياء ولا أذى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

تفسير المفردات

الطيب : هو الجيد المستطاب ، وضده الخبيث المستكره ، ولا تيمموا أي لا تقصدوا ، وتغمضوا أي تتساهلوا وتتسامحوا من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ، ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وحميد أي مستحق للحمد على نعمه العظام ...

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص لله فصد تزكية النفس والبعد عن الرياء ، وما يجب أن يتحلى به بعد البذل من البعد

٣٨

عن المنّ والأذى على أبلغ وجه وآكده ، وفيه الإرشاد إلى ما يختص بالباذل وبطرق البذل.

أشار هنا إلى ما ينبغى أن يعنى بشأنه في المال المبذول وهو أن يكون من جيد أمواله وأحبها إليه ليتم الإرشاد والنصح في وجوه البذل والنفقة في سبيل الله.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي أنفقوا من جياد أموالكم المكسوبة من النقد وسلع التجارة والماشية ، ومما أخرجنا من الأرض من الحبوب والثمار وغيرها قال تعالى : «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي ولا تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتخصّوه بالإنفاق منه.

وقد روى في سبب نزول الآية أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر (أي رديئه).

وروى من وجه آخر أن الرجل كان يعمد إلى التمر فيضرمه ، ثم يعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء ، وكما نهينا عن تعمد تخصيص الصدقة بالخبيث ، نهينا عن تكليف المتصدق بدفع الجيد من ماله فحسب ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم ، وإياك وكرائم أموالهم» فالواجب أخذ الوسط.

(وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي كيف تقصدون الخبيث وتتصدقون به وحده ولستم ترضون مثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير العيب فيه ، ولن يرضى ذلك أحد لنفسه إلا وهو يرى أنه مغبون مغموص الحق ، ألا ترى أن الرديء لا يقبل هدية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدى ، لأن إهداءه

٣٩

يشعر بقلة الاحترام لمن أهدى إليه ، والذي يقبله مع الإغماض إنما يقبله لحاجته إليه ، أو لخوف الحق ، والله لا يحتاج فيغمض.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن الله غنى عن إنفاقكم ، وإنما يأمركم به لمنفعتكم ، فلا تتقربوا إليه بما لا يقبله لرداءته ، وهو المستحق للحمد على جلائل نعمائه ، ومن الحمد اللائق بجلاله تحرّى إنفاق الطيب مما أنعم به.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

تفسير المفردات

يعدكم أي يخوّفكم ، والفقر : سوء الحال وضيق ذات اليد ، ويأمركم أي يغريكم ، والمراد بالفحشاء هنا البخل ، والمغفرة الصفح عن الذنب ، والفضل الرزق والخلف ، والحكمة العلم النافع الذي يكون له الأثر في النفس ، فيوجه الإرادة إلى العمل بما تهوى مما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

المعنى الجملي

بعد أن أمرنا سبحانه بإنفاق الطيب من أموالنا ، ونهانا عن تيمم الخبيث منها وإعطائه صدقة ، أراد أن يبين أن أسباب هذا القصد الذي يفعله المتصدق ، وركونه إلى الرديء دون الجيد أن الشيطان يقول له : لا تنفق الجيد من أموالك حتى لا تكون عاقبة ذلك الفقر.

٤٠