تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

شديدة على الحاضرين ، فهى أشد على من يكون واسطة فيها ، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها ، ويهيئ النبي نفسه لقبولها ، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها ، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى ... وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى ، وأغلبها ينتهى إلى شىء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة ، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى ، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته ، ومن أمكنه استعاضة شىء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.

وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية ، وبواسطة أطباء العيون ، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى ، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ. وكذلك صنع أرجل جديدة ، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية ، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها ، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

وصفوة القول ـ إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه ، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا ، وصنع واحدة كصنع الكل ، وهذا معنى قوله تعالى : «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط ، ولكنها كلها من نوع واحد ، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

وقد يقول البعض : إن العلوم تتقدم ، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة ـ وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي

١٦١

للمعجزات لم يفهم ، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية ، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير ، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها ، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى ، وهكذا إلى ما لا نهاية ؛ فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة ـ كما يسميها الطبيعيون ـ لا حدّ لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا ، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر ـ هو من الاستعانة بهذه القواعد ؛ فالذى يتكلم في أوربا ويسمعه آخر فى مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك ، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله ، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسحروها لأغراضهم ، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات ، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة ، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوّله نهرا يجرى ، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية ، بعكس المعجزات فإنها من طراز آخر ، وهى مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة ، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

ولزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار ، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطى الإنسان بشىء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق ، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية.

أما المعجزة فهى أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق ، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة ، وهى خرق للسنة الطبيعية التي تقضى باحتراق الجسم متى وضع في النار.

وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به ، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه ، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار ، والفرق

١٦٢

بين الاثنين ظاهر ، والقرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع.

والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية ، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن.

ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله ، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين ، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى (بالطبيعة) وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفى للآن شىء مدهش ، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين ، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا ما دامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين؟

وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود.

ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية فى ثقب فيها ، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه ، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين ، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول ، ولكنه إن رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد ، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها ، وإذا رأى يوما أن قطعة معدن صغيرة أصبحت أمام عينيه آلة صغيرة تزن الأشخاص ، أيقن أن للأولى صانعا ، وهذا هو معنى صنع الطير من الطين لأن هذا تمثيل لخلق سيدنا آدم الذي منه خلق العالم الإنسانى كله بالسنن (الطبيعية) الإلهية التي لا تبديل فيها.

وصفوة القول ـ أن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها ، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة ، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها بدون السنن العادية ، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله ؛ لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها ، ولا يدرك طريقة صنعها.

١٦٣

أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى (طبيعى) ولذلك هو يتكرر دائما فى الظروف نفسها على يد كل إنسان ، انتهى كلامه بتصرف.

(وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي وأخبركم بما تأكلونه من أنواع المآكل ، وما تخبئونه للغد في بيوتكم ، وقد كان يخبر الرجل بما أكل ، وبما سيأكل.

والفرق بين إخباره بالغيوب ، وإخبار المتنجمة والمتكهنة التي كثيرا ما تخبر بالشيء وتصيب ، أن المتنجم والمتكهن إنما ينبئ عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه ، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ، ومن سائر أنبيائه ورسله ، بل كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن بإعلام الله ابتداء من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه ، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيّه ، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدّعية علم ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في ذلك لحجة على صدق رسالتى ، وموضعا للعبرة تتفكرون فيه فتعتبرون به أنى محق في قولى لكم إنى رسول من ربكم إليكم ، وتعلمون به أنى فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ، إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته ، مقرين بتوحيده وبنبيه موسى وبالتوراة التي جاءكم بها.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي وجئتكم مصدقا لما بين يدىّ من التوراة لا ناسخا لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها ، وهو الذي ذكره بقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بنى إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم ، فأحلها عيسى كما قال تعالى : «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

١٦٤

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقى وصحة رسالتى بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك.

وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة ، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه.

ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال :

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد ، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه ، ونظيره ما جاء في الحديث «قل آمنت بالله ثم استقم».

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوىّ الذي أجمع عليه الرسل قاطبة ، وهو الموصل إلى خيرى الدنيا والآخرة

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

١٦٥

الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

تفسير المفردات

فى الأساس : أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر ، وما أحسسنا منه خيرا ، وهل تحس من فلان بخير ، وفي الكشاف أحس : علم علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، والأنصار : واحدهم نصير كالأشراف واحدهم شريف ، والحواريون : واحدهم حوارى ، وحوارىّ الرجل صفيّه وناصره ، ومسلمون : أي منقادون لما تريده منا ، والمكر تدبير خفى يفضى بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب ، وغلب استعماله في التدبير السيئ وإن كان يستعمل في الحسن والسيئ معا كما قال تعالى : «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ».

والداعي إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبّر له أفسد على الفاعل تدبيره لجهله ، فكانت حاجة المربي أو القوّام على غيره ماسة إلى الاحتيال عليه والمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول إليه ، والتوفى : أخذ الشيء وافيا تامّا ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى : «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» وتطهيره من الذين كفروا : براءته مما كانوا يرمونه به بتهمة أمه بالزنا.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام ، وكلامه الناس في المهد ، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بنى إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها.

وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصدّ والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه ، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة ، وطوى

١٦٦

ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة ، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى.

الإيضاح

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي فلما شعر من قومه بنى إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء ، فقد صح أنه لقى من اليهود شدائد كثيرة ، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى : ما أكل فلان البارحة ، وما ادخر فى بيته لغد؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم. وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم ، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض.

وفي هذا عبرة وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضى إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول ، ومن الداعي حسن بيان.

وحين رأى منهم ذلك :

(قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟) أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟» أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرى ، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتى ، وينخلعون عما كانوا فيه ، وينصرفون إلى تأييد رسوله!

(قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي قال خاصة أصحابه وناصروه : نحن أنصار دين الله ، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذون بتعاليمك. والمنصرفون عن التقاليد السالفة.

وهذا النصر لا يستلزم القتال ، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه.

(آمَنَّا بِاللهِ) هذا جار مجرى السبب في نصره ، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذبّ عن أوليائه ، ومحاربة أعدائه.

١٦٧

(وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون منقادون لأوامره.

وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبىّ وإن اختلف الأنبياء فى بعض صوره وأشكاله ، وأحكامه وأعماله.

وإنما طلبوا شهادته ، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) هذا تضرع إلى الله ، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم.

(وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي وامتثلنا ما أتى به منك.

وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرّف لها في العمل ، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل ، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان ، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء ، فإذا حاول العمل به لم يحسنه ، ويتبين له أنه كان محطئا في دعوى العلم به.

(فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) أي ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود ، بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه ، ورفع عليه السلام إلى السماء ، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل.

(وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا ، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون ، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه ، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها ، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إلىّ.

١٦٨

وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله ، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم.

وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان :

(١) أن فيها تقديما وتأخيرا ، والأصل : إنى رافعك إلىّ ومتوفيك ، أي إنى رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك ـ وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان ، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله.

(٢) أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفى هو الإماتة العادية ، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه ، فالروح هى حقيقة الإنسان ، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير ، والإنسان إنسان لأن روحه هى هى.

والمعنى ـ إنى مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندى كما قال في إدريس عليه السلام «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا».

وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي ، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر ، ولا يوجد هنا واحد منهما ، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه ، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها ، والتمسك بقشورها دون لبابها.

ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة. ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام ، ويقفهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها ، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوى يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين ، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد.

١٦٩

فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية ، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.

وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها ، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار ، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة لذلك.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ومنجوك مما كانوا يريدونه بك من الشر ، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه.

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله ، وصدقوك في قولك «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدك فوق الذين مكروا بك من اليهود وكذبوك ، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهداك.

وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهى فضلهم عليهم في حسن الأخلاق ، وكمال الآداب ، والقرب من الحق ، والبعد من الباطل ، وإما فوقية دنيوية وهى كونهم أصحاب السيادة عليهم.

وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك ، فلا يرى ملك يهودى ، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى ، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه ، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم ، فالوجه الأول أولى بالاعتبار.

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إن هذا السموّ في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم ما دامت السموات والأرض ، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم مصيركم إلىّ يوم البعث ، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين ، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه ، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به.

١٧٠

وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين.

ثم بين جزاء المحقّ والمبطل وكيفيته فقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك فى الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي وأما الذين صدّقوك وأقروا بنبوّتك وبما جئتهم به من الحق ، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به ، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي ـ فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص.

ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال :

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له ، أو وضع شيئا في غير موضعه ، فكيف بظلم عباده له ، فهو يجازيه بما يستحق.

وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله ، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها ، وزكريا وابنه يحيى ، وما قصّ من أمر الحوار بين واليهود من بنى إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل.

وهى من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة ، وأسرار الاجتماع البشرى.

وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران ، ويهود بنى إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئنهم به من الحق.

١٧١

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

تفسير المفردات

المثل : الحال الغريبة والشأن البديع ، والامتراء : الشكّ ، والبهلة (بالضم والفتح) اللعنة والدعاء ، يقال ماله بهله الله : أي لعنه ، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء ، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته : أي يدعوه ، والقصص : تتبع الأثر ، ومنه قوله تعالى : «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» أي تتبعى أثره ثم استعمل في الكلام والحديث ، لأن القاصّ يتبع المعاني ليوردها ، والعزيز : أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد ، والحكيم : ذو الحكمة التي لا يساميه فيها أحد

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به ، وكفر بعض قومه به ، ورميهم أمه بالزنا ، وإيمان بعض آخر به.

أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به ، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا ، بل افتتن به افتتانا ، لكونه ولد من غير أب ، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه ، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها ، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود ، والمفتونين به من النصارى.

١٧٢

فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه ، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت ، والإنكار إن صح الإنكار.

وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا ، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.

والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد ، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها ، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة ، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة ، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.

وهكذا شأن خلق عيسى ، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.

وقد روى في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول ، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك ، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال :

(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.

وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم ، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم ـ مما لا ينبغى أن يكون ولا يسلمه العقل.

١٧٣

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله : «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ».

ثم أكد صدق هذا القصص فقال :

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق ، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله ، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به.

وتوجيه هذا النهى للنبى صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين :

(١) أنه إذا سمع صلى الله عليه وسلم مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.

(٢) أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء ، إذ أنه صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟

وخلاصة ذلك ـ دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق ، والتنزه عن الشك فيه.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت.

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي فقل لهم : أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء.

وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة ، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم ـ إيذان بكمال أمنه صلى الله عليه وسلم وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه ، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.

وقد ورد من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

١٧٤

أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه ، فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ، ولا عقّبنا من بعدنا أبدا ، فقالا له نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا ، فقال قم يا أبا عبيدة ، فلما قام قال : هذا أمين هذه الأمة.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس «أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله (قل تعالوا) الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام ، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبنى قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة ، فصالحوه على ألف حلة فى صفر وألف في رجب ودراهم».

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال : إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم.

وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبى بكر وولده وبعمر وولده ، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم ، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.

وفي الآية عبرة لمن ادّكر ، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية ؛ وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها ، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى ، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.

١٧٥

وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين ، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشئون الاجتماعية ، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس ؛ كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل ، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة ، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن ، وضعفت آدابهن ، وصرن كالدواجن في البيوت ، أو السوائم في الصحراء ، وساءت تربية البنين والبنات ، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات ، وعم الأسر والعشائر ، والشعوب والقبائل.

وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة ، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية ، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شىء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات.

وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعى الذي لا ندرى ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخص عنه من نفع للإسلام والمسلمين.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله ، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) الذي خلق كل شىء وليس كمثله شىء.

وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.

(وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد ، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته ، أو ندّا له فى ربوبيته ، وما الولد إلا نسخة من الوالد ، فهو يساويه في جنسه ونوعه ، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك ، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها ، ولم يجيبوك إلى المباهلة ، فإن الله عليم بحال

١٧٦

المفسدين في الدين ونياتهم ، وأغراضهم الفاسدة ، فيجازيهم بخبيث سرائرهم ، وسىء أعمالهم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

تفسير المفردات

أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى ، تعالوا : أي أقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه ، وسواء : أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض ، والإله : هو المعبود الذي يدعى حين الشدائد ، ويقصد عند الحاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية ، والربّ : هو السيد المربى الذي يطاع فيما يأمر وينهى ، ويراد به هنا ماله حق التشريع من تحريم وتحليل ، مسلمون : أي منقادون لله مخلصون له ، تحاجون : أي تجادلون ، والحنيف : المائل عن العقائد الزائفة ، والمسلم : هو الموحد المخلص المطيع له.

١٧٧

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام ، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا ، وبذلك انقطعت حججهم ، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح ، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شىء مما يخاف عاقبته.

دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم : اشهدوا بأنا مسلمون.

الإيضاح

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي قل : يا أهل الكتاب هلمّوا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم ، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.

ثم بين هذه الكلمة فقال :

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم ، ولا نشرك به شيئا سواه ، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله.

وقد حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله ـ ألا نعبد إلا الله ـ ووحدانية الربوبية في قوله ـ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ـ.

وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان ، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد ، وجاء به موسى ، فقد ورد في التوراة قول الله له (إن الربّ إلهك ، لا يكن لك آلهة أخرى أمامى ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، ولا صورة ما مما في السماء من فوق ، ومما

١٧٨

فى الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ) وكذلك جاء عيسى بمثل هذا ، ففى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وجاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذا «اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ».

وخلاصة المعنى ـ أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له ، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلمّ بنا نتفق على إقامة هذه الأصول ، ونرفض الشبهات التي تعرض لها ، فإذا جاءكم عن المسيح شىء فيه (ابن لله) أوّلناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء ، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد ، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه ، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.

وقد كان اليهود موحدين ، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام ، وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله ، وسار النصارى على هذا المنوال ، وزادوا مسألة غفران الخطايا ، وهى مسألة كان لها أثر خطير فى المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس ، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهى فرقة (البر وتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.

روى عدى بن حاتم قال : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقى صليب من ذهب ، فقال يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ» فقلت له : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم ، فقال : أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بأقوالهم؟ قال نعم ، فقال عليه السلام : هو ذاك».

١٧٩

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله ، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرّمون ، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه ، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر ، ولا نحلّ إلا ما أحله الله ، ولا نحرّم إلا ما حرمه الله.

وفي هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير ، وإلا كان ذلك إشراكا فى الربوبية ، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ» وقوله «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ».

أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوّض الله أمرها إلى أولى الحل والعقد وهم رجال الشورى ، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به ، وعلى الرعية أن يقبلوه.

وهذه الآية هى الأساس والأصل الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فأنزل الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الآية».

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي أيها اليهود والنصارى : لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدّعى كل منكم أنه على دينه؟.

(وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجلّه وتدّعى أنها على دينه).

١٨٠