تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

الكناني وزامل بن عبيد الخزاعي ومالك بن روضة الجُمحي مبارزة. وطعن الأشعث لشُرحِبِيل بن السِمط ولأبي الأعور السلمي ، فخرج حوشب ذو الظليم وذو الكلاع في نفر فقالوا : أمهلونا هذه الليلة :

فقالوا : لا نبيت إلّا في معسكرنا ، فانكشفوا.

ثم إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أنفذ سعيد بن قيس الهمداني وبشر (٥) بن عمرو الأنصاري إلى معاوية ليدعواه إلى الحق فانصرفا بعد ما احتجّا عليه.

ثم أنفذ أمير المؤمنين عليه‌السلام [ شبث بن ربقي و ] (٦) عديّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وزياد بن خصفة (٧) بمثل ذلك ، فكان معاوية يقول : سلّموا إلينا قتلة عثمان لنقتلهم به ، ثمّ نعتزل الأمر حتى يكون شورى ، فتقاتلوا في ذي الحجّة وأمسكوا في المحرّم ، فلمّا استهلّ صفر سنة سبع وثلاثين أمر أمير المؤمنين عليه‌السلام فنودي في عسكر الشام بالاعذار والانذار ، ثم عبّى عسكره فجعل على ميمنة الجيش الحسنين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل ، وعلى ميسرته محمد بن الحنفيّة ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال ، وعلى القلب عبد الله بن العبّاس والعبّاس بن ربيعة بن الحارث والأشتر والأشعث ، وعلى الجناح سعد (٨) بن قيس الهمداني وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ورفاعة بن شدّاد البجلي وعديّ بن حاتم ، وعلى الكمين عمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن واثلة الكناني وقبيصة بن

____________

الجُمحي ، وزامل بن عبيد الله الحِزامي ، ومحمد بن روضة الجُمحي.

٤ ـ في المناقب : زياد.

٥ ـ في وقعة صفّين : بشير. وأضاف إليهما شبث بن رِبعي التميمي.

٦ ـ من وقعة صفّين والمناقب.

٧ ـ كذا في وقعة صفّين ، وفي الأصل والمناقب : حفص.

٨ ـ كذا في وقعة صفّين والمناقب ، وفي الأصل : سعيد. وكذا في الموضع الآتي.

٤٢١

جابر الأسدي.

وجعل معاوية على ميمنته ذاالكَلاع الحميري وحوشب ذاالظليم ، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن مَسلمة ، وعلى القلب الضحّاك بن قيس الفهري وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد ، وعلى الساقة بسر بن أرطاة الفهري ، وعلى الجناح عبد الله بن مسعدة الفزاري وهمام بن قبيصة النمري ، وعلى الكمين أبا الأعور السلمي وحابس بن سعد الطائي.

فبعث أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى معاوية أن اخرج إليّ اُبارزك ، فلم يفعل ، وقد جرى بين العسكرين أربعون وقعة تغلّب فيها أهل العراق : أوّلها يوم الأربعاء بين الأشتر وحبيب بن مسلمة ، والثانية بين المرقال و [ أبي ] (١) الأعور السلمي ، والثالثة بين عمّار وعمرو بن العاص ، والرابعة بين محمد بن الحنفيّة وعبيدالله بن عمر ، والخامسة بين عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة ، والسادسة بين سعد بن قيس وذي الكلاع ، إلى تمام الأربعين ، وكان آخرها ليلة الهرير. (٢)

ولأبطال أهل العراق مع أبطال أهل الشام وقعات وحروب وأشعار لا نطوّل بذكرها خوف الملل ، ففي بعض أيّامها جال أمير المؤمنين عليه‌السلام في الميدان قائلاً :

أنا علي فاسـألوني تخبروا

ثمّ ابرزوا لي في الوغى وابتدروا

سيفي حسام وسناني يزهرُ

منّا النـبـي الـطاهر المـطّهرُ

وحمزة الخير ومـنّا جعفر

وفـاطـمُ عرسـي وفيـها مفخرُ

__________________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١٦٤ ـ ١٦٩.

٤٢٢

هذا لهذا وابن هند محجرٌ

مذبذب مطرد مؤخّر

فاستلحقه (١) عمرو بن الحصين السكوني على أن يطعنه فرآه سعيد بن قيس فطعنه.

وأنفذ معاوية ذا الكلاع إلى بني همدان فاشتبكت الحرب بينهم إلى الليل ، ثم انهزم أهل الشام ، وأنشد أمير المؤمنين عليه‌السلام :

فوارس من همدان ليسوا بعزل

غداة الوغى من شاكر وشبام

يقودهـم حـامي الحقيقة ماجد

سعيد بن قيس والكريم محام

جزى الله همدان الجنان فإنّهم

سهام العدى في يوم كلّ حمام (٢)

ونادى خال السدوسي من أصحاب علي عليه‌السلام : من يبايعني على الموت؟ فأجابه تسعة آلاف ، فقاتلوا حتى بلغوا فسطاط معاوية ، فهرب معاوية فنهبوا فسطاطه ، وأنفذ معاوية إليه : يا خالد ، لك عندي إمرة خراسان [ متى ] (٣) ظفرت فاقصر ويحك عن فعالك هذا ، فنكل عنه ، فتفل أصحابه في وجهه وحاربوا إلى الليل.

وخرج حمزة بن مالك الهمداني من أصحاب معاوية قائلاً لهاشم المرقال :

يا أعور العين وما فينا عور

نبغي ابن عفّان ونلحَى من غَدَر (٤)

____________

١ ـ في المناقب : فاستخلفه.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١٧١ ـ ١٧٢.

٣ ـ من المناقب.

٤ ـ اورد الأرجاز في وقعة صفّين : ٣٤٧ هكذا :

يا أعور العين وما بي من عَوَر

أثُبت فإنّي لستُ من فَرعَي مُضر

نحن اليمانون وما فينا خَوَر

كيـفَ ترى وقع غُلامٍ من عُذَر

٤٢٣

فقتله المرقال ، فهجموا على المرقال فقتلوه رحمة الله عليه ، فأخذ سفيان بن الثور رايته (١) فقاتل حتى قتل ، فأخذها عتبة بن المرقال فقاتل حتى قتل ، فأخذها أبو الطفيل الكناني مرتجزاً :

يا هاشم الخير دخلت الجنّة

قتلت في الله عدوّ السنّة (٢)

فقاتل حتى جرح فرجع القهقرى ، وأخذها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي مرتجزاً :

أضربكم ولا أرى مـعاويه

أبرج العين العظيم الحاويه (٣)

هوت به في النار اُمّ هاوية

جاوَرَه (٤) فيها كلاب عاويه (٥)

فهجموا عليه فقتلوه ، فأخذها عمرو بن الحمق وقاتل أشدّ قتال ، وخرج من أصحاب معاوية ذو الظليم ، وبرز من عسكر عليّ عليه‌السلام سليمان بن صرد الخزاعي ، وحملت الأنصار معه حملة رجل واحد ، فقُتل ذو الظليم وذو

____________

يَنعى ابن عَفّانٍ ويَلحى مَن غَدَر

سِيّان عِندي مَن سَعى ومن أمَر

١ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : فجزّ شيبان بن الثور رأسه. وهو تصحيف.

٢ ـ أورد الأرجاز في وقعة صفّين : ٣٥٩ هكذا :

يا هاشمَ الخَيرِ جُزيتَ الجنّه

قاتلـتَ في الله عدوّ السّنّه

والتاركي الحقّ وأهلَ الظنّه

أعظِم بِِما فُزتَ به من مِنّه

صيّـرني الدَهر كأنّي شَنّه

يا ليتَ أهلي قد عَلَوني رَنّه

من حَوْبةٍ وعَمَّةٍ وَكَنَّهْ

٣ ـ الأبرج العين : أي كان بياضها محدقاً بالسواد كلّه. والحاوية : الأمعاء.

٤ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : خاوية.

٥ ـ نسب هذه الأرجاز في وقعة صفّين : ٣٩٩ إلى مالك الأشتر ، وبهذا اللفظ :

أضربـُهَمْ ولا أرى مُعاويهْ

الأخزَرَ العَين العظيمَ الحاويهْ

هوتْ به في النار اُمّ هاويه

جاورهُ فيـهاَ كـلابٌ عاويهْ

أغوى طَغاماً لاهَدَته هاديه

٤٢٤

الكلاع وساروا (١) إليهم وكاد معاوية يؤخذ.

وخرج عبدالله بن عمر ودعا محمد بن الحنفية إلى البراز ، فنهض محمد فنهاه أبوه ، وكان لعنة الله عليه وعلى أبيه يقول :

أنا عُبيد الله ينميني عمر

خيرُ قريشٍ مَن مضى ومن غَبرْ

فقتله عبد الله بن سوار ؛ ويقال : حريث بن خالد (٢) ؛ ويقال : هانئ بن الخطّاب : ويقال : محمد بن الصبيح ، فأمر معاوية بتقديم سبعين راية ، وبرز عمّار في رايات ، فقُتل من أصحاب معاوية سبعمائة رجل ، ومن أصحاب عليّ مائتا رجل.

وخرج العراد بن الأدهم ودعا العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب ، فقتله العبّاس ، فنهاه عليّ عليه‌السلام عن المبارزة ، فقال معاوية : من قتل العبّاس فله عندي كذا ما يشاء ، فخرج رجلان لخميان (٣) ، فدعاه أحدهما إلى البراز.

فقال : إن أذن لي سيّدي اُبارزك ، وأتى عليّاً عليه‌السلام ، فلبس عليّ سلاح العبّاس ، وركب فرسه متنكّراً.

فقال الرجل : أذن لك سيّدك؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا ) (٤) فقتله ، ثمّ برز الآخر ، فقتله.

__________________

١ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وساير ، وفي وقعة صفّين : واستدار القوم.

٢ ـ في وقعة صفّين : ٢٩٩ : حُريث بن جابر الحنفيّ.

٣ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : نحيبان.

واللخم : حيّ باليمن.

٤ ـ سورة الحجّ : ٣٩.

٤٢٥

وخرج حَجل بن عامر (١) العبسي فطلب البراز ، فبرز إليه ابنه (٢) اُثال ، فلمّا رآه أبوه قال : انصرف إلى أهل الشام فإنّ فيها أموالاً جمّة فقال ابنه : يا أبة انصرف إلينا فجنّة الخلد مع عليّ.

وعبّى معاوية أربعة صفوف فتقدّم أبو الأعور السلمي يحرّض أهل الشام ، ويقول : يا أهل الشام ، إيّاكم والفرار فإنّه سبّة وعار ، فدقّوا [ على ] (٣) أهل العراق ، فإنّهم أهل فتنة ونفاق ، فبرز سعيد بن قيس وعديّ بن حاتم والأشتر والأشعث ، فقتلوا منهم ثلاثة آلاف ونيّفاً ، وانهزم الباقون.

وبرز عبدالله بن جعفر فقتل خلقا كثيراً حتى استغاث عمرو بن العاص ، وأتى اُويس القرني وهو متقلّد بسيفين ؛ وقيل : كان معه مرماة ومخلاة من الحصى ، فسلّم على أمير المؤمنين عليه‌السلام وودّعه وبرز مع (٤) رجّالة ربيعة ، فقتل من يومه ، فصلّى عليه أمير المؤمنين ودفنه.

ثم إنّ عمّار كان يقاتل ويقول :

نحن قتلناكم (٥) على تنزيله

ثمّ قتلناكم على تأويـلهِ

ضرباً يزيل الهامَ عن مَقيله

ويذهِل الخليل عن خليله (٦)


____________

١ ـ في الأصل والمناقب : حجل بن اُثال ، والصحيح ما أثبتناه وفقاً لوقعة صفّين : ٤٤٣.

٢ ـ كذا في المناقب ، وهو الصحيح ، وفي الأصل : أبوه.

٣ ـ من المناقب.

٤ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : معه.

٥ ـ في المناقب : ضربناكم.

٦ ـ أورد الرجز في وقعة صفّين : ٣٤١ هكذا:

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويلهِ

ضرباً يُزِيلُ الهامَ عن مَقيلهِ

ويذهـل الـخليلَ عن خليله

أو يرجعَ الحقُّ إلى سبيلهِ

وما في المناقب يختلف عمّا هو في الأصل ووقعة صفّين.

٤٢٦

ثم قال : والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وهم على الباطل. (١)

وبرز أمير المؤمنين عليه‌السلام ودعا معاوية وقال : أسألك أن تحقن دماء المسلمين وتبرز إليّ وأبرز إليك ، فيكون الأمر لمن غلب ، فبهت معاوية ولم ينطق بحرف ، فحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام على الميمنة فأزالها ، ثم حمل على الميسرة فطحنها ، ثم حمل على القلب وقتل منهم جماعة ، ثم أنشد :

فهل لك في (٢) أبي حسن عليّ

لعلّ الله يمكّن من قفاكا

دعـاك إلى البراز فكعت عنه

ولو بارزته تربت (٣) يداكا

وانصرف أمير المؤمنين عليه‌السلام وخرج متنكّراً ، فخرج عمرو بن العاص مرتجزاً:

يا قادة الكوفة من أهل الفتن

يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن

كفى بهذا حَزَناً مِنَ (٤) الحَزَن

أضربكم ولا أرى أبا الحسن (٥)

____________

١ ـ قوله : « ثمّ قال : والله ... على الباطل » ليس في المناقب. وسيأتي هذا الكلام مكرّراً في ص ٤٥٠ ، فراجع.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : من.

٣ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : ثبّت. وانظر الأبيات في وقعة صفّين : ٤٣٢.

٤ ـ في المناقب : مع.

٥ ـ رويت هذه الأرجاز والأرجاز التي تليها في وقعة صفّين : ٣٧١ منسوبة إلى عمرو بن العاص ، وبهذا اللفظ :

أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن

الماجدُ الأبلجُ ليث كالشَّـطن

يرضى به الشام إلى أرض عدن

يا قادة الكوفة من أهـل الفتن

يأيّها الأشرافُ مـن أهـل اليمن

أضربكم ولا أرى أبا حـسن

أعني عليّاً وابنَ عـمّ الـمؤتَمَن

كفى بهذا حَزَناً مـن الحَـزَن

٤٢٧

فتناكل (١) عنه عليّ عليه‌السلام رجاء أن بتبعه عمرو ، فتبعه ، فرجع أمير المؤمنين إليه مرتجزاً :

أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن

الماجدُ الأبلج ليـث كـالشطن (٢)

يرضى به السادة من أهل اليمن

[ من ساكني نجد ومن أهل عَدَن ] (٣)

أبو الحسين فاعلمن وأبو الحسن

جاك يقـتاد العـنان والرسـن

فولّى عمرو هارباً ، فطعنه أمير المؤمنين فوقعت في ذيل درعه ، فاستلقى على قفاه وأبدى عورته ، فصفح عنه أمير المؤمنين استحياء وتكرّماً.

فقال له معاوية : أحمد الله الذي عافاك ، وأحمد استك الّذي وقاك.

ففي ذلك يقول أبو نؤاس :

فلا خير في دفع الأذى (٤) بمذلّة

كما ردّها يوماً بسوءته عمرو

ثمّ دعا أمير المؤمنين معاوية إلى البراز ، فنكل عنه ، فخرج بسر بن أرطاة طامعاً في عليّ ، فصرعه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستلقى على قفاه وكشف عورته ، فانصرف عليّ عليه‌السلام.

فقال أهل العراق (٥) : ويلكم يا أهل الشام ، أما تستحيون من معاملة المخانيث؟ لقد علّمكم رأس المخانيث عمرو في الحرب كشف الاساءة.

ولمّا رأى معاوية كثرة براز عليّ أخذ في الخديعة ، فأنفذ عمرو إلى ربيعة

__________________

١ ـ أي نكص وأظهر الجبن.

٢ ـ الأبلج : المشرق الوجه أو منفصل الحاجبين. والشطن : الحبل المضطرب أو الطويل.

٣ ـ من المانقب ، وليس فيه العجز الأخير : « جاك يقتاد ... ».

٤ ـ في المناقب : الردى.

٥ ـ نسب هذا القول في المناقب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٤٢٨

فوقعوا فيه ، فقال : اكتب إلى ابن عبّاس وغرّه ، فكتب :

طال البلاء فما يدرى له آسِ

بعد الإله سوى رِفق ابن عبّاسِ

فكان جواب ابن عبّاس :

يا عمرو حسـبك من خَدعٍ ووَسواسِ

فاذهب فمالك فـي ترك الهدى (١) آسِ

إلاّ بــوادر (٢) طعن فـي نحوركم

تشجى النفوس لـه فـي النقع إفلاسِ

إن عادت الحرب عدنا فالتمس هرباً

في الأرض أو سلّماً في الاُفق يا قاسي

ثمّ كتب إليه معاوية أيضاً :

إنّما بي من قريش ستّة نفر : أنا وعمرو بالشام ، وسعد وابن عمر في الحجاز ، وعلي وأنت في العراق ، على خطبٍ عظيم ، ولو بويع لك بعد عثمان لأسرعنا فيه.

فأجابه ابن عبّاس :

دعوتَ ابن عبّاس إلى السلم خدعة (٣)

وليس لها حتى تموت بقابِل (٤)

____________

١ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : الأذى.

٢ ـ البوادر : جمع البادرة ، طرف السهم من جهة النصل. وفي وقعة صفّين : ٤١٣ : تواتر.

٣ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : بدعة.

٤ ـ في المناقب : بخادع. والأبيات طويلة وردت في وقعة صفّين : ٤١٦ منسوبة إلى الفضل ابن عبّاس.

٤٢٩

وكتب إلى عليّ عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فإنّا لو علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لِمَ تجهّمنا بعضنا على بعض؟ وإن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرمّ (١) به ما مضى ، ونصلح به ما بقي ، وقد كنت سألتك الشام على ألاّ تلزمني لك طاعة ولا بيعة ، فأبيتَ ، وأن أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإنّك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ، ولاتخاف من الفناء الا ما أخاف ، وقد والله رقّت الأجساد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذلّ به عزيز ، ويسترقّ به حرّ.

فأجابه أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب الا حشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحقّ فإلى النار ، وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك [ اليوم ] (٢) ما منعتك أمس ، وما استواؤنا في الخوف والرجاء (٣) ، فلست أمضي على الشكّ منّي على اليقين ، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.

وأمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن ، وليس اُميّة كهاشم ، ولا حرب كعبد المطّلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا الطليق كالمهاجر ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحقّ كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، وفي أيدينا فضل النبوّة الذي أذللنا به العزيز ، وأنعشنا به الذليل ، وبعنا بها الحرّ.

____________

١ ـ في المناقب : نصلح. وكلاهما بمعنى واحد.

٢ ـ من المناقب.

٣ ـ في المناقب : والرضا.

٤٣٠

وأمر معاوية ابن خَديج الكندي أن يكاتب الأشعث ، والنعمان بن بشير أن يكاتب قيس بن سعد في الصلح ، ثمّ أنفذ عمراً وحبيب بن مسلمة والضحّاك بن قيس إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلمّا كلّموه قال : أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، فإن تجيبوا إلى ذلك فللرشد أصبتم ، وللخير وفّقتم ، وإن تابوا لم تزدادوا من الله الا بعداً.

فقالوا : قد رأينا أن تنصرف عنّا فنخلّي بينكم وبين عراقكم ، وتخلّون بيننا وبين شامنا ، فتحقن (١) دماء المسلمين.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لم أجد إلا القتال أو الكفر بما اُنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ برز الأشتر وقال : سوّوا صفوفكم.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أيّها الناس ، من بيع يربح في هذا اليوم ـ في كلام له ـ ألا إنّ خضاب النساء حنّاء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير في عواقب الاُمور ، ألا إنّها إحن بدريّة ، وضغائن اُحديّة ، وأحقاد جاهليّة ، ثم قرأ عليه‌السلام : ( فَقَاتِلُوا أئمَّةَ الكُفرِ إنَّهُم لَا أيمَانَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهُونَ ) (٢).

ثم تقدّم عليه‌السلام وهو يرتجز :

دُبّوا دَبيبَ النَمل لا تفوتوا

وأصبحوا في حربكم وبيتوا

كيما تَنالوا الدين أو تَمُوتوا

أو لا فإنّي طالما عُـصيتُ

__________________

١ ـ في المناقب : فنحن نحقن.

٢ ـ سورة التوبة : ١٢.

٤٣١

قد قلتم لو جئتنا فجيتُ (١)

ثمّ حمل عليه‌السلام في سبعة آلاف (٢) رجل فكسروا الصفوف.

فقال معاوية لعمرو : اليوم صبر وغداً فخر.

فقال عمرو : صدقت ، ولكنّ الموت حقّ ، والحياة باطل ، ولو حمل عليّ في أصحابه حملة اُخرى فهو البوار.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فما انتظاركم إن كنتم تريدون الجنّة؟

فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلاً :

أحمد ربّي فهو الحميد

ذاك الّذي يفعل ما يريد

دين قويم وهو الرشيدُ

فقاتل حتى قُتل.

وبرز عمّار بن ياسر ، وكان له من العمر ثمانون سنة ، فجعل يقول :

اليوم نلقى الأحبّه

محمداً وحزبه

والله والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفاتِ هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل ، وهو الّذي قال رسو الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه : « عمّار جلدة بين عيني ، تقتله الفئة الباغية لانالهم شفاعتي » (٣) ، فقاتل

____________

١ ـ انظر ديوان الامام علي بن أبي طالب ( طبعة دار الكتاب العربي ) : ٥٤ ففي آخره :

قد قلتم لو جئتنا فجيتُ

ليس لكم ما شئتم وشيتُ

بل ما يريدُ المحييُ المميتُ

٢ ـ في المناقب : في سبعة عشر ألف.

٣ ـ انظر الأحاديث الغيبيّة : ١ / ٢١٨ ـ ٢٢٨.

٤٣٢

حتى قُتِل. (١)

وبرز خزيمة بن ثابت الأنصاري قائلاً :

كم ذا يُرجّي أن يعيشَ الماكثُ

والناس موروث ومنهم وارث

هذا عليٌَ مَن عَصاه ناكثُ (٢)

فقاتل حتى قتل.

وبرز عديّ بن حاتم قائلاً :

أبعد عمّارٍ وبعد هاشم

وابن بُديل صاحب المَلاحم

ترجو البقاءَ من بعد يا ابن حاتم (٣)

فما زال يقاتل حتى فقئت عينه.

وبرز الأشتر قائلاً :

سيروا إلى الله ولا تعرّجوا

دينٌ قويم وسبيل مُنهَج (٤)

وقتل جندب بن زهير ، فلم يزالوا يقاتلوا حتى دخلت وقعة الخميس وهي ليلة الهرير ، وكان أصحاب عليّ عليه‌السلام يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية ، ويقولون : عليّ المنصور ، وهو عليه‌السلام يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة ويقول : اللّهمّ إليك نقلت الأقدام ، وإليك أفضت القلوب ، ورفعت الأيدي ، ومدّت الأعناق ، وطلبت الحوائج ، وشخصت الأبصار. اللّهمّ افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.

____________

١ ـ قوله : « وبرز عمّار ... حتى قُتِل » لم يرد في المناقب.

٢ ـ انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين : ٣٩٨.

٣ ـ انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين : ٤٠٣.

٤ ـ انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين : ٤٠٤.

٤٣٣

وكان عليه‌السلام يحمل عليهم مرّة بعد مرّة ويدخل في غمارهم ويقول : الله الله في البقيّة ، الله الله في الحرم والذرّيّة ، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل ، فلمّا أصبح صلوات الله عليه كان القتلى من عسكره أربعة آلاف رجل ، وقتل من عسكر معاوية اثنتين وثلاثين ألفاً ، فصاحوا : يا معاوية ، هلكت العرب ، فاستغاث بعمروٍ ، فأمره برفع المصاحف.

قال قتادة : كانت القتلى يوم صفّين ستّون ألفاً. وقال ابن سيرين : سبعون ألفاً ، وهو المذكور في أنساب الأشراف ، ووضعوا على كلّ قتيل قصبة ، ثمّ عدّوا القصب. (١)

قلت : أعظم بها فتنة يملّ من رصفها البنان ، ويكلّ عن وصفها اللسان ، ويخفق لذكرها الجنان ، ويرجف لهولها الانسان ، طار شررها فعمّ الآفاق ، وسطع لهبها فعمّ بالاحراق ، وارتفع رهج سنابكها فبلغ أسباب السماء ، وضاقت سبيل مسالكها فانسدّ باب الرجاء.

يالها فتنة اطّيّرت رؤوس رؤوسها عن أبدانها ، وابترت نفوس قرومها بخرصانها ، وبرقت بوارق صفاحها في غمائم عبرتها ، وضعفت رواعد هزبر أبطالها في سحائب مزنها ، قد كفر النقع شمسها ، وأخرس الهول نفسها ، وأبطلت مواقع صفاحها حركات أبطالها ، وصبّغت أسنّة رماحها أثباج رجالها بحرباتها ، لا يسمع فيها إلا زئير اُسد غابها سمر القنا ، ولا ترى منها إلا وميض بريق مواضي الأسنّة والضبا ، كم افترست ثعالب عواملها ليثاً عبوساً؟ وكم اخترمت بحدود مضاربها أرواحاً ونفوساً؟ وكم أرخصت في سوق قيامها على ساقها نفيساً؟ وكم أذلّت بتواصل صولات حملات

__________________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١٧٤ ـ ١٨١ ، عنه البحار : ٣٢ / ٥٨٠ ـ ٥٨٩.

٤٣٤

قرومها رئيساً؟

أبدان الشجعان ضرام وقودها ، وأجساد الأمجاد طعام حديدها ، ما صيحة عاد وثمود بأهول من وقعة صفعتها ، ولا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها ، طفى نحرها فأعرق ، واضطرم جرها فأحرق ، وعمّ قطرها فاجتاج فرعها وأصلها ، ودارت رحى منونها فطحنت خيلها ورجلها ، صبح عادياتها يذهل السامع ، وقارعة قوارعها تصخّ المسامع ، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها ، ويحجم الأبطال لخطر نزالها ، اختلط خاثرها بزبادها ، واُشبهت أمجادها بأوغادها ، وموافقها بمنافقها ، ومخخالفها بموالفها ، ودنيّها بشريفها ، وصريحها بحليفها ، وبرّها بفاجرها ، ومؤمنها بكافرها ، فئة تقاتل في سبيل الله واُخرى كافرة ، وفرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا وفرقة ترجو ثواب الآخرة.

قد فتحت أبوا بالجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها ووليّها ، وشجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها ونبيّها ، طالت ليلة هريرها فكم حلايلاً تمت؟ واضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالاً أيتمت؟ امتدّت ظلمتها ، واشتدّت سدفتها ، وثلمت صفاحها ، وحطمت رماحها ، وعلا ضجيجها ، وارتفع عجيجها ، وتكادمت فحولها ، وتصادمت خيولها ، وتزأّرت آسادها ، وتقطّرت أمجادها.

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام نجمها الثاقب ، وسهمها الصائب ، وليثها الخادر ، وعينها الهامر ، وبحرها الزاخر ، وبدرها الزاهر ، كم أغرق في لجّة بطشه منافقاً؟ وكم أخرق بشهاب سيفه متنافقاً؟

جبريل في حروبه مكتب كتابته ، وميكائيل في وقائعه يعجب من

٤٣٥

ضرائبه ، وملك الموت طوع أمر حسامه ، وروح القدس يفخر بثبات جأشه وإقدامه.

كم فلّ بحدّ غضبه حدّاً؟ وكم قدّ بعزم ضربه قدّاً؟ وكم عفّر في الثرى بصارمه جبيناً وخدّاً؟ وكم بني للاسلام بجهاده فخراً ومجداً؟

اُمثّله في فكرتي ، واُصوّره في سريرتي ، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه ، وجلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه ، طوداً يقلّه طرف ، وبحراً يظلّه سقف ، إن تكلّم بيّن وأوضح ، وإن كلم هشم وأوضح ، يقط الأصلاب بضربه ، ويقصّ الرقاب في حربه ، آية الله في خلقه ، ومعجز النبيّ على صدقه ، ومساويه في وجوب حقّه ، ومضاهيه في خَلقه وخُلقه ، أفضل خلق من بعده ، وأشرف مشارك له في مجده ، كلّ من الرسل الاُولى عاتبه ربّه على ترك الأولى ؛ قال سحانه في آدم : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) ، وفي نوح : ( إنّي أعِظُكَ أن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (٢) ، وفي الخليل : ( قَالَ أوَلَم تُؤمِنْ ) (٣) ، وفي الكليم : ( فَعَلتُها إذاً وَأنَا مِنَ الضَّالِّين ) (٤) ، وفي داود : ( وَظَنََّ دَاوُدَ أنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٥) ، وفي سليمان : ( إنّي أحبَبتُ حُبَّ الخَيرِِ عَن ذِكرِ رَبِّي ) (٦) ، وفي يونس : ( وَذَا النُّونِ إذ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَن نَقدِرَ عَلَيهِ ) (٧).

وأمير المؤمنين باع نفسه من ربّه ، وحبس قلبه على حبّه ، ووقف

__________________

١ ـ سورة طه : ١٢١.

٢ ـ سورة هود : ٤٦.

٣ ـ سورة البقرة : ٢٦٠.

٤ ـ سورة الشعراء : ٢٠.

٥ ـ سورة ص : ٢٤.

٦ ـ سورة ص : ٣٢.

٧ ـ سورة الأنبياء : ٨٧.

٤٣٦

جسده على طاعته ، وفرغ روحه لمراقبته ، أطلعه سبحانه على جلال عظمته ، وكمال معرفته ، وسقاه من شراب حبّه ، واختصّه بشرف قربه ، فما في فؤاده الا إيّاه ، وما في لسانه إلا ذكراه ، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه ، ويصفو أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه ، قد استشعر لباس المراقبة ، وحاسب نفسه قبل المحاسبة.

يأنس بالظلام إذا الليل سجى ، ويستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا ، ويستوحش من الخلق في حال خلوته مع حبيبه ، ويستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه ، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين بروحانيّته ، وطار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته ، جذبته يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه ، وأزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك طريقه ، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته ، واستأنس بمناجاة صاحب العزّة والجبروت واطّلع على أسرار إلهيّته ، وقرع بيد إخلاصه شريف بابه ، وأصغى بصماخ ( وَتَعِيَهَا اُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (١) إلى لذيذ خطابه ، وأشعر قلبه لباس الخضوع بين يديه ، وأحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه ، وشاهد بعين يقينه عزّه هيبة سلطانه ، وقطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء عظم شأنه.

كشف فياض العناية به الحجاب عن جلال كمال عزّته ، ورفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة حضرته ، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا ، وناجاه بلسان المحبّة وقد برح الخفا ، وسقاه بالكأس الرويّة من شراب ( يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ ) (٢) ، ويثب في مدارج السلوك إلى عين اليقين

__________________

١ ـ سورة الحاقّة : ١٢.

٢ ـ سورة المائدة : ٥٤.

٤٣٧

يقينه ، وتوّجه بتاج ( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) (١) ، ونفعه نحلة ( وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم ) (٢) ، وجعل له الرئاسة العامّة في خلقه ، وقرن طاعته بطاعته ، وحقّه بحقّه ، وأثبت في ديوان الصفيح الأعلى منشور عموم ولايته ، ووقّع بيد القدرة العليا توقيع شمول خلافته ، يطالع رهبان صوامع العالم الأشرف في اللوح المحفوظ أحرف صفاته ، ويصغي بصماخ توجّهاتها إلى لذيذ مناجاته ، فتحتقر شدّة كدحها في طاعة ربّها في حبّ طاعته ، وترى عبادتها لمبدعها كالقطرة في اليمّ في جانب عبادته.

باهى الله به ليلة الفراش (٣) أمينيه جبرئيل وميكائيل ، وناداهما بلسان الابتلاء وهو العالم من أفعال عباده بكلّ دقيق وجليل : إنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر أخاه بالزيادة؟ فكلّ منهما بخل ببذل الزيادة لأخيه ، وتلكّأ عن جواب صانعه ومنشيه ، فأوحى إليهما : هلّا كنتما كابن أبي طالب؟! فإنّه آثر أخاه بالبقيّة من أجَله ، وبات مستاقا (٤) بسيوف الأعداء من أجله ، اهبطا إلى الأرض فاحسنا كلاءته وحفظه ، وامنعاه من كيد عدوّه في حالتي المنام واليقظة.

وكذلك يوم اُحد وقد ولّوا الأدبار ، واعتصموا بالفرار ، وأسلموا الرسول إلى الجبن ، ولم يعد بعضهم إلا بعد يومين ، هذا ووليّ الله يتلقّى عنه السيوف

__________________

١ ـ سورة المائدة : ٥٥.

٢ ـ سورة الأنعام : ١٥٣.

٣ ـ حديث مبيت أمير المؤمنين علي عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحاديث المتواترة والمشهورة ، انظر : الفصول المائة في حياة أبي الأئمّة : ١ / ٢٢٧ ـ ٢٦٣ فقد أوفى الكلام في هذا الحديث.

٤ ـ كذا في الأصل.

٤٣٨

بشريف طلعته ، ويمنع عوامل الحتوف بشدّة عزمته ، حتى باهى الله يومئذ ملائكته ببطشه القويّ ، ونادى منادٍ من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا عليّ.

وفي بدر إذا التقى الجمعان ، واصطدم الفيلقان ، وشخصت الأعين ، وخرست الألسن ، وجبت الجيوب ، ووجبت القلوب ، كان صلوات الله عليه وآله قاصم أبطالها ، وميتّم أشبالها ، وليث ناديها ، وصل داريها ، صبّ الله بشدّة بطشه على أعدائه سوط عذابه ، وأنزل بالملحدين في آياته من صولة سطوته وخيم عقابه.

صاحب بطشتها الكبرى ، وناصب رايتها العظمى ، جعل الله الملائكة المسوّمين فيها من جملة حشمه وجنده ، ولواء الفتح المبين خافقاً على هامة رفعته ومجده ، وشمس الشرك ببدر وجهه مكوّرة ، وجموع البغي بتصحيح عزمه مكسّرة ، وهل أتاك نبأ الخصم الألدّ؟ أعني مقدام الأحزاب عمرو بن ودّ ، البطل الأعبل ، وفارس يليل ، إذ أقبل برز كالليث القرم ، ويهدر كالفحل المغتلم ، ويصول مدلّاً بنجدته ، ويجول مفتخراً بشدّته ، ويشمخ بأنفه كبراً ، ويبذخ بخدّه صعراً ، قد تحامته الفرسان خوفاً من سطوته ، وأحجمت عنه الشجعان حذراً من صولته ، وانهلعت قلوب الأبطال لمّا طبق الخندق بطرفه ، وذهلت عقول الرجال لمّا شزرهم بطرفه ، كالأسد الكاسر في غابه ، أو النمر الكاشر عن نابه ، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وأحجمت الأنصار لمّا سمعت زئير الأسد المبادر ، وامتدّت نحوه الأعناق ، وشخصت إليه الأحداق ، وخشعت الأصوات ، وسكنت الحركات ، وهو يؤنّب بتعنيفه ، ويجبر بتأفيفه.

فعندها أشرق بدر الحقّ من شفق الفتوّة ، وطلعت شمس المجد من برج

٤٣٩

النبوّة ، وأقبل علم الاسلام يرفل في ملابس الجلال ، وتبدّى نور الايمان يخطر في حلل الكمال ، كالطود الشامخ في مجده ، أو البحر الزاخر عند مدّه ، قد أيّده الله بروح قدسه ، وأوجب من ولائه ما أوجب من ولاء نفسه ، وأيّده بالعصمة التامّة ، وشرّفه بالرئاسة العامّة ، كالقمر المنير في كفّه شهاب ساطع ، أو الموت المبير إذا علا بسيفه القاطع ، حتى إذا قارنه وقاربه وشزره بطرفه عند المصاولة علاه بمشحوذ العذاب لو علا به رضوى لغادر كثيباً مهيلاً ، ولو أهوى به على أكبر طود في الدنيا لصبّره منفطراً مقلولاً ، فخرّ كالجذع المنقعر ، أو البعير إذا نحر ، يخور بدمه ، ويضطرب لشدّة ألمه ، قد سلبته ملابس الحياة أيدي المنيّة ، وكسته من نجاح دمه حلّة عدميّة ، وكفى الله المؤمنين القتال بوليّه المطلق ، صدّيق نبيّه المصدّق ، الّذي أعزّ الله الاسلام وأهله بعزمه ، وأذلّ الشرك وجنده بقدمه.

فيا من كفر بأنعم ربّه ، وأجلب بخيله ورجله على حربه ، ورابطه مصابراً ، وعانده مجاهراً ، وأظهر نفاقه الكامن ، وغلّه الباطن ، ألم يكن أبوك في تلك المواطن رأساً للمشركين؟ ألم يكن في حرب نبيّه ظهيراً للكافرين؟ ألست ابن آكلة الأكباد البغيّة؟ ألست زعيم العصابة الأمويّة؟ ألست فرع الشجرة الملعونة؟ ألست رأس الاُمّة المفتونة؟ أليس قائد احزاب المشركين أباك؟ أليس أوّل المبارزين في بدر جدّك وخالك وأخاك ، اُديرت كؤوس المنون بيد وليّ الله عليهم ، وبطرت الحتوف من كثب إليهم ، وأنزل سبحانه ( فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ ) (١) منهم ذلك بما قدّمت أيديهم ، قلبت أشلاءهم بعد الموت في القلب ، ( وَلَو تَرَى إذ فَزِعُوا فَلَا فَوتَ

__________________

١ ـ سورة الأنفال : ١٢.

٤٤٠