تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليتني أعلم متى يكون ذلك ، فأنزل الله سبحانه سورة النصر ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسكت بين التكبير والقراءة بعد نزول هذه السورة ، فيقول : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب اليه.

فقيل : يا رسول الله ، لم تكن تقوله قبل هذا! [ فقال ] (١) : أما إنّ نفسي نعيت إليّ ، ثمّ بكى بكاء شديداً. فقيل : يا رسول الله ، أو تبكي من الموت وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟!

قال : فأين هول المطّلع؟ وأين ضيق القبر ، وظلمة اللحد؟ وأين القيامة والأهوال؟

فعاش صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزولها عاماً تامّاً.

ثمّ نزلت ( لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أنفُسِكُم ) (٢) الآية إلى آخر السورة ، وهذه السورة آخر سورة كاملة نزلت من القرآن ، فعاش صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها ستّة أشهر ، ثمّ لمّا مضى صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق ( يَستَفتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفتِيكُم فِي الكَلَالَةِ ) (٣) إلى آخرها ، فسمّيت آية الصيف. (٤)

ثمّ لمّا أتمّ صلوات الله عليه وآله مناسكه نزل عليه ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا اُنزِلَ إلَيكَ مِن رَبِّكَ وإن لَم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ ) (٥).

____________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ سورة التوبة : ١٢٨.

٣ ـ سورة النساء : ١٧٦.

٤ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٢٣٤ ، عنه البحار : ٢٢ / ٤٧١ ح ٢٠.

٥ ـ سورة المائدة : ٦٧.

٢٠١

روى العيّاشي (١) بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن ابن اُذينة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينصب عليّاً عليه‌السلام للناس فيخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقولوا حابى ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأنزل الله هذه الآية ، فقام صلوات الله عليه وآله بولايته يوم غدير خم.

وروى هذا الخبر أيضاً الحاكم ابو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن أبي عمير إلى آخره في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل (٢) ، وفيه أيضاً (٣) قال : لمّا نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد عليّ عليه‌السلام ورفعها ، وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه.

وقد أورد هذا الخبر أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره. (٤)

و [ قد ] (٥) اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام انّ الله اوحى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستخلف عليّاً عليه‌السلام ، فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى (٦) هذه الآية

____________

١ ـ تفسير العيّاشي : ١ / ٣٣١ ح ١٥٢ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٣٩ ح ٣١ ، وتفسير البرهان : ١ / ٤٨٩ ح ٤ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ٥٠ ح ١٦ « حديث الغدير ».

٢ ـ شواهد التنزيل : ١ / ٢٥٥ ح ٢٤٩.

٣ ـ شواهد التنزيل : ١ / ٢٥١ ح ٢٤٥ وص ٢٥٢ ح ٢٤٧.

٤ ـ الكشف والبيان للثعلبي : ٧٨ ( مخطوط ) ، عنه كشف المهمّ : ١٠٧ ح ٢٠ وص ١٠٨ ح ٢٢ ، والغدير : ١ / ٢١٧ وص ٢٧٤.

٥ ـ من المجمع.

٦ ـ لفظ الجلالة من المجمع.

٢٠٢

تشجيعاً له على القيام بما أمره الله (١) بأدائه. (٢)

الباقر والصادق عليهما‌السلام : لمّا نزلت هذه الآية وهي ( اليَومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي ) (٣) إلى آخرها قال يهوديّ لابن عبّاس (٤) : لو كان هذا اليوم فينا لاتّخذناه عيداً.

فقال ابن عبّاس : وأيّ يوم أكمل من هذا اليوم (٥)؟ (٦)

وساُورد خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أثناء هذا الفصل عند ذكر خطبتي ، فإنّي بنيتها على خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وجاء في تفسير قوله تعالى : ( فَأَوحَى إلَى عَبدِهِ مَا أوحَى ) (٧) ليلة المعراج في علي ، فلمّا دخل وقته أوحى الله : بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك في ليلة المعراج (٨) :

__________________

١ ـ لفظ الجلالة من المجمع.

٢ ـ مجمع البيان : ٢ / ٢٢٣ ، عنه البحار : ٣٧ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ٣٥٢ « حديث الغدير ».

٣ ـ سورة المائدة : ٣.

٤ ـ في المناقب : لعمر.

٥ ـ في المناقب : العيد.

٦ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٢٣ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٥٦ ح ٣٩ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١١٥ ح ١٤٨ « حديث الغدير ».

وانظر الإبانة لابن بطّة : ٢ / ٦٣٢ ـ ٦٣٥ ح ٨١٨ ـ ٨٢١.

٧ ـ سورة النجم : ١٠.

٨ ـ في المناقب : قال : بلّغ ما انزل إليك من ربّك وما أوحى ، أي بلّغ ما انزل اليك في علي عليه‌السلام ليلة المعراج.

ونسب فيه الأبيات الآتية إلى الشريف المرتضى.

وهو السيد المرتضى علم الهدى ذو المجدين عليّ بن الحسين بن موسى ، وهو إمام في الفقه ومؤسّس لاُصوله ، شاعر ، متكلّم ، مفسّر ، ولد سنة « ٣٥٥ » ه‍ ، وتوفّي سنة « ٤٣٦ » ه‍.

٢٠٣

لله درّ الـيوم ما أشرفا

ودرّ من كـان بـه أعرفا

ساقَ إلينا فيه ربّ العُلى

ما أمرض الأعداء أو أتلفا

وخصّ بالأمر عليّاً وإن

بدّل مـن بدّل أو حـرّفا

إن كان قولاً كافياً فالّذي

قال بـخمّ وحدَه قد كـفى

قيل له بلّغ فمن لم يكـن

مبلّغاً عـن ربـّه ما وفى (١)

عن أبي حاتم الرازي أنّ جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قرأ ( فَإِذَا فَرَغتَ ) (٢) من إكمال الشريعة ( فَانصَب ) لهم عليّاً إماماً.

وروى النطنزي في كتابه الخصائص قال : لمّا نزل قوله : ( اليومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، وولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعدي.

وروي : لمّا نزل قوله : ( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) (٣) أمر الله سبحانه أن ينادي بولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وضاق النبي بذلك ذرعاً لمعرفته بفساد قلوبهم ، فأنزل الله سبحانه : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا اُنزِلَ إلَيكَ ) (٤) الآية ، ثم أنزل ( اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم ) (٥) ثم أنزل ( اليَومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم ) ، وفي

____________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٢١ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٥٥ ح ٣٩.

٢ ـ سورة الشرح : ٧.

٣ ـ سورة المائدة : ٥٥.

٤ ـ سورة المائدة : ٦٧.

٥ ـ سورة المائدة : ١١ و ٢٠ ، سورة الأحزاب : ٩ ، سورة فاطر : ٣. وانظر سورة البقرة : ٢٣١ ، سورة آل عمران : ١٠٣ ، سورة المائدة : ٧.

٢٠٤

هذه الآية خمس إشارات (١) : إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرحمن ، وإهانة الشيطان ، ويأس الجاحدين.

وفي الحديث أنّ الغدير عيد المؤمنين ، وعيد الله الأكبر.

وعن ابن عبّاس قال : اجتمعت في ذلك اليوم ـ الذي نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ فيه ] (٢) عليّاً ـ خمسة أعياد : الجمعة والغدير وعيد اليهود والنصارى والمجوس ، ولم يحتمل قبل ذلك قطّ.

والعلماء مطبقون على قبول هذا الخبر ، وإنّما وقع الخلاف في تأويله.

ذكره محمد بن إسحاق ، وأحمد البلاذري ، ومسلم بن الحجّاج ، وأبو إسحاق الثعلبي ، وأحمد بن حنبل من أربعين طريقاً. (٣)

وذكر عن الصاحب كافي الكفاة رحمه‌الله أنّه قال : روى لنا قصّة غدير خم القاضي أبو بكر الجعابي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة

____________

١ ـ في المناقب : بشارات.

٢ ـ أثبتناه لضرورة السياق.

٣ ـ في المناقب : ومسلم بن الحجّاج ، وأبو نعيم الاصفهاني ، وأبو الحسن الدارقطني ، وأبو بكر بن مردويه ، وابن شاهين ، وأبو بكر الباقلاني ، وابو المعالي الجويني ، وأبو إسحاق الثعلبي ، وأبو سعيد الخرگوشي ، وأبو المظفّر السمعاني ، وأبو بكر بن شيبة ، وعليّ بن الجعد ، وشعبة ، والأعمش ، وابن عبّاس ، وابن الثلاج ، والشعبي ، والزهري ، والأقليشي ، وابن البيع ، وابن ماجة ، وابن عبد ربّه ، والألكاني ، وأبو يعلى الموصلي من عدّة طرق ، وأحمد بن حنبل من أربعين طريقاً ، وابن بطّة من ثلاث وعشرين طريقاً ، وابن جرير الطبري من نيّف وسبعين طريقاً في كتاب الولاية ، وابو العبّاس بن عقدة من مائة وخمس طرق ، وأبو بكر الجعابي من مائة وخمس وعشرين طريقاً.

وقد صنّف عليّ بن بلال المهلّبي كتاب الغدير ، وأحمد بن محمد بن سعيد كتاب من روى غدير خمّ ، ومسعود السجزي كتباً فيه رواه هذا الخبر وطرقه ، واستخرج منصور اللائي الرازي في كتابه أسماء رواته على حروف المعجم.

٢٠٥

والزبير ، والحسن ، والحسين ، وعبد الله بن جعفر ، وعبّاس بن عبد المطلّب ، وعبد الله بن عبّاس ، وأبي ذرّ ، وسلمان ، وعبد الرحمان ، وابي برزة الأسلمي ، وسهل بن حنيف ، إلى أن عدّ قريباً من مائة من أكابر الصحابة.

ومن النساء قد رواه : فاطمة الزهراء ، وعائشة ، واُمّ سلمة ، واُمّ هانئ بنت أبي طالب ، وفاطمة بنت حمزة.

والغدير بين مكّة والمدينة في واد يقال له وادي الأراك ، وهو على أربعة أميال من الجحفة عند شجرات خمس دوحات غظام.

الصادق عليه‌السلام : تعطى حقوق الناس بشهادة عدلين (١) ، وما اُعطي عليّ حقّه بشهادة عشرة آلاف نفس [ ـ يعني الغدير ـ ] (٢). (٣)

فضائل أحمد بن حنبل وأحاديث أبي بكر بن مالك وإبانة ابن بطّة وكشف الثعلبي عن البراء ، قال : لمّا أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع كنّا بغدير خمّ ، فنادى صلى‌الله‌عليه‌وآله : [ انّ ] (٤) الصلاة جامعة ، فكسح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بين (٥) شجرتين : وأخذ بيد عليّ ، وقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا : بلى ، يا رسول الله.

ثم قال : ألست أولى من كلّ مؤمن بنفسه؟

قالوا : بلى ، يا رسول الله.

__________________

١ ـ في المناقب : شاهدين.

٢ و ٤ ـ من المناقب.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٢٣ ـ ٢٦ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٥٦ ـ ١٥٨ ح ٣٩ و ٤٠.

٥ ـ في المناقب : تحت.

٢٠٦

فقال : هذا مولى من أنا مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه.

قال : فلقيه عمر بن الخطّاب ، فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وروي هذا الحديث من عدّة طرق عن عمر بن الخطّاب.

السمعاني في فضائل الصحابة (١) : قيل لعمر بن الخطّاب : إنّا نراك تصنع بعليّ شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب النبي؟!

قال : لأنّه مولاي. (٢)

فقد أجرى الله الحق على لسانه ، ولكن كان باطنه بخلاف ظاهره.

روى معاوية بن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام في خبر قال : لمّا قال النبي : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، قال العدويّ : لا والله ما أمره بهذا ، وما هو إلا شيء تقوّله ، فأنزل الله سبحانه ( وَلَو تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعضَ الأقَاوِيلِ ـ إلى قوله ـ عَلَى الكَافِرِينَ ) (٣) يعني محمداً ، وقوله : ( وَإنّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ ) (٤)

____________

١ ـ زاد في المناقب : بإسناده عن سالم بن أبي الجعد.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٥ ـ ٣٦ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٥٩ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ٢٠٢ ح ٢٧٠ وص ٢٠٧ ح ٢٨٤ « حديث الغدير ».

انظر : مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٨٤ و ١١٩ و ١٥٢ ، وج ٤ / ٢٨١ و ٣٧٠ و ٣٧٢ ، وج ٥ / ٣٦١ و ٣٦٦ و ٣٧٠ و ٤١٩ ، فضائل الصحابة لأحمد : ٢ / ٥٦٣ ح ٩٤٧ وص ٥٦٩ ح ٩٥٩ وص ٥٩٨ ح ١٠٢١ وص ٦١٠ ح ١٠٤٢ وص ٦١٣ ح ١٠٤٨ وص ٦٨٢ ح ١١٦٧ وص ٧٠٥ ح ١٢٠٦.

وانظر : كشف المهمّ : ٩٩ ح ١ وص ١٠٣ ح ١١ وص ١٠٧ ح ٢١ وص ١٢٨ ح ٥٣ وص ١٢٩ ح ٥٥ ، عوالم العلوم المذكور : ٦٠ ح ٢٩ وص ١٠٢ ح ١١٨ وص ١٠٣ ح ١٢٠ وص ٢٠٢ ح ٢٧٠ وص ٢٠٥ ح ٢٧٨ وص ٢٠٧ ح ٢٨٤.

٣ ـ سورة الحاقّة : ٤١ ـ ٥٠.

٤ ـ سورة الحاقّة : ٥١.

٢٠٧

يعني عليّاً. (١)

فهذا الحديث عن الصادق عليه‌السلام يؤيّد ما قلناه من فساد باطنه.

حسّان الجمّال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر أنّ المنافقين لمّا رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله رافعاً يد عليّ ، قال بعضهم لبعض : انظروا عينيه كأنّهما عينا مجنون ، فنزل جبرئيل بهذه الآية : ( وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزلِقُونَكَ بِأبصَارِهِم لمََّا سَمِعُوا الذِّكرَ وَيَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجنُونٌ ) (٢). (٣)

عبد العظيم الحسني : عن الصادق عليه‌السلام في خبر : قال رجل (٤) من بني عديّ : اجتمعت إليّ قريش ، فأتينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّا تركنا عبادة الأوثان واتّبعناك ، فأشركنا في ولاية علي عليه‌السلام ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : ( لَئِن أَشرَكتَ ليَحبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٥).

قال الرجل : فضاق صدري ، فخرجت هارباً لما أصابني من الجهد ، فإذا أنا بفارس قد تلقّاني على فرس أشقر ، عليه عمامة صفراء ، تفوح منه رائحة المسك ، وقال لي : يا رجل ، لقد عقد محمد عقدة لا يحلّها إلا كافر أو منافق.

____________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٧ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦٠ ، وكشف المهمّ : ١٧٠ ح ١٧ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٤١ ح ٢٠٧ « حديث الغدير ».

٢ ـ سورة القلم : ٥١.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٧ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦٠ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٤١ ح ٢٠٨ « حديث الغدير ».

ورواه في الكافي : ٤ / ٥٦٦ ح ٢. وفي التهذيب : ٣ / ٢٦٣ ح ٧٤٦ ، عنه كشف المهمّ : ١٦٩ ح ١٦.

٤ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : قال : جاء رجل.

٥ ـ سورة الزمر : ٦٥.

٢٠٨

[ قال : ] (١) فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته ، فقال : هل عرفت الفارس؟ ذاك جبرئيل عليه‌السلام عرض عليك (٢) الولاية ، إن حللتم أو شككتم كنت خصمكم يوم القيامة. (٣)

الباقر عليه‌السلام قال : قام ابن هند وتمطّى (٤) وخرج مغضباً واضعاً يمينه على عبد الله بن قيس الأشعري ، ويساره على المغيرة بن شعبة ، وهو يقول : والله لا نصدّق محمداً على مقالته ، ولا نقرّ لعليّ بولايته ، فنزل ( فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ) (٥) الآيات ، فهمّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يردّه ويقتله.

فقال جبرئيل : ( لَا تُحرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ ) (٦) فسكت [ عنه ] (٧) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٨).

وروى الشيخ الطوسي وأبو علي الطبرسي في تفسيرهما (٩) بإسناده متّصل بالامام الصادق عليه‌السلام قال : لمّا نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً علماً يوم غدير خمّ ، وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وطار ذلك في البلاد ،

__________________

١ و ٧ ـ من المناقب.

٢ ـ في المناقب : عليكم.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٨ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦١ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٤٩ ح ٢٢٤ « حديث الغدير ».

٤ ـ أي تبختر وتكبّر.

٥ ـ سورة القيامة : ٣١.

٦ ـ سورة القيامة : ١٦.

٨ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٨ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦١ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٢٤ ح ١٧٤ « حديث الغدير ».

٩ ـ تفسير البيان : ١٠ / ١١٣ ، مجمع البيان : ٥ / ٣٥٢.

وانظر شواهد التنزيل : ٢ / ٣٨١ وما بعدها.

٢٠٩

فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النعمان بن الحارث الفهري (١) ، فقال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والصوم والصلاة والزكاة فقبلنا ، ثم لم ترض حتى فضّلت هذا الغلام ، فقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من الله؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والله الذي لا إله إلاّ هو انّ هذا من الله.

فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول : ( اللَّهُمَّ إِن كَانَ هذَا هُوَ الحَقُّ مِن عِندِكَ فَأَمطِر عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتِنَا بِعَذَابٍ ألِيمٍ ) (٢) فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلكَافِرينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي المَعَارِجِ ) (٣). (٤)

وروي أنّه في الحال قام يريد راحلته فرماه الله بحجر قبل أن يصل إليها.

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا فرغ من غدير خمّ وتفرّق الناس اجتمع نفر من قريش يتأسّفون على ما جرى ، فمرّ بهم ضبّ ، فقال بعضهم : ليت محمداً أمّر علينا هذا الضبّ دون عليّ.

__________________

١ ـ في المناقب : الحارث بن النعمان الفهري ـ وفي رواية : أبي عبيد جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدريّ.

وفي التبيان أنّ السائل هو : النضر بن كلدة ، وفي المجمع : النضر بن الحارث بن كلدة.

٢ ـ سورة الأنفال : ٣٢.

٣ ـ سورة المعارج : ١ ـ ٣.

٤ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٤٠ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦٢ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ٦٨ ح ٤٥ « حديث الغدير ».

ورواه في الكافي : ٨ / ٥٧ ح ١٨ ، عنه البحار : ٣٥ / ٣٢٣ ح ٢٢ ، والبرهان : ٤ / ١٥٠ ، وغاية المرام : ٤٢٥ ب ١٨٤ ح ١ ، ومدينة المعاجز : ٢ / ٢٦٥ ح ٥٤٤.

٢١٠

فسمع ذلك أبو ذرّ ، فحكى ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبعث إليهم وأحضرهم ، وأعرض عليهم مقالهم ، فأنكروا وحلفوا ، فأنزل سبحانه تعالى : ( يَحلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا ) (١) الآية.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء ، الخبر.

وفي رواية أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : نزل عليَّ جبرائيل وأخبرني أنّه يؤتى يوم القيامة بقوم إمامهم ضبّ ، فانظروا ألا تكونوا اولئك ، فأنزل سبحانه : ( يَومَ نَدعُوا كُلََّ اُنَاسٍ بِإمَامِهم ) (٢). (٣)

وروى شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه في أماليه عن أحمد [ بن محمد ] (٤) بن نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : حدّثني ابي ، عن أبيه أنّ يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض ، إنّ لله سبحانه في الفردوس قصراً لبنة من فضّة ، ولبنة من ذهب ، فيه مائة ألف خيمة من ياقوتة حمراء (٥) ، ومائة ألف خيمة من ياقوتة خضراء ، ترابه المسك والعنبر ، فيه أربعة أنهار : نهر من خمر ، ونهر من ماء ، ونهر من لبن ، ونهر من عسل ، حواليه أشجار جميع الفواكه ، عليها (٦) طيور أبدانها من لؤلؤ ، وأجنحتها من ياقوت ، تصوّت بأنواع الأصوات ، إذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات يسبّحون الله

____________

١ ـ سورة التوبة : ٧٤.

٢ ـ سورة الإسراء : ٧١.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٤١ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦٣ ، وتفسير البرهان : ٢ / ١٤٧ ح ٧ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٦٣ ح ٢٤٠ « حديث الغدير ».

٤ ـ من المناقب.

٥ ـ في المناقب : فيه مائة ألف قبّة حمراء.

٦ ـ في المناقب : عليه.

٢١١

ويقدّسونه ويهلّلونه ، فتطاير تلك الطيور فتقع في ذلك الماء ، وتتمرّغ على ذلك المسك والعنبر ، فإذا اجتمعت الملائكة طارت فتنفض ذلك عليهم ، وانّهم في ذلك [ اليوم ] (١) ليتهادون نثار فاطمة عليها‌السلام ، فإذا كان آخر اليوم نودوا : انصرفوا إلى مراتبكم فقد امنتم من الخطر والزلل إلى قابل في هذا اليوم تكرمة لمحمد وعليّ ، الخبر. (٢)

وفي سنة أحد وعشرين وتسعمائة زرت مشهده الشريف صلوات الله عليه وكان الله سبحانه قد ألقى على لساني خطبة جليلة ، وكلمات فصيحة في فضله صلوات الله عليه وذمّ أعدائه ، وأوردت في أثنائها خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير (٣) ، والخطبة التي من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام الّتي أوردها شيخنا أبو جعفر الطوسي في مصباحه الكبير (٤) ، وضممتها ألفاظاً رائقة ،

____________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٤٢ ، عنه البحار : ٣٧ / ١٦٣ ، وكشف المهم : ١٧٤ ح ٢١ ، وعوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٥٢ ح ٢٣٣ وص ٢٢١ ح ٣٠٤ « حديث الغدير ».

وأورده في فرحة الغريّ : ١٠٦ ، عنه البحار : ٩٧ / ١١٨ ح ٩.

وفي إقبال الأعمال : ٤٦٨ ، عنه كشف المهم : ٧٢ ح ٢٠.

وأورد صدره في مصباح المتهجّد : ٧٣٧.

وانّ حديث الغدير ممّا تواتر نقله وروايته عند علماء الفريقين ، حيث رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو مائة وعشرين من الصحابة.

ولقد أجاد يراع العلامة الحجة السيد عبد العزيز الطباطبائي قدس‌سره في إحصاء تدوين الكتب التي اُفردت في التأليف حول واقعة الغدير منذ القرن الثاني وحتى يومنا هذا.

ويمكنك أيضاً مراجعة تخريجات الحديث في مصادر أهمّها : مناظرة الشيخ والد البهائي مع أحد علماء العامّة في حلب : ٤٩ ، صحيفة الامام الرضا عليه‌السلام : ١٧٢ ـ ٢٢٤ ح ١٠٩.

٣ ـ انظر مثلاً : الاحتجاج للطبرسي : ٥٨ ، عنه عوالم العلوم : ١٥ / ٣ / ١٧٨ « حديث الغدير ».

٤ ـ مصباح المتهجّد : ٧٥٢.

٢١٢

واستعارات شائقة ، يطرب لها المؤمن التقيّ ، ويصدر عنها المنافق الشقيّ ، فخطبت بها في ذلك اليوم الشريف في مشهده صلوات الله عليه تجاه ضريحه في جمع لا يحصى كثرة ، وأحببت إيرادها في هذا المجموع لتكون تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الخطبة

الحمد لله الذي ثبّت بكلمة التوفيق قواعد عقائدنا ، وأثبت في صحائف التصديق دلائل معارفنا ، وذلّل لقلوبنا سلوك مشارع الايمان في مواردنا ومصادرنا ، وسهّل لنفوسنا حزونة شرائع العرفان بقدم صدقنا واستقامتنا ، وخاطبنا ببيان عنايته :

( أَجيبُوا دَاعِيَ اللهِ ) (١) فأجبنا ، ونادانا بلسان سيد بريّته : ( أن آمِنُوا بِرَبِّكُم فَآمَنَّا ) (٢) ، وأمرنا بالتمسّك بعروة خليفته في خليقته فقلنا : ربّنا ( سَمِعنَا وَأَطَعنَا ) (٣) لمّا سلك الناس مسالك المهالك ، وارتكبوا متن الضلالة فلم يحصلوا من طائل على ذلك ، ورأوا شرار الضلالة وظنّوا سراباً ، وشاهدوا علم الجهالة فحسبوه صواباً ، سلكنا سبيل نبيّنا وعترته ، واستقمنا على طريقه وليّنا وذرّيّته ، الّذي زيّن الله كتابه بذكر مناقبه ، وأوضح في تنزيله عن شرف مراتبه ، بدلالة إشارة ( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) (٤) ، وآية عبارة ( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ

__________________

١ ـ سورة الأحقاف : ٣١.

٢ ـ سورة آل عمران : ١٩٣.

٣ ـ سورة البقرة : ٢٨٥ ، سورة النساء : ٤٦ ، سورة المائدة : ٧ ، سورة النور : ٥١.

٤ ـ سورة المائدة : ٥٥.

٢١٣

البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم ) (١).

ولمّا علم الله صدق نبيّه ، وإخلاص طويّته ، ليس له ثان في الخلق ، ولم يثنه ثان عن التوجّه إلى الحق ، مصباح الظلام إذا العيون هجعت ، المتهجّد القوّام إذا الجنوب اضطجعت ، المستأنس بالحق إذا الليل سجا ، المستوحش من الخلق إذا الغسق دجا ، له مع الله حالات ومقامات ، وتقلبه في صحائف الاخلاص سمات وعلامات ، لا يقصد بتهجّده إلا مولاه ، ولا يرجو بتعبّده إلا إيّاه ، لولا جِدُّه لما قام للاسلام عمود ، ولولا علمه لما عرف العابد من المعبود ، اصطفاه سبحانه لنفسه ، وأيّده بروح قدسه ، وأوجب له عرض الولاية على جِنّه وإنسه ، وساوى بينه وبين الرسول في علمه وحلمه ، وطمّه ورمّه ، وجدّه ورسمه ، وفضله وحقّه.

وجعل له في قلوب المؤمنين ودّاً ، وأمر نبيّه أن يورده من غدير الشرف في غدير صدراً وورداً ، وأن يثبت له في الأعناق إلى يوم التلاق عقداً وعهداً ، وأن يرفع له بالرئاسة العامّة في الآفاق على الاطلاق شرفاً ومجداً.

فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله صادعاً بأمر الله ، منفّذاً لحكم الله ، خاطباً في الغدير على منبر الكرامة ، مخاطباً للجمّ الغفير بفرض الامامة ، مبيّناً أمر وصيّه ووليّ عهده ، مظهراً شرف صفيّه وأخصّ الخلق من بعده ، راغباً معاطياً طال ما شمخت تعزّزاً وكبراً ، قاهراً أسى كم أظهرت لوليّ أمرها عقداً وعذراً ، قاطعاً أسباب اُولي النفاق بمبين وعظه ، قامعاً هامات الشقاق بمتين لفظه.

ما أظهر صلى‌الله‌عليه‌وآله شرفه وميثاقه في الخطبة إلا بعد أن أعلى الله في الملكوت الأعلى شأنه وخطبه ، وأمر الصافّين الحافّين بالقيام على قدم

__________________

١ ـ سورة الأحزاب : ٣٣.

٢١٤

الخدمة لاستماع النصّ الجليّ على الامام العظيم ، الذي زيّن الله كتابه بذكر أسمائه بقوله : ( إنَّهُ فِي اُمِّ الكِتَابِ لَدَينَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (١).

صاحب الكرامات السامية ، والمقامات العالية ، وجه الله الذي يتوجّه به إليه ، وسبيله الّذي بسلوكه يفوز السالكون فيه يوم العرض عليه ، ويده الباسطة في بلاده ، وعينه الباصرة في عباده ، وحبيبه حقّاً فمن فرط فيه فقد فرط في حبيب الله ، ولسانه صدقاً فمن ردّ عليه فقد ردّ على الله ، لما شرب بالكأس الرويّة من شراب ( يُحبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ ) (٢) ، وفاز بالدرجة العليّة من مقامات ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ ) (٣) ، قابل بوجه باطنه أنوار تجلّيات قيّوم الملكوت ، وظهرت بانعكاس مرآة كمال عرفانه أسرار صاحب العزّة والجبروت ، فصار قلبه مشكاة النور الإلهي من حضيرة جلاله ونفسه ، منبع السر الخفيّ من فيضان كماله.

جلّ أن يدرك وصفه بيان واصف ، أو يوصف قدره بنان راصف ، نقطة دائرة الموجودات فعليه مدارها ، وصفوة خلاصة الكائنات فهو قيّمها ومختارها ، من نحو منطقة يعرف الحقّ فما زيد وعمر؟ وإلى مصباح علمه يعشق الخلق فما خالد وبكر؟

من اعتقد أنّ الحقّ بميزان غير علومه يعرف فالوبال والنكال له وفيه ، ومن زعمّ أنّ الربّ بمنطق غير بيانه يوصف فالتراب بل الكثكث (٤) بفيه ، كلّيّ العلم وجزئيّه به يعرف ، وفضل العدل وجنسه برسمه وحده معرّف.

__________________

١ ـ سورة الزخرف : ٤.

٢ ـ سورة المائدة : ٥٤.

٣ ـ سورة النساء : ٨٣.

٤ ـ الكثكث : دُقاق التراب ، وفُتات الحجارة ؛ وقيل : التراب مع الحجر. « لسان العرب : ٢ / ١٧٩ ـ كثث ـ ».

٢١٥

لا شرف إلا لمن شرف باقتفاء آثاره ، ولا سؤدد إلا لمن استضاء بلوامع أنواره ، ولا عُرف إلا لمن تمسّك بأسبابه ، ولا عَرَف إلا لمن تمسّك بترابه ، فلك النجاة في بحار الضلالة ، وعلم الهداة في أقطار الجهالة ، من التجأ إلى كنف عصمته نجا ، ومن غوى عن طرق طريقته هوى ، لا يحبّه الا من علت همّته ، وغلت قيمته ، فطابت أرومته ، وارتفعت جرثومته.

فيا أيها العارفون بفضله ، المتمسّكون بحبله ، السالكون سبيله ، التابعون دليله ، أبشروا بروح وريحان (١) ، ومغفرة ورضوان ، وجنّات لكم فيها نعيم مقيم ، خالوين فيها أبداً إنّ الله عنده أجر عظيم (٢) ، قلتم ربّنا ثمّ استقمتم ، وسلكتم سبيل نبيّكم ووليّكم وتبتم ، فأنتم خلاصة الله في خلقه ، القائمون بوظائف عزائمه وحقّه ، فهنّأكم الله في هذا اليوم الرحمة ، وأتمّ عليكم النعمة ، وجعلكم خير اُمّة ، وسلك بكم سبيل سيد الأئمّة ، الذي ضربه الله مثلاً في محكم تنزيله ، وشدّ به عضد نبيّه ورسوله ، وهزم بعزمه الأحزاب ، وقصم بسيفه الأصلاب ، وجعل حبّه فارقاً بين الكفر والإيمان ، واتّباعه وسلة إلى الفوز بنعيم الجنان.

فانشروا في هذا اليوم أعلام الإسلام بنشر فضله ، وابشروا إذ سلكتم منهاج سبيله واستمسكتم بحبله ، وأظهروا آثار النعمة فهو يوم الزينة للمخلصين من أتباعه ، واشكروا حسن صنيع ربّكم إذ جعلكم من خاصّته وأشياعه ، وارعوا أسماعكم إلى ما أورد الرسول من شرفه في خطبته ، واستضيئوا بلوامع أنواره واستسنّوا بسنّته.

فقد روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أتمّ مناسك حجّه ، وفرغ من شعائر

__________________

١ ـ إقتباس من الآية : ٨٩ من سورة الواقعة.

٢ ـ إقتباس من الآية : ٢١ و ٢٢ من سورة التوبة.

٢١٦

عجّه وثجّه (١) ، ناداه الله بلسان التشريف مبيّناً فضله من لدنه ومكانته : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا اُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وَإن لَم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ ). (٢)

فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله تأخير بلاغها إلى دار هجرته ، ومستقرّ دعوته ، ظنّاً منه أنّها فريضة موسعة ، وأنّ الأمر فيه مندوحة وسعة ، وفَرَقاً من فرق الضالّين المضلّين ، الزالّين المزلّين ، أن يكذّبوا بالكتاب وحججه وبيّناته ، وأن يتّهموا الرسول فيما اُنزل عليه في وصيّه بمحاباته.

فعاتبه سبحانه على ترك الاولى مهدّداً ، ووعده العصمة على من لجّ في الباطل واعتدى ، وشرّف الله غدير خمّ بما أنزل فيه من الرحمة ، وأتمّ من النعمة.

فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه خاطباً على منبر الكرامة ، موضحاً فضل درجة الامامة ، هذا والجليل سبحانه يسدّده ، وروح القدس عن يمينه يمجّده ، وميكائيل عن يساره يعضده ، وجبرئيل معظم شانه وخطبه ، وحملة العرش مادّة أعناقها لاستماع الخطبة ، والروحانيّون وقوف على قدم الخدمة ، والكروبيّون صفوف لتلقّي نفحات الرحمة ، والحور العين من القصور على الأرائك ينظرون ، والولدان المخلّدون لنثار السرور منتظرون ، آخذاً بعضد من كان في المباهلة معاضده ومساعده ، وفي المصاولة عضده وساعده.

سيفه القاطع ، ونوره الساطع ، وصدّيقه الصادق ، ولسانه الناطق ، أخوه وابن عمّه ، والخصّيص به كابن اُمّه ، ليث الشرى (٣) ، غيث الورى ، أسد الله

__________________

١ ـ في الحديث : أفضل الحجّ العجّ والثجّ ، العجّ : رفع الصوت بالتلبية ، والثجّ صَبُّ الدم ، وسَيَلان دماء الهديِ ، يعني الذبح. « لسان العرب : ٢ / ٣١٨ ـ عجج ـ ».

٢ ـ سورة المائدة : ٦٧.

٣ ـ الشرى : موضع تُنسب إليه الاُسد. « لسان العرب : ١٤ / ٤٣١ ـ شري ـ ».

٢١٧

المحراب (١) ، حليف المسجد والمحراب ، قاصم العُداة ، وقاسم العِدات ، في المعركة ليث ، وفي المخمصة (٢) غيث ، طريقه أبلج ، ونهجه أوضح منهج ، بابه عند سدّ الأبواب مفتوح ، وصدره لتلقّي نفحات الرحمن مشروح.

كم عنيد بصارمه شدخ؟ وكم صنديد ببطشه دوّخ؟ وكم ريح للشرك أركد؟ وكم نار للظلم أخمد؟ وكم صنم جعله جذاذاً؟ وكم وثن تركه أفلاذاً؟ قسيم الجنّة والنار ، وسيّد المهاجرين والأنصار ، وحياة المجديين لدى الاغوار ، ونكال الظالمين يوم البوار ، جعله الله للمصطفى ختناً ونفساً ، وله الزهراء سكناً وعرساً ، ورفع له فوق عرش المجد عرشاً ، وخلقه أشدّ خلقة قوّة وإيماناً وبطشاً.

كم أسد بثعلب رمحه قنص؟ وكم صنديد حذراً من حسامه كعَ وقعص؟ أعلم من على وجه الأرض ، بالكتاب والسنّة والفرض ، الإيمان بحبّه منوط ، والكفر ببغضه مسوط (٣) ، أفصح من لفظ ، وأنصح من وعظ ، وأتقى من سجد لله وركع ، وأخشى من خشي الرحمن بالغيب وخضع ، حلل الإمامة ربّنا على هامة مجده أفرغ ، ولبوس الزعامة نبيّنا على قدّ قامته فصّل وأسبغ ، وله بالرئاسة العامّة فضّل وشرّف ، ولأسماع أوليائه بذكر مناقبه لَذّذ وشَنّفَ ، شهد الله له بالاخلاص وصدق ، لما انّه بخاتمه في ركوعه تصدّق.

الزاهد السالك ، العابد الناسك ، العالم العامل ، الوليّ الكامل ، صراط الله المستقيم ، ونهجه القويم ، وأمينه المأمون ، وخازن سرّه المخزون ، النجم في منزله هوى ، والرسول في نصبه علماً للمسلمين ما ضلّ وما غوى ولا ينطق عن

__________________

١ ـ المِحراب : شديد الحرب ، شُجاع. « لسان العرب : ١ / ٣٠٣ ـ حرب ـ ».

٢ ـ المخمَصة : الجوع ، المجاعة.

٣ ـ مَسوطٌ : أي ممزوجٌ ومخلوطٌ. « لسان العرب : ٧ / ٣٢٦ ـ سوط ـ ».

٢١٨

الهوى (١) ، المرجع في علم التوحيد إليه ، والمعوّل في معرفة الكتاب والسنّة عليه ، أجلّ العالمين جلالاً ، وأفصحهم مقالاً.

الامام الزكيّ القدسيّ الربّانيّ الإلهيّ ، أمير المؤمنين أبو الحسن عليّ الجليل العليّ ، حامداً لله حمداً يليق بجلال عظمته ، شاكراً لأنعمه شكراً يحسن بتمام نعمته ، موضحاً دين الحقّ في خطبته ، شارحاً قول الصدق في كلمته ، قائلاً : معاشر الناس ، ألست أولى منكم بأنفسكم؟

قالوا : بلى ، يا رسول الله.

قال : فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، ومن كنت نبيّه فعليّ إمامه ووليّه.

أيها الناس ، إنّ الله آخى بيني وبين عليّ ، وزوّجه ابنتي من فوق عرشه ، وأشهد على ذلك مقرّبي ملائكته ، فعليّ منّي وأنا من علي ، محبّه محبّي ، ومبغضه مبغضي ، وهو وليّ الخلق من بعدي.

معاشر الناس ، إنّ هذا اليوم وهو يوم غدير خمّ من أفضل أعياد اُمّتي ، وهو اليوم الذي أمرني الله فيه بنصب عليّ أخي علماً لاُمّتي ، يبيّن لهم ما اختلفوا فيه من سنّتي ، وهو أمير المؤمنين ، ويعسوب المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين.

أيها الناس ، من أحبّ عليّاً أحببته ، ومن أبغض عليّاً أبغضته ، ومن وصل عليّاً وصلته ، ومن قطع عليّاً قطعته ، ومن والى عليّاً واليته ، ومن عادى عليّاً عاديته.

أيها الناس ، أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها ، لا تؤتى المدينة إلا من قبل الباب ، وكذب من يزعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً.

__________________

١ ـ إشارة إلى الآيات : ١ ـ ٣ من سورة النجم.

٢١٩

أيها الناس ، والذي بعثني بالرسالة ، وانتجبني للنبوّة ، ما أقمت عليّاً علماً في الأرض حتى نوّه الله بذكره في السماء ، وفرض ولايته على سائر ملائكته.

ثم قلت عقيبها :

يا لها من خطبة نشر فيها صلى‌الله‌عليه‌وآله لواء الايمان ، وظهر منها رواء الإحسان ، وخفق علما لحقّ في الملكوت الأعلى ، وبرق بارق العدل في أقطار الدنيا ، فالملائكة المقرّبون مشغولون بتكرارها لاستظهارها ، والولدان المخلّدون مأمورون بإظهارها وإشهارها ، يحيي موات القلوب مزن سحابها ، وينشي نشوات السرور في النفوس رحيق شرابها ، وتنعش قلب المؤمن التقيّ بلذّة خطابها ، وتتعس جدّ المنافق الشقيّ بشدّة عتابها.

يا لها من خطبة الحقّ منبرها ، والصدق مخبرها ، والنبوّة أصلها ، والإمامة نسلها ، والنبيّ موردها ومصدرها ، والوصيّ موردها ومصدرها ، العهود فيها مؤكّدة ، والعقود مشدّدة ، والإيمان بامتثال نواهيها وأوامرها منوط ، والكفر بمخالفة بواطنها وظواهرها مَسُوط ، بلبل دوح فصاحتها يطرب أسماع القلوب بشهيّ نغمته ، وسربال جمال بلاغتها يروق أبصار البصائر بوشيّ صنعته.

دقّت لها كؤوس الحبور في الملكوت الأعلى ، واُديرت كؤوس السرور في جنّة المأوى ، وتلقّت الملائكة المقرّبون بالبشرى أهل التحقيق على مراكب التوفيق ، وطافت الولدان المخلّدون على أهل التصديق من الرحيق المختوم بأكواب وأباريق ، وفتح رضوان باب الرضوان بأمر المهيمن السلام ، وقال لأهل الولاية من المؤمنين : ( ادخُلُوهَا بِسَلامٍ ) (١) ، ومشى بين أيديهم قائماً بشرائط

__________________

١ ـ سورة الحجر : ٤٦ ، سورة ق : ٣٤.

٢٢٠