تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

الكبرى ، السويق ، ذي أمر ، اُحد ، نجران ، بنو سليم ، الأسد ، بنو النضير ، ذات الرقاع ، بدر الاُخرى ، دومة الجندل ، الخندق ، بنو قريظة ، بنو لحيان ، بنو قرد ، بنو المصطلق ، [ الحديبيّة ، خيبر ، الفتح ، حنين ، الطائف ] (١) ، تبوك ، بنو قينقاع. قاتل في تسع ، وهي : بدر الكبرى ، واُحد ، والخندق ، وبني قريظة (٢) ، وبني لحيان ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف.

وأمّا سراياه فستّ وثلاثون ، لا نطوّل بذكرها. (٣)

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قطب رحاها التي عليه تدور ، وفارسها البطل المشهور ، إلا تبوك ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّفه على المدينة لانّه علم أنّه لا يكون فيها حرب ، ولمّا لحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا رسول الله ، خلّفتني مع النساء والصبيان ، فردّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من اللحوق ، وقال : يا عليّ ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا انّه لا نبيّ بعدي ، انّ المدينة لا تصلح إلا بي أو بك (٤) ، فرجع صلوات الله عليه.

وكان المنافق يتخرّصون الاخبار ، ويرجفون (٥) في المدينة ، ويزوّدون

____________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ زاد في المناقب : وبني المصطلق.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ١٨٦ و ٢١٢ ، عنه البحار : ١٩ / ١٧٢ ح ١٨.

٤ ـ انظر : مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١٥ ـ ١٧ ، بحار الأنوار : ٣٧ / ٢٥٤ ـ ٢٨٩ ب ٥٣ ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل : ٥ / ١٨٢ ـ ١٩٠ حيث يتبيّن من خلالها انّ حديث المنزلة من حيث الأسانيد هو من أقوى الأحاديث والروايات الاسلاميّة التي وردت في مؤلّفات جميع الفرق الاسلاميّة بلا استثناء ، وانّ هذا الحديث يوضح لأهل الإنصاف من حيث الدلالة أفضليّة علي عليه‌السلام على الامّة جمعاء ، وأيضاً خلافته المباشرة ـ وبلا فصل ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥ ـ يتخرّصون : أي يفتعلون. ويرجفون : أي يخوضون في الأخبار السيّئة وذكر الفتن التي يكون معها اضطراب في الناس.

١٨١

الأحاديث ليشوّشوا على ضعفاء المؤمنين ، وكانوا كلّما ألقوا إلى المسلمين ما بيّنوه من الإفك والإرجاف أمرهم أمير المؤمنين بالصبر ، وأعلمهم أنّ ذلك لا حقيقة له ، إلى أن رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤيّداً منصوراً قد خضعت له رقاب المشركين ، والتزموا الشرائط شرطها عليهم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكفى أمير المؤمنين فخراً ودلالة على فضله وتقديمه ما صدر منه في بدر واُحد وخيبر والخندق ، فإنّ القتلى كانت سبعين ، قتل صلوات الله عليه بيده الشريفة ثمانية وعشرين ، وقيل : ستّة وثلاثين ، وقتلت الملائكة والناس تمام العدد.

موعظة جليلة

فرّغ نفسك أيها المؤمن متفكّراً بعين بصيرتك ، وأيقظ قلبك أيها المخلص ناظراً بعين باصرتك ، أما كان الله سبحانه قادراً على صبّ سوط عذابه (١) على من آذى نبيّه؟ أما كان جلّ جلاله عالماً عن نصب حبائل غوائله ، وناجر وليّه؟ أما كان في شدّة بطشه قوّة تزيل جبال تهامة عن مراكزها ، وتنسفها نسفاً (٢)؟ أما كان في عموم سلطانه قدرة أن يخسف الأرض بأهلها ، أو يسقط السماء عليهم كِسَفاً (٣) ، لما ارتكبوا من خلاف نبيّهم ما ارتكبوا ، واحتقبوا من كبائر الذنوب ما احتقبوا ، واتّخذوا الأصنام آلهة من دون مبدعهم وخالقهم ، واستقسموا بالأزلام عتوّاً على مالكهم ورازقهم ، وجعلوا له البنات ولهم البنين بجائر قسمتهم ،

__________________

١ ـ إقتباس من الآية : ١٣ من سورة الفجر.

٢ ـ إقتباس من الآية : ١٠٥ من سورة طه.

٣ ـ إقتباس من الآية : ٩٢ من سورة الإسراء.

١٨٢

وبحروا البحيرة ، وسيّبوا السائبة (١) ببدعة جاهليّتهم؟ أما كان سبحانه قادراً حين آذوا الرسول وراموا قتله على مسخهم قردة خاسئين (٢)؟ أكان عاجزاً لمّا أخرجوا نبيّهم أن ينزل عليهم ىية فتضلّ أعناقهم لها خاضعين (٣)؟

بلى هو القادر الّذي لا يعجزه شيء في الأرض ، ولا في الساء ، القاهر فلا يفلت من قبضة سطوته من دنا أو نأى ، الّذي لا يزيد في ملكه طاعة مطيع من عباده ، ولا ينقص من سلطانه معصية متهتّك بعباده ، لكنّه سبحانه أمهلهم بحلمه ، وأحصاهم بعلمه ، ولم يعاجلهم بنقمته ، ولم يخلهم من رحمته ، وفتح لهم أبواب الهدى إلى رضوانه ، وحذّرهم سلوك سبيل الردى إلى عصيانه ، وكلّفهم بالتكاليف الشاقّة من بعثتهم على طاعته ، وحذّرهم من الأعمال الموبقة بنهيهم عن مخالفته ، ونصب لهم أعلاماً يستدلّون بمنارهها من حيرة الضلالة في مدارج السلوك ، ونجوماً يهتدون بأنوارها من مداحض الجهالة ومهالك الشكوك.

ولمّا كان سبحانه منزّهاً عن العرض والجسم ، مقدّساً عن التركيب والقسم ، لا تخطر صفته بفكر ، ولا يدرك سبحانه ببصر ، ولا تعدّه الأيّام ، ولا تحدّه الأنام ، قصرت الأفكار عن تبصرة كماله ، وحارت الأنظار عن تحديد جلاله ، وحسرت الأبصار عن مشاهدة جماله ، وتاهت الأفهام في بيداء معرفته ، وكلّت الأوهام عن تعيين صفته.

لم يخلق سبحانه خلقه عبثاً ، ولم يتركهم هملاً بل أمرهم بالطاعة وندبهم إليها ، وكلّفهم بالعبادة وأثابهم عليها ، قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلَّا

__________________

١ ـ إقتباس من الآية : ١٠٣ من سورة المائدة.

٢ ـ إقتباس من الآية : ٦٥ من سورة البقرة ، والآية : ١٦٦ من سورة الأعراف.

٣ ـ إقتباس من الآية : ٤ من سورة الشعراء.

١٨٣

لِيَعبُدُونِ مَا اُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَمَا اُرِيدُ أَن يُطعِمونِ ) (١) ، والعبث لا يليق بحكمته ، والإغراء بالقبيح لا يحسن بصفته.

وجب في لطفه إعلامهم بما فيه صلاحهم في دنياهم واُخراهم ، وفي عدله تعريفهم مبدأهم ومنتهاهم ، وجعل لهم قدرة واختياراً ، ولم يجبرهم على فعل الطاعة وترك المعصية اضطراراً ، بل هداهم النجدين ، وأوضح لهم السبيلين.

ولمّا كانت كدورات الطبيعة غالبة على نفوسهم ، وظلمة الجهالة مانعة من تطهيرهم وتقديسهم ، والنفس الأمّارة تقودهم إلى مداحض البوار ، والشهوة الحيوانيّة تحثّهم على ارتكاب موبقات الأوزار ، والوسواس الخنّاس قد استولى بوساوسه على صدورهم ، وزيّن لهم بزخارفه مزالق غرورهم ، فوجب في عدله وحكمته إقامة من يسوقهم بسوط لفظه إلى ما يقرّبهم نم حضيرة جلاله ، ويزجرهم بصوت وعظه عمّا يوبق أحدهم في معاشه وماله ، إذ أنفسهم منحطّة عن مراتب الكمال ، غاوية في مسالك الوبال ، منخرطة في سلك أنّ النفس لأمّارة بالسوء الا من رحم (٢) ، غارقة في لجّة الجهل الا من عصم ، تقصر قواها عن تلقّي نفحات رحمته ، وتضعف مراياها لعدم جلاها عن مقابلة أشعّة معرفته.

فأقام سبحانه لهم حججاً من أبناء نوعهم ، ظاهرين في عالم الانسانيّة ، باطنين في عالم الروحانيّة ، فظواهرهم أشخاص بشريّة ، وبواطنهم أملاك عوليّة ، قد توّجهم سبحانه بتيجان الحكمة ، وأفرغ عليهم حلل العصمة ، وطهّرهم من الأدناس ، ونزّههم عن الأرجاس ، فشربوا من شراب حبّه (٣) أشغلهم به عمّن سواه ، واطّلعوا على أسرار ملكوته فما في قلوبهم إلا إيّاه ، لما انتشت نشاءة

__________________

١ ـ سورة الذاريات : ٥٦ و ٥٧.

٢ ـ إقتباس من الآية : ٥٣ من سورة يوسف.

٣ ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : حبّهما.

١٨٤

نفوسهم من رحيق خطابه في عالم الذرّ ، وسكنت هيبة عزّة جلاله شغاف قلوبهم حين أقرّ من أقرّ ، وأنكر من أنكر ، لم تزل العناية الأزليّة تنقلهم من الأصلاب الفاخرة إلى الأرحام الطاهرة ، والألطاف الإلهيّة تمنحهم شرف الدنيا والآخرة.

جعلهم سبحانه السفراء بينه وبين عباده ، والاُمناء على وحيه في سائر أنامه وبلاده ، بشّرت الأنبياء الماضية بظهورهم ، وأشرقت السماوات العالية بساطع نورهم ، كتب أسماءهم على سرادقات عرشه المجيد ، وأوجب فرض ولايتهم على عباده من قريب وبعيد ، كلّفهم بحمل أعباء رسالته ، وجعلهم أهلاً لأداء أمانته ، يتلقّون بوجه باطنهم أنوار سبحات جمال عزّته ، ويقابلون بظاهر ضياء محاسن بهجاتهم عباده فيهتدون بنورهم إلى نعيم جنّته ، ( عِبَادٌ مُكرَمُونَ لَا يَسبِقُونَهُ بالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم وَلَا يَشفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارتَضَى وَهُم مِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ ) (١).

أصلهم نبيّ تمّمت به النبوّة ، وكملت به الفتوّة ، وانتهت إليه الرئاسة العامّة ، وخصّ من الله بالكلمة التامّة ، وأيّده سبحانه بنصره في المواطن المشهورة ، وأظهره بقهره على أعدائه في حروبه المذكورة ، وشدّ أزره بوصيّه المرتضى ، وشيّد ملّته بصفيّه المجتبى ، صارم نقمته ، وحامي حوزته ، الّذي لم يخلق الله خلقاً أكمل منه من بعده ولا قبله ، ولم يدرك مدرك شأوه (٢) ولا فضله ، ولا أخلص مخلص لله إخلاصه ، ولا جاهد مجاهد في الله جهاده من العامّة والخاصّة.

إن دارت حرب فهو قطب رحاها ، أو توجّهت آمال فهو غاية رجاها ، أو ذكر علم فهو مطلع شمسه ، أو اشتهر فضل فهو قالب نفسه ، باب علم مدينة

__________________

١ ـ سورة الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٨.

٢ ـ الشَأوُ : الغاية ، الأمد ، السَبق.

١٨٥

المصطفى ، وقاضي دَينه ، ومنجز عداته ، وقاضي دينه ، طال بقوادم الشرف لمّا على بقدمه على الكتف.

ناداه البيت الحرام بلسان الحال ، وناجاه الركن والمقام بمعاني المقال : يا صاحب النفس القدسيّة ، ويا منبع الأسرار الخفيّة ، ويا مطلع الأنوار الإلهيّة ، ويا دفتر العلوم الربّانية ، أما ترى ما حلّ بي من الأرجاس؟ أما تنظر ما اكتنفني من الأدناس؟ الأنصاب حولي منصوبة ، والأزلام في عراصي مضروبة ، والأصنام مرفوعة على عرشي ، والأوثان محدّقة بفرشي ، تنضح بالدماء جدراني ، وتستلم الأشقياء أركاني ، ويعبد الشيطان في ساحتي ، ويسجد لغير الرحمن حول بَنيّتي.

فالغوث الغوث يا صاحب الشدّة والقوّة ، والعون العون يا رب النجدة والفتوة ، خذ بمجامع الشرف بخلاصي واستنقاذي ، وفز بالمعلّا من سهامه فيك معاذي وملاذي.

ولمّا شاهد ربّ الرسالة العامّة تضرّعها بوصيّه ، وعاين صاحب الدعوة التامّة تشفّعها بوليّه ، ناداه بلسان الاخلاص في طاعة معبوده ، وأنهضه بيد القوّة القاهرة لاستيفاء حدوده ، وفتح له إلى سبيل طاعة ربّه منهاجاً ، وجعل كتفه الشريفة بأمر ذي المعارج لأخمصه (١) معراجاً ، وأمره بتسنّم (٢) ذروة بيت ربّه ، وتنزيهه عن الرجس من الأوثان بقالبه وقلبه ، وتكسير صحيح جمعها بيد سطوته ، وإلقاء هبلها عن ظهره بشدّة عزمته.

روي بحذف الأسناد عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : دخلنا مكّة

__________________

١ ـ الأخمص : باطنُ القَدَم وما رقّ من أشفلها وتجافى عن الأرض ؛ وقيل : الأخمَصُ خَصرُ القدم. « لسان العرب : ٧ / ٣٠ ـ خمص ـ ».

٢ ـ سَنَّم الشيء وتَسَنّمه : علاه. « لسان العرب : ١٢ / ٣٠٦ ـ سنم ـ ».

١٨٦

يوم الفتح مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في البيت وحوله ثلاثمائة وستّون صنماً ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاُلقيت جميعها على وجوهها ، وأمر بإخراجها ، وكان على البيت صنم ـ لقريش ـ طويل يقاله له « هبل » ، وكان من نحاس على صورة رجل موتّد بأوتادٍ من حديد إلى الأرض في حائط الكعبة.

قال أمير المؤمنين : فقال لي رسول الله : اجلس ، فجلست إلى جانب الكعبة ، ثمّ صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على منكبي ، ثمّ قال لي : انهض بي ، فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي عنه ، قال : اجلس ، فجلست وأنزلته عنّي ، فقال : قم ـ يا علي ـ على عاتقي حتى أرفعك ، فأعطيته ثوبي ، فوضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عاتقه ، ثمّ رفعني حتى وضعني على ظهر الكعبة ، وكان طول الكعبة أربعين ذراعاً ، فو الّذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لو أردت أن أمسك السماء بيدي لمسكتها.

وروي أنّه صلوات الله عليه لمّا عالج قلعه اهتزّت الكعبة من شدّة معالجته ، فكسره وألقاه من فوق الكعبة إلى الأرض ، ثم نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انزل ، فوثب من أعلى الكعبة كأنّ له جناحين. (١)

وقيل : إنّه صلوات الله عليه تعلّق بالميزاب ، ثمّ أرسل نفسه إلى الأرض ، فلمّا سقط صلوات الله عليه ضحك ، فقال النبي : ما يضحكك يا علي ، أضحك الله سنّك؟

قال : ضحكت ـ يا رسول الله ـ متعجّباً من انّي رميت بنفسي من فوق البيت إلى الأرض فما تألّمت ، ولا أصابني وجع!

____________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، وفيه عن جابر بن عبد الله ؛ وعن أبي مريم ، عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ؛ وعن ابن عبّاس.

١٨٧

فقال : كيف تتألّم يا أبا الحسن أو يصيبك وجع؟! إنّما رفعك محمد ، وأنزلك جبرئيل. (١)

وروي أنّ عمر تمنّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكسره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الذي عبده لا يكسره.

ولمّا صعد أبو بكر المنبر في بدء أمره نزل عن مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرقاة ، فلمّا صعد عمر نزل عن مقام أبي بكر مرقاة ، فلمّا صعد عثمان نزل عن مقام عمر مرقاة ، فلمّا تولّى أمير المؤمنين صلوات الله عليه صعد إلى مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسمع من الناس ضوضاء ، فقال : ما هذا الذي أسمع؟

قالوا : لصعودك إلى مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يصعد إليه مَن تقدّمك.

فقال عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من قام مقامي ولم يعمل بعملي أكبّه الله في النار ، وأنا والله العامل بعمله ، الممتثل قوله ، الحاكم بحكمه ، فلذلك قمت هنا.

ثمّ ذكر في خطبته ، فقال : معاشر الناس ، قمت مقام أخي وابن عمّي لأنّه أعلمني بسرّي وما يكون منّي ، فكأنّه صلوات الله عليه قال : أنا الّذي وضعت قدمي على خاتم النبوة ، فما هذه الأعواد؟ أنا من محمد ومحمد منّي.

وقال صلوات الله عليه في خطبته (٢) : أنا كسرت الأصنام ، أنا رفعت

__________________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ١٤١.

وانظر الغدير : ٧ / ١٢.

٢ ـ في المناقب : خطبة الافتخار.

١٨٨

الأعلام ، أنا ثبّتّ الاسلام.

[ قال ابن نباتة : حتّى شدّ به أطناب الاسلام ، وهدّ به أحزاب الأصنام ، فأصبح الايمان فاشياً بأقياله ، والبهتان متلاشياً بصياله ] (١) ، ولمقام إبراهيم شرف على كل حجر لكونه مقاما لقدم إبراهيم ، فيجب أن يكون قدم عليّ أشرف من رؤوس أعدائه لأن مقامه كتف النبوّة ، والغالية والمشبّهة من المجبّرة يقولون أكثر من هذا. (٢)

حتى روت المجبّرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لمّا بلغت سدرة المنتهى ليلة المعراج وضع الجليل سبحانه يده على كتفي فأحسست ببردها على كبدي. (٣)

وقيل في ذلك شعراً :

قيل لي قل في عليّ المرتضى

مـدحاً يطفىء (٤) ناراً موقده

قلت لا يبلغ مـدحي (٥) رجلاً

حار ذو الجهل إلى أن عبده

وعـليّ واضــع أقـدامـه

فـي مقام (٦) وضع الله يده (٧)

وقيل أيضاً :

__________________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٣ ـ أورد مثل هذا الشهرستاني في الملل والنحل : ١ / ٩٧ في « مشبهة الحشويّة » بهذا اللفظ : حتى وجدت برد أنامله على كتفي.

٤ ـ في المناقب : كلمات تطفىء.

٥ ـ في المناقب : قولي.

٦ ـ في المناقب : وعليّ واضعاً رجلاً له ... بمكان.

٧ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ١٣٧ ناسباً الأبيات إلى أبي نؤاس.

وانظر الغدير : ٧ / ١٢.

١٨٩

قالوا مدحت عليّ الطهر قلت لهم

كلّ امتداح جميع الأرض معناه

مـاذا أقـول بـمن حطّت له قدم

في موضع وضع الرحمن يمناه (١)

فيا من يتصدّى سواه للامامة ، ويدوك (٢) للزعامة ، ويضعف سباله ، ويرجل قذاله ، وينتقص كمال الكامل ، وينكر فضل الفاضل ، ويكاثر بكثرة الأتباع ، ويفاخر بالهمج الرعاع ، يسبه الظمآن ماءً ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ويظنّه الجاهل إماماً وقد ضرب الحمق على هامته من الجهل ، ظلّاً وفيئاً ، يدير لسانه في لهواته إذا سئل ، ويجمد ريقه في بلعومه إذا جودل ، يظنّ أنّه الفاصل الأعلم ، وهو أجهل من البازل الأعلم ، ويعذر انّه علم السنّة ، وهو أضلّ الحقّ والسنة.

تنحّ عن رتبة وليّ الحق في الخلق ، وميزان القسط والصدق ، لفظه جلاء القلوب ، ووعظه شفاء الكروب ، ومعلّمه رب العالمين ، ومؤدّبه سيد المرسلين ، ينصب له كل يوم علماً من علمه ، ويفتح له باباً م حِكَمِهِ وحُكمِهِ ، يتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، ويلازمه ملازمة شعاره (٣) لجسمه.

ويك اربع على ضلعك ، وتفكّر في أصلك وفرعك ، وطالع مراءة عقلك بعين الانصاف ، واحذر ارتكاب طريقة الوقاحة والاعتساف ، أليست اُمّك صهاك؟ أليس الخطّاب أباك؟ ألست جاحد النصوص على أهل الخصوص؟ ألست منكّس الراية يوم القموص؟ أما في حنين وأوطاس كنت أوّل المدبرين

__________________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ١٣٧. وفيه « لمن » بدل « بمن ».

٢ ـ في حديث خيبر : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لاُعطينّ الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه ، فبات الناس يَدوكون تلك الليلة فيمن يدفعها اليه ، قوله : يَدوكون أي يخوضون ويموجون ويختلفون فيه. والدَّوك : الاختلاط. وقع القوم في دَوكَةٍ ودوُكة وبوح أي وقعوا في اختلاط من أمرهم وخصومة وشرّ. « لسان العرب : ١٠ / ٤١٠ ـ دوك ـ ».

٣ ـ الشِّعار : ما ولي شَعَرَ جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب ... وفي المثل : هم الشِعار دون الدِثار ، يصفهم بالمودّة والقرب. « لسان العرب : ٤ / ٤١٢ ـ شعر ـ ».

١٩٠

من الناس؟ أأنت قاتل عمرو ومفرّق جموعه؟ أأنت المتصدّق بخاتمه في ركوعه؟ أرضيك الرسول دون الخلق صهراً؟ أم أوردك في الغدير من غدير الشرف ورداً وصدراً؟

ويحك قف عند حدّك ، ولا تفاخر بأبيك وجدّك ، ولا تجار فرسان المجد فتضلّ في الحلبة طريحاً ، ولا تساجل (١) أبطال الفخر فتصبح بسيوف الفضيحة طليحاً.

يا مغرور غرّتك دار الغرور ، يا مثبور (٢) وفتنتك ببطشها المشهور ، وزيّنت لك سوء عملك فرأيته حسناً ، فغادرتك بموبقات سيّئاتك مرتهناً ، وعن قليل يسفر الصباح ، ويرى المبدع في دين الله ما حضر وأباح ، ويكشف الجليل لك عن وجه غفلتك حجاباً ، ويقوم الروح والملائكة صفّاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً (٣) ، ويقف سيد المرسلين ، ووصيه سيد الوصيّين ، وابنته سيّدة نساء العالمين ، ثم يؤتى بك موثوقاً بأغلالك ، مرتهناً بأعمالك ، يتبرّأ منك أتباعك ، ويلعنك أشياعك ، وملائكة العذاب تدعك إلى النار دعّاً ، والزبانية تسفعك بعذبات العذاب سفعاً.

فعندها يجثو سيد المرسلين للخصومة ، ويقف وصيّة المظلوم وابنته وينادى عليك باسمك ، ويظهر للناس بعض حدّك ورسمك ، وينظر في ديوان حسابك ، وتتهيّأ ملائكة العذاب لأخذك وعذابك ، ويقال لك على رؤوس الأشهاد ومجمع العباد : يا قاطعاً رحم نبيّه ، يا جاحداً فضل وليّه ، يا منكراً نصّ الغدير ، يا ظالماً أهل آية التطهير ، ألست القائل : إنّ نبيّكم ليهجر ، وقد قال الله في

__________________

١ ـ ساجَلَ الرَّجُلَ : باراه ... والمساجَلة : المفاخرة. « لسان العرب : ١١ / ٣٢٦ ـ سجل ـ ».

٢ ـ المثبور : المغلوب ، الملعون ، المطرود ، المعذّب ، المحبوس.

٣ ـ إقتباس من الآية : ٣٨ من سورة النبأ.

١٩١

شأنه : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ) (١)؟ ألست الزاعم أنّه غوى في حبّ وصيّه ، والله يقول : ( مَا ضَلََّ صَاحِبُكمُ وَمَا غَوَى ) (٢)؟ ألست المسند إلى رسول « ما تركناه صدقة » (٣)؟

فلعن الله الحديث ومتخرّصه ومصدّقه ، أما كان جزاء من أكلت الدنيا بسلطانه ترك فدك لذرّيّته؟ أما كان في شرع المروّة التغافل عن بقعة من الأرض ذات الطول والعرض لعترته؟ هنالك تصحو من خمار خمرتك ، وتفيق من غمار غمرتك ، ويحقّ الحقّ ، ويأتي النداء من قبل الحق : ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلسِلَةٍ ذَرعُهَا سَبعُونَ ذِرَاعاً فَاسلُكُوهُ إنَّهُ كَانَ لَا يُؤمِنُ بِاللهِ العَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ فَلَيسَ لَهُ اليَومَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إلَّا مِن غِسلِينٍ ) (٤) فتجرّ مصفّداً ، وتسحب مقيّداً ، وتلقى في الجحيم مركوساً ، وتقذف في الحميم منكوساً ، في شرّ سجن قعرها هاوية ، وسجنتها زبانية ، وما أدراك ما هي نار حامية. (٥)

روي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب فقال : ما لنا وقريش ، وما تنكر منّا قريش غير أنّا أهل بيت شيّد الله فوق بنيانهم بنياننا ، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا ، واختارنا الله عليهم ، فنقموا عليه أن اختارنا عليهم ،

____________

١ ـ سورة النجم : ٣.

٢ ـ سورة النجم : ٢.

٣ ـ انظر : طبقات ابن سعد : ٨ / ٢٨ ، صحيح البخاري : ٤ / ٩٦ ـ ٩٨ ، وج ٥ / ٢٥ وص ١١٤ ـ ١١٥ وص ١٧٧ ، وج ٧ / ٨٢ ، وج ٨ / ١٨٥ ، وج ٩ / ١٢٢ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٣٨٠ ح ١٧٥٩ ، الملل والنحل : ١ / ٣١.

٤ ـ سورة الحاقّة : ٣٠ ـ ٣٦.

٥ ـ إقتباس من الآية : ١٠ و ١١ من سورة القارعة.

١٩٢

[ وسخطوا ما رضي الله ، وأحبّوا ما كره الله ، فلمّا اختارنا عليهم ] (١) شركناهم في حريمنا ، وعرّفناهم الكتاب والسنّة ، وعلّمناهم الفرائض والسنن ، وحفظناهم الصدق والدين (٢) ، فوثبوا علينا ، وجحدوا فضلنا ، ومنعونا حقّنا ، والتوونا أسباب أعمالنا.

اللهم فإنّي أستعديك على قريش ، فخذ لي بحقّي منها ، ولا تدع مظلمتي لها ، وطالبهم ـ يا ربّ ـ بحقّي فإنّك الحكيم (٣) العدل ، فإنّ قريشاً صغّرت قدري ، واستحلّت المحارم منّي ، واستخفّت بعرضي وعشيرتي ، وقهرتني على ميراثي من ابن عمّي ، وأغروا بي أعدائي ، ووتروا بيني وبين العرب (٤) ، وسلبوني ما مهّدت لنفسي من لدن صباي بجهدي وكدّي ، ومنعوني ما خلّفه أخي وحميمي وشقيقي (٥) ، وقالوا إنّك لحريص متّهم.

أليس بنا اهتدوا من متاه الكفر ، ومن عمى الضلالة ، وغيّ الظلماء؟ أليس أنقذتهم من الفتنة الصمّاء العمياء (٦)؟ ويلهم ألم اُخلّصهم من نيران الطغاة (٧) ، وسيوف البغاة ، ووطأ الاُسد ، ومقارعة الطماطمة (٨) ، ومجادلة القماقمة الّذين

__________________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ في المناقب : اللين ، وديّنّاهم الدين والاسلام.

٣ ـ في المناقب : الحكم.

٤ ـ في المناقب : العرب والعجم.

٥ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وجسمي وشفيقي.

٦ ـ في المناقب : الفتنة الظلماء والمحنة العمياء.

٧ ـ زاد في المناقب : وكره العتاة.

٨ ـ في المناقب : الصماء.

طَميم الناس : أخلاطهم وكثرتهم. والطَّمْطَمَةُ : العُجمة. والطماطِم : هو الأعجم الذي لا يُفصِح. « لسان العرب : ١٢ / ٣٧١ ـ طمم ـ ».

١٩٣

كانوا عجم العرب ، وغنم الحرب (١) ، وقطب الأقدام ، وحبال (٢) القتال ، وسهام الخطوب ، وسلّ السيوف؟ أليس بي تسنّموا (٣) الشرف ، ونالوا لاحق والنصف؟ ألست آية نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودليل رسالته ، وعلامة رضاه ، وسخطه الّذي يقطع بي الدرع الدلاص ، ويصطلم (٤) الرجال الحراص ، وبي كان يبري جماجم البهم (٥) وهام الأبطال إلى أن فزعت تيم إلى الفرار ، وعديّ إلى الانتكاص. (٦)

ألا وإنّي لو أسلمت قريشاً للمنايا والحتوف وتركتها لحصدتها سيوف الغواة ، ووطأتها الأعاجم ، وكرّات الأعادي ، وحملات الأعالي ، وطحنتهم سنابك الصافنات (٧) ، وحوافر الصاهلات ، في مواقف الأزل والهزل (٨) ، في طلاب الأعنّة ، وبريق الأسنّة ، ما بقوا لهظمي ، ولا عاشوا لظلمي ، ولما قالوا : إنّك لحريص [ متّهم ] (٩).

ثم قال بعد بكلام :

__________________

١ ـ أي الذين يطلبون غنائمها.

٢ ـ في المناقب : جبال.

٣ ـ تسنّم الشيء : علاه وارتفع به.

٤ ـ الدلاص : الليّن البرّاق الأملس. واصطلم : استأصل وأباد.

٥ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : الهمم.

والبهم : جمع بهمة : الفارس الذي لا يبالي في الحرب من شدّة بأسه.

٦ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : إلى أن قرعت بهم إلى الفرار ، وعديّ إلى الانتقاص.

٧ ـ السنابك : أطراف الحوافر. والصافنات : جمع الصافن : وهو الفرس القائم على ثلاث قوائم ، وطرف الحافر الرابعة. « المعجم الوسيط : ١ / ٤٥٣ و ٥١٧ ».

٨ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : والقول.

والأزل : شدّة الزمان ، وضيق العيش. والهزل : الضعف ، والهذيان واسترخاء الكلام.

٩ ـ من المناقب. وفي الأصل عبارة « ما بقوا ... » فيها تصحيف.

١٩٤

ألا وإنّي فتحت الاسلام ، ونصرت الدين ، وعزّزت الرسول ، وثبّتّ (١) أعلامه ، وأعليت مناره ، وأعلنت أسراره ، وأظهرت أثره وحاله ، وصفيت الدولة ، ووطأت الماشي (٢) والراكب ، ثمّ قدتها صافية على أنّي بها مستأثر.

[ ثم قال بعد كلام : ] (٣)

سبقني إليها التيمي والعدوي كسباق الفرس احتيالاً واغتيالاً وخدعة وغيلة.

ثم قال بعد كلامه :

يا معشر المهاجرين والأنصار ، أين كانت سبقة تيم وعديّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة [ ألا كانت ] (٤) يوم الأبواء ، إذ تكافت الصفوف ، وتكانفت الحتوف (٥) ، وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ودّ إذ شمخ بأنفه ، وطمح ببصره؟

ولِمَ [ لم ] (٦) يشفقا على الدين وأهله يوم بواط إذ اسودّ الاُفق ، واعوجّ عظم العنق (٧)؟

ولِمَ لم يشفقا يوم رضوى إذ السهام تطير ، والمنايا تسير ، والاُسد تزأر؟

وهلا بادرا يوم العشيرة إذ الأسنان [ تصطكّ ، والآذان ] (٨) تستك ، والدروع تهتك؟

__________________

١ ـ في المناقب : وبنيت.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : للماضي.

٣ و ٤ و ٦ و ٨ ـ من المناقب.

٥ ـ في المناقب : إذ تكاثفت الصفوف ، وتكاثرت الحتوف.

٧ ـ زاد في المناقب : وانحلّ سيل الغرق.

١٩٥

وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر إذ الأرواح في الصعداء ترتقي ، والجياد بالصناديد ترتدي ، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟

ولِمَ لم يشفقا على الدين يوم بدر الثانية ، والدعاس ترعب ، والأوداج تشخب ، والصدور تخضب؟

وهلا بادرا ذات الليوث (١) وقد أمجّ التولب (٢) ، واصطلم الشوقب ، وادلّهم (٣) الكوكب.

[ ولم لا كانت شفقتهما على الاسلام يوكد الأكدر ] (٤) ، والعين تدمع ، والمنيّة تلمع ، والصفائح تنزع.

ثم عدّد وقائع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال : فإنّهما كانا في النظارة.

ثمّ قال : فما هذه الدهماء والدهياء التي وردت علينا (٥) من قريش؟ أنا صاحب هذه المشاهد ، وأبو هذه المواقف ، وابن هذه الأفعال الحميدة ـ إلى الآخر الخطبة ـ.

ومن جملة قصيدة للناشئ رحمة الله عليه :

فلِمَ لم يثـوروا (٦) ببدرٍ وقد

تبلت من القوم إذ بارزوكا؟

ولِمَ عرّدوا إذ شجيت العدى

بمهراس اُحد وقد (٧) نازلوكا؟

____________

١ ـ أي غزوة حنين.

٢ ـ أمجّ : جَرى جَرياً شديداً. والتولب : ولد الأتان من الحمار الوحشي إذا استكمل الحول.

٣ ـ الشوقب : الطويل من الرجال ، النعام ، الإبل. وادلّهم : اشتدّ ظلامه.

٤ ـ من المناقب : وفيه « والعيون » بدل « والعين ».

٥ ـ كذا في المناقب ، ,في الأصل : عليها.

٦ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : تثور. والتبل : الثأر.

٧ ـ في المناقب : ولِمَ؟

وعرد : هرب. والمهراس : صخرة منقورة تسع كثيراً من الماء ، وقد يعمل منه حياض للماء ، وهو هنا اسم ما باُحد.

١٩٦

ولِمَ أجمحوا يوم سلعٍ (١) وقد

ثبتّ لـعمـرو ولِمَ أسـلموكا؟

ولِمَ يوم خيبـر لـم يثـبتوا

بـرايـة (٢) أحمد واستركبوكا؟

فلاقيت مرحباً والعنـكبوت

واسـداً يحـامـون إذ واجهوكا

فدكدكت حصـنهم قــاهراً

وطوّحت بالبـاب إذ حاجـزوكا

ولَم يحضروا بحـنين وقـد

صككت بنفسك جيـشاً صـكوكا

فأنت المقدّم فـي كـلّ ذلك

فلـلّه درّك لِـمَ أخّـــروكـا؟

ومن نهج البلاغة :

اللهم إنّي أستعديك على قريش ، فإنّهم [ قد ] (٣) قطعوا رحمي ، وكفروا آياتي (٤) ، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري ، وقالوا : ألا [ إنّ ] (٥) في الحق أن تأخذه ، وفي الحقّ [ أن ] (٦) تُمنعه ، فاصبر مغموماً ، أو مُت متأسّفاً ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا ذابّ (٧) ولا مساعد ، إلا أهل بيتي ، فَضَننتُ (٨) بهم عن المنيّة ، فأغضيت على القذى (٩) ، وجرعت ريقي على الشَجا (١٠) ، وصبرت على الأذى ، ووطّنت (١١) نفسي على كظم الغيظ ، وما هو أمرّ

__________________

١ ـ الجمح : استعمل بمعنى إدامة النظر مع فتح العين. وسلع : موضع بقرب المدينة.

٢ ـ في المناقب : صحابة.

٣ و ٥ و ٦ ـ من النهج والمناقب.

٤ ـ في النهج : وأكفَؤوا إنائي. وهنا كناية عن تضييع الحقّ.

٧ ـ الرافد : المعين. والذابّ : المدافع.

٨ ـ أي بخلتُ.

٩ ـ القذى : ما يقع في العين ، ومراده عليه‌السلام : غضضت الطرف عنه.

١٠ ـ الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه ، يريد به غصّة الحزن.

١١ ـ في المناقب : وطبت .. وحر. وفي النهج : وصبرتُ من كظم الغيظ على أمرّ من العَلقم ، وآلمَ للقلب من وَخزِ الشّفار.

١٩٧

من العلقم ، وآلم من حزّ الشفار.

وكذلك قوله صلوات الله عليه في خطبته الشقشقيّة : أما والله لقد تقمّصها (١) ابن أبي قحافة ـ إلى آخرها ـ. (٢)

إذا تقرّر هذا فاعلم ـ أيها المؤمن ـ [ أنّ ] (٣) الدنيا لم تزل مصائبها مولعة بالأنبياء والمرسلين ، ومطالبها عسرة على الأولياء الصالحين ، وأبناءها لم تزل ترمي بسهام حسدها من شيّد الله بالتقوى بنيانه ، وشدّ بالاخلاص أركانه ، وأعلى بالطاعة مجده ، وأسعد بالجدّ جدّه ، يحسد دنيّهم شريفهم ، ويظلم قويّهم ضعيفهم ، فتفكّروا في رأس أبنائها ، وأساس زعمائها ، أوّل كل حاسد ، وأصل كلّ مارد ، أعني الشيطان المغوي ، والفتّان المردي ، كيف افتخر بعنصره النوراني ، وأصله النيرانيّ ، ورمى صفيّ الله المجتبى عن قوس غروره ، وأصمى منه المعابل بنبال فجوره ، وأخرجه وروحه من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ، ويبدي لهما سوآتهما ، فلعنه الله بما أبدى من حسده ، وأبان عن سوء معتقده ، وأخرجه من نعيم جنّته ، وقلّدته بشوقته طوق لعنته ، فطلب النظرة منه سبحانه إلى يوم الدين ، فقال : ( أنظِرنِي إِلَى يَومِ يُبعَثُونَ ) (٤) فقال سبحانه : ( إنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ) (٥) فقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لَاغوِيَنَّهُم أجمَعِينَ إلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ ) (٦).

ثمّ ينظره سبحانه كرامة به عليه ولم يمهله لمنفعة واصلة منه إليه ، ولكن

__________________

والعلقم : الحنظل. والشِفار : جمع شفرة : حدّ السيف ونحوه.

١ ـ أي لبسها كالقميص.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٤ ، نهج البلاغة : ٣٣٦ خطبة ٢١٧ وص ٤٨ خطبة ٣.

٣ ـ أثبتناه لضرورة السياق.

٤ و ٥ ـ سورة الأعراف : ١٤ و ١٥. وانظر الآيتين : ٧٩ و ٨٠ من سورة ص.

٦ ـ سورة ص : ٨٢ و ٨٣.

١٩٨

أراد سبحانه ليبلو عباده أيّهم أشدّ مخالفة لأمره ، وحذراً من زروه ومكره ، وتباعداً من موبقات زخارفه ، وفراراً من موديات مواقفه ، فصدق اللعين عليهم ظنّه ، زيّن لهم ما فرض عليهم وسنّه ، فاتّبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ، وعبدوه إلا قليلاً من المخلصين ، واتّخذوه ربّاً دون خالقهم ، وابتغوا عنده الرزق دون رازقهم ، ونصروا أولياءه ، وقهروا أعداءه ، وذهبوا بهم كلّ مذهب ، وسدّوا عليهم كلّ مطلب ، واتّخذوا الأوثان أرباباً ، والأصنام أنصاباً ، وقتلوا النبيّين ، وفتنوا المؤمنين.

فهم أبناؤه المخلصون في طاعته ، والمناصحون في متابعته ، زيّن لهم دينه ، فاتّبعوا قوله وفعله ، وموّه لهم سبيله ، فاتّخذوه وجهة وقبلةً ، وبحروا له البحيرة ، وسيّبوا السايبة ، ووصلوا الوصيلة بأحلامهم العازبة ، فالصبور الشكور نوح ، والخليل والكليم والروح ، كم نصبت أسلافهم لهم العداوة والبغضاء ، وأغرت أخلاقهم بهم السفهاء؟ حتى نادى نوح : ربّ ( أنّي مَغلُوبٌ فَانتَصِر ) (١) ، واُلقي الخليل في نار ضرامها يستعر ، وفرّ الكليم من الظالم الأشر ، وابن مريم لولا انّ الله تعالى رفعه إلى سمائه لأحلّوا به الشيء النكر.

ثمّ لم يزل الأشرار من أشياعه ، والفجّار من أتباعه ، والأرجاس من ذرّيّته ، والأوغاد من حفدته ، ترفع بالأنبياء (٢) أوصياءهم ، وتقصد بالأذى المخلصين من أوليائهم ، إلى أن انتهت النوبة إلى سيّد المرسلين ، وخاتم النبيّين ، فنصبوا له غوائلهم ، وفوّقوا نحوه معابلهم ، حتى قتلوا في بدر واُحد أهله ، وراموا بجدّهم وجمعهم قتله ، وأخرجوه عن عقر داره ، وطردوه عن محلّ قراره ، وحزّبوا أحزابهم على حربه ، وركبوا الصعب والذلول في طلبه ، وضربوا بطون

__________________

١ ـ سورة القمر : ١٠.

٢ ـ كذا في الأصل.

١٩٩

دواخلهم لمتاجرته ، وأغروا سفهاءهم وجهّالهم بمحاورته.

ولم يزل الله الله سبحانه مؤيّداً له بنصره ، مشيّداً بنيانه بأخيه وصهره ، قاصماً فقرات ظهور اُولي النفاق بمشهور فقاره ، قامعاً هامات ذوي الشقاق بمشحوذ غراره ، مظهراً دين الاسلام بشدّة عزمته ، مدمّراً حزب الشيطان بعالي همّته ، حتى أعلى الله بسيفه كلمة الاسلام وشيّدها ، وأيّد ملّة الإيمان وأيّدها ، وفلّ جنود الطغيان وفرّقها ، وأذلّ جموع العدوان ومزّقها ، وقتل من قريش أبطالها وطواغيتها ، وألقى عن البيت الحرام أنصابها وجوابيتها.

ولمّا علم الله أنّه لا مزيد على تعنّيه وإخلاصه ، ولا أقرب إلى الرسول من قرباه واختصاصه ، توّجه بتاج العصمة والزعامة ، وجعل الامامة فيه وفي نسله إلى يوم القيامة.

ولمّا أكمل الله دين الحقّ وأظهره ، ونصب علم العدل ويسّره ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، وسلكوا إلى سبيل رضوان الله منهاجاً ، أراد الله أن ينقل نبيّه من داره الفانية إلى داره الباقية ، وأن يتحفه بالحياة الدائمة في الجنّة عالية ، أنزل عليه بعد أن فتح حصون الشرك ودمّرها ، وأعلى كلمة الحق وأظهرها ، ونسف جبال الشرك وجعلها سراباً ، وفتح لأهل الحقّ إلى عرفان جلاله أبواباً ، وصيّر لهم باتّباع نبيّه ووليّه إلى رضوانه مآباً ( إذَا جَاءَ نَصرُ اللهِ وَالفَتحُ وَرَأيتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أفوَاجاً فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) (١).

قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه الآية ( إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَيِّتُونَ ) (٢) قال

__________________

١ ـ سورة النصر : ١ ـ ٣.

٢ ـ سورة الزمر : ٣٠.

٢٠٠