تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

المجلس الثاني

في ذكر سيّد المرسلين ، وما ناله من الأذى من

أعداء الدين ، وذكر وفاته ، وذكر اُمور

تتعلّق بظلامة أهل بيته الطاهرين

صلوات الله عليهم أجمعين

الحمد لله الذي وعد على الصبر الجميل بالثواب الجزيل في دار جزائه ، وتوعّد بالعذاب الأليم على ترك التسليم لقضائه ، وابتلى أنبياءه بالمحن السابقة في علمه في دار بلائه ، وكلّفهم بالتكاليف الشاقّة من حكمه في منزل ابتلائه ، وأمرهم بكفّ أكفّ الملحدين في آياته ، ورغم اُنوف الجاحدين لصفاته ، وأطلعهم على أسرار عظمته بصغر ما سواه لديهم ، وكشف عن أبصار بصائرهم فوعوا ما ألقاه إليهم ، وتجلّى لهم في ضمائرهم فطاح وجودهم في شهودهم ، وخاطبهم في سرائرهم ، فهاموا طرباً بلذّة خطاب معبودهم ، حصّن مدينة وجودهم بسور توفيقه من وساوس الشكّ ، وحمى حوزة نفوسهم بتوفيق مشيئته من شُبه الشرك ، وأطلعهم على عيوب دار الغرور فرفضوها ، وحذّرهم مصارع بطشها المشهور ففرضوها.

وصلوا بقدم صدقهم إلى عين اليقين ، وشربوا من شراب الجنّة بكأس من

١٤١

معين ، وسلكوا مفاوز البرزخ إلى الدار الباقية ، فكشفوا حجب غيوبه لأهل الحياة الفانية ، وحذّرهم ما يلقون في سلوكهم ـ بعد مماتهم ـ إلى دار قرارهم ، وأراهم عواقب اُمورهم بعد الاخراج من ديارهم ، وأمرهم باتّخاذ الزاد البعيد لسفرهم ، وحسن الارتياد قبل انقطاع عذرهم ، ما وهنوا في سبيل ربّهم ، وما ضعفوا وما استكانوا بل أيّدوا الحقّ وأهله ، ونصروا وأعانوا وجاهدوا في الله بأيديهم وألسنتهم ، ونصحوا في سبيل الله في سرّهم وعلانيتهم ، وكان أفضل سابق في حلبة الاخلاص لربّه ، وأكمل داع دعا إلى الله بقالبه وقلبه ، وخير مبعوث بدأ الله به وختم ، وأجمل مبعوث بالمجد الأعبل والشرف الأقدم ، كم تلقّى صفاح الأعداء بطلعته الشريفة؟! وكم قابل رماح الأشقياء ببهجته المنيفة؟! صاحب بدر الصغرى والكبرى ، وسيّد أهل الدنيا والاُخرى ، الذي لم يجاهد أحد في اُحد جهاده ، ولا جالد جَليد في حنين جلاده (١) ، أشجع الخلق بالحقّ ، واصدع الرسل بالصدق.

تاج رسالته : ( سُبحَانَ الّّذِي أسرَى ) (٢) ، وتوقيع نبوّته : ( فَأوحَى إلَى عَبدِهِ مَا أوحَى ) (٣) ، ودلالة محبّته : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) (٤) ، وآية بعثه : ( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأى ) (٥) ، كلّ من الأنبياء مقدّمة جنده ، وكلّ من الأولياء أخذ الميثاق على من بعده بوفاء عهده ، في صحف الخليل ذكره أشهر من أن يشهر ، وفي توراة الكليم فضله من فلق الصبح أظهر ، والمسيح في إنجليه دعا إليه وبشّر ، وصاحب الزبور لمّا دعا باسمه أظهر الله على جالوت ونصره أعني

__________________

١ ـ الجَلَد : القوّة والشدّة ، الصلابة. « لسان العرب : ٣ / ١٢٥ ـ جلد ـ ».

٢ ـ سورة الاسراء : ١.

٣ ـ سورة النجم : ١٠.

٤ ـ سورة الضحى : ٣.

٥ ـ سورة النجم : ١١.

١٤٢

صاحب الحوض والكوثر ، والتاج والمغفر ، والدين الأظهر ، والنسب الأطهر ، محمد سيّد البشر ، أشرف مبعوث إلى الكافّة ، وخير مبعوث بالرحمة والرأفة ، تحمّل أعباء الرسالة صابراً ، وجاهد في الله مصابراً ، ما اوذي أذاه نبيّ ، ولا صبر صبره وليّ ، كم راموا هدم بنيانه ، وهدّ أركانه ، وإدحاض حجّته ، وإذلال صحبته؟ وأبى الله الا تأييده ونصره ، وإعلاء فوق كلّ أمر أمره.

روى سيّدنا ومولانا الامام المفترض الطاعة الامام ابن الأئمّة ، والسيد ابن السادة ، نجل النبيّ ، وسلالة الوصيّ ، الامام الزكي ، أبو القائم المهديّ الحسن بن عليّ العسكري صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين ، وولده الحجّة على الخلق أجميعن ، أنّ أبا جهل كتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد أن هاجر إلى المدينة ـ : يا محمد ، إنّ الخيوط (١) التي في رأسك هي التي ضيّقت عليك مكّة ، ورمت بك إلى يثرب ، وإنّها لا تزال بك إلى أن توردك موارد الهلكة ... إلى آخر الكتاب.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للرسول : إنّ أبا جهل بالمكاره (٢) يهدّدني ، وربّ العالمين بالنصر والظفر يعدني ، وخبر الله أصدق ، والقبول من الله أحقّ ، لن يضرّ محمداً من خذله ، أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله عزّ وجلّ ، ويتفضّل بكرمه وجوده عليه.

ثمّ قال للرسول : قل له : يا أبا جهل ، إنّك راسلتني بما ألقاه الشيطان في خلدك (٣) ، وأنا اُجيبك بما ألفاه في خاطري الرحمن ، إنّ الحرب بيننا وبينك

____________

١ ـ في تفسير العسكري : الخبوط. وهو من تخبّطه الشيطان : إذا مسّه بخبل أو جنون.

وما في المتن « الخيوط » فلعلّه كناية عن الجنون.

٢ ـ في التفسير والمناقب : بالمكاره والعطب.

٣ ـ الخَلَد : البال والقلب.

١٤٣

كافية (١) إلى تسعة وعشرين يوماً ، وإنّ الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي ، وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان ـ وذكر عدداً من قريش ـ في قليب بدر مقتّلين ، أقتل منكم سبعين ، وآسر منكم سبعين ، أحملهم على الفداء (٢) الثقيل.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا تحبّون أن اُريكم مصرع (٣) كلّ واحد من هؤلاء؟ هلمّوا إلى بدر ، فإنّ هناك الملتقى والمحشر ، وهناك البلاء [ الأكبر ] (٤) ، فلم يجبه إلا أمير المؤمنين ، وقال : نعم ، بسم الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لليهود : اخطوا خطوة واحدة فإنّ الله يطوي الأرض لكم ، ويوصلكم إلى هناك ، فخطا القوم خطوة ، ثم الثانية : فإذا هم عند بئر بدر.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا مصرع عتبة ، وذاك مصرع شيبة ، وذاك مصرع الوليد ، إلى أن سمّى تمام سبعين ، وسيؤسر فلان وفلان ، إلى أن ذكر سبعين منهم ، فلمّا انتهى (٥) إلى آخرها وقال : هذا مصرع أبي جهل ، يجرحه (٦) فلان الأنصاري ، ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي.

ثمّ قال : إنّ ذلك لحقّ كائن إلى بعد ثمانية وعشرين يوماً ، فكان كما

____________

١ ـ في التفسير : كائنة.

٢ ـ كذا في التفسير والمناقب ، وفي الأصل : النداء.

٣ ـ كذا في التفسير والمناقب ، وفي الأصل : مصارع.

٤ ـ من التفسير والمناقب.

٥ ـ في التفسير والمناقب : انتهوا.

٦ ـ كذا في التفسير والمناقب ، وفي الأصل : آخرها فإنّ هذا مصرع ابي جهل يخرجه ـ وهو تصحيف ـ.

١٤٤

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله . (١)

ولمّا ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين ، يؤذونهم ويعذّبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله سبحانه منهم من شاء ، وحمى (٢) الله نبيّه بعمّه أبي طالب رضي الله عنه ، فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إنّ بها ملكاً صالحاً ، لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً ، وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ، وهو بالحبشيّة عطيّة ، وإنّما النجاشي اسم الملك ، كقولهم تبع ، وكسرى (٣) ، وقيصر.

فخرج إليها سرّاً أحد عشر رجلاً ، واربع نسوة ، وهم : الزبير بن العوّام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمان بن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته سلمة بنت أبي اُميّة ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل (٤) بن بيضاء ، فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة إلى برّ (٥) الحبشة بنصف دينار ، وذلك في رجب ، في النسة الخامسة من

____________

١ ـ التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه‌السلام : ٢٩٤ ـ ٢٩٦ ، عنه البحار : ١٧ / ٣٤٢ ، وتفسير البرهان : ١ / ١١٥ ح ١. وأورده في الاحتجاج : ١ / ٣٨ ، ومناقب ابن شهراشوب : ١ / ٦٨. وأخرجه في البحار : ١٩ / ٢٦٥ ح ٦ عن تفسير العسكري والاحتجاج.

وانظر : الأحاديث الغيبيّة : ٢ / ٥ ـ ٨ ح ٣٥١.

٢ ـ في المجمع : ومنع.

٣ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : كقوله : كسرى.

٤ ـ في المجمع : سهل.

٥ ـ في المجمع : أرض.

١٤٥

مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين على التعاقب ، اثنين وثمانين رجلاً (٢) ، سوى النساء والصبيان.

فلمّا علمت قريش بذلك وجّهت عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردّوهم ، وكان عمارة بن الوليد شابّاً حسن الوجه ، وأخرج عمرو بن العاص أهله معه.

فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر. فقال عمارة لعمرو بن العاص : قل لأهلك تقبّلني ، فلمّا انتشى (٣) عمرو دفعه عمارة في الماء ، ونشب (٤) عمرو في صدر السفينة ، واُخرج من الماء ، وألقى الله العداوة بينهما في مسيرهما قبل أن يصلا إلى النجاشي.

ثمّ وردا على النجاشي ، فأنزلهم ، ثمّ استدعى بهما وسألهما ما أقدمهما إلى بلاده.

فقال عمرو : أيّها الملك ، إنّ قوماً خالفونا في ديننا ، وسبّوا آلهتنا (٥) ، وصاروا إليك ، فردّهم إليان ، فبعث النجاشي إلى جعفر ، فحضر بين يديه ، فقال : أيها الملك ، سلهم أنحن عبيد لهم؟

فقال : لا ، بل أحرار.

قال : سلهم ألهم علينا ديون يطالبونا بها؟

__________________

١ ـ زاد في المجمع : وهذه هي الهجرة الاُولى.

٢ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : إنساناً.

٣ ـ الانتشاء : أوّل السكر.

٤ ـ نشب الشيء في الشيء : علق.

٥ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : إلهنا.

١٤٦

قال : عمرو : لا ، ما لنا عليك ديون.

قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟

قال عمرو : لا.

قال : فما تريدون منّا؟! آذيتمونا ، فخرجنا من بلادكم (١).

قال جعفر : أيّها الملك ، إنّ الله سبحانه بعث فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد ، وبترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والعدل ، والاحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهانا عن الفحشاء ، والمنكر ، والبغي.

فقال النجاشي : بهذا بعث عيسى ، ثمّ قال النجاشي (٢) : هل تحفظ ممّا اُنزل على نبيّك شيئاً؟

قال : نعم.

قال : اقرأ ، فقرأ سورة مريم ، فلمّا بلغ ( وَهُزِّي إلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُسَاقِط عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً ) (٣) قال النجاشي : هذا والله هو الحق.

فقال عمرو : إنّه مخالف لنا ، فردّه علينا.

فرفع الملك يده ولطم عمرو ، وقال : اسكت والله لئن ذكرته بسوء لأفعلنّ بك ، ثمّ قال : ارجعوا إلى هذا هديته ، وقال لجعفر ولأصحابه : امكثوا أنتم سيوم ، والسيوم : الآمنون ، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق ، فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار ، إلى أن هاجر رسول الله صلّى الله

__________________

١ ـ في المجمع : دياركم.

٢ ـ زاد في المجمع : لجعفر.

٣ ـ سورة مريم : ٢٥.

١٤٧

عليه وآله إلى المدينة ، وعلا أمره ، وهادن قريشاً ، وفتح خيبر ، فوافى جعفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع من كانوا معه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أدري بأيّهما اُسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟

وأتى مع جعفر وأصحابه من الحبشة سبعون رجلاً ، منهم اثنان وستّون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، منهم (١) بحيراء الراهب ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما اُنزل على عيسى! (٢)

ثمّ لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقاسي منهم الأهوال ، ولكنّ الله سبحانه كان يمنعهم عنه بعمّه أبي طالب ، وكان أبو طالب رضي الله عنه يظهر لهم أنّه موافق لهم في دينهم ليتمّ له ما يريد من حماية رسول الله ، وإلاّ فهو كان مسلماً موحّداً.

وقد أجمعت العصابة من أهل البيت عليهم‌السلام انّه قد مات مسلماً ، وإجماعهم حجّة على ما ذكر في غير موضع (٣) ، وسبب الشبهة في ذلك أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يعلن بنفاق أبي سفيان ، فشكا معاوية ذلك إلى مروان وعمر وعبد الله بن عامر فقالوا : إنّ إسلام أبيه أخفى من نفاق أبيك ، فأظهر كفره ، فجعل يقول : ألا إنّ أبا طالب مات كافراً ، وأمر الناس بذلك فصارت سنّة.

وقال الصادق عليه‌السلام : مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف ، أسرّوا

____________

١ ـ في المجمع : فيهم.

٢ ـ مجمع البيان : ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، عنه البحار : ١٨ / ٤١١ ـ ٤١٣.

ورواه في تفسير القمّي : ١ / ١٧٦ ـ ١٧٨ ، بتفاوت ، عنه البحار : ١٨ / ٤١٤ ح ١.

٣ ـ انظر البحار : ٣٥ / ١٣٩ نقلاً عن مجمع البيان.

١٤٨

الايمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرّتين. (١)

وقد صنّف الشيخ أبو جعفر بن بابويه ، وأبو علي الكوفي (٢) ، وسعد القمّي (٣) ، وعلي بن بلال المهلّبي (٤) ، والشيخ المفيد (٥) في فضائله ، وقد أجمع أهل البيت على ذلك ـ كما ذكرنا أوّلاً ـ.

وروى شعبة ، عن قتادة ، عن الحسن في خبر طويل انّه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكى وقال : يا محمد ، إنّي أخرج من الدنيا وما لي غمّ إلا غمّك ، وستلقى هزواً وحروباً كثيرة من بني اُميّة وبني المغيرة ، فإذا متّ فخبّر أصحابك لينتقلوا من مكّة إلى حيث شاؤا ، فلا مقام لهم بمكّة بعدي.

__________________

١ ـ أمالي الصدوق : ٤٩٢ ح ١٢ ، معاني الأخبار : ٢٨٥ ح ١ ، إيمان أبي طالب لفخّار بن معدّ : ٣٢١ ـ ٣٢٢ وص ٣٦٢ وص ٣٦٣.

وأخرجه في البحار : ٣٥ / ٧٢ ح ٧ عن أمالي الصدوق : وفي ص ٧٧ ح ١٥ عن معاني الأخبار. وفي ص ١٥٨ عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٢ ـ إيمان أبي طالب لأبي علي الكوفي أحد بن محمد بن عمّار ، المتوفّى سنة « ٣٤٦ ه‍ ». « رجال النجاشي : ٩٥ رقم ٢٣٦ ، فهرست الطوسي : ٢٩ رقم ٧٨ ».

٣ ـ فضل أبي طالب وعبد المطّلب وأبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمّي أبي القاسم ، المتوفّى سنة « ٢٩٩ ه‍ » أو « ٣٠١ ه‍ » من ثقاة الطائفة ووجهائهم. « رجال النجاشي : ١٧٧ رقم ٤٦٧ ، فهرست الطوسي : ٧٥ رقم ٣٠٦ ».

٤ ـ البيان عن خيرة الرحمن لأبي الحسن عليّ بن بلال بن أبي معاوية المهلّبي الأزدي. « رجال النجاشي : ٢٦٥ رقم ٦٩٠ ، فهرست الطوسي : ٩٦ رقم ٤٠٢ ».

٥ ـ إيمان أبي طالب لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي المفيد ، المتوفّى سنة « ٤١٣ ه‍ » ، طبع ـ ولأكثر من مرّة ـ ضمن « نفائس المخطوطات » التي قام بتحقيقها وإصدارها العلّامة الشيخ محمد حسن آل ياسين ، وذلك سنة « ١٣٧٢ ه‍ » ، كما طبع ضمن « عدّة رسائل للشيخ المفيد » نشر مكتبة المفيد ـ قم ـ ، وطبع أخيراً بتحقيق مؤسّسة البعثة ـ قم سنة « ١٤١٢ ه‍ » ـ.

١٤٩

فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا عمّ ، إنّك راحل من الدنيا ، وإنّي راحل بعدك من مكّة إلى المدينة ، وراحل بعد المدينة إلى الله ، وإنّي وإيّاك نلتقي بين يدي الله بعد الموت ، فيسألك عن الايمان بي ، ويسألك عن ولاية ابنك علي.

يا عمّ ، فاشهد بكلمة الاخلاص معي في حياتك قبل موتك ، اُخاصم بها عند ربّي فترضي ربّك عن نفسي ، وترضيني وترضي ولدك عليّاً.

يا عمّ ، أما تأسف بنفسك أن يكون عليّ ولدك إمام اُمّتي ، وأسعد المقرّبين في الجنان ، وتكونَ الشقيّ المعذّب إن متّ على كفرك في النيران؟

يا عمّ ، إنّك تخاف عليّ أذى أعاديّ ولا تخاف على نفسك غداً عذاب ربّي!

فضحك ابو طالب ، وقال :

ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي

ولقد صدقت وكنت قدم أمينا (١)

وعقد على ثلاثة وستّين (٢) : عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على إصبعه الوسطى ، وأشار بإصبعه المسبّحة ، يقول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.

فقام علي عليه‌السلام وقال : الله أكبر ، الله أكبر ، والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد شفّعك الله في عمّك وهداه بك.

__________________

١ ـ انظر « ديوان شيخ الأباطح أبي طالب » من جمع أبي هفّان المهزمي : ٤١.

٢ ـ كذا في البحار ، وفي الأصل : ثلاثة وتسعين.

وتفسير ذلك أنّ الألف واحد واللام ثلاثون والهاء خمسة ، والألف واحد والحاء ثمانية والدال أربعة والجيم ثلاثة والواو ستّة والألف واحد والدال أربعة ؛ فذلك ثلاثة وستّون.

١٥٠

فقام جعفر وقال : لقد سُدتنا في الجنّة يا شيخي كما سُدتنا في الدنيا.

فلمّا مات أبو طالب رضي الله عنه أنزل الله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنّ أرضِي وَاسِعَةٌ فَإيّايَ فَاعبُدُونِ ) (١). (٢)

تفسير وكيع : قال : حدّثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم (٣) ، عن أبيه ، عن أبي ذرّ الغفاري قال : والله الذي لا إله إلا هو ما مات أبو طالب حتى آمن بلسان الحبشة ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد ، أتفقه لسان الحبشة؟

قال : يا عمّ ، إنّ الله علّمني جميع الكلام.

قال : يا محمد ، « اسدن ملصافافا طالاها » (٤) يعني : أشهد مخلصاً : لا إله إلا الله ، فبكى رسول الله وقال : إنّ الله أقرّ عيني بأبي طالب. (٥)

الصادق عليه‌السلام : لمّا حضرت أبا طالب الوفاة أوصى بنيه ، فكان فيما أوصى قال : إنّي اُوصيكم بمحمد ، فإنّه الأمين في قريش ، والصدّيق في العرب ، فقد حباكم بأمر قبله الجَنان (٦) ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن (٧) ، وأيم الله لكأنّي أنظر قد محضته العرب درّها ، وصفّت له بلادها ، وأعطته قيادها ، فدونكم يا بني

____________

١ ـ سورة العنكبوت : ٥٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ٣٥ / ٧٩ عن مناقب ابن شهراشوب ـ ولم أجده فيه ـ.

٣ ـ كذا في البحار ، وفي الأصل : حدّثنا شيبان ، عن منصور وإبراهيم.

٤ ـ في البحار : لمصافا قاطالاها.

٥ ـ بحار الأنوار : ٣٥ / ٧٨ ح ١٨ عن مناقب ابن شهراشوب ـ ولم أجده فيه ـ.

وقال المجلسي رحمه‌الله : يمكن حمل هذا الخبر على أنّه أظهر إسلامه في بعض المواطن لبعض المصالح بتلك اللغة ، فلا ينافي كونه أظهر الاسلام بلغة اُخرى أيضاً في مواطن اُخر.

٦ ـ الجنان : القلب.

٧ ـ الشنآن : البغضاء. ومراده : لم اُظهره باللسان مخافة عداوة القوم.

١٥١

عبد المطّلب ، فقوه بآبائكم واُمّهاتكم وأولادكم ، كونوا له دعاة ، وفي حربه حماة ، فوالله لا سلك أحد سبيله إلا رُشِد ، ولا أخذ أحد بهداه غلّا سُعِد ، ولو كان في نفسي مدّة ، وفي أجلي تأخير لكفيته الكوافي ، ودفعت عنه الدواهي ، غير أنّي أشهد بشهادته ، واُعظّم مقالته. (١)

وقال رجل لأمير المؤمنين : يا أمير المؤمنين ، إنّك لبالمنزل الذي أنزلك الله ، وأبوك يعذّب بالنار!

فقال أمير المؤمنين : فضّ الله فاك ، والذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً ، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله تعالى فيهم ، أبي يعذّب بالنار وابنه قسيم الجنّة والنار!

ثمّ قال : والذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً ، إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق إلا خمسة أنوار ، نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونوري ونور فاطمة ، ونور الحسن ، ونور الحسين صلوات الله عليهم أجمعين ، لأنّ نوره من نورنا الّذي خلقه الله سبحانه من قبل خلق آدم بألفي عام. (٢)

وما روي من أشعاره الدالّة على إسلامه التي تنفث في عُقَد السحر ، وتُغيّر في وجه شعراء الدهر (٣) تزيد على ثلاثة آلاف بيت ، مذكورة في كتب المغازي ،

__________________

١ ـ أورده في روضة الواعظين : ١٣٩ ـ ١٤٠ ، باختلاف ، عنه البحار : ٣٥ / ١٠٧ ضمن ح ٣٤.

وأورده في سيرة الحلبي : ١ / ٣٧٥ طبع مصر ، باختلاف أيضاً.

٢ ـ مائة منقبة : ١٧٤ ح ٩٨ ، أمالي الطوسي : ١ / ٣١١ ـ ٣١٢ ، الاحتجاج : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، إيمان أبي طالب لفخّار : ٧٤ ، كنز الفوائد : ١ / ١٨٣ ، بشارة المصطفى : ٢٤٩ ، البحار : ٣٥ / ٦٩ ح ٣ وص ١١٠ ح ٣٩ ، غاية المرام ، ٤٦ ح ٦٣ وص ٢٠٨ ح ١٦ ، الدرجات الرفيعة : ٥٠ ، الغدير : ٧ / ٣٨٧ ح ٧.

٣ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : الذي ينفث في عند السجود يغبر في وجوه شعر الدهر.

١٥٢

يكاشف فيها من كاشف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويصحّح نبوّته. (١)

في محاسن البرقي (٢) : يونس بن ظبيان ، قال رجل عند الصادق عليه‌السلام : إنّ أبا طالب مات مشركاً.

قال أبو عبد الله : أبعد قوله :

ألم تعلموا أنّ نبيّـنا لا مكذّب

لدينا ولا يعنى بقول الأبـاطل (٣)

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

ثِمال اليتامى (٤) عِصمةٌ للأراملِ

فأظهره (٥) ربّ العباد بـنصره

وأظهر ديناً حـقّه غير باطـل (٦)؟

وتظافرت الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عند وفاته : يا عمّ ، وصلتك رَحم وجزيت خيراً يا عمّ ، كفلتني صغيراً ، وأحظيتني كبيراً ، فجزيت عنّي

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٤ / ٢٦٠ ، متشابه القرآن ومختلفه لابن شهراشوب : ٢ / ٦٥.

ولقد جمع أشعار شيخ الأباطح أبي طالب رضوان الله تعالى عليه : أبو هفّان عبد الله بن أحمد المهزمي ، المتوفّى سنة « ٢٥٧ ه‍ » ، ورواها عفيف بن أسعد ، عن عثمان بن جني الموصلي البغدادي النحوي ، المتوفّى سنة « ٣٩٢ ه‍ ».

وقد طبع أخيراً بتحقيق وإستدراك الشيخ محمد باقر المحمودي ، وصدر عن مجمع إحياء الثقافة ـ قم ـ ، وتلته طبعة اُخرى بتحقيق مؤسّسة البعثة ـ قم ـ.

٢ ـ لم أجده في المحاسن.

٣ ـ في بعض المصادر :

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب

لديهم ولا يعنى بقول الأباطل

وفي بعضها :

ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذّب

لدينا ولا يعبأ بقـول الأباطل

٤ ـ في بعض المصادر : وربيع اليتامى.

٥ ـ في بعض المصادر : فأيّده.

٦ ـ انظر : إيمان أبي طالب للشيخ المفيد : ٢١ ، الحجّة على الذاهب : ٣٠٥ ـ ٣٢٣ ، ديوان شيخ الأباطح : ٢٦ ـ ٣٧ ، الطرائف : ٣٠٠ و ٣٠١ و ٣٠٥ ، البحار : ٣٥ / ٧٢ ح ٦ وص ١٣٦ ح ٨١ وص ١٦٦.

١٥٣

خيراً.

وفي رواية : فقد ربّيت وكفلت صغيراً ، وآزرت ونصرت كبيراً.

ثمّ أقبل على الناس فقال : أم والله ، لأشفعنّ لعمّي شفاعة يعجب بها الثقلان. (١)

فدعا له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس للنبيّ أن يدعو بعد الموت لكافر لقوله تعالى : ( وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنهُم مَاتَ أبَداً ) (٢) ، والشفاعة لا تكون إلا لمؤمن ( وَلَا يَشفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارتَضَى ) (٣).

وأجمع أهل النقل من الخاصّة والعامّة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل له : ما ترجو لعمّك أبي طالب؟

قال : أرجو له كلّ خير من ربّي. (٤)

ولمّا مات أبو طالب أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين من بين أولاده الحاضرين بتغسيله وتكفينه مواراته دون عقيل وطالب ، ولم يكن من أولاده من آمن في تلك الحال الا أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعفر ، وكان جعفر ببلاد الحبشة ، ولو كان كافراً لما أمر أمير المؤمنين بتغسيله وتولية أمره ،

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٥ ، إيمان أبي طالب للشيخ المفيد : ٢٥ ـ ٢٦ ، متشابه القرآن ومتخلفه : ٢ / ٦٤ ، الحجّة على الذاهب ، ٢٦٥ ، الطرائف : ٣٠٥ ح ٣٩٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٤ / ٧٦ ، بحار الأنوار ، ٣٥ / ١٢٥ ح ٦٧ وص ١٦٣ ، الغدير : ٧ / ٣٧٣.

٢ ـ سورة التوبة : ٨٤.

٣ ـ سورة الأنبياء : ٢٨.

٤ ـ إيمان أبي طالب للشيخ المفيد : ٢٧ ، الحجّة على الذاهب : ٧١ ـ ٧٢ ، الطرائف : ٣٠٥ ح ٣٩٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٤ / ٦٨ ، كنز الفوائد : ١ / ١٨٤ ، بحار الأنوار : ٣٥ / ١٠٩ ح ٣٨ وص ١٥١ وص ١٥٦ ، الغدير : ٧ / ٣٧٣.

١٥٤

ولكان الكافر أحقّ به (١).

وتوفّي أبو طالب وخديجة في سنة ستّ (٢) من الوحي ، فسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عام الحزن. (٣)

وقالت فاطمة بنت أسد وعليّ صلوات الله عليه : أظهر إسلامك بسرّ محمد.

فقال لهما : آمنت به منذ أربعين سنة.

فقالا : جدّده.

فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فاكتموا ذلك عليّ.

فقال أمير المؤمنين : لقد أظهرت دين عيسى وملّة إبراهيم.

في كتاب دلائل النبوّة : قال العباس : لمّا حضرت أبي طالب الوفاة قال له نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمّ ، قل كلمة واحدة أشفع لك بها يوم القيامة : « لا إله إلا الله ».

وكانت جميلة بنت حرب تقول : يا أبا طالب ، مت على دين الأشياخ ، فرأيته يحرّك شفتيه ، وسمعته يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله. (٤)

__________________

١ ـ الفصول المختارة : ٢ / ٢٢٩ ، عنه البحار : ٣٥ / ١٧٣.

٢ ـ قيل : تسع ، وقيل : عشر.

٣ ـ تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٥ ، قصص الأنبياء للراوندي : ٣١٧ ، الحجّة على الذاهب : ٢٦١ ، البحار : ٣٥ / ٨٢ ح ٢٤.

٤ ـ أمالي الطوسي : ١ / ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، عنه البحار : ٣٥ / ٧٦ ح ١١.

١٥٥

الخطيب في الأربعين : بالاسناد عن محمد بن كعب أنّ أبا طالب لمّا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتفل في فم علي ، فقال : ما هذا ، يا محمد؟

قال : إيمان وحكمة.

فقال أبو طالب لعليّ : يا بنيّ ، انصر ابن عمّك وآزره. (١)

وإذا استقرأت ورمت معرفة من كان أشدّ متابعة ، وأعظم حياطة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعظم محاماة عنه وعن دينه لم تجد في المهاجرين والأنصار وغيرهم من المسلمين مثل أبي طالب رضي الله عنه وولده ، فإنّ أحداً لم يحام عن رسول الله كأبي طالب ، فإنّه ذبّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدّة حياته بمكّة ، وكذلك لمّا حضر في الشعب ، حتى انّ رسول الله لم يمكنه بعد موته الاقامة بمكّة ، وهبط عليه جبرائيل وقال : يا محمد ، إنّ الله يقرئك السلام ، ويقول لك : اخرج قد مات ناصرك. (٢)

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما نالت قريش منّي ما نالت وما أكره حتى مات أبو طالب. (٣)

ثمّ لم يستقرّ حتى خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الطائف.

وكذلك ولده جعفر رضي الله عنه لم يزل يذبّ في إعلاء كلمة الاسلام ونصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قتل في دار غربة مقبلاً غير مدبر ، وسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ذا الجناحين » لأنّ يديه قطعتا في الحرب ، فأبدله

__________________

١ ـ مناقب الخوارزمي : ٧٨ ، عنه كشف الغمّة : ١ / ٢٨٨.

وأخرجه في البحار : ٣٨ / ٢٤٩ ح ٤٢ عن الكشف.

٢ ـ البحار : ١٩ / ١٤ ح ٦ ، وج ٣٥ / ١١٢ ح ٤٣ وص ١٣٧ ح ٨٣ وص ١٧٤.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٦٧ ، عنه البحار : ١٩ / ١٧ ح ٩.

١٥٦

الله منهما جناحين يطير بهما في الجنّة ، ووجد فيه بعد أن قتل بضع وتسعون رمية وطعنة ، ليس منها شيء في دبره. (١)

وهذا أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ، لم يجاهد أحد جهاده ، ولا يواسي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مواساته ، وهو صلوات الله عليه صاحب الوقائع المشهورة ، والمقامات المذكورة ، التي اتّفق المخالف والمؤالف على نقلها ، وضربت الأمثال بشجاعته فيها ، كبدر واُحد والأحزاب وخيبر وحنين وأوْطَاس (٢) وغيرها من الغزوات والسرايا ، وفدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمبيته على فراشه حتى أنزل الله فيه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاتِ اللهِ ) (٣) وما زال صلوات الله عليه يذبّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكدح في إعلاء كلمته في حياته وبعد موته حتى قتل في محرابه راكعاً.

وكذلك ولداه الحسن والحسين صلى الله عليهما ، فإنّهما بالغا في النصحية لجدّهما ، وثابرا على آثار دينه وقمع الملحدين فيه ، لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الّذين كفروا السفلى ، حتى قتلا في سبيل الله وذرّيّتهما وولدهما ، وسبيت نساؤهما وذرّيّتهما.

وكذلك زيد بن علي بن الحسين صلوات الله عليه ، وولده يحيى بن زيد ، ومحمد بن زيد ، وغيرهما من أولاده وأحفاده.

__________________

١ ـ انظر : الاستيعاب : ١ / ٢١١ ، عنه البحار : ٢٢ / ٢٧٦.

وجامع الأصول : ٩ / ٢٤٨ ح ٦١٢٤ ، عنه البحار : ٢١ / ٥٨ ح ١٠.

وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٢ / ٧٦٠ ، عنه البحار : ٢١ / ٦١ ـ ٦٢.

٢ ـ أوْطاس : واد في ديار هَوازن ، فيه كانت وقعة حُنَين ... ويومئذ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : حَمِيَ الوَطيسُ. « معجم البلدان : ١ / ٢٨١ ».

٣ ـ سورة البقرة : ٢٠٧.

١٥٧

وكذلك بنو الحسن كعبد الله ومحمد وإبراهيم وغيرهم كصاحب فخ ومن تابعه ، وكانوا أكثر من ثلاثمائة من ولد أبي طالب ، حتى قال سيّدنا أبو الحسن الثالث علي بن محمد الهادي العسكري صلّى الله عليه : ما اُصبنا بمصيبة بعد كربلاء كمصيبة صاحب فخّ. (١)

ومن حفدته مسلم بن عقيل ، وولده الّذين شروا أنفسهم من الله بالثمن الأوفر ، وقد صنّف فيهم كتاب مقاتل الطالبيّين (٢) وتواريخهم وسيرتهم فلا نطوّل بذلك ، ولولا حسن اعتقادهم ، وصفاء ودادهم ، وشدّة جهادهم ، وقوّة اجتهادهم لما جعلهم الله خلفاءه في أرضه ، والاُمناء على سنّته وفرضه.

بحار العلم ، ومعادن الحلم ، وأئمّة الهدى ، ومصابيح الدجى ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم المهديّ ، كلّما خوى لهم نجم بزغ نجم طالع ، كلّما اختفى منهم علم بدا علم لامع ، وكفى فخراً كون المهديّ من ذرّيّته الّذي يملأ الله الأرض به قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

وكان أبو طالب رضي الله عنه ربّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صغيراً ،

__________________

١ ـ روى في عمدة الطالب : ١٨٣ عن محمد الجواد بن علي الرضا عليهما‌السلام أنّه قال : لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخّ. عنه عوالم العلوم : ٢١ / ٣٦٣ ح ٧.

وروى في معجم البلدان : ٤ / ٢٣٨ بهذا اللفظ : ... ولهذا يقال لم تكم مصيبة بعد كربلاء أشدّ وأفجع من فخ. عنه البحار : ٤٨ / ١٦٥ وعن عمدة الطالب.

٢ ـ مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الاصفهاني ـ صاحب الأغاني ـ المتوفّى ببغداد سنة ستّ أو سبع وخمسين وثلاثمائة ، ذكر فيه شهداءهم إلى أواخر المقتدر الذي مات سنة « ٣٢٠ ه‍ » ، ابتدأ فيه بجعفر الطيّار أوّل الشهداء من آل أبي طالب ، واختتم بإسحاق بن عبّاس ، المعروف ب‍ « المهلوس » الشهيد بأرمن ، وذكر بعده جمعاً ممّن حكى له قتلهم ، وتبرّأ من خطائه ، وفرغ منه في جمادى الاولى سنة « ٣١٣ ه‍ ». الذريعة : ٢١ / ٣٧٦ ».

وقد طبع عدّة مرات ، منها في إيران سنة « ١٣٠٧ ه‍ » ، وفي النجف سنة « ١٣٨٥ ه‍ » ، ومن ثمّ ـ بالاوفست على طبعة النجف ـ في قم سنة « ١٤٠٥ ه‍«.

١٥٨

وحصنه كبيراً.

وكانت زوجته فاطمة بنت أسد رضي الله عنها شديدة الحنوّ والشفقة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي أحد الصالحات القانتات ، ولمّا سمعت قول الله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤمِنَاتُ يُبَايِعنَكَ ) (١) كانت أوّل امرأة بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هي.

وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام أنّ فاطمة بنت أسد أوّل امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى المدينة على قدمها ، وكانت أبرّ الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الناس يحشرون يوم القيامة عراة ، فقالت : واسوأتاه.

فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أسأل الله أن يبعثك كاسية.

وسمعته يذكر ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه.

فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أسأل الله أن يكفيك ذلك. (٢)

وفي الخبر أنّها أسلمت بعد عشرين يوماً من مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على يد أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولدها ، وجاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باكية واستزادت ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تقتفي آثار ابنها.

وروي أنّها لمّا ماتت دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجلس عند رأسها ، وقال : يرحمك الله يا اُمّي ، كنت اُمّي بعد اُمّي ، تجوعين وتشبعيني ،

____________

١ ـ سورة الممتحنة : ١٢.

٢ ـ روي نحوه في اعتقادات الصدوق : ٥٨ ـ ٥٩ ( المطبوع في مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٥ ) ، عنه البحار : ٦ / ٢٧٩. وأورده أيضاً شاذان في الروضة : ٥ ـ مخطوط ـ.

١٥٩

وتعرين وتكسيني ، وتمنعين نفسك من طيب الطعام وتطعميني ، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة ، ثمّ أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تغسل ثلاثاً ، فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ، ثمّ خلع قميصه فألبسها إيّاه ولفّها فوقه ، ثمّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اُسامة وأبا أيّوب وغلاماً أسود يحفرون قبرها ، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخرج ترابه بيده ، فلمّا فرغ دخل فاضطجع فيه ، ثمّ قال : الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، [ اللّهمّ ] (١) اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسّع عليها مدخلها ، بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي ، فإنّك أرحم الراحمين.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وضعها في اللحد : يا فاطمة ، أنا محمّد سيّد ولد آدم ولا فخر ، فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك : من ربّك؟ فقولي : الله ربّي ، ومحمد نبيّي ، والاسلام ديني ، والقرآن كتابي ، وابني عليّ إمامي ووليّي.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم ثبّت فاطمة بالقول الثابت ، ثمّ ضرب بيده اليمنى على اليسرى فنفضهما ، ثم قال : والذي نفس محمّد بيده لقد سمعت فاطمة تصفيق يميني على شمالي.

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كبّر عليها أربعين تكبيرة ، فسأله عمّار عن ذلك ، فقال : يا عمّار ، التفتّ عن يميني فنظرت أربعين صفّاً من الملائكة ، فكبّرت لكلّ صفّ تكبيرة.

وفي خبر آخر : يا عمّار ، إنّ الملائك قد ملأت الفضاء ، وفتح لها باب من الجنّة ، ومهّد لها مهاد من مهاد الجنّة ، وبعث إليها بريحان من ريحان الجنّة ، فهي

__________________

١ ـ من الفصول المهمّة.

١٦٠