السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري
المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الخدمة ، وأجلسهم على أرائك التعظيم مجرياً عليهم من الاكرام عادته ورسمه ، ( يَطُوفُ عَلَيهِم وِلدَانٌ مُخَلَّدُونَ بَأَكوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأسٍ مِن مَعِينٍٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنهَا وَلَا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحمِ طَيرٍ مِمَّا يَشتَهُونَ ) (١).
فابشروا ـ معار المؤمنين العارفين ـ بفضل هذا اليوم الشريف ، والعيد المنيف ، الّذي أقام الله فيه عليّاً أمير المؤمنين علماً للمسلمين ، وأمركم باتّباع نيّر دليله في محكم تنزيله ، فقال عزّ من قائل : ( وَأنََّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ) (٢).
والله لقد نظرتم حيث نظر الله ، وواليتم من والى الله ، وعاديتم من عادى الله ، أنتم الشعار والدثار ، والأبرار الأطهار ، طهرت ولادتكم ، وخلصت طينتكم ، فما المؤمنون إلا أنتم ، ولا المخلصون إلا منكم ، اختاركم الله لدينه ، واصطفاكم على غيبه ، فما خُلقت الجنّة إلا لكم ، ولا برّزت الجحيم إلا لعدوّكم.
أنتم في النار تطلبون فلا توجدون ، ومن الكوثر تردون ولا تصدّون ، فلا يحزنكم إقبال الدنيا على غيركم ، واجتماع أهلها على إهانتكم وتأخيركم ، فإنّما هم ذئاب ضارية ، بل كلاب عاوية ، فلا تمدّوا أعينكم إلى ما متّعوا به من زينتها ، وفتنوا فيه من زهرتها ، من الثياب الموشّاة والمراكب المغشّاة ، والخيل المسوّمة ، والنعم المطهّمة ، والحلل المزرّرة ، والعمائم المقوّرة ، والرقاب الغليظة ، والأقفاء العريضة ، والعثانين (٣) المصفّفة ، واللحى المغفّلة ، والدور المزخرفة ، والقصور المشرفة ، والأموال المكنوزة ، والأمتعة المحروزة ، والمنازل العامرة ،
__________________
١ ـ سورة الواقعة : ١٧ ـ ٢١.
٢ ـ سورة الأنعام : ١٥٣.
٣ ـ العُثُنون من اللحية : ما نبت على الذَقَن وتحته سِفلاً ؛ وقيل : اللحية كلّها ؛ وقيل : عُثنون اللحية : طرفها. « لسان العرب : ١٣ / ٢٧٦ ـ عثن ـ ».
والجنان الغامرة ، فإنّ ذلك متاع قليل ، وجناب وبيل ، مرجعه إلى زوال ، وتملّكه إلى انتقال.
وعن قليل يسفر الصباح ، ويحيعل الداعي إلى الفلاح ، ويحمَد المؤمن التقيّ غِبّ السُّرى (١) ، وينجلي عن المنافق الشقيّ غيابات الكرى (٢) ، ويرى أنّ ما كان فيه من النعيم الزائد ، والزبرج الجائد ، إلا (٣) كسرابٍ بقيعةٍ (٤) ، أو حلم يقتضيها سويعة ، ويتجلّى الجليل لحسابه ، وتتهيّأ ملائكة العذاب لأخذه وعقابه ، ويرى سيّده عتيق الأوّل ، وابن صهاك الزنيم الأرذل ، في الدرك الأسفل ، والعذاب الأطول ، مصفّدين مقرّنين ، يستغيثان فلا يغاثان ، ويناديان فلا يجابان ، كلّما سدّت عليهما سبل المسالك استغاثا بخازن النار : يا مالك يا مالك ، نضجت منّا الجلود ، يا مالك أثقلتنا القيود.
إذا أراد الله أن يحلّ بأهل النار أليم عذابه ، ووخيم عقابه ، أمر ملائكة العذاب بفتح كوّة من سجنهما ، فيتأذّى أهل النار من ريحهما ونتنهما ، شرابهما حميم ، وعذابهما مقيم ، وأشياعهما من حولهما في السلاسل يسحبون ، وبالمقامع يضربون ، وفي النار يسجرون ، وفي العذاب محضرون ، يقولون : ( رَبَّنَا أَخرِجنَا مِنهَا فَإن عُدنَا فإنَّا ظَالِمُونَ ) (٥) ، فيجابون : ( اخسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِن عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغفِر لَنَا وارحَمنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذتُمُوهُم سِخرِيّاً حَتَّى أَنسَوكُم ذِكرِي وَكُنتُم مِنهُم تَضحَكُونَ إنِّي جَزَيتُهُمُ
__________________
١ ـ غِبّ الأمر ومغبّته : عاقبته وآخره. السُّري : سير الليل بعامّته.
٢ ـ غَيابة كل شيء : عقره ، الكَرى : النوم.
٣ ـ كذا في الأصل ، ولو كانت العبارة هكذا : « لم يكن إلا » أو « ليس إلا » لكانت أصح.
والزبرج : الوشي ، الذهب ، وكل شيء حسن. والجائد : الكثير ، الغزير.
٤ ـ إقتباس من الآية : ٣٩ من سورة النور.
٥ ـ سورة المؤمنون : ١٠٧.
اليَومَ بِمَا صَبَرُوا أنَّهُم هُمُ الفائِزُونَ ) (١).
يطلع الله عليهما فيلعن ، والملائكة تؤمّن ، والنبيّ يعنّف ، والوصيّ يؤفّف ، والزهراء تتظلّم ، والجحيم تتضرّم ، والزبانية تقمع ، والنار تسفع (٢) ، هذا جزاء من وسم غير إبله ، وخالف الله ورسوله بقوله وعمله ، ومنع الزهراء تراثها (٣) من والدها سيّد المرسلين ، وآذى الله ورسوله وآذى إمام المسلمين وسيّد الوصيّين.
كلّ ذلك وأنتم على الأرائك تنظرون ، ومن الكفّار تضحكون ، ومن زيارة سادتكم لا تحجبون ، ( يُسقَونَ مِن رَحِيقٍ مَختُومٍ خِتَامُهُ مِسكٌ وَفِي ذلِكَ فليَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسنِيمٍ عَيناً يَشرَبُ بِهَا المُقرَّبُونَ ) (٤) إذا نظرتم إلى نبيّكم ووليّكم على الحوض للمؤمن يوردون ، وللمنافق يطردون قلتم : ( الحَمدُ للهِ الَّذي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولَا أَن هَدَانَا اللهُ ) فيجابون : ( أن تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ ) (٥).
فاحمدوا ربّكم على هذه النعمة التي أهّلكم بها ، وجعلكم من أهلها ، واقتدوا في هذا اليوم بسنّه وليّكم ووسيلتكم إلى أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ، فقد روي أنّه صلوات الله عليه خطب في هذا اليوم الكريم ، والعيد العظيم ، فقال ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي وصلّى عليه ـ : أيها الناس ، هذا يوم
__________________
١ ـ سورة المؤمنون : ١٠٨ ـ ١١١.
٢ ـ سَفَعَتهُ النارُ والشمسُ : لَفَحته لَفحاً يسيراً فغيّرت لون بشرته وسوّدته. « لسان العرب : ٨ / ١٥٧ ـ سفع ـ ».
٣ ـ الوِرثُ والإرثُ والتراثُ والميراث : ما وُرٍثَ. « لسان العرب : ٢ / ٢٠٠ ـ ورث ـ ».
٤ ـ سورة المطفّفين : ٢٥ ـ ٢٨.
٥ ـ سورة الأعراف : ٤٣.
عظيم الشأن ، فيه وقع الفرج ، وعلت (١) الدرج ، ووضحت الحجج ، وهو يوم الايضاح ، ويوم الافصاح ، ويوم الكشف عن المقام الصراح ، ويوم كمال الدين ، ويوم العهد المعهود ، ويوم الشاهد والمشهود ، ويوم بيان (٢) العقود عن النفاق والجحود ، ويوم البيان عن حقائق الايمان ، ويوم البرهان ، ويم دحر الشيطان.
هذا يوم الفصل الذي كنتم توعدون (٣) ، ويوم الملأ الأعلى إذ يختصمون ، ويوم النبأ العظيم الّذي أنتم عنه معرضون (٤) ، ويوم الارشاد ، ويوم محنة العباد ، ويوم الدليل على الروّاد (٥) ، ويوم إبداء خفايا الصدور ، ومضمرات الاُمور ، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص ، هذا يوم شيث ، هذا يوم إدريس ، هذا يوم هود ، هذا يوم يوشع ، هذا يوم شمعون [ هذا يوم الأمن المأمون ] (٦) ، هذا يوم إبراز المصون من المكنون ، هذا يوم إبلاء السرائر.
فلم يزل صلوات الله عليه يقول : هذا يوم ، هذا يوم ، ثم قال : فراقبوا الله عزّ وجل واتّقوه ، واسمعوا له وأطيعوه ، واحذروا المكر ولا تخادعوه ، وفتّشوا ضمائركم ولا تواربوه ، وتقرّبوا إلى الله بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه ، ولا تمسّكوا بعصم الكوافر ، ولا يجنح (٧) بكم الغيّ فتضلّوا عن سواء السبيل باتّباع اولئك الذين ضلّوا وأضلّوا ، قال الله سبحانه عن طائفة ذكرهم بالذمّ في كتابه فقال سبحانه : ( وَإذ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ الَّذِينَ استَكبَرُوا إنَّا
__________________
١ ـ في المتهجّد : ورفعت ، وفي المناقب : ورفع الدرج ، وصحّت الحجج.
٢ ـ في المتهجّد والمناقب : تبيان.
٣ ـ كذا في المتهجّد والمناقب ، وفي الأصل : كنتم به تكذبون.
٤ ـ في المتهجّد والمناقب : ويوم الملأ الأعلى الذي أنتم عنه معرضون.
٥ ـ في المناقب : الذوّاد.
٦ ـ من المتهجّد.
٧ ـ كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : فيجمع.
كُنَّا لَكُم تَبَعاً فَهَل أَنتُم مُغنُونَ عَنَّا نَصيِباً مِنَ النَّارِ ). (١)
وقال سبحانه : ( رَبَّنَا إِنَّا أطَعنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِم ضِعفَينِ مِنَ العَذَابِ وَالعَنهُم لَعناً كَبِيراً ). (٢)
أتدرون ما الاستكبار؟ هو ترك الطاعة لمن اُمروا بطاعته ، والترفّع عمّن ندبوا إلى متابعته ، والقرآن ينطق من هذا عن كثير إن تدبّره متدبّر وعظه وزجره.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنّ الله سبحانه يقول في محكم كتابه : ( إنّ اللهََ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرصُوصٌ ) (٣) أتدرون ما سبيل الله؟ ومن سبيل الله؟ وما صراط الله؟ ومن صراط الله؟
أنا صراط الله الذي نصبني (٤) للاتّباع بعد نبيّه صلىاللهعليهوآله ، وأنا سبيل الله الذي من لم يسلكه بطاعة الله [ فيه ] (٥) هويَ به في النار ، وأنا حجّة الله على الأبرار والفجّار ، [ ونور الأنوار ] (٦) ، وأنا قسيم الجنّة والنار ، فتيقّضوا من رقدة الغافلين (٧) ، [ وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل ، وسابقوا إلى مغفرة من ربّكم ] (٨) قبل أن يُضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب ، فتدعون فلا يسمع دعاؤكم ، وتصيحون فلا يُحفل بصيحتكم ، وأن (٩) تستغيثوا
__________________
١ ـ سورة غافر : ٤٧. وفي الأصل والمتهجّد تصحيف ، حيث فيهما صدر الآية المذكورة يليه ذيل الآية ٢١ من سورة إبراهيم : ( فَهَل أنتُم مُغنُونَ عَنَّا مِن عَذَابِ اللهِ مِن شَيءٍ قَالُوا لَو هَدَانَا اللهُ لَهَدَينَاكُم ).
٢ ـ سورة الأحزاب : ٦٧ و ٦٨. وفي المتهجّد تقدّمت هاتان الآيتان على الآية السابقة.
٣ ـ سورة الصف : ٤.
٤ ـ كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : تصدى. وهذه الجملة جاءت في المتهجّد بعد قوله : هوي به إلى النار.
٥ و ٦ و ٨ ـ من المتهجّد.
٧ ـ في المتهجّد : فانتبهوا عن رقدة الغفلة.
٩ ـ في المتهجّد : فتنادون فلا يسمع نداؤكم ، وتضجّون فلا يُحفل بضجيجكم ، وقبل أن.
فلا (١) تغاثوا ، بادروا بالطاعات قبل فوات الأوقات ، فكأن قد جاءكم هادم اللذّات ، ولات حين مناصٍ (٢) ، ولا محيص تخليص.
عودوا رحمكم الله بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم ، والبرّ بإخوانكم ، والشكر لله عزّ وجلّ على ما منحكم ، واجتمعوا يجمع الله شملكم ، وتبارّوا يصل الله اُلفتكم ، وتهانوا نعمة الله كما هنّأكم بالثواب (٣) على أضعاف الأعياد قبله وبعده إلا في مثله ، والبرّ فيه يثمر المال ، ويزيد في العمر ، والتعطّف فيه يقتضي رحمة الله وعطفه.
فافرحوا وفرّحوا إخوانكم باللباس الحسن ، والمأكل الهنيء ، والرائحة الطيّبة ، وهنّؤا إخوانكم وعيالاتكم بالفضل من برّكم ، وما (٤) تناله القدرة من استطاعتكم ، وأظهروا البشر والحبور فيما بينكم ، والسرور في ملاقاتكم ، والحمد لله على ما منحكم ، وعودوا بالمزيد من الخير على أهل التأميل لكم ، وصلوا بكم ضعفاءكم بالفضل من أقواتكم (٥) ، وما تناله القدرة من استطاعتكم ، وعلى حسب طاقتكم ، فالدرهم فيه بمائة ألف درهم ، والمزيد من الله عزّ وجلّ ما لادرك له ، وصوم هذا اليوم ممّا ندب الله تعالى إليه ، وجعل الثواب الجزيل كفالة عنه ، حتى لو أنّ عبداً من العبيد تعبّد به بالتشبيه من ابتداء الدنيا إلى انتهائها ، صائماً نهارها ، قائماً ليلها ، إذا أخلص المخلص في صيامه لتقاصرت إليه أيّام الدنيا [ عن كفاية ، ومن أسعف أخاه مبتدأ وبرّه راغباً له كأجر من صام هذا اليوم
____________
١ ـ كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : لن.
٢ ـ في المتهجّد : فلا مناصَ نجاءٍ.
٣ ـ في المتهجّد : وتهادوا نعم الله كما منّاكم بالثواب فيه.
٤ ـ في المتهجّد : وهيّؤا لإخوانكم وعيالكم من فضله بالجهد من جودكم وبما.
٥ ـ في المتهجّد : وساووا بكم ضعفاءكم في مآكلكم.
وقام ليلته ] (١) ، ومن فطّر مؤمناً في ليلته كان كمن فطّر فئاماً وفئاماً.
فلم يزل صلوات الله عليه يعدّ بيده الشريفة حتى عدّ عشراً.
فنهض ناهض وقال : يا أمير المؤمنين ، وما الفئام؟
قال : مائة ألف نبيّ وصدّيق وشهيد ، فما ظنّكم بمن تكفّل عدداً من المؤمنين؟ فأنا الضامن له على الله تعالى الأمان من الكفر والفقر ، وإن مات في يومه أو في ليلته أو فيما بعده إلى مثله [ من غير ارتكاب كبيرة ] (٢) فأجره على الله تعالى ، ومن استدان لإخوانه فأسعفهم فأنا الضامن له على الله ، إن بقّاه أدّاه ، وإن مات قبل تأديته تحمّله عنه ، وإذا تلاقيتم فتصافحوا بالتسليم ، [ وتهانوا النعمة في هذا اليوم ] (٣) ، وليعلم بذلك الشاهد الغائب والحاضر البائن ، وليعد القويّ على الضعيف ، والغني على الفقير ، بذلك أمرني رسول الله عن الله. (٤)
وفي الحديث انّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يخبر عن وفاته بمدّة ويقول : قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، وكان المنافقون يقولون : لئن مات محمد ليخرب دينه ، فلمّا كان موقف الغدير قالوا : بطل كيدنا ، فنزلت : ( اليَومَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُم ) (٥). (٦)
__________________
١ و ٢ ـ من المتهجّد.
٣ ـ من المتهجّد وفيه : « وليبلّغ » بدل « وليعلم ».
٤ ـ مصباح المتهجّد : ٧٥٥ ـ ٧٥٨ ـ وليس فيه : « عن الله » ـ ، عنه مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٤٣.
وأورده في إقبال الأعمال : ٤٦٢ ـ ٤٦٤ ، عنه كشف المهمّ : ٦٢ ـ ٦٥.
وأخرجه في البحار : ٣٧ / ١٦٤ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١١٨ ح ١٥٩ وص ٢٠٩ ح ٢٩٠ « حديث الغدير » عن مناقب ابن شهراشوب.
٥ ـ سورة المائدة : ٣.
٦ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٤٠ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦٣.
وكان الجمع الكبير والجمّ الغفير في الغدير حين أخذ البشير النذير بيد صنوه نور الله المبين ، وسببه المتين ، وإمام المتّقين ، وأمير المؤمنين ، أكثرهم ممّن الإلحاد دينه ، والنفاق قرينه ، قد استحوذ الشيطان على قلبه ، واستولى على لبّه ، فأعطى بلسانه ما ليس في فؤاده ، وظهر على صفحات وجهه ما أضمر من إلحاده ، وأسرّ غدراً ، وأخفى مكراً ، ونصب لنبيّه الغوائل ، وجادل في أمر الغدير بالباطل ، وأرصد بابه لتنفر ناقته ، وعاقد على إنزال المنون بساحته ، واستئصال شأفته.
وأطلع الله نبيّه على ما دبّروا ، ووقاه سيّئات ما مكروا ، ولمّا أشرقت دار الهجرة بنور مقدمه ، وشرفت أرجاؤها بموطئ قدمه ، وقد أكمل صلىاللهعليهوآله الدين بنصب وصيّه علماً لاُمّته ، وعمّم النعمة بجعله حافظاً لشريعته ، ونشر أعلام الإيمان بنشر مناقبه ، وأعلى كلمة الاسلام بإعلاء مراتبه ، وجلا أحكام الشريعة النبويّة في مدامس الاشتهار ، وحلّى جيد الملّة الحنيفيّة بنفائس الافتخار (١) ، ودارت رحى العدل على قطبها ، وأشرقت الأرض بنور بّها ، دعاه
__________________
١ ـ في « ح » : نظم هذا المضمون علي بن حمّاد رحمهالله وقال :
آخى الصـحابة
أشكـالاً فـأفرده |
|
فقال لم يا رســول
اللـه تفردني |
قال النبيّ لنفسي
قد ذخـرتـك ما |
|
في الأرض لي من أخ
إلاّك يشبهني |
أنا أخوك الذي
ترضى وأنت أخي |
|
ولا تـزال
تواسـينـي وتسعفنـي |
تشدّ أزري وتـرعى
سنّتي وعلى |
|
كلّ الأمور
تواتيـني وتعـضدنـي |
ما عشتُ أنت
وزيـري ... وإذا |
|
قضيتُ نحبي
تـوالـيني وتـخلفني |
وانت تغسّلـني
عـند الـوفاة فما |
|
يحلّ لغيرك عند
الـغسل ينظـرني |
وأنت وارث علمي
والأمـين على |
|
جميع أمري مـن
سـرّ ومـن علن |
وسوف تبدي لـك
الأعداء مانقموا |
|
من الضغـائن
والأحـقاد والإحـن |
واستعمل الحلم
عنهم وانتظر ... |
|
وبالإله عليــهـم
فاستـعن تـعن |
ألـقى إليـه رسـول
الله سائر ما |
|
ألقى إليـه مـن
الرحمن ذي الـمنن |
علماً بما كان
ومـا قد يـكون وما |
|
يقول في لقـن
أوحـى إلـى لــقن |
الله إلى جواره مختاراً ، وناداه بلسان قضائه جهاراً : يا من أطلعته على سرّي المصون ، وغيبي المكنون ، ( إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَيِّتُونَ ) (١).
ولمّا انقضى أجله الجليل ، وألمّت به الأسقام مؤذنة بوشك الرحيل ، انصدعت لتوجّعه قلوب المؤمنين ، وهمعت تألّمه عيون المسلمين.
وكان بدؤ مرضه صلىاللهعليهوآله يوم السبت أو يوم الأحد من صفر.
ولمّا اشتدّ مرضه قام صلىاللهعليهوآله آخذاً بيد عليّ عليهالسلام ، وتبعه جماعة من أصحابه ، وتوجّه إلى البقيع ، فقال : السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع
____________
وبعد دفـن رسول
الله كم ظهرت |
|
له معـاجــز قد
دقّت عـلى ... |
آل النبـيّ إليـكم
كـلّ مكـرمة |
|
تـتــرى علـى رغـم
من ... |
سفن النجـاة الـتي
قـد فاز ... |
|
لله مـا حـلّ فـي
هاتيـكم السفن |
قد جاد أجـداثكـم
جـود به ... |
|
وصار ربــعـكم
صـوب ... |
أنا ابن حمّـاد
الـعبدي فضـّلني |
|
ربــّي بما
خـصـّني فيكم و ... |
لا عذّب الله
اُمّـي انـّها شـربت |
|
حـبّ الوصيّ
وأسقتنيـه في اللبن |
وكان لـي والـد
يهوى أبا حسن |
|
فصرت من ذي وذا
أهوى أباحسن |
يا نفس إنّ شـبابي
كان يغدرني |
|
في اللهو والشيب
فيه الـيوم يعذلني |
كم من أخ لك
علّلـتيه ثـمّ قضى |
|
نحب الحياة
وأدرجتيه فـي الكـفن |
وأنت عمّا قلـيل
تلحـقـين بـه |
|
فأكثري الزاد
للترحـال واحتـجن |
وسوف تلقين بعد
الموت ما كسبت |
|
يداك من سيّء يا
نفـس أو حـسن |
لولا اتّكالي عـلى
عفـو الإله إذاً |
|
لكاد ذنـبي بما
أسـلفت يـؤنسني |
وليس لي عـمل أرجو
الـنجاة به |
|
إلاّ مــوالاة
مـولاي أبي حسـن |
أقول : وعلي بن حمّاد هو : أبو الحسن علي بن حمّاد بن عُبيد الله بن حمّاد العدويّ العبدي البصري ، من معاصري الشيخ الصدوق والنجاشي. « انظر : الغدير : ٤ / ١٥٣ ، أدب الطف ، ٢ / ١٦١ ـ ١٩٨ ».
١ ـ سورة الزمر : ٣٠.
آخرها أوّلها ، إنّ جبرئيل كان يعرض عليَّ القرآن كلّ سنة مرّة ، وهذه السنة عرضه عليّ مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي.
فقام إليه عمّار بن ياسر وقال : بأبي أنت واُمي يا رسول الله ، إذا كان ذلك من يغسلك منّا؟
قال : ذاك عليّ بن أبي طالب ، إنّه لا يهمّ بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة على ذلك.
قال : فمن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك؟
قال : مه رحمك الله ، ثم قال لأمير المؤمنين عليهالسلام : يا عليّ ، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وانق غسلي ، وكفّنّي في طمريّ اللذين اُصلّي فيهما أو في بياض مصر وبرد يمانيّ ، ولا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري ، فأوّل من يصلّي عليّ الجليل جلّ جلاله من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل ، ثم الحافّون بالعرش ، ثم أهل سماء فسماء ، ثمّ جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون ، يؤمون إيماء ، ويسلّمون تسليماً ، لا تؤذوني بصوت نادب ولا برنّة.
ثم قال لعمّه العبّاس : يا عبّاس ، يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني.
فقال العباس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير ، ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سمحاً وكرماً ، وعليك وعد لا ينهض به عمّك.
فأقبل على عليّ عليهالسلام ، فقال : تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني؟
فقال : نعم ، يا رسول الله.
فقال : ادن منّي ، فدنا منه ، فضمّه اليه ونزع خاتمه من يده ، فقال : خذ هذا فضعه في يدك ، ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته ، فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدّها على بطنه إذا لبس الدرع ، ورويّ أن جبرئيل أتاه بها من السماء ، فجيء بها إليه ، فدفعها إلى عليّ وقال : اقبض هذا في حياتي ، ودفع إليه بغلته ، وقال : امض على اسم الله إلى منزلك.
ثم اُغمي على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وحضر وقت الصلاة ، وأذّن بلال ، ونادى : الصلاة يا رسول الله.
ففتح صلىاللهعليهوآله عينيه وقال : ادعوا لي حبيبي ، فجعل يُعرَض عليه رجل فرجل وهو يُعرِض عنه ، إلى أن حضر أمير المؤمنين فتهلّل وَجْهُهُ ، ثم قال : يا بلال ، هلمّ عليَّ بالناس ، فأجمع الناس.
فخرج صلىاللهعليهوآله متوكّئاً على أمير المؤمنين بيده اليمنى ، وعلى الفضل بن العبّاس باليد الاُخرى ، متعصّباً بعمامته ، متوكّئاً على قوسه ، فصلّى بالناس جالساً ، وقد كانت عائشة قد أرسلت إلى أبيها أن يصلّي بالناس ، فنحّاه رسول الله صلىاللهعليهوآله وصلّى.
ثمّ قام وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فأيّ نبيّ كنت لكم؟ ألم اُجاهد بين أظهركم ، ألم تكسر رباعيتي؟ ألم يعفّر جبيني؟ ألم تسل الدماء على حرّ وجهي حتى لثقت (١) لحيتي؟ ألم اُكابد الشدّة والجهد مع جهّال قومي؟ ألم أربط حجر المجاعة على بطني؟
____________
١ ـ لثقت : ابتلّت.
قالوا : بلى ، يا رسول الله ، لقد كنت صابراً ، وعن المنكر ناهياً ، فجزاك الله عنّا أفضل الجزاء.
قال : وأنتم جزالك الله ربّي ثم قال : إنّ ربّي سبحانه أقسم الا يجوزه ظلم ظالم ، فناشدتكم بالله أيّ رجل منكم كانت له قِبَل محمد مظلمة فليقم وليقتصّ ، فإنّ القصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء؟
فقام إليه رجل ـ من أقصى القوم ـ يقال له سوادة بن قيس فقال : فداك أبي واُمّي ، إنّك ـ يا رسول الله ـ لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق ، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فلا أدري أعمداً أم خطأ؟
فقال صلىاللهعليهوآله : معاذ الله أن أكون تعمّدت ، ثم قال : يا بلال ، قم إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق ، فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة : معاشر الناس ، من الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟ فطرق بلال الباب على فاطمة عليهاالسلام وهو يقول : يا فاطمة ، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق ، فصاحت فاطمة وهي تقول : وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا اليوم يومه؟!
فقال : أما علمتِ أنّ أباك قد صعد المنبر وهو يودّع الناس ويعطي القصاص من نفسه؟ فصاحت فاطمة وهي تقول : واغمّاه لغمّك يا أبتاه ، من للفقراء والمساكين وابن السبيل بعدك يا رسول الله ، يا حبيب الله ، وحبيب القلوب؟ ثمّ ناولت بلالاً القضيب ، فجاء به وناوله رسول الله صلىاللهعليهوآله .
فقال رسول الله : أين الشيخ؟
فقال : ها أنذا يا رسول الله ، بأبي أنت واُمّي.
قال : قم فاقتصّ حتى ترضى.
فقال الشيخ : اكشف لي عن بطنك يا رسول الله ، فكشف صلىاللهعليهوآله عن بطنه ، فقال الشيخ : أتأذن لي ـ يا رسول الله ـ أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له ، فقال : أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا سوادة ، أتعفو أم تقتصّ؟
قال : بل أعفو ، يا رسول الله.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك.
ثم نزل رسول الله صلىاللهعليهوآله ودخل منزل اُمّ سلمة وهو يقول : ربّ سلّم اُمّة محمد من النار ، ويسّر عليهم الحساب.
فقالت اُمّ سلمة : يا رسول الله ، ما لي أراك مغموماً متغيّر اللون؟
فقال صلىاللهعليهوآله : نعيت غليّ نفسي ، فسلام لك منّي في الدنيا فلا تسمعين صوت محمد بعد هذا أبداً.
فقالت اُمّ سلمة : واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمد.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ادع لي حبيبة نفسي وقرّة عيني فاطمة ، فجاءت فاطمة وهي تقول : نفسي لنفسك الفداء ، ووجهي لوجهك الوقاء ، يا أبتاه ، ألا تكلّمني كلمةً ، فإنّي أراك مفارق الدنيا ، وارى عساكر الموت تغشاك؟
فقال : يا بنيّة ، إنّي مفارقك ، فسلام عليك منّي.
قالت : يا أبتاه ، فأين الملتقى يوم القيامة؟
قال : عند الحساب.
قالت : فإن لم ألقك عند الحساب؟
قال : عند الشفاعة لاُمّتي.
قالت : فإن لم ألقك عند الشفاعة لاُمّتك.
قال : عند الصراط ، جبرئيل عن يميني ، وميكائيل عن يساري ، والملائكة من خلفي وقدّامي ينادون : ربّ سلّم اُمّة محمد من النار ، ويسّر عليهم الحساب.
قالت فاطمة عليهاالسلام : فأين والدتي خديجة؟
قال : في قصر له أربعة أبواب إلى الجنّة.
وعن ابن عبّاس قال : اشتدّ برسول الله صلىاللهعليهوآله وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
فقال عمر : إنّ النبي قد اشتدّ به الوجع وهو يهجر ، عندكم القرآن حسبنا كتاب الله (١) ، فاختلف الناس حينئذٍ بينهم ، فمنهم من يقول : القول ما قال عمر ،
__________________
١ ـ انظر : صحيح مسلم : ٣ / ١٢٥٩ ح ٢٢ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٥٥ ، وج ٦ / ٥١ ، الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٢٩ ، المسند للحميدي : ١ / ٢٤١ ح ٥٢٦ ، طبقات ابن سعد : ٢ / ٣٦ و ٣٧ ، مسند أحمد بن حنبل : ٢٩٣ و ٣٥٥ ، صحيح البخاري : ١ / ٣٩ ، وج ٤ / ٨٥ و ١٢١ ، المعجم الكبير للطبراني : ١١ / ٤٤٥ ح ١٢٢٦١ ، شرح السنّة للبغوي : ١١ / ١٨٠ ح ٢٧٥٥ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٢٠.
وأخرجه في البحار : ٢٢ / ٤٦٨ عن إعلام الورى : ١٤١ ، إرشاد المفيد : ٨٩. وفي ص ٤٧٢ ح ٢١ عن مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٢٣٥. وفي ص ٤٧٤ عن أمالي المفيد : ٣٦ ح ٣. وفي ص ٤٩٨ ح ٤٤ عن كتاب سُليم بن قيس : ٢١٠.
فلمّا كثر اللغط (١) عند رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : قوموا ، فكان ابن عبّاس يقول : الرزيّة كلّ الرزيّة ما خلا بين رسول الله صلىاللهعليهوآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
ثمّ اُغمي على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلمّا أفاق قال : انطلقوا بي إلى فاطمة ، فجيء به حتى وضع رأسه في حجرها ، فإذا الحسن والحسين عليهماالسلام يبكيان ويصيحان ويضطربان ، وهما يقولان : أنفسنا لنفسك الفداء ، ووجوهنا لوجهك الوقاء.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا عليّ ، من هاذان؟
فقال : ابناك الحسن والحسين ، فعانقهما وقبّلهما ، وكان الحسن أشدّ بكاءً من الحسين.
فقال أمير المؤمنين : كفّ يا حسن ، فقد شققت على رسول الله ، ونزل ملك الموت ، فقال : السلام عليك ، يا رسول الله.
فقال : وعليك السلام ، يا ملك الموت ، لي إليك حاجة ، ألاّ تقبض روحي حتى يأتي جبرئيل أخي.
فخرج ملك الموت وهو يقول : وامحمداه ، فاستقبله جبرئيل في الهواء ، وقال : يا ملك الموت ، قبضت روح محمد صلىاللهعليهوآله ؟
قال : سألني الا أقبضه حتى يلقاك فيسلّم عليك وتسلّم عليه.
فقال جبرئيل : يا ملك الموت ، أما ترى أبواب السماء قد فتحت لروح محمد؟ أما ترى الحور العين قد تزيّنت لمحمد؟
____________
١ ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : اللفظ.
ثم نزل جبرئيل عليهالسلام فقال : السلام عليك ، يا أبا القاسم.
فقال : وعليك السلام ادن منّي يا جبرئيل ، فدنا منه ، فنزل ملك الموت ، فقال له جبرئيل : يا ملك الموت ، احفظ وصيّة الله في روح محمد صلىاللهعليهوآله ، وكان جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وملك الموت آخذ بروحه صلىاللهعليهوآله ، وجبرئيل يقول : يا محمد ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ ) (١) ( كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ ) (٢). (٣)
مسند ابي يعلى وفضائل أحمد (٤) : عن اُمّ سلمة في خبر : والذي تحلف اُمّ سلمة به انّه كان آخر عهد برسول الله صلىاللهعليهوآله عليّ عليهالسلام ، وكان رسول الله قد بعثه في حاجة غداة قبض ، وكان يقول : جاء عليّ ـ ثلاث مرّات ـ قالت : فجاء عليّ قبل طلوع الشمس ، فخرجنا من البيت لمّا علمنا انّه له إليه حاجة ، فانكبّ عليه علي ، فكان آخر الناس به عهداً ، وجعل يسارّه ويناجيه. (٥)
ومن طريق أهل البيت عليهمالسلام أنّ عائشة دعت أباها فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ودعت حفصة أباها فأعرض عنه ، ودعت اُمّ
____________
١ ـ سورة الزمر : ٣٠.
٢ ـ سورة آل عمران : ١٨٥ ، سورة الأنبياء : ٣٥ ، سورة العنكبوت : ٥٧.
٣ ـ أمالي الصدوق : ٥٠٥ ح ٦ ، عنه البحار : ٢٢ / ٥٠٧ ح ٩.
وأورد قطعات منه في مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، عنه البحار : ٢٢ / ٤٧٢. وانظر : الأحاديث الغيبيّة : ١ / ٣٨ ح ١٢.
٤ ـ مسند أبي يعلى الموصلي : ١٢ / ٣٦٤ ح ٦٩٣٤ ، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : ٢ / ٢٨٦ ح ١١٧١.
٥ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٢٣٦.
سلمة عليّاً عليهالسلام فناجاه طويلاً (١). حتى إذا اشتدّ كربه ، وارتفع أنينه ، وعرق لهول الموت جبينه نادى لشدّة السياق : وا كرباه.
فنادت فاطمة : وا كرباه لكربك يا أبتاه.
فأجابها مسكّناً لحرقتها بين القوم : لا كرب على أبيك بعد اليوم. (٢)
ثمّ سالت نفسه الشريفة صلىاللهعليهوآله مختاراً ، فسالت لها العيون من شؤونها مدراراً ، وانقطع بموته الوحي والتنزيل ، وامتنع من الأرض جبرئيل ، وأظلمت المدينة بعد نورها وضيائها ، وارتفع الضجيج من قصورها وأرحابها. (٣)
وروي أنه صلىاللهعليهوآله لمّا دنا منه الأجل المحتوم جذب عليّاً إليه ، وغشّاه بثوبه الذي عليه ، ووضع فاه على فيه ، وجعل يناجيه.
فلمّا حضره الموت وقضى صلىاللهعليهوآله استلّ أمير المؤمنين عليهالسلام من تحت الثوب ، وتركه على رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ فقيل لأمير المؤمنين : ما الذي ناجاك به رسول الله صلىاللهعليهوآله ؟
فقال : علّمني ألف باب من العلم ، ينتج كلّ باب إلى ألف باب (٤) ، وأوصاني بما أنا به قائم إن شاء الله.
ومن طريق أهل البيت عليهمالسلام أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله جذب عليّاً تحت ثوبه ، وجعل يناجيه ، فلمّا حضره الموت قال : يا عليّ ، ضع
__________________
١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ، عنه البحار : ٢٢ / ٥٢١ ح ٢٩.
٢ ـ كشف الغمّة : ١ / ١٦ ، عنه البحار : ٢٢ / ٥٣١.
٣ ـ أرحاب : جمع رحبة ، وهي الصحراء.
٤ ـ في المناقب : فُتح لي من كلّ باب ألف باب.
رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ، وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة ، وتولّ أمر ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله سبحانه.
فأخذ عليّ برأسه ، ووضعه في حجره ، فاُغمي عليه ، فبكت فاطمة ، فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فأسرّ إليها شيئاً فضحكت وتهلّل وجهها.
فسئلت عن ذلك ، فقالت : أعلمني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به.
ثمّ قضى صلىاللهعليهوآله ويد أمير المؤمنين تحت حنكه ، ففاضت نفسه صلىاللهعليهوآله ، فرفعها أمير المؤمنين إلى وجهه فمسحه بها ، ثمّ مدّ عليه إزاره ، واستقبل بالنظر في أمره. (١)
وممّا قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه في نهج البلاغة في هذا المعنى : وقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلىاللهعليهوآله أنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعةً قطّ ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن الّتي تنكص (٢) فيها الأبطال ، وتتأخّر الأقدام ، نجدةً (٣) أكرمني الله بها.
ولقد قُبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وإنّ رأسه لعلى صدري ، وقد سالت نفسه في كفّي ، فأمررتها على وجهي ، ولقد ولّيت غسله صلىاللهعليهوآله والملائكة أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ؛ ملأ يهبط ، وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة (٤) منهم ، يصلّون عليه حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّي حيّاً وميّتاً؟ فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نيّاتكم في جهاد
____________
١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٢٣٧ ، عنه البحار : ٢٢ / ٥٢١ ـ ٥٢٢.
٢ ـ تنكص : تتراجع.
٣ ـ النجدة : الشجاعة.
٤ ـ الهينمة : الكلام الخفيّ لا يفهم.
عدوّكم ، فو الّذي لا إله إلا هو إنّي لعلى جادّة الحق ، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم! (١)
عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام (٢) قال : قال الناس : كيف كانت الصلاة
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ٣١١ خطبة رقم ١٩٧ ، عنه البحار : ٢٢ / ٥٤٠ ح ٤٩ من قوله « ولقد قبض ».
٢ ـ في « ح » : عن أبي جعفر عليهالسلام قال : لمّا قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله بات آل محمد عليهمالسلام بأطول ليلة حتى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم ، ولا أرض تقلّهم ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله وتر الأقربين والأبعدين في الله.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه ، فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، إنّ في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كلّ هلكة ، ودركاً لما فات : ( كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوفَّونَ اُجُوَركُم يَومَ القِيَامَةِ فَمَن زَحزِحَ عَنِ النَّارِ وَاُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ ) ، [ آل عمران : ١٨٥ ] ، إنّ الله اختاركم وفضّكلم وطهّركم وجعلكم أهل بيت نبيّه ، واستودعكم علمه ، وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزّه ، وضرب لكم مثلاً من نوره ، وعصمكم من الزلل ، ,آمنكم من الفتن ، فتعزّوا بعزاء الله ، فإنّ الله لم ينزع منكم رحمته ، ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمّت النعمة ، واجتمعت الفرقة ، وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولّاكم فاز ، ومن ظلم حقّكم زهق ، مودّتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثمّ الله على نصركم إذا يشاء قدير ، فاصبروا لعواقب الامور ، فإنّها إلى الله تصير ، قد قبلكم الله من نبيّه وديعة ، واستودعكم أولياء المؤمنين في الأرض ، فمن أدّى أمانته أتاه الله صدقه ، وأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودّة الواجبة ، والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد أكمل لكم الدين ، وبيّن لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجّة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم ، وأستودعكم الله ، والسلام عليكم.
فسألت أبا جعفر عليهالسلام ممّن أتاهم للتعزية.
قال : من الله تعالى شأنه.
نقل من كتاب اُصول الكافي للكليني رحمهالله [ ج ١ ص ٤٤٥ ح ١٩ ، عنه البحار : ٢٢ / ٥٣٧ ح ٣٩ ].
عليه؟ فقال علي عليهالسلام : [ إنّ ] (١) رسول الله صلىاللهعليهوآله إمام حيّاً وميّتاً فدخل عليه عشرة عشرة ، فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء ، حتى صلّى عليه الأقرباء والخواصّ ، ولم يحضر أهل السقيفة ، وكان عليّ عليهالسلام أنفذ لهم بريدة ، وإنّما تمّت بيعتهم بعد دفنه صلىاللهعليهوآله .
وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إنّما اُنزلت هذه الآية في الصلاة عليَّ بعد قبض الله لي : ( إِنََّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) (٢) الآية.
وسئل الباقر عليهالسلام : كيف كانت الصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآله ؟
فقال : لمّا غسّله أمير المؤمنين عليهالسلام وكفّنه وسجّاه أدخل عليه عشرة عشرة فداروا حوله ، ثمّ وقف أمير المؤمنين في وسطهم فقال : ( إنََّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ) الآية ، فيقول القوم مثل ما يقول حتى صلّى عليه أهل المدينة والعوالي ، واختلفوا أين يدفن؟ فقال بعضهم : في البقيع ، وقال آخرون : في صحن المسجد.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : إنّ الله لم يقبض نبيّه إلا في أطهر بقاع الأرض ، فينبغي أن يدفن في البقعة التي قبض فيه ، فاتّفقت الجماعة على قوله ، ودفن في حجرته.
ونزل في قبر رسول الله صلىاللهعليهوآله أمير المؤمنين عليهالسلام
____________
١ ـ من المناقب.
٢ ـ سورة الأحزاب : ٥٦.