تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

غَداة يُنادي والرماح تنوشُه

وسمر العوالي اقتلوني ومالكاً

فنجّاه منّي سبعة وشبابه

وإنّي شيخ لم أكن متماسكاً

وشدّ رجل من الأزد على محمد بن الحنفيّة وقال : يا معشر الأزد ، كرّوا.

فضربه محمد بن الحنفيّة ، فقطع يده ، وقال : يا معضر الأزد ، فرّوا.

فخرج الأسود بن البختري السلمي قائلاً :

ارحم إلهي الكهل (١) من سليم

وانظر إليه نظرة الرحيم (٢)

فقتله عمرو بن الحمق.

فخرج جابر الأزدي قائلاً :

يا ليت أهلي من عمار حاضري

من سادة الأزد وكانوا ناصري (٣)

فقتله محمد بن أبي بكر.

وكانت عائشة تنادي بأعلى صوتها : أيها الناس عليكم بالصبر ، فإنّما يصبر الأحرار.

فأجابها كوفيّ :

قلنا (٤) لها وهي على مهوات

انّ لنا سواك اُمّهات

في مسجد الرسول ثاويات

والتحم القتال وشكت السهام الهودج حتى كأنّه جناح نسر أو شوك قنفذ ،

__________________

١ ـ في المناقب : الكلّ.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : الرحمة.

٣ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : حاضري.

٤ ـ في المناقب : قلت.

٤٠١

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما أراه يقاتلكم إلا هذا الهودج ، اعقروا الجمل. وفي رواية : عرقبوه فإنّه شيطان.

وقال أمير المؤمنين لمحمد بن أبي بكر : إذا عرقب الجمل فادرك اُختك فوارها ، فعرقب رجل منه فدخل تحته رجل ضبيّ ، ثم عرقب اُخرى [ عبد الرحمان ] (١) فوقع على جنبه ، فقطع عمّار نسعه ، فأتاه أمير المؤمنين عليه‌السلام ودقّ رمحه على الهودج ، وقال : يا عائشة ، أهكذا أمرك رسول الله أن تفعلي؟

فقالت : يا أبا الحسن ، ظفرت فأحسن ، وملكت فأسجح (٢).

فقال لمحمد بن أبي بكر : شأنك واُختك فلا يدنو أحد منها سواك.

قال محمد بن أبي بكر : فقلت لها : ما فعلت بنفسك؟ عصيت ربّك ، وهتكت سترك ، ثمّ أبحت حرمتك ، وتعرّضت للقتل ، فذهب بها إلى دار عبدالله بن خلف الخزاعي ، فقالت : أقسمت عليك أن تطلب عبد الله بن الزبير جريحاً كان أو قتيلاً ، فقلت : إنّه كان هدفاً للأشتر ، فانصرف محمد إلى المعركة (٣) فوجده بين القتلى ، فقال : أجلس يا ميشوم أهل بيته ، فأتاها به ، فصاحت وبكت ، ثمّ قالت : يا أخي استأمن له من عليّ ، فأتى أمير المؤمنين عليه‌السلام : فاستأمن له منه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أمنته وأمنت جميع الناس.

وكانت وقعة الجمل بالخريبة ، وقع القتال بعد الظهر ، وانقضى عند المساء ،

____________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ أي قدرت فسهّل وأحسن العفو.

٣ ـ في المناقب : العسكر.

٤٠٢

وكان مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه عشرون ألفاً ، منهم البدريّون ثمانون رجلاً ، وممّن بايع تحت الشجرة مائتان وخمسون ، ومن الصحابة غير هؤلاء ألف وخمسمائة رجل ، وكانت عائشة في ثلاثين ألفاً أو يزيدون ، منها المكّيون ستّمائة رجل.

قال قتادة : قتل يوم الجمل عشرون ألفاً. وقال الكلبي : قتل من عسكر (١) علي ألف راجل وسبعون فارساً ؛ منهم زيد بن صوحان ، وهند الجملي ، وأبو عبدالله العبدي ، وعبد الله بن رقيّة.

وقال أبو مخنف والكلبي : قتل من أصحاب الجمل من الأزد خاصّة أربعة آلاف رجل ، ومن بني عديّ ومواليهم تسعون رجلاً ، ومن بني بكر بن وائل ثمانمائة رجل ، ومن بني حنظلة تسعمائة رجل ، ومن بني ناجية أربعمائة رجل ، والباقي من أخلاط الناس إلى تمام تسعة آلاف إلا تسعين رجلاً ، والقرشيّون منهم طلحة ، والزبير ، وعبدالله بن عتّاب بن أسيد ، وعبد الله بن حكيم بن حزام ، وعبدالله بن شافع بن طلحة ، ومحمد بن طلحة ، وعبدالله بن أبي خلف (٢) الجمحي ، وعبد الرحمان بن معد ، [ وعبد الله بن معد ] (٣).

وعرقب الجمل أوّلاً أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويقال : مسلم بن عدنان ، ويقال : رجل من الأنصار ، ويقال : رجل من ذهل. (٤)

قلت : ولمّا صارت أحاديث هذه الفتنة الصمّاء ، والمحنة العظمى

____________

١ ـ في المناقب : أصحاب.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : عبدالله بن خلف.

٣ ـ من المناقب.

٤ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١٥٧ ـ ١٦٢ ، عنه البحار : ٣٢ / ١٧٧ ـ ١٨٢.

٤٠٣

ضروريّة لا يختلف في صحّتها ، ومتواترة لا يشكّ في واقعتها ، ونقلها المخالف ، ودوّنها الموالف ، وصارت في وضوحها كالشمس ، منزّهة عن الشك واللبس.

أمّا المؤمن التقيّ فلا يرتاب في كفر من أضرم نارها ، وشبّ اُوارها (١) ، وارتكب عارها ، واحتقب أوزارها ، وركب جملها ، وسلك سبلها.

وأمّا المنافق الشقيّ فيعدل عن ظواهر حقائقها ، ويصوّب فعل قائدها وسائقها ، ويرتكب التعسّف في تأويلها ، والتعصّب في تنزليها ، ويعتذر لمن سلب وقودها ، ونصبت عمودها ، وخالفت بعلها ونبيّها ، وحاربت سيّدها ووليّها.

ولمّا رأيت شدّة عضتها ، وحدة كلتها ، لا يرتدع بوعظ واعظ ، ولا ينتفع بلفظ لافظ ، قد طبع الشيطان على قلبها ، واستحوذ على فيها ، فغرقت في لجّة نفاقها ، وتاهت في بيداء شقاقها ، قد أحدقت الطغاة بجملها ، وحفّت البغاة بمحملها ، تمثّلتها في فكري ، وعنّفتها بزجري ، وخاطبتها بلسان الحال ، وعنّفتها ببيان المقال ، وقلت مشيراً إليها ، وزارياً عليها :

أيّها المائحة في غرب غيّها وجهلها ، المخالفة أمر ربّها وبعلها ، المنافقة بإسلامها ، والخارجة على إمامها ، الباغية بخروجها وحربها ، الكافرة بقالبها وقلبها ، ما للنساء وعقد البنود؟ وما لذوات وقود الجنود؟ ألم تؤمرين بالقرار في منزلك؟ أما كان لك شغل شاغل بمغزلك؟ نهيت أن تتبرّجي (٢) ، وعن بيتك

__________________

١ ـ الاُوار : شدّة حرّ الشمس ولفح النار ووهجها والعطش. « لسان العرب : ٤ / ٣٥ ـ أور ـ ».

٢ ـ إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب : ٣٢ و ٣٣ : ( يَا نِسَاءَ النَّبيِّ ... وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبرَّجنَ تَبَرُّج الجَاهِلِيَّةِ الاولَى ).

٤٠٤

أن لا تخرجي ، فهتكت حجابك ، وأسفرتِ نقابك ، وقدت الفتنة بخطامها ، وأرخيت لها فاضل زمامها ، فحبطت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، وكَشرت عن نابها ، ومرقت عجلاً بها ، لمّا أقبلتِ يحثّ بك جملك ، عصيت ربّك بتفصلك وجملك ، خرجت من ديارك بطراً ورئاء الناس ، وفصلت عن قرارك تكتفك الأوغاد الأرجاس ، لما علمك سيّد المرسلين بخروجك ، جريت في تيه الضلال بل فروحك.

يا صاحبة العطفة ، كفرت بالّذي خلقك من نطفة ، يا ربّة الهودج ، خالفت ربّك في المولج والمخرج ، أظهرت غلّاً كامناً بحربك ، وحسداً قاطناً في قلبك ، لمّا انتقلت الزهراء إلى جوار ربّها ، امتنعت من حضور عزيتها وقربها ، وتعلّلت باستيلاء علّة على هامتك وفسادك ، وذلك أعظم دليل على فكرك وإلحادك ، فهلّا تعلّلت يوم مسيرك على بعيرك ، قاصدة حرب حليلها بعيرك وبغيرك؟ ولم لا عصّبت رأسك يوم موت ولدها؟ بل أظهرت الشماتة بهلاك فلذّة كبدها ، وأقبلت على بغلك ، ولم تراع حرمة بعلك ، ولم ترعوي عن جهلك ، بل أجلبتِ على هضم آل الرسول بخيلك ورجلك.

فلعنة الله على فرعك وأصلك ، وقومك وأهلك ، اُمثّلك في يوم البصرة في محملك ، تحرّضين الأوغاد بقولك وعملك ، كالحيّة النافثة بسمّها ، أو الذئبة الضارية بكلمها ، حتى إذا خاب أملك ، وعقر جملك ، وقتلت رجالك ، وخذلت أبطالك ، وصار طلحتك طليحاً ، وزبيرك طريحاً ، ومعلّاك سفيحاً ، ونافسك منيحاً.

ألحفك ساتر العورات جناح رحمته ، وأسبل عليك مقيل العثرات سرت مغفرته ، وأرجعك إلى قرارك الذي أخرجك الشيطان منه ، وأعادك إلى منزلك الذي فصلك العدوان عنه ، وسدّ عنك باب الانتقام ، وستر منك ما فضحته

٤٠٥

الآثام ، كلّ ذلك وجدك يغلي بنار حقدك ، وحودك يشبّ ضرام حسدك ، ثم أتبعت بالطلقاء وأبناء الطلقاء على حربه ، وأغريت الأشقياء اللصقاء بسبّه ، وفعلت إلى ابن هند محرّضة له عليه ، وأغريت بني حرب بإرسال شواظ حربهم إليه ، ونبذت كلّ عهدٍ عهده الرسول إليك فيه ، ثائرة بدم عثمان وكنت من أعظم خاذليه ، لمّا وضعت قميصه على رأسك ، وحفت به الأوغاد من أرجاسك.

حقّت عليكِ كلمة العذاب ، واستوجبتِ اللعنة من ربّ الأرباب ، واُقسم لو شاهدتك يوم بصرتك ، وقد انفردت من أهلك واُسرتك ، وعقر بعيرك ، وقلّ نصيرك ، وقتل جندك ، وفلّ حدّك ، لم اولك منّي صفحاً ، ولم أطوِ عنك شكحاً ، ولقرعت سمعك بقوارع عذلي ، ولو جأت (١) خدّك بسبت نعلي ، ولسفعت ناصيتك بسوطي ، ولرفعت بلعنتك صوتي ، لا لأنّي مخالف سيّدي في فعله ، ولا زار على صفحه بفضله ، إذ ستر بحلمه ما فضح منك ، وعفا بمنّه ما صدر عنك ، بل غضباً لله ، وتعصّباً لأولياء الله.

يا من عصـت بخروجها

قصداً لحـرب ولـيّها

كفرت بأنـعـم ربـّهـا

وخلاف أمر نبيّـهـا

وأتت من البـلد الحـرام

بفـتنةٍ مـن غيـّهـا

تذكي سعـير ضـرامها

بسـفيههـا زهـريّها

وبذي السلا أحـببـت (٢)

غـادرٍ تيـمـيـّهـا

وكذا بنـجل طـريدها

وعتلـّها أمـويّـهـا

تنحب عـليها عاويات

الحـوب عنـد مجيّها

ومضت لشدّة حقـدها

لم تعتبر بعـويّــها

__________________

١ ـ الوجء : اللكز ، الضرب.

٢ ـ كذا في الأصل.

٤٠٦

حتى إذا نشرت صـحاف

بغيـها مـن طـيـّها

في عصبةٍ سـلكت سبيل

عنيـدها وعـصيّـها

صارت حماة بـعيـرها

قد فلّ حـلّ نـديّـها

بـسيوف أقـوام علـت

أعلامـهـم بعـلـيّها

صــنـو الـرسـول

وخير اُمّتـه وربّانيها

وأب الحـروب وربـّها

ومـدار قطب رحيّها

بـدريـّهـا اُحــديّها

سلـعيّها جمـليّهــا

عــلويّهـا قـدسـيّها

نوريّـها مـهديّـهـا

أعـني قصـيّ رتـبته

من ذاتـها وقصـيّها

أبدت خـضوعاً ظاهراً

والغدر حشو طـويّها

فلذاك موت الـسـبط

أبد الغلّ من مخفيّهـا

وأتت على بغل تـحثّ

بـكـفرها وفـديـّها

فالله يلعـن حـشدهـا

مـن تيـمها وعديّهـا

والسائقـين بعـيرهـا

ومن استظلّ بـفيـّها

لمّا فرغ أمير المؤمنين عليه‌السلام من هذه الفتنة التي طار شررها ، وشاع خبرها ، واشتهرت أوغادها ، وأظهرت أحقادها ، وعمّت بليّتها ، وغمّت ظلمتها ، وأحرق لهبها ، واشتدّ كلبها ، وأبرزت أعداء الرحمن فيها رؤوسها ، وبذلت في طاعة الشيطان نفوسها ، وسلكت طرق البغي بقتالها مولاها ، وارتكبت سبيل الغيّ فما أحقّها بخزي الله وأولاها ، لم تشكر ربّها على ما أولاها ، ولم تحفظ نبيّها فيما أوصاها ، الّذي أضرمت المخدّرة المصونة مقباسها ، ووصلت البرّة الميمونة أمراسها ، وأقامت السجاعة المطرقة سوقها ، وأظهرت الأصيلة المعرقة فسوقها ، حتى قتلت رجالها ، وجدّلت أبطالها ، وعقر مركبها

٤٠٧

وخاب مطلبها.

فيالها فتنة كفر قتامها لراكبها ، وغمر غمامها كتائبها ، وبرقت بوارق صفاحها في سحائب غبرتها ، ولمعت أسنّة رماحها في ظلمة فترتها ، فكم اقتطفت فيها رؤوس ، واختطفت نفوس ، واُريق دم ، وبري قدم ، واُبين عضد وساعد ، واُبيد معاضد ومساعد ، أشنع فتنة في الاسلام حدثت ، وأفضع واقعة بها القصاص تحدّثت ، قطعت آجال رجالها بمصاعها ، وصبغت أثباج أبطالها بجريانها.

يالها فتنة كانت رأساً لكلّ فتنة ، وبدعة وضعت أساساً لأقبح سنّة ، وهل قتال القاسطين إلا فرع شجرتها؟ وهل جهاد المارقين إلا شزرة من جمرتها؟ وهل اقتدى ابن حرب إلا بحربها؟ وهل اغترف نجل هند إلا من شربها؟ وهل نسج الطاغي إلا على منوالها؟ وهل احتذى الباغي إلا بمثالها؟

وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه أثر جلاها ، وطلا عثناياها ، وفحل شولها ، وصاحب قولها ، وخائض هولها ، والمخصوص بقوّتها وحولها ، كبش الكتيبة ، مشهور الضريبة ، جبر صدع الاسلام ، لمّا كسر الأصنام ، ونصب من الحقّ الأعلام ، لمّا خفض الأنصاب والأزلام ، كم كسر بعامله منصوباً؟ وكم وفّر من نائله نصيباً؟ كاسر هبل الكفرة ، وعاقر جمل الغدرة ، الفائز من قداح النجدة بمعلّاها ، والحائز من خلال الشجاعة بأعلاها ، قاطع أمراس (١) البغاة ، وقالع أساس الطغاة ، منه تعلّم الناس الشجاعة في قتالهم ، ومن علومه فرّعوا مآخذ أقوالهم.

بنصرته جماعة الحقّ نصرت ، وبطريقه طريقة العلم ظهرت ، لمّا صبغ

__________________

١ ـ المَرِس : الشديد الذي مارَسَ الامور وجرّبها : والجمع : أمراس.

٤٠٨

الحمرة نجيع (١) الأبطال صعيد البصرة ، صار بياض وجه الاسلام لا يرهقه قترة ، لكن بقي خدّ الخارجة من عتبة بيتها لقتاله صار حالكاً ، وداخل فيضها من يدها منتزعاً هالكاً.

دراية فرحها نكيساً ، وتدبير فكرها معكوساً ، وصارت كرّتها خاسرة ، وهمّتها قاصرة ، وسلعتها بائرة ، وخسرت الدنيا والآخرة ، وقرعت بقوارع الملام ، وكملت بمعابل الكلام.

فيا من يصوّب آراءها ، ويداوي أدواءها ، ويستخفّ وزرها ، ويستقلّ شرّها ، ويسدّد اجتهادها ، ويصوّب مرادها ، لقد أبعدت مرماك ، واتّبعت هواك ، ومهّدت قاعدة نفاقك ، وغرست في ظلمة محاقك ، وأوردت تصحيح المعتلّ من فعل وترجيح المرجوع من نقلك ، لقد اجتثت اٌصولك ، وفسد معقولك ، وعتم قياسك ، وقلع أساسك ، واهملت قضيّتك ، وانقبضت بسطتك ، وفلّت غرستك ، وقلّت بطشتك.

يا من عصت ربّها بخروجها وحربها ، وتعصّبت على مولاها بقالبها وقلبها ، أنّى لك هذه الشجاعة والقوّة ، والشدّة والنخوة؟ أمن أبيك يوم خيبر؟ أم من جدّك المبجّل الموقّر ، صاحب خوان بن جذعان ، وناصب أنصاب الأوثان ، أقتم قريش أصلاً ، وألأمهم فعلاً ، وأرذلهم بيتاً ، وأنذلهم حيّاً وميّتاً ... (٢) من آل قصي ، ولا في السراة من بني لؤي ، فأنتم يا ابنة الكاذب المصدّق ، كما قال فيكم الشاعر وصدق :

ويقضي الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأذنون وهم شهود

فإنّك لو رأيـت عبـيد تـيم

وتيما قلت إنّهم العـبيـد

__________________

١ ـ النجيع : الدمُ.

٢ ـ غير مقروءة في الأصل.

٤٠٩

فلعن الله ابن صهّاك المغتلمة ، ونجل البغيّة حنتمة ، فهو الّذي أعلى قدركم ، وأسمى ذكركم ، ورفع بعضكم ، وصحّح المكسّر من جمعكم ، وجعلكم أعلاماً تفضلون على أولياء الله ، تفخرون على أهل بيت نبيّكم وبهم فخركم ، وتتأمّرون على عترة وليّكم وبهم علا أمركم ، وزيّن الشيطان للاُمّة الضالّة اتّباعكم ، وصيّرهم أشياعكم وأتباعكم ، فاتّبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ، وأطاعوه إلا قليلاً من المخلصين ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وحرّفوا كلام الله بزخرفهم وغرورهم ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، ونصروا من أوجب العقل له أن يخذل ، ونصبوا الغوائل لأهل بيت نبيّهم ، وأراقوا القواتل لذرّيّة وليّهم ، وجعلوا أحفادهم إلى يوم الناس هذا عالة يتكفكفون ، وخاملين لا يعرفون.

قد أبكم الفقر فصيحهم ، وقبح العسر صبيحهم ، يرهن أحدهم إزاره لسدّ فورته ، ويبذل مقداره لفرط عسرته ، منعتموهم ما فرض الله لهم في محكم تنزيله ، وحرمتموهم ما أوجب لهم من الحقّ على لسان رسوله ، حتى نكحت به الفروج المحرّمة ، واستبيحت من دين الله كلّ حرمة ، واشتريت منه البغايا والقيان ، وصار زمام الاسلام بأيدي عبدة الصلبان ، فأنتم أصل البلاء ، وفرع الشقاء ، وحمة الشيطان ، وجمة البهتان ، هذه الشجرة الملعونة في القرآن ، والطائفة المارقة عن الايمان ، أعداء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، قربتموها وكان أحقّ أن تبعد ، ونشأتموها وكان أولى أن تعضد ، وغرستم أصلها على رقاب المؤمنين ، وسقيتم فرعها بدماء المهاجرين الأوّلين ، رآهم الرسول ينزون على منبره نزو القردة فما رئي بعد ضاحكاً حتى بلغ من الحياة أمده.

روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّ رسول الله صلّى الله

٤١٠

عليه وآله رأى في منامه أنّ قروداً تنزوا على منبره وتنزل وتصعد ، فساءه ذلك واغتمّ ، ولم ير بعدها ضاحكاً حتى مات.

( وَالشَّجرَةَ المَلعُونَةَ فِي القُرآنِ ) (١) هم بنو اُميّة أخبره سبحانه بتغلّبهم (٢) على مقامه وقتلهم ذرّيّته. (٣)

روي عن منهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليه‌السلام ، فقلت : كيف أصبحت ، يا ابن رسول الله؟

قال : أصبحنا والله كبني إسرائيل في أيدي القبط ، يذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وأصبح خير البريّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلعن على المنابر ، وأصبح من يحبّنا منقوصاً حقّه بحبّه إيّانا. (٤)

وقيل للحسن البصري : يا أبا سعيد ، قتل الحسين بن علي عليه‌السلام ،

__________________

١ ـ سورة الاسراء : ٦٠.

٢ ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : تغليبهم.

٣ ـ انظر : كتاب سليم بن قيس : ١٥٣ ، سنن الترمذي : ٥ / ٤١٤ ح ٣٣٥٠ ، الكافي : ٨ / ٢٢٢ ح ٢٨٠ ، تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٩٨ ح ٩٨ ، تفسير القمّي : ٢ / ٤٣١ ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٧٠ ـ ١٧١ ، أمالي الطوسي : ٢ / ٣٠٠ ، إعلام الورى : ٤٦ ، مجمع البيان : ٣ / ٤٢٤ ، ترجمة الامام الحسن عليه‌السلام من تاريخ دمشق : ١٩٨ ح ٣٢٧ ، مناقب ابن شهراشوب : ٤ / ٣٥ ـ ٣٦ ، تفسير الرازي : ٢٠ / ٢٣٦ ، الكامل في التاريخ : ٣ / ٤٠٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ١٦ ، تفسير القرطبي ، ٢٠ / ١٣٢ ، البداية والنهاية : ١٠ / ٤٨ ، تأويل الآيات : ١ / ٢٨١ ح ١٢ ، تفسير الصافي : ٥ / ٣٥١ ، إثبات الهداة : ١ / ١٥٦ ح ١٦ وص ٣٦٦ ح ٤٧٩ ، البحار : ٤٤ / ٥٨ ح ٧ ، وج ٦١ / ١٥٥ وص ١٦٨ ح ٢٣ ، تفسير نور الثقلين : ٣ / ١٨٠ ح ٢٨١ ، وج ٤ / ٦٥ ـ ٦٦ ح ٨٧.

٤ ـ انظر : مقتل الخوارزمي : ٢ / ٧١ ـ ٧٢ ، مجمع البيان : ٣ / ٤٢٤ ، مناقب ابن شهراشوب : ٤ / ١٦٩ ، البحار : ٤٥ / ١٧٥ ضمن ح ٢٢ ، عوالم العلوم : ١٧ / ٤٠٩ ـ ٤١٠ ضمن ح ٦ ، إحقاق الحقّ : ١٢ / ١٢١.

٤١١

فبكى حتى اختلج جنباه ، ثم قال : واذلّاه لاُمّةٍ قتل ابن دعيّها ابن بنت نبيّها. (١)

فهل تجرّوا على أولياء الله إلا بكم؟ وهل ألحدوا في دين الله إلا بسببكم؟ ما أقام أبوك ابن صهّاك والياً من بعده ولا قلّده ولاية عهده إلا لعلمه بقوّة شقاقه ، وشدّة نفاقه ، وعظيم إلحاده ، وعميم فساده ، فقام عدوّ الله ناسجاً على منواله ، مقتدياً بأقواله وأفعاله ، فرفع بضبع المنافق الشقيّ ، وأعلا كعب المارق الغويّ ، أعني ابن هند البغيّة ، رأس العصابة الأمويّة ، فولّاه رقاب المسلمين ، وأذلّ بتوليته أعلام المؤمنين ، ومهّد له قواعد ظلم الأطهار ، وأوضح له مقاصد هضم الأخيار ، وقرن دولته بدولته ، وولايته بولايته ، ثمّ جعل الأمر شورى بعد انقضاء أجله ، وانتهاء اُكله ، بيد ابن عوفه قرين الشيطان وأليفه ، رأس الغدرة الكذبة ، أصحاب ليلة العقبة ، الذي نصبوا الغوائل لنبيّهم ، وأضمروا له القواتل بغيّهم ، وراموا تنفير ناقته ، واستئصال شأفته ، وأطلع الله نبيّه على ما أضمروا ، وحاق بهم سيّئات ما مكروا.

ما أدخله الزنيم في مشورته ، ولا جعله اللعين قياس نتيجته ، إلا لعلمه بخبث سريرته ، وسوء عقيدته ، وبغضه للحقّ وأهله ، وتعصّبه للباطل بقوله وفعله ، فجعلها في البيت الّذي رسخت في الشرك قوائمه ، وشمخت بالظلم دعائمه ، وشقيت بالنفاق شجرته ، وشاعت في الآفاق بدعته.

أوّل الاثمة ، وثالث الظلمة ، وفرع الشجرة الملعونة ورأس الاُمّة المفتونة ، حتى إذا قام منه زرع الباطل على سوقه ، وعمّ المسلمين بظلمه وفسوقه ، أجمعت الاُمّة على خلعه وخذله ، واجتمعت لحربه وقتله ، وسقته من كؤوس

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٦١ / ١٥٥.

٤١٢

المنون صبراً ، واخترمته بسيوف الحتوف صبراً ، وأعادته طريحاً مهيناً ، وطليحاً ظميناً ، وأخرجه الله من دار الفناء ملوماً محسوراً ، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً ، حتى إذا عاد الحقّ إلى أهله ، والتفّ الفرع على أصله ، وقام بأمر الله وليّه الكامل ، وجاء الحق وزهق الباطل ، ظهر كامن غلّك وحسدكِ ، واشتعلت نار البغي في فؤادك وجسدكِ ، وشيّدتِ ما شيّد أبوك وعمّكِ ، وأظهرت الطلب بدم المخذول بزعمكِ ، ونصر الله الحقّ على رغمك ، وخاب من سهام الخير وعد سهمك.

ثمّ لم يزل غلّك يغلي عليكِ ، وحقدك يلقى إليك ، والخنّاس يوسوس في صدرك ، وينفث في سرّك ، حتى أغريت الجبّار العنيد بعدواته ، وحمّلت الشيطان المريد على مناجزته ، فكفر الطليق بأنعم ربّه ، وأجهد اللصيق جهده في حربه ، ورابطه ثمانية عشر شهراً ، مجدّاً في عداوته سرّاً وجهراً ، فلولا خليفة أبيك ، ونتيجة ذويك ، لما حصل ما حصل ، ولا اتّصل من اتّصل ، فأنتم أصل البغي وفرعه ، وموقف الظلم وجمعه ، ووتر العدوان وشفعه ، وبصر الشيطان وسمعه ، فلعنة الله على اُصولك الماضية ، وقرونك الخالية ، وجموعك الباغية ، وجنودك الطاغية ، لعناً لا انقطاع لعدده ، ولا نفاد لأمده ، آمين ربّ العالمين.

ولنرجع إلى تمام المجلس :

نزل صلوات الله عليه بعد انقضاء الحرب في الرحبة السادس من رجب وخطب فقال : الحمد لله الذي نصر وليّه ، وخذل عدوّه ، وأعزّ الصادق المحقّ ، وأذلّ الناكث المبطل.

ثمّ إنّه عليه‌السلام دعا الأشعث بن قيس من ثغر آذربايجان ، والأحنف

٤١٣

بن قيس من البصرة ، وجرير بن عبد الله البجلي من همذان فأتوه إلى (١) الكوفة ، ووجّه جرير إلى معاوية يدعوه إلى طاعته. (٢)

وأمّا عائشة فإنّ أمير المؤمنين ردّها إلى المدينة وأرسل معها قريباً من مائتي امرأة (٣) ، فلم تلبث إلا قليلاً حتى لحقت بمعاوية بالشام ووضعت قميص عثمان ملطّخاً بالدم على رأسها.

فقال عمرو لمعاوية : حرّك لها جوارها نحن (٤) ، فأخذه معاوية وصعد المنبر ، فكان من أمر صفّين ما أنا ذاكره :

لمّا قدم جرير على معاوية يدعوه إلى طاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام توقّف معاوية وماطل جرير وطاوله حتى قدم عليه شرحبيل ، فصعد معاوية المنبر وخطب ، وقال : أيّها الناس ، قد علمتم أنّي خليفة عمر وعثمان ، وقد قتل عثمان مظلوماً ، وأنا وليّه وابن عمّه وأولى الناس بالطلب بدمه ، فما رأيكم؟

فقالوا : نحن طالبون بدمه.

فدعا عمرو بن العاص ووعده أن يطعمه مصر ـ وكان والياً عليها من قبل عثمان ـ فسار إليه ، وكان يتثاقل في مسيره.

فقال له غلام له يقال له وردان ، تفكّر في أمرك انّ الآخرة مع عليّ والدنيا مع معاوية.

__________________

١ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : فأقره في.

٢ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١٦٤.

٣ ـ انظر : تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٨٣ ، تذكرة الخواصّ : ٨١ ، تاريخ الطبري : ٤ / ٥٤٤ ، تجارب الاُمم : ١ / ٣٣١ ، الكامل في التاريخ : ٣ / ٢٥٨ ، فقد ذكرت فيهما كيفيّة إرسال عائشة إلى المدينة ، وفي عدد النساء اللاتي أرسلهنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مع عائشة اختلاف.

٤ ـ كذا في الأصل.

٤١٤

فقال عمرو :

يا قاتل الله ورداناً وفطنته

لقد أصاب الّذي في القلب وردان (١)

فقال له ابن عمرو :

ألا يا عمرو ما أحرزت نصراً

ولا أنت الغداة إلى رشادِ

أبعت الديـن بالدنيـا خساراً

فأنت لذاك من شرّ العبادِ

[ فانصرف جرير ، ] (٢) وكتب معاوية إلى أهل المدينة : إنّ عثمان قتل مظلوماً ، وعليّ آوى قتلته ، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه ، وجعلنا الأمر شورى بين المسلمين كما جعله عمر عند وفاته ، فانهضوا معنا ـ رحمكم الله ـ إلى حربه.

فأجابوه بكتاب :

معاوي إنّ الحـقّ أبلـج واضـحٌ

وليس كا ربصت (٣) أنت ولا عمرو

نصبت لك (٤) اليوم ابن عفّان خدعة

كما نصب الشيخان إذ زخرف الأمر

____________

١ ـ البيت في المناقب هكذا :

لا قاتل الله ورداناً وابنه أبدى لعمري ما في الصدر وردان.

٢ ـ من المناقب.

٣ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل غير مقروءة.

٤ ـ في المناقب : لنا.

٤١٥

رميتم عليّاً بالذي لم يضـرّه

وليس له في ذاك نهي (١) ولا أمر

فما ذنبه إن نال عثمان معشر

أتوه من الأحياء يـجمـعهم مصر (٢)

وكان عليّ لازماً قعر بيـته

وهمّته التسبيح والحـمد والـذكر

فما أنتما لا درّ درّ أبـيكـما

وذكركم الشورى وقد وضح الأمر

فما أنتما والنصر منّا وأنتما

طليقا اُسارى ما تبوح به الـخمر (٣)

وأرسل معاوية أبا مسلم الخولاني بكتاب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من جملته:

وكان أنصحهم لله خليفة الأوّل ، ثم خليفة خليفته ، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلماً ، فكلّهم حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، عرفنا ذلك من (٤) نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، وتنفّسك الصعداء ، وإبطاؤك عن الخلفاء ، وفي كلّ ذلك تقاد كما يقاد الجمل المغشوش ، ولم تكن لأحدٍ [ منهم ] (٥) أشدّ حسداً منك لابن

____________

١ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : سعي.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل غير مقروءة.

٣ ـ في المناقب : طليق اُسارى ما تبوح بها الخمر.

٤ ـ في المناقب : ثم.

٥ ـ من المناقب.

٤١٦

عمّك ، وكان أحقّهم إلا تفعل [ ذلك ] (١) لقرابته وفضله ، فقطعت رحمه ، قبّحت حسنه ، وأظهرت له العداوة ، وبطنت له بالغشّ ، وألّبت الناس عليه ، فقتل معك في المحلّة ، وأنت تسمع الواعية (٢) ، لا تدرأ عنه بقول ولا فعل.

فلمّا وصل أبو مسلم وقرأ الكتاب على الناس قالوا : كلّنا قاتلون ، ولأفعاله منكرون.

فكان جواب أمير المؤمنين عليه‌السلام :

وبعد ، فإنّي رأيتك قد أكثرتَ في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون من بيعتي ، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملكم على كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا الّذي تريده في خدعة (٣) الصبي عن اللبن ، ولعمري لئن نظرت بعقلك [ دون هواك ] (٤) لعلمت أنّي من أبرأ الناس من دم عثمان ، وقد علمت أنّك من أبناء الطلقاء الّذين لا تحلّ لهم الخلافة.

قال : ثم صعد عليه‌السلام المنبر وحضّهم على ذلك.

قال ابن مردويه : قال قيس بن أبي حازم التميمي وأبو وائل : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : انفروا إلى بقية الأحزاب وأولياء الشيطان ، انفروا إلى من يقول كذب الله ورسوله.

وجاء رجل من عبس إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فسئل : ما الخبر؟ فقال : إنّ في الشام يلعنون قتلة عثمان ، ويبكون على قميصه.

____________

١ و ٤ ـ من المناقب.

٢ ـ في المناقب : الهائعة.

٣ ـ في المناقب : وأمّا تلك التي تريدها فإنّها خدعة.

٤١٧

فقال عليه‌السلام : ما قميص عثمان بقميص يوسف ، ولا بكاؤهم عليه إلا كبكاء أولاد يعقوب ، فامّا فتح الكتاب وجده بياضاً فحولق.

وكتب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : ليت القيامة قد قامت فترى المحقّ من المبطل.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( يَستَعجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشفِقُونَ مِنهَا ) (١).

وكتب معاوية أيضاً إلى أمير المؤمنين ـ بعد كلام طويل ـ :

يا عليّ ، اتّق الله ، ولا تفسدنّ سابقة قدمك ، وذر الحسد فلطالما لم ينتفع به أهله ، فإنّ الأعمال بخواتيمها ، ولا تعمدن بباطل في حقّ من لا حقّ له ، فإنّ تفعل ذلك فلن تضرّ الا نفسك ، ولا تمحق الا عملك.

فأجابه أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ بعد كالم طويل ـ :

عظتي لا تنفع من حقّت عليه كلمة العذاب ، ولم يخف العقاب ، ولا يرجو الله وقاراً ، ولم يخف إلا حذاراً (٢) ، فشأنك وما أنت عليه من الضلالة والحيرة والجهالة تجد الله عزّ وجلّ في ذلك بالمرصاد.

ثم قال في آخر كلامه :

فأنا أبو الحسن قاتل جدّك عتبة ، وعمّك شيبة ، وخالك الوليد بن عتبة ، وأخيك حنظلة الذين سفك الله دماءهم على يدي في يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوّي.

____________

١ ـ سورة الشورى : ١٨.

٢ ـ في المناقب : ولم يخف حذاراً.

٤١٨

[ ومن كلامه : ] (١) ومتى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوفين ، فالبث قليلاً تلحق الهيجاء جمّل ، فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك من تستبعد ، وأنا مرقل نحوك في جحفل (٢) من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم ، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصلها في أخيك وخالك وجدّك ، وما هي من الظالمين ببعيد.

فنهاه عمرو عن مكاتبته ولم يكتب بعدها الا بيتاً واحداً :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلا وضرب الرقاب

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قاتلت الناكثين هؤلاء القاسطين وساُقاتل المارقين ، ثمّ سار أمير المؤمنين راكباً فرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقصده في تسعين ألفاً.

قال سعيد بن جبير : منها تسعمائة رجل من الأنصار وثمانمائة من المهاجرين.

وقال عبد الرحمان بن أبي ليلى : وسبعون رجلاً من أهل بدر ؛ وقيل : مائة وثلاثون رجلا.

وخرج معاوية في مائة ألف وعشرين ألف ، يتقدّمهم مروان وقد تقلّد بسيف عثمان ، فنزل [ صفّين ] (٣) في المحرّم على شريعة الفرات.

____________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ المرقل : المسرع. والجحفل : الجيش.

٣ ـ من المناقب.

٤١٩

ومنعوا عسكر أمير المؤمنين عليه‌السلام من الماء ، فأنفذ أمير المؤمنين صعصعة (١) بن صوحان العبدي فقال في ذلك عنفاً.

فقال معاوية : أنتم قتلتم عثمان عطشاً.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء والموت في حياتكم قاهرين خير من الحياة في دنياكم مقهورين (٢).

وقال الأشتر رضي الله عنه :

ميعادنا الآن بياض الصبح

لا يصلح الزاد بغير ملحِ

وحملوا في سبعة عشر ألف رجل حملة واحدة فغرق بعضهم ولزم الباقون من عسكر معاوية ، فملك الشريعة أصحاب علي عليه‌السلام ، فأمر أمير المؤمنين أن لا يمنعوهم من الماء ، وكان نزوله عليه‌السلام بصفّين لليال بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وثلاثين ، فأمر معاوية النقّابين أن ينقّبوا تحت عسكر عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فقال أمير المؤمنين :

فلو أنّي أطعت عصيت قومي

إلى ركن اليمامة أو شئام

ولكنّـي إذا أبـرمـت أمراً

تخالفـني أقاويل الطغام

فتقدّم الأشتر وقتل صالح بن فيروز العكّي (٣) ومالك بن الأدهم وزيد (٤) بن عبيد

____________

١ ـ في المناقب : شبث بن ربعي الرياحي وصعصعة.

٢ ـ في المناقب : في موتكم قاهرين.

٣ ـ كذا في وقعة صفّين : ١٧٤ ، وفي الأصل : العاملي ، وفي المناقب : العتلي.

وفي وقعة صفّين هكذا عدّ الباقين : ومالك بن أدهم السلماني ، ورياح بن عتيك الغسّاني ، والأجلح بن منصور الكندي ـ وكان فارس أهل الشام ـ وإبراهيم بن وضّاح

٤٢٠