تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

وفي حديث آخر : انّها تقبل يوما لقيامة ومعها ألف نبيّ وألف صدّيق وألف شهيد ، ومن الكرّوبيّين ألف ألف يسعدونها على البكاء ، وانّها لتشهق شهقة فلا يبقى في السماء ملك إلا بكى رحمة لها ، وما تسكن حتى يأتيها أبوها ، فيقول : يا بنيّة ، قد أبكيت أهل السماوات وشغلتيهم عن التسبيح ، فكفّي حتى يقدّسوا ، فإنّ الله بالغ أمره.(١)

سَوْف تأتي الزهراء تلتمس الحك‍

‍مَ إذا حان مَحْشَـرُ الـتعديل

وأبـوهـا وبـعلـها وبـنـوها

حولها والخصام غـير قـليل

وتُـنـادي يـا ربّ ذُبــّح أولا

دي لماذا وأنـت خيـر مديل (٢)

فينـادى بمـالـكٍ ألهـب الَّـنا

رَ وأجِّج وخُذ بأهـل الـغلولِ

ويُجازى كـل بـما كـان مـنه

من عقاب التَّخليد (٣) والتَّنكيل (٤)

فيا إخواني ، أظهروا في هذا الشهر شعار الأحزان ، وأفيضوا الدموع المقرحة للأجفان ، فإنّ البكاء في هذا الشهر لمصاب آل الرسول من أفضل الطاعات ، وإظهار الجزع لما نال عترة الوصيّ من أكمل القربات.

روى الشيخ الجليل الفقيه جعفر بن محمد [ بن قولويه بإسناده إلى الامام

____________

١ ـ كامل الزيارات : ٨٧ ذح ١٦ ، عن البحار : ٤٥ / ٢٢٥ ذح ١٧ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ١١ ، ح ٢.

٢ ـ كذا في ديوان الصاحب ، وفي الأصل : يا ربّ تذبح ... وأنت أنت مزيل.

٣ ـ كذا في ديوان الصاحب ، وفي الأصل : عذاب التجليد.

٤ ـ الأبيات للصاحب بن عبّاد ، المولود سنة « ٣٢٦ ه‍ » ، والمتوفّى سنة « ٣٨٥ ه‍ » ، انظر ديوانه ص ٢٦٣ ، ومقتل الخوارزمي : ٢ / ١٥٠ ، ومناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٢٨ ، والبحار : ٤٥ / ٢٩٢ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٨٩.

٦١

أبي جعفر محمد ] (١) بن علي الباقر عليه‌السلام قال : كان أبي علي الحسين صلوات الله عليه يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه‌السلام دمعة حتى تسيل على خدّه بوّأه الله بها في الجنة [ غرفاً يسكنها ] (٢) أحقاباً ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّه لأذىً مسّنا من عدوّنا في الدنيا بوّأه [ الله بها] (٣) في الجنة مبوّأ صدق ، وأيّما مؤمن مسّه أذىً فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خدّه من مضاضة ما اوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار (٤). (٥)

ورى بإسناده متّصل إلى الامام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : كان يقول : إنّ الجزع والبكاء مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء على الحسين عليه‌السلام فإنّه فيه مأجور. (٦)

وروى رضي الله عنه بإسناده متّصل بالامام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من ذكر عنده الحسين عليه‌السلام فخرج من عينه [ من الدموع ] (٧) مقدار جناح

____________

١ ـ أثبتناه لما يتطلّبه السياق.

٢ ـ من الكامل.

٣ ـ من الكامل.

٤ ـ كذا في الكامل ، وفي الأصل : سخط النار.

٥ ـ تفسير القمّي : ٢ / ٢٩١ ، كامل الزيارات : ١٠٠ ح ١ ، ثواب الأعمال : ١٠٨ ح ١ ، الملهوف : في مقدمة المؤلف ، عنها البحار : ٤٤ / ٢٨١ ح ١٣ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٢٦ ح ٤.

وأخرجه في مدينة المعاجز : ٤ / ١٥٢ ح ٢١٧ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٢ ح ١ عن القمّي.

٦ ـ كامل الزيارات : ١٠٠ ح ٢ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٩١ ح ٣٢ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٣ ح ٥.

٧ ـ من الكامل.

٦٢

ذباب كان ثوابه على الله عز وجل ولم يرض له بدون الجنّة. (١)

وروى رضي الله عنه عن مسمع بن عبد الملك البصري قال : قال لي أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : يا مسمع ، أنت من أهل العراق؟

قلت : نعم.

قال : أما تأتي قبر الحسين عليه‌السلام؟

قلت : يا مولاي ، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة ، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وأعداؤنا كثير من القبائل (٢) من النصّاب وغيرهم ، ولست آمنهم أن يرفعوا خبري عند ولد سليمان فيمثّلون بي.

قال : أما تذكر ما صنع به؟

قلت : بلى والله.

قال : فتجزع؟

قلت : نعم والله وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي ذلك (٣) ، فأمتنع من الطعام الشراب حتى يستبين ذلك في وجهي.

قال : رحم الله دمعتك ، أما إنّك من الذين يعدّون في أهل الجزع لنا ، والذين يفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويخافون لخوفنا ، ويأمنون إذا أمنّا ، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيّتهم ملك الموت بك ، وما

__________________

١ ـ كامل الزيارات : ١٠٠ ح ٣ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٩١ ح ٣٣ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٣ ح ٤.

٢ ـ في الكامل : من أهل القبائل.

٣ ـ في الكامل : أثر ذلك.

٦٣

يلقونك به من البشارة أفضل لك (١) ، ثم استعبر واستعبرت معه ، فقال : الحمد لله الذي فضّلنا على خلقه بالرحمة ، وخصّنا أهل البيت بالرحمة.

يا مسمع ، إنّ السماوات والأرض لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا ، ومن يبكي لنا من الملائكة أكثر منكم ، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا ، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلا رحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه ، فإذا سالت دمعته (٢) على خدّه فلو أنّ قطرة من دموعه سقطت في جهنّم لأطفأت حرّها ، حتى لا يوجد لها حرارة ، وإن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا لاحوض ، وإنّ الكوثر ليفرح بمحبّينا إذا وردوا عليه (٣).

يا مسمع ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، ولم يستق بعدها أبداً ، وهو في برد الكافور ، وريح المسك ، وطعم الزنجبيل ، أحلى من العسل ، وألين من الزبد ، وأصفى من الدمع ، وأذكى من العنبر ، يخرج من تسنيم ، ويمرّ في أنهار الجنان ، يجري على رضراض (٤) الدرّ والياقوت ، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء ، يوجد ريحه من مسيرة ألف عام ، قد حانه من الذهب والفضّة وألوان الجواهر ، وما عين (٥) بكت لنا إلا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقيت منه (٦) ،

__________________

١ ـ زاد في الكامل : ولملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الاُمّ الشفيقة على ولدها ، قال.

٢ ـ في الكامل : دموعه.

٣ ـ في الكامل : وإنّ الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه حتى انّه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه.

٤ ـ الرضراض : الحصى أو صغارها.

٥ ـ في الكامل : وما من عين.

٦ ـ زاد في الكامل : من أحبّنا ، وإنّ الشارب منه ليُعطى من اللذّة والطعم والشهوة له أكثر ممّا يعطاه من هو دونه في حبّنا.

٦٤

وإنّ على الكوثر أمير المؤمنين عليه‌السلام وفي يده عصا من عوسج يحطّم بها أعداءنا ، فيقول الرجل منهم : إنّي أشهد الشهادتين ، فيقول له : انطلق إلى إمامك فلان فاسأله أن يشفع لك إذ كان عندك خير الخلق فإنّ خير الخلق لا تردّ شفاعته ، فيقول : يا مولاي ، اهلكت من العطش (١) ، فيقول : زادك الله ظماً وزادك عطشاً.

قال مسمع : فقلت : يا مولاي ، كيف يقدر على الدنوّ من الحوض ولم يقدر على غيره؟

قال : إنّه ورع عن أشياء قبيحة ، وكفّ ، شتمنا إذا ذكرنا ، وترك أشياء اجترى عليها غيره ، وليس ذلك لحبّنا ، ولا لهوىً منه لنا ، ولكن ذلك لشدّة اجتهاده في عبادته ، ولما (٢) شغل به نفسه عن ذكر الناس ، فأمّا قلبه فمنافق ، ودينه النصب (٣) ، وولاية الماضين ، وتقدّمه لهم على كلّ أحد. (٤)

وعن عبد الله بن بكير ، قال : حججت مع أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقلت له يوماً : يا ابن رسول الله ، لو نبش قبر الحسين عليه‌السلام هل كان يصاب في قبره شيء؟

فقال : يا ابن بكير ، ما أعظم مسألتك (٥)؟ إن الحسين بن علي عليه‌السلام

__________________

١ ـ في الكامل : فاسلأله أن يشفع لك ، فيقول : تبرّأ منّي إمامي الذي تذكره ، فيقول : ارجع إلى ورائك فقل للّذي كنت تتولّاه وتقدّمه على الخلق فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك ، فإنّ خير الخلق من يشفع ، فيقول : إنّي أهلك عطشاً.

٢ ـ في الكامل : ولما قد.

٣ ـ في الكامل : ودينه النصب ، واتباعه أهل النصب.

والمراد من الماضين : الخلفاء الثلاثة.

٤ ـ كامل الزيارات : ١٠١ ح ٦ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٨٩ ح ٣١ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٢٩ ح ١٣.

٥ ـ في الكامل : مسائلك.

٦٥

مع أبيه واُمّه وأخيه في منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه يرزقون ويحبرون ، وإنّه لعن يمين العرش متعلّق به يقول : يا ربّ ، انجز لي ما وعدتني ، وإنّه لينظر إلى زوّاره لهو أعرف بأسمائهم (١) وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده ، وإنّه لينظر إلى من يبكيه فيستغفر له ، ويسأل أباه الاستغفار له ، ويقول : أيّها الباكي ، لو علمت ما أعدّ الله لك لفرحت أكثر ممّا حزنت ، وإنّه ليستغفر له من كلّ ذنب وخطيئة. (٢)

وعن ابن أبي عمير بإسناد متّصل إلى أبي عبد الله ، قال : من ذكرنا عنده ففاض من عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر. (٣)

وروى الشيخ الجليل علي بن الحسين بن بابويه القمّي رضي الله عنه بإسناد متّصل إلى الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : إنّ أبي كان إذا أهلّ شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة والحزن غالبين عليه ، فإذا كان يوم عاشوراء كان يوم جزعه ومصيبته ، ويقول : في مثل هذا اليوم قتل جدّي الحسين صلوات الله عليه. (٤)

وروى ابن فضّال ، عن أبيه ، عن الرضا علي بن موسى عليه‌السلام قال :

__________________

١ ـ في الكامل : وإنّه أعرف بهم وبأسمائهم.

٢ ـ كامل الزيارات : ١٠٣ ح ٧ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٩٢ ح ٣٥ و ٣٦ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٣ ح ٨.

٣ ـ المحاسن للبرقي : ١ / ٦٣ ح ١١٠ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٨٩ ح ٣٠ ، وعوالم العلوم ، ١٧ / ٥٢٧ ح ٦.

ورواه بهذا الاسناد ايضاً في كامل الزيارات : ١٠٣ ح ٨ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٨٤ ح ٢٠ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٢٨ ح ١٠.

٤ ـ أمالي الصدوق : ١١١ ح ٢ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٨٣ ح ١٧ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٨ ح ١.

٦٦

من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم جزعه وبكائه جعل الله يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه ، ومن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة أو ادّخر لمنزله فيه شيئاً لم يبارك له فيه ، وحشره الله في زمرة يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله في أسفل درك من النار. (١)

وروى الشيخ الفقيه جعفر بن محمد بن قولويه القمّي رضي الله عنه قال : بكى علي بن الحسين بن علي عليه‌السلام على أبيه صلوات الله عليه عشرين سنة أو أربعين سنة ، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولاه ، جعلت فداك ، يابن رسول الله ، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين (٢) ، فقال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون ، إنّي لم أذكر مصرع بني (٣) فاطمة الا خنقتني العبرة لذلك. (٤)

وروى رضي الله عنه قال : أشرف مولى لعلي بن الحسين عليه‌السلام وهو في سقيفة له ساجد يبكي ، فقال له : يا مولاي ، أما آن لحزنك أن ينقضي؟

فرفع رأسه إليه ، فقال : يا ويلك ثكلتك اُمّك ، والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه

____________

١ ـ أمالي الصدوق : ١١٢ ح ٤ ، علل الشرائع : ٢٢٧ ح ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٩٨ ح ٥٧ ، عنها البحار : ١٠١ / ١٠٢ ح ١ و ٢.

وأخرجه في البحار : ٤٤ / ٢٨٤ ح ١٨ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٩ ح ٣ عن الأمالي.

٢ ـ كذا في الكمال ، وفي الأصل : الجاهلين.

٣ ـ كذا في الكمال ، وفي الأصل ابن.

٤ ـ كامل الزيارات : ١٠٧ ح ١ ، عنه البحار : ٤٦ / ١٠٩ ح ٣ ، وعوالم العلوم : ٣٨ / ١٥٧ ح ٢.

ورواه الصدوق في الخصال : ٢٧٢ ح ١٥ ، والأمالي : ١٢١ ح ٥ ، عنهما البحار ، ٤٦ / ١٠٩ ح ٢ ، وعوالم العلوم : ١٨ / ١٥٦ ح ١.

٦٧

في أقلّ ممّا رأيت (١) حين قال : يا أسفي على يوسف ، إنّه فقد ابناً واحداً ، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي.

قال : وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يميل إلى ولد عقيل ، فقيل له : لما تميل إلى ابن عمّك هؤلاء دون أولاد جعفر (٢)؟

قال : إنّي أذكر يومهم مع أبي عبد الله عليه‌السلام فأرقّ لهم. (٣)

وروى أيضاً رضي الله عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال الحسين عليه‌السلام : أنا قتيل العبرة (٤) ، قتلت مكروباً ، وحقيق عليّ أن لا يأتيني مكروب الا ردّه الله وقلبه إلى أهله مسروراً. (٥)

فيا أصحاب القلوب السليمة ، والعقول المستقيمة ، لا يظنّ ظانّ منكم بجهله ، أو يلبس الشيطان على عقله ، أنّ ما حلّ بالسبط الشهيد من البلاء العتيد لهوانه على ربّه ، أو لنقص في زلفته وقربه ، ولكن الحقّ سبحانه يبتلي عباده الصالحين بالتكاليف الشاقّة في أنفسهم وأجسادهم ، ويختبر أولياءه المخلصين بالمحن المتتابعة في أموالهم وأولادهم ، ويحثّهم على جهاد أعدائه بأقوالهم وأفعالهم ، ويوفّقهم لامتثال أوامره ونواهيه في جميع أحوالهم ، قال سبحانه : ( وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنهُمْ وَلكِن لِيَبلُوَا بَعضَكُمْ بِبَعضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي

____________

١ ـ كذا في الكمال ، وفي الأصل : ترى.

٢ ـ في الكمال : دون آل جعفر.

٣ ـ كامل الزيارات : ١٠٧ ح ٢ ، عنه البحار : ٤٦ / ١١٠ ح ٤ ، وعوالم العلوم : ١٨ / ١٥٨ ح ٤.

٤ ـ قال المجلسي رحمه‌الله : أي قتيل منسوب إلى العبرة والبكاء ، وسبب لها ، أو اُقتل مع العبرة والحزن وشدّة الحال ، والأوّل أظهر.

٥ ـ كامل الزيارات : ١٠٩ ح ٧ ، عنه البحار : ٤٤ / ٢٧٩ ح ٦ ، وعوالم العلوم : ١٧ / ٥٣٦ ح ٣.

٦٨

سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلََّ أعمَالَهُمْ ) (١) ، وقال سبحانه : ( أنِّي لَا اُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَو اُنثَى بَعضُكُمْ مِن بَعضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَاُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَاُوذُوا فِي سِبيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاُكَفِّرَنََّ عَنهُمْ سَيِّئاتِهِم وَلاُدخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ثَوَاباً مِن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ الثَّوَابِ ) (٢) ، وقال سبحانه : ( أمْ حَسِبتُمْ أن تَدخُلُوا الجَنّةَ ولَمّا يَعلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ) (٣) ( وَلَم يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلاَ المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً ) (٤).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : البلاء (٥) موكل بالأنبياء ، ثمّ بالأولياء ، ثمّ بالأمثل فالأمثل (٦). (٧)

____________

١ ـ سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤.

٢ ـ سورة آل عمران : ١٩٥.

٣ ـ سورة آل عمران : ١٤٢.

٤ ـ سورة التوبة : ١٦.

٥ ـ قال المجلسي رضي الله عنه في البحار : ٦٧ / ٢٠٠ : البلاء : ما يختبر ويمتحن به من خير أو شرّ ، وأكثر ما يأتي مطلقاً الشرّ ، وما اُريد به الخير يأتي مقيّداً كما قال تعالى : ( بَلاءً حَسَناً ) ـ سورة الأنفال : ١٧ ـ ، وأصله : المحنة.

والله تعالى يبتلي عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ، وبما يكره ليمتحن صبره ، يقال : بلاه الله بخير أو شرّ يبلوه بلواً ... بمعنى امتحنه ، والاسم : البلاء مثل سلام.

٦ ـ قال ابن الأثير في النهاية : ٤ / ٢٩٦ : الأمثل فالأمثل : أي الأشرف فالأشرف ، والأعلى فالأعلى في الرتبة والمنزلة ، ثمّ يقال : هذا أمثل من هذا أي أفضل وأدنى إلى الخير ، وأماثل الناس : خيارهم.

٧ ـ روي هذا الحديث بألفاظ متفاوته ، انظر :

مسند أحمد بن حنبل : ٦ / ٣٦٩ ، مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٠٤ ، كنز العمّال : ٣ / ٣٢٦ ح ٦٧٧٨ و ٦٧٨٠ ـ ٦٧٨٤.

وروي عن الامام علي بن أبي طالب والامام الباقر والامام الصادق عليهم‌السلام ، انظر : الكافي : ٢ / ٢٥٢ ح ١ و ٤ وص ٢٥٩ ح ٢٩.

ويأتي في ص ٨٣ هامش ٩.

٦٩

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيثُ بعثهم أن يفتح لهم كنوزَ الذهبان ، ومعادن العِقيان (١) ، ومَغارس الجنان ، وأن يحشرَ معهم طير السماء ووحوش الأرضين لفعل ، ولو فعل ذلك لسقط البلاء (٢) ، وبطل الجَزاء ، واضمحلّ (٣) الانباء ، ولَما وجَبَ للقابلين اُجور المبتَلين ، ولا استحقَّ المؤمنون (٤) ثواب المحسنين ، ولا لزِمت الأسماءُ معانيها ، ولكنّ الله سبحانه جعل رسلَه اُولي قوّةٍ في عزائمهم ، وضَعَفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قَناعةٍ تملأُ القلوب والعيون غنىً ، وخصاصة (٥) تملأُ الأبصار والأسماع أذىً.

ولو كانت الأنبياء أهل قوةٍ لا تُرامُ ، وعزّةٍ لا تُضامُ ، ومُلكٍ تُمدُّ نحوه أعناق الرجال [ وتشدّ إليه عُقَدُ الرحالِ ] (٦) ، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار ، وأبعد لهم عن الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبةٍ قاهرةٍ لهم ، أو رغبة مائلةٍ بهم ، فكانت النيّات مشتركةً ، والحسنات مقتسمةً ، ولكنّ الله سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، اموراً له خاصّةً ، لاتَشوبها من غيرها شائبة ، فكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاءُ أجزلَ. (٧)

روى حنّان بن سدير ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام [ قال : آمن مع نوح من

__________________

١ ـ الذهبان : جمع ذهب. والعِقبان : نوع من الذهب ينمو في معدنه.

٢ ـ أي الامتحان الذي به يتميّز الخبيث من الطيّب.

٣ ـ في النهج : اضمحلّت. والمراد : سقط الوعد والوعيد.

٤ ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : الموصوف ، وهو تصحيف.

٥ ـ خصاصة : فقر وحاجة.

٦ ـ من النهج.

٧ ـ نهج البلاغة : ٢٩١ خطبة رقم ١٩٢ « الخطبة القاصعة » ، عنه البحار : ٦ / ١١٤ ح ١١ ( قطعة ) ، وج ١٣ / ١٤١ ح ٦١ ( قطعة ) ، وج ١٤ / ٤٦٩.

ويأتي في ص ٦٥ أيضاً.

٧٠

من قومه ثمانية نفر.

وفي حديث وهب بن منبّه ] (١) أن نوحاً عليه‌السلام دعا قومه إلى الله حتى انقرضت ثلاثة قرون منهم ، كلّ قرن ثلاثمائة سنة يدعوهم سرّاً وجهراً فلا يزدادون إلا طغياناً ، ولا يأتي منهم قرن إلا كان أعتى على الله من الذين من قبلهم ، وكان الرجل منهم يأتي بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول : يا بنيّ ، إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون.

وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتى يسيل مسامعه دماً ، وحتى لا يعقل شيئاً ممّا يصنع به فيحملِ ويرمى [ به ] (٢) في بيت أو على باب داره مغشيّاً عليه ، فأوحى الله تعالى إليه : ( أَنَّهُ لَنْ يُؤمِنُ مِن قَومِكَ إلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ) (٣) ، فعندها أقبل بالدعاء عليهم ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك فقال : ( رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (٤) إلى آخر السورة.

فأعقم الله تعالى أصلاب الرجال وأرحام النساء فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم [ ولد ] (٥) ، وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم وأصابهم الجهد والبلاء ، فقال لهم نوح : ( استَغفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ) (٦) فأعذر إليهم وأنذر فلم يزدادوا الا كفراً ، فلمّا يئس منهم أقصر عن كلامهم ودعا عليهم حتى أغرقهم الله سبحانه. (٧)

____________

١ و ٢ و ٥ ـ من المجمع.

٣ ـ سورة هود : ٣٦.

٤ ـ سورة نوح : ٢٦.

٦ ـ سورة نوح : ١٠.

٧ ـ مجمع البيان : ٢ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥ ، عنه البحار : ١١ / ٢٩٩.

وانظر : قصص الأنبياء : ٨٤ ح ٧٥ و ٧٦ ، عنه البحار : ١١ / ٢٨٧ ح ٩.

٧١

وهذا إبراهيم عليه‌السلام خليل الله وصفيّه لمّا كسر الأصنام وجعلها أجذاذاً ، وقطعها بشدّة عزمه أفلاذاً (١) قال بعضهم لبعض : ( حَرِّقُوهُ ـ بالنار ـ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم إن كُنتُم فَاعِلينَ ) (٢) أي ناصريها ، والمعنى : أنّكم لا تنصرونها الا بتحريقه بالنار ؛ قيل : وكان الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار رجل من أكراد فارس ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل (٣) فيها إلى يوم القيامة ؛ وقيل : إنّما قاله نمرود. (٤)

قال السدّي : فجمعوا له الحطب حتى انّ الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله فيُشترى به حطب ، وحتى انّ المرأة لتغزل فتشتري به حطباً حتى جمعوا من ذلك ما أرادوا ، فلمّا أرادوا أن يلقوه في النار لم يدروا كيف يلقونه ، لأنّهم كانوا قد صنعوا للنار حائطاً طوله ثلاثون ذراعاً ، وعرضه عشرة ، وملؤوه حطباً ، وأجّجوا فيه النار ، ولم يقدروا من الدنوّ من النار لشدّة حرّها ، فجاء إبليس فصنع لهم المنجنيق (٥) ، وهي أوّل منجنيق صنعت فوضعوه فيها ، ثمّ رموه ، قال الله سبحانه : ( قُلنا يَا نَارُ كُونِي بَرداً وَسَلَاماً عَلَى إبرَاهِيمَ ) (٦).

قال أبو العالية : لو لم يقل سبحانه : ( وَسَلَاماً ) لكانت تؤذيه من شدّة

____________

١ ـ أجذاذاً : أي قِطَعاً ، وكِسَراً. « النهاية : ١ / ٢٥٠ ـ جذذ ـ ».

والأفلاذ : جمع فِلَذٍ ، والفِلَذُ : جمع فِلذَة ، وهي القطعة المقطوعة طولاً : « النهاية ٣ / ٤٧٠ ـ فلذ ـ ».

٢ ـ سورة الأنبياء : ٦٨.

٣ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل والبحار : يتخلخل.

وتَجَلجَلَ في الأرض : أي ساخ فيها ودخل. « لسان العرب : ١١ / ١٢١ ـ جلل ـ ».

٤ ـ زاد في المجمع : وفي الكلام حذف.

٥ ـ في المجمع : فجاء إبليس فدلّهم على المنجنيق.

٦ ـ سورة الأنبياء : ٦٩.

٧٢

بردها ، ولكان بردها أشدّ عليه من حرّها فصارت سلاماً (١) عليه ، ولو لم يقل ( عَلَى إبرَاهِيم ) لكان بردها باقياً إلى الأبد.

قال الصادق عليه‌السلام : لمّا اُجلس إبراهيم في المنجنيق وأرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرئيل عليه‌السلام وقال : السلام عليك يا إبراهيم [ ورحمة الله وبركاته ] (٢) ، ألك حاجة؟

فقال : أمّا إليك فلا ، فلمّا طرحوه دعا الله سبحانه فقال : يا الله ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فحسرت النار عنه ، فرأوه وانّه لمحتبٍ ومعه جبرئيل عليه‌السلام وهما يتحدّثان في روضة خضراء.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ نمرود الجبّار لمّا ألقى إبراهيم عليه‌السلام في النار نزل إليه جبرئيل عليه‌السلام بقميص من الجنّة وطنفسة (٣) من الجنّة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدّثه .. تمام الخبر.

قال كعب : لم تحرق منه النار غير وثاقه ، قال الله سبحانه : ( وَأرَادُوا بِهِ كَيداً فَجَعَلنَاهُمُ الأخسَرِينَ ). (٤)

قال ابن عبّاس : هو ان الله سبحانه سلّط على نمرود وخيله البعوض حتى أخذت لحومهم ، وشربت دماءهم ، ووقعت واحدة في دماغه فأهلكته. (٥)

__________________

١ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : سلامة.

٢ ـ من المجمع.

٣ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : وطبقة ، وكذا في الموضع الآخر.

والطنفِسَة والطنفُسَة : النُمرُقة فوق الرحل ؛ وقيل : هي البساط الذي له خَملٌ رقيق. « لسان العرب : ٦ / ١٢٧ ـ طنفس ـ ».

٤ ـ سورة الأنبياء : ٧٠.

٥ ـ مجمع البيان : ٤ / ٥٤ ـ ٥٥ ، عنه البحار : ١٢ / ٢٣ ـ ٢٥.

٧٣

ثمّ انّ الله سبحانه ابتلاه كما ذكر في محكم كتابه بالكلمات التي أتمّها ، والمحن التي احتملها ، ووفّى بها حتى أثنى الله سبحانه عليه في كتابه بقوله : ( وَإبرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (١) والابتلاء هو الاختبار ، وسمّي ذلك اختباراً لأنّ ما يستعمله الانسان ينافي مثل ذلك (٢) يجري على جهة الاختبار والامتحان فأجرى سبحانه على أمره اسم اُمور العباد على طريق الاتّساع ، وحقيقة الابتلاء تشديد التكليف.

ووجه آخر هو انّ الابتلاء على ضربين ؛ أحدهما يستحيل عليه سبحانه ، والآخر جائز ، فالمستحيل هو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيّام عنه وهذا لا يصحّ عليه سبحانه ، لأنّه علّام الغيوب ، والآخر أن يبتليه حتى يصبر على ما يبتليه فيكون ما يعطيه على سبيل الاستحقاق ، ولينظر إليه الناظر فيقتدي به فيعلم من حكمة الله سبحانه انّه لم يكل (٣) أسباب الامامة الا إلى الكافي المستقلّ بها الذي كشفت الأيّام عنه ، وممّا ابتلاه في نفسه ما ذكرناه أوّلاً وفي أهله حين خلص الله حرمته من عبادة القبطي ، ثم في ولده حين اُمر بذبح ولده في قوله : ( إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذبَحُكَ ) (٤). (٥)

روى محمد بن إسحاق بن يسار (٦) أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان إذا أراد إسماعيل وهاجر حمل على البراق ، فيغدو من الشام ويقيل بمكّة ، ويروح من

__________________

١ ـ سورة النجم : ٣٧.

٢ ـ في المجمع : لأنّ ما يستعمل الأمر منّا في مثل ذلك.

٣ ـ كذا في الخصال ، وفي الاصل : يكمل ، وفي المجمع : تكن.

٤ ـ سورة الصافّات : ١٠٢.

٥ ـ الخصال : ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ح ٨ ، عنه البحار : ١٧ / ٦٦ ـ ٦٧.

وانظر مجمع البيان : ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٦ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : محمد بن إبراهيم بن بشّار.

٧٤

مكّة فيبيت في الشام عند أهله ، حتى إذا بلغ إسماعيل السعي اُري في المنام أن يذبحه ، فقال : يا بنيّ ، خذ المدية والحبل وانطلق بنا إلى الشعب لنحتطب ، فلمّا خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه ، فقال : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب ، واكفف عنّي ثيابك حتى لا تنتضح بدمي فتراه والدتي ، واشحذ شفرتك ، وأسرع مرّ السكّين على عنقي ليكون أهون عليّ فإنّ الموت شديد.

فقال إبراهيم : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله.

قال : فأقبل شيخ على إبراهيم ، فقال : يا إبراهيم ، ما تريد من هذا الغلام؟

قال : اُريد أن أذبحه.

فقال : سبحان الله! تريد أن تذبح غلاماً لم يعص الله طرفة عين قطّ.

قال إبراهيم : إن الله أمرني بذلك.

قال : ربّك ينهاك عن ذلك ، وإنّما أمرك بهذا الشيطان.

فقال إبراهيم : لا والله ، ثمّ قال الغلام : يا أبت ، حمّر وجهي ، واشدد وثاقي.

فقال إبراهيم : الوثاق مع الذبح والله لا أجمعهما عليك اليوم ، ثم تلّه لجبينه وأخذ المدية بيمينه ، هذا والملائكة تنتحب والأرض تنحب ، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وانحنى عليه بالمدية ، وقلب جبرئيل المدية على قفاها واجتر إليه الفدية من ثبير ، واجتر الغلام من تحته ، ووضع الكبش مكان الغلام ، ونودي من ميسرة مسجد الخيف : ( أنْ يَا إبرَاهِيمُ قَد صَدَّقتَ الرُّؤيَا إنََّا كَذلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ إنََّ هذا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ ) (١).

__________________

١ ـ سورة الصافات : ١٠٤ ـ ١٠٦.

٧٥

قال : ولحق إبليس باُمّ الغلام حين زارت البيت ، فقال لها : ما شيخ رأيته بمنى؟

قالت : ذاك بعلي.

قال : فوصيف رأيته؟

قالت : ذاك ابني.

قال : فإنّي رأيته وقد أضجعه ، وأخذ المدية ليذبحه.

قالت : كذبت! إبراهيم أرحم الناس ، فكيف يذبح ابنه؟

قال : فوربّ السماء والأرض ، وربّ هذه الكعبة ، قد رأيته كذلك.

قالت : ولم؟

قال : زعم أنّ ربّه أمره بذلك.

قالت : حقّ له أن يطيع ربّه ، فوقع في نفسها أنّه قد اُمر في ابنها بأمرٍ ، فلمّا قضت منسكها (١) أسرعت في الوادي راجعة إلى منى ، واضعة يدها (٢) على رأسها ، فلمّا جاءت [ سارة ] (٣) واُخبرت الخبر ، قامت إلى ابنها تنظر مكان السكّين من نحره فوجدته خدشاً في حلقه ، ففزعت واشتكت ، وكان بدؤ مرضها الذي هلكت فيه. (٤)

وهذا يعقوب إسرائيل الله ابتلاه الله بفراق يوسف ، فبكى عليه حتى

____________

١ ـ في المجمع : نسكها.

٢ ـ في المجمع : يديها.

٣ ـ من المجمع.

٤ ـ مجمع البيان : ٤ / ٤٥٤ ـ ٤٥٥ ، عنه البحار : ١٢ / ١٣٥.

وانظر قصص الأنبياء : « المسمّى عرائس المجالس » للثعلبي : ٩٣ ـ ٩٤.

٧٦

ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم (١).

روى أبو حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً يتصدّق منه ويأكل هو وعياله ، وأنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً قوّاماً اعترى باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره ، وكان مجتازاً غريباً فهتف على بابه فاستطعم هو وهم يسمعونه فلم يصدّقوا قوله ، فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استعبر وشكا جوعه إلى الله سبحانه ، ورات طاوياً ، واصبح صائماً صابراً حامداً لله تعالى ، وبات يعقوب وآل يعقبو بطاناً ، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم ، فابتلاه الله سبحانه في يوسف عليه‌السلام ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي ، وارض بقضائي ، واصبر للمصائب ، فرأى يوسف الرؤيا في تلك الليلة.

وروي أنّ يعقوب عليه‌السلام كان شديد الحبّ ليوسف ، وكان يوسف من أحسن الناس وجهاً.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : اُعطي يوسف شطر الحسن ، والنصف الآخر لسائر الناس.

وقال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه ، جعد الشعر ، ضخم العين ، مستوي الخلقة ، أبيض اللون ، وكان إذا تبسّم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلّم رأيت شعاع النور يلتهب عن ثناياه ، ولا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النهار عن (٢) الليل ، وكان يشبه آدم عليه‌السلام يوم خلقه الله عزّ وجلّ

____________

١ ـ إشارة للآية : ٨٤ من سورة يوسف.

٢ ـ في المجمع : عند.

٧٧

وصوّره ونفخ فيه من روحه. (١)

فحسده إخوته ودبّروا في أمره ، وذلك انّ يعقوب كان شديد الحبّ ليوسف ، وكان يؤثره على سائر أولاده فحسدوه ، ثم رأى الرؤيا فصار حسدهم له أشدّ.

وقيل : إنّ يعقوب عليه‌السلام كان يرحمه وأخاه لصغرهما فاستثقلوا ذلك ، ودبّروا في هلاكه كما حكى سبحانه عنهم في قوله : ( اقتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطرَحُوهُ أرضاً يَخلُ لَكُمْ وَجهُ أبِيكُمْ ) (٢) أي اطرحوه في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه. (٣)

ولمّا أقبلوا إلى أبيهم وسألوه أن يرسل يوسف معهم وأظهروا النصيحة والمحبّة والشفقة على يوسف ، ولمّا همّ يعقوب أن يبعثه معهم وحثّهم على حفظه ، وقال : ( إنّي لَيَحُزُنُنِي أن تَذهَبُوا بهِ وَأَخَافُ أن يَأكُلَهُ الذِّئبُ وَأنتُم عَنهُ غَافِلُونَ ) (٤) وكانت أرضهم مذأبة ، وكانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت.

وقيل : إنّ يعقوب رأى في منامه كان يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب منها يحمي عنه ، فكأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف فلم يخرج الا بعد ثلاثة أيّام ، فمن ثمّ قال ذلك فلقّنهم العلّة وكانوا لا يدرون.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا تلقّنوا الكذب فيكذبوا ، فإنّ بني يعقوب لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الانسان حتى لقّنهم أبوهم.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٣ / ٢١٢ و ٢٢٠.

٢ ـ سورة يوسف : ٩.

٣ ـ مجمع البيان : ٣ / ٢١٢.

٤ ـ سورة يوسف : ١٣.

٧٨

وهذا يدلّ على أنّ الخصم لا ينبغي أن يلقن حجّة.

ولمّا ذهبوا به أخرجوه عن يعقوب مكرّماً ، فلمّا وصلوا إلى الصحراء أظهروا له العداوة وجعلو يضربونه وهو يستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه ، وكان يقول : يا أبتاه ، فهمّوا بقتله ، فمنعهم يهوذا ـ وقيل : لاوي ـ فذهبوا به إلى الجبّ ، فجعلوا يدلونه فيه وهو يتعلّق بشفيره ، ثمّ نزعوا عنه قميصه وهو يقول : لا تفعلوا ، ردّوا عليّ القميص أتوارى به.

فيقولون : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً يؤنسنك (١) ، فدلّوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها فألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثمّ آوى إلى صخرة فيها فقام عليها ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.

وقيل : وكّل الله به ملكاً يحرسه ويطعمه.

وقيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا اُلقي في النار عرياناً أتاه جبرئيل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه ، فكان ذلك القميص عند إبراهيم عليه‌السلام ، فلمّا مات ورثه إسحاق ، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب ، فلمّا شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنق يوسف ، فكان لا يفارقه ، فلمّا اُلقي في البئر عرياناً جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ ، فأخرج منه القميص وألبسه إيّاه.

قيل : وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت العير من مصر ، وكان يعقوب بفلسطين فقال : ( إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) (٢).

وفي كتاب النبوّة ، عن الحسن بن محبوب ، عن الحسن بن عمارة ، عن

__________________

١ ـ كذا في المجمع ، وفي الأل : والإحدى عشر كوكباً تؤنسك.

٢ ـ سورة يوسف : ٩٤.

٧٩

مسمع أبي سيّار (١) ، عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا ألقى إخوة يوسف يوسف في الجبّ نزل عليه جبرئيل وقال : يا غلام ، من طرحك في الجبّ؟

قال : إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني ، ولذلك في الجبّ طرحوني.

فقال : أتحبّ أن تخرج من هذا الجبّ؟

فقال : ذاك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

فقال له جبرئيل : إنّ إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك : قل : اللّهمّ إنّي أسألك [ بأن لك الحمد لا إله الا أنت بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والاكرام ] (٢) أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ، وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب ، فجعل الله له من ذلك يومئذ فرجاً ، ومن كيد المرأة مخرجاً ، وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب.

وروي أنّ يوسف عليه‌السلام قال في الجب : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ارحم ضعفي وقلّة حيلتي وصغري.

قال مجاهد : أوحى الله إليه وهو في الجبّ ونبّأه وأوحى إليه أن اكتم حالك ، واصبر على ما أصابك ، فإنّك ستخبر (٣) إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك.

ولمّا فعلوا بيوسف ما فعلوا جاءوا أباهم عشاءً يبكون (٤) كما ذكر سبحانه

__________________

١ ـ كذا في المجمع ، وفي الاصل : مسمع بن سيّار.

٢ ـ من المجمع.

٣ ـ كذا في المجمع ، وفي الاصل : تجير.

٤ ـ إشارة إلى الآية : ١٦ من سورة يوسف.

٨٠