تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ، وزلّة العالِم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها غيرها ، بل إذا زلّ العالِم زلّ العالَم ، وجماعة من الفسّاق حملهم النفاق إلى أن قالوا : كان أبو بكر أشجع من عليّ (١) ، وإنّ مرحباً قتله محمد بن مَسلمة (٢) ، وإنّ ذا الثديّة قتل بمصر (٣) ، وإنّ في أداء سورة براءة كان الأمير أبا بكر على عليّ (٤) ، وربّما قالوا : قرأها أنس بن مالك ، وإنّ

__________________

ابن الفضل الرافعي بالبصرة ، قال : سمعت الربيع بن سلمان يقول : قلت للشافعي : إنّ هاهنا قوماً لا يصيرون على سماع فضيلة لأهل البيت ، فإذا أراد أحد أن يذكرها يقولون : هذا رافضي!!

قال : فأنشأ الشافعي يقول :

إذا في مـجلس ذكـروا عليّاً

وسبطيه وفاطـمة الـزكيّة

فأجرى بعضهم ذكرى سواهم

فأيقن أنّـه ابن سـلقـلقـيّة

إذا ذكـروا عليّـاً أو بنـيه

تشاغل بالروايـات العلـيّة

وقال تـجاوزوا يا قـوم هذا

فهذا من حديـث الرافضـيّة

بَرئت إلى المهيمن مـن اُناس

يرون الرفض حبّ الفاطميّة

على آل الرسـول صلاة ربّي

ولعنـته لتـلك الجـاهلـيّة

١ ـ الرياض النضرة : ١ / ١٣٨ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦ ، مجمع الزوائد : ٩ / ٤٦.

ولقد أجاد الأميني رحمه‌الله في الغدير : ٧ / ٢٠٠ ـ ٢١٥ في تفنيد هذا الزعم ، فراجعه.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ٢ / ٢١٩.

٣ ـ قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٦٨ : وفي كتاب صفّين أيضاً للمدائني ، عن مسروق ، أنّ عائشة قالت له لمّا عرفت أنّ عليّاً عليه‌السلام قتل ذا الثُديّة : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنّه كتب إليّ يخبرني أنّه قتله بالاسكندريّة ، ألا إنّه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : يقتله خير اُمّتي من بعدي ، عنه البحار : ٣٣ / ٣٤٠ ، وج ٣٨ / ١٥ ح ٢٤.

٤ ـ انظر : السيرة النبويّة لابن هشام : ٤ / ١٨٨ ـ ١٩٠ ، تاريخ خليفة بن خيّاط : ٩٣ ، كتاب العثمانية للجاحظ : ١٢٩ ، سنن النسائي : ٥ / ٢٤٧ ، خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام للنسائي ( نشر مكتبة المعلا في الكويت ) : ٩٣ ح ٧٨ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٥ / ١١١ ، الرياض النضرة : ٣ / ١٣٢ ـ ١٣٦ وفيه تأويلات خبيثة ، البداية والنهاية : ٧ / ٣٥٧ ،

٤١

محسناً ولد في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سقطاً (١) ، وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم من عليّ فلا آذن ، ثمّ لا آذن إلا أن يطلّق عليّ ابنتي وينكح ابنتهم (٢) ، وأسندوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : إنّ آل أبي طالب (٣) ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليّي الله وصالح المؤمنين (٤) ، وقالوا : إنّ صدقة النبي كانت بيد العبّاس فغلب عليُّ العباس عليها ، ومن ركب الباطل زلّت قدمه ، وكقول الجاحظ (٥) : ليس إيمان علي إيماناً لأنّه آمن وهو صبيّ (٦) ، ولا شجاعته بشجاعة لأنّ النبيّ صلّى الله

__________________

تفسر القرآن العظيم لابن كثير : ١٠ / ٣٤٤ وما بعدها ( أوائل سورة التوبة ) أورد عدّة روايات بهذا المعنى.

١ ـ انظر : تاريخ الطبري : ٥ / ١٥٣ ، الكامل في التاريخ : ٣ / ٣٩٧ وفيهما بلفظ : توفّي صغيراً ، تهذيب الكامل : ٢٠ / ٤٧٩ بلفظ : دَرَج سِقطاً ، البداية والنهاية : ٧ / ٣٣١ بلفظ : فلمّا ولد الثالث ـ أي لعلي عليه‌السلام ـ جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أروني ابني ما سمّيتموه؟ فقلت : حرباً. فقال : بل هو محسن. وفي موضع آخر بلفظ : ومات وهو صغير.

٢ ـ انظر : صحيح مسلم : ٤ / ١٩٠٢ ح ٢٤٤٩ ، صحيح الترمذي : ٥ / ٦٩٨ ح ٣٨٦٧ ، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي : ١٣ / ٢٤٦ ، اُسد الغابة : ٧ / ٢٢٢ وفيها جميعاً : هشام بن المغيرة.

٣ ـ في بعض المصادر : آل أبي فلان ، وفي بعضها : آل فلان ، وفي بعضها : آل أبي.

٤ ـ مسند أحمد : ٤ / ٢٠٣ ، صحيح مسلم : ١ / ١٩٧ رقم ٣٦٦ ، صحيح البخاري : ٨ / ٧ ، مسند أبي عوانة : ١ / ٩٦ ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ١٦ / ٣٤٦ ، مشكاة المصابيح للتبريزي : ٣ / ١٣٧٦ ح ٤٩١٤ ، جامع الأحاديث للسيوطي : ٢ / ٢٠٩ ح ٤٨٥٦ ، الدرّ المنثور : ٣ / ١٨٣ ، كنز العمّال : ٣ / ٣٥٨ ح ٦٩٢٢ ، شرح نهج البلاغة : ٤ / ٦٤.

٥ ـ راجع كتابه « العثمانيّة » فقد نفث فيه ما يكون عليه وبالاً إن شاء الله.

٦ ـ انظر في هذا المعنى البداية والنهاية : ٧ / ٢٢٢ فقد قال : وكان سبب إسلام علي صغيراً أنّه كان في كفالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه كان قد أصابهم سنة مجاعة ، فأخذه من أبيه ، فكان عنده ، فلمّا بعثه الله بالحقّ آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي ، وكان الايمان النافع المتعدي نفعه إلى الناس إيمان الصدّيق!!!

٤٢

عليه وآله أخبره انّ ابن ملجم يقتله ، ونسبة جماعة انّ حروبه كانت خطأ (١) ، وانّه قتل المسلمين عمداً ، وقول واحد من علمائهم : إنّ الحسن قتل ابن ملجم ، وكان لعلي أولاد صغار ولم يتربّص به ، وقول القتيبي : أوّل خارج في الاسلام الحسين (٢).

فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ، ولعمري انّ هذا الأمر عظيم ، وخطب في الاسلام جسيم ، بل هو كما قال الله : ( إنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ ) (٣) ، فصارت الغوغاء تزعق (٤) على المحدّثين والذاكرين لأمير المؤمنين.

شعر :

إذا ما ذكرنا من عليّ فضيلة

رمينا بزنديق وبعض أبي بكر

__________________

١ ـ انظر الغدير : ٣ / ١٨٨ وص ٢٤٩.

٢ ـ وهكذا دواليك إلى ما شاء الله أن يدوّنوا ممّا ارتضته أنفسهم وأزاغهم الشيطان به ، ولقد تصدّت لهذه المتاهات أقلام منصفة سجّلت القول الحقّ تارة في مؤلّفات خاصّة ، وتارة في فصول أو أبواب ضمن تأليفاتهم ، وتارة بالاشارة إلى ما وضعه الوضّاعون تقرّباً لسلطان ، أو حبّاً في جاهٍ أو مالٍ.

وممّن تناول هذا الموضوع بالتأليف أو بالاشارة : ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٧ ، وج ١١ / ٤٥ و ٤٦ ، والشهيد القاضي التستري في الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة ، والمير حامد حسين النيشابوري اللكنهوي المتوفّى سنة ١٣٠٦ ه‍ في كتابيه « شوارق النصوص في تكذيب فضائل اللصوص » و « عبقات الأنوار » ، والعلامة الأميني في موسوعة « الغدير » ، والأستاذ صائب عبد الحميد في منهج في الانتماء المذهبي : ١٩١ وما بعدها ، والسيد علي الميلاني في مقالات نشرت في مجلة تراثنا « الاعداد ٢٠ ـ ٣١ » تحت عنوان : من الأحاديث الموضوعة.

٣ ـ سورة الصافات : ١٠٦.

٤ ـ أصل الغوغاء الجراد حين يخف للطيران ، ثمّ استغير للسفلة من الناس والمتسرّعين إلى الشر ، ويجوز أن يكون من الغوغاء الصوت والجلبة لكثرة لغطهم وصياحهم.

والزَّعق : الصياح.

٤٣

وقال آخر :

وإن قلت عيناً من عليّ تغامزوا

عليّ وقالوا قد سببتَ معاوية (١)

( أفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلههُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) (٢) ، وبقيت علماء الشيعة في أمورهم متحيّرين ، وعلى أنفسهم خائفين ، وفي الزوايا متحجّرين ، بل حالهم كحال الأنبياء والمرسلين ، كما حكى سبحانه على الكافرين : ( لَئِن لَم تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخرَجِينَ ) (٣) ، ( لَئِن لَم تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرجُومِينَ ) (٤) ، ( لَنَخرُجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَريَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا ) (٥) فقلتُ : ( اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلَا الضَّالِّينَ ) (٦).

فحثثت ركابي عن ديارهم ، وأبعدت قراري من قرارهم ، واستحليت البعد عن مزنهم ، واستعذبت البروز (٧) عن برزتهم ، وحططت رحلي ببلاد سيد الوصيّين ، وألقيت كلّي (٨) على إمام المتّقين ، وجعلت مشهد قرّة عينه أبي عبدالله موطني ، وحضرته الشريفة في حياتي ومماتي مسكني ومدفني ، لا اريد منها

____________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ٥.

٢ ـ سورة الجاثية : ٢٣.

٣ ـ سورة الشعراء : ١٦٧.

٤ ـ سورة الشعراء : ١١٦.

٥ ـ سورة الأعراف : ٨٨.

٦ ـ سورة الفاتحة : ٦ و ٧.

٧ ـ البروز : الخروج.

٨ ـ الكَلّ : الذي هو عيال وثقل على صاحبه ، قال الله تعالى : ( وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولَاه ) أي عِيال. « لسان العرب : ١١ / ٥٩٤ ـ كلل ـ ».

٤٤

بدلاً ، ولا أبغي عنها حولاً ، اُزيّن منابرها ببديع نظامي ، واُسرّ محاضرها بمعاني كلامي ، واُقلّد أجياد مدائحه بدرر لفظي ، واُزيّن خرائد محامده بملابس وعظي ، ملازماً على الدعاء آناء ليلي وأطراف نهاري ، وعقيب تهجّدي وتلاوتي في أسحاري ، بدوام دولة من أعلى كلمة الاسلام بعد رفضها ، ورفع درجة الايمان بعد خفضها ، وقطع عصب النفاق بقاطع غضبه ، وقمع أرباب الشقاق بسطوة حربه ، وأقرّ عين جدّه المصطفى ، وأبيه المرتضى ، وأسخن عيون اُولي الضلالة والشقاء ، وجعل الدين الحنيف يميس (١) في حلل المهابة والبهاء ، والحقّ يرفل في ميادين القوّة والعلاء.

فرع النبوة ، وشجرة الفتوّة ، الناطق بالصدق ، والداعي إلى الحقّ ، قامع كلّ ظالم ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، عماد الدين ، وعميد المؤمنين ، علم الشريعة النبويّة ، ومؤيّد الشيعة الاماميّة.

شعر :

علويّ النجار (٢) من آل موسى

أبحر العلم والجبال الرواسي

هاشـميّ لا من بني عبد شمس

فاطميّ لا من بـني العبّـاس

صاحب الأصل الراسخ ، والفرع الشامخ ، والمجد الأطول ، والشرف الأعبل ، قاتل الكفرة ، وخاذل الفجرة ، وطاهر الاُسرة ، وجمال العترة ، السيّد الأفخر ، والعنصر الأطهر ، والليث الغضنفر ، زينة ولد جدّه أمير المؤمنين حيدر ، وعمدة ذرّيّة السيد الشهيد السعيد شاه حيدر ، مولانا وسيّدنا السلطان الجليل شاه إسماعيل أبو المظفّر ، الّذي أيّد الله الاسلام بعزيز نصره ، وقطع دابر البهتان

____________

١ ـ العَيس : التبختُر.

٢ ـ النجرُ والنجّار والنُجار : الأصل والحسب. « لسان العرب : ٥ / ١٩٣ ـ نجر ـ ».

٤٥

بغالب أمره ، وأظهر بدر الحقّ بعد خفائه ، وأنار نور الصدق بعد انطفائه ، وأنطق لساني بمدح سادتي وأئمّتي ، وأطلق جناني بسبّ حسدتي وأعداء ملّتي.

أقطع بحدّي غراسهم ، وأقلع بجدّي أساسهم ، معتقداً ذلك من أفضل أعمالي ، وأكمل أفعالي ، الّذي أتّصل به إلى منازل السعادة الباقية ، والجنّة العالية ، جعل الله أركان دولته في صعيد السعادة الثابتة ، ودوحة سلطنته في ربوة السيادة نابتة ، وأعلام النصر منصوبة على هامة رفعته ، وكلل المجد مضروبة على عظمة سدته ، وآيات الايمان بدوام أيّامه متلوّة ، ورايات الاسلام بسديد آرائه مجلوّة ، وشمس شرفه في أفلاك التأييد سائرة ، وأنجم عظمته في منازل التأييد دائرة ، والعكوس إلى قضايا عدوّه موجّهة ، والنحوس بذكر مساوئ ضدّه منوّهة.

اللهمّ اجعل أعداءه في قبضة أسرة مأسورين ، وبصارم سطوته مقهورين ، وبعد الامرة مأمورين ، وبعد الرفعة مدحورين ، واجعل لهم بأنفسهم شغلاً شاغلاً ، ومن أعدائهم بلاءً نازلاً ، واشف صدورنا بغيظهم ، وأظللنا بظلّك من فيضهم ، فإنّهم قد ألحدوا في آياتك ، ولدّنوا (١) ببيّناتك ، وأهانوا أولياءك ، وأعزّوا أعداءك ، وراموا إطفاء أنوار الايمان ، وإخفاء اعلام القرآن ، وقتل ذرّيّة نبيّك سيد المرسلين ، وهضم عترة وليّك أفضل الوصيّين ، ونصبوا نصاب الشرك ، وأظهروا كلمة الكفر ، وقصدوا المؤمنين في أنفسهم وأموالهم ، وأجلبوا عليهم بخيلهم ورجالهم ، وغزوهم في ديارهم ، وراموا قلع آثارهم ، وقطع أدبارهم ، واستئصال شأفتهم ، واستحلال حرمتهم ، وأسر ذراريهم ونسائهم ، وقهر علمائهم وأعلامهم ، وشنّوا عليهم الغارات ، وأظهروا فيهم الترّات ،

____________

١ ـ يقال : تلدّن عليه إذا تلكّأ عليه. « لسان العرب : ١٣ / ٣٨٣ ـ لدن ـ ».

٤٦

وشرّدوهم عن بلادهم ، وقطعوهم عن موادّهم ، وجعلوا الجزع شعارهم ، والهلع دثارهم ، وتركوهم عماله يتكفكفون ، وحاملين لا يعرفون ، عباديد (١) في الأقطار ، ومتفرّقين في الأمصار ، قد اُخرجوا من ديارهم بغير حقّ الا أن يقولوا ربّنا الله (٢) ، واوذوا لاعتقادهم العصمة والصدق في أولياء الله لا ذنب لهم إلا حب أهل بيت نبيهم الأطهار ، وبغض أعدائهم الظلمة الفجّار ، الّذين خالفوا نبيك ، وهضموا وليّك ، واستحلّوا حقّه ، وأكذبوا صدقه ، وجحدوا نصّ النبي عليه ، ووجّهوا وجهة ظلمهم إليه ، ومنعوا الزهراء نحلتها ، واستصفوا بلغتها ، وخالفوا والدها ، وكذّبوا شاهدها ، وقتلوا ذرّيّتها بعدها.

اللهم فطوّقهم أطواق لعنتك ، واقرعهم بقوارع نقمتك ، وصبّ عليهم سوط عذابك ، وصخّ (٣) أسماعهم بصوت عقابك ، وارفع لنا عندك درجة ببغضهم ، وهيّئ لنا من أمرنا رَشداً (٤) ـ بغضهم ـ ولا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين ، ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين (٥).

اللهمّ الحظ سلطاننا بعين عنايتك ، ونوّر نصره واحففه بملائكتك ، وافرغ عليه منك واقية باقية ، وثبّت له قدم صدق في معارج التوفيق راقية ، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً ، واقسم له من مغانم ألطافك فضلاً كبيراً ، وردّ أعداءه بغيظهم لن ينالوا خيراً ( رَبَّنَا ءَاتِهِم ضِعفَينِ مِنَ العَذَابِ وَالعَنهُم لَعناً كَبِيراً ) (٦)

__________________

١ ـ عباديد وعباييد : أي متفرّقين. « لسان العرب : ٣ / ٢٧٦ ـ عبد ـ ».

٢ ـ إشارة إلى الآية : ٤٠ من سورة الحجّ.

٣ ـ الصاخّة : صيحة تصخّ الاُذن أي تطعنها فتصمّها لشدّتها ، ومنه سمّيت القيامة الصاخّة. « لسان العرب : ٣ / ٣٣ ـ صخخ ـ ».

٤ ـ إشارة إلى الآية : ١٠ من سورة الكهف.

٥ ـ إشارة إلى الآيتين : ٨٥ و ٨٦ من سورة يونس.

٦ ـ سورة الأحزاب : ٦٨.

٤٧

فإنّه والى أولياءك ، وعادى أعداءك ، وقطع فيك الأقربين ، ووصل الأبعدين.

ولمّا استقرّت لي الدار في حضرة سيّد الشهداء ، وطاب لي القرار في مقام خامس أصحاب الكساء ، أردت أن أسم حبيبي بميسم العبوديّة لشريف حضرته ، وأرقم اسمي في دفاتر أرقّاء خدمته ، واُعطّر المَجالس بنشر مناقبه ، واُسرّ المُجالس بذكر مراثيه ، فجمعت هذا الكتاب مع قلّة بضاعتي ، وركود قريحتي ، فكنتُ بإهدائه إلى عزيز جنابه كناقل التمر إلى هجر (١) ، ومهدي الحصى إلى الدرر ، وقد روى لساني عن قلبي ، ورقم بناني عن لبّي:

فارَقـتُ قـَومـاً دينهـُم

نَـصبٌ وإلحـادٌ وكُفـرُ

بذوي الفـسـوق بأرضِهِم

سـوق وللـفُجّـارِ فجر

لقَضائِهِم فـي هتـك دينِ

المُـصْطَـفَى نابٌ وظَفرُ

إن قلتُ عينـاً مـَن عليّ

أظـهَرُوا حـِقْـداً وهرُّوا (٢)

شبه الكِـلابِ إذَا عَـوَت

فالشَّرُّ مِنْــهُـمْ مُسـْتَمِرُّ

عُلمَاؤُهُـم عُلَـماءُ سـوءٍ

طَبْعُـهُـمْ غَـدْرٌ ومَـكْرُ

وَرجـالُـهُم بَــقَـرٌ إذا

ذُكِرَ الوَصِـيُّ عتوا وفَرُّوا

وَنِـساؤُهُم بالـغنـج كَمْ

من زَاهِـدٍ فَتَـنُوا وغِرُّوا

هـَذا وكَـمْ مَــنْـزِلةٌ

بَعْدَ الغنى مِـنْهُـنَّ فَقْـرُ

كَمْ لَيْـلَةٍ مـن هَـجْرِهِمْ

أمْسىَ فؤَادِي فيـهِ جـَمرُ

فَهَجَرْتُ مُنْصَرَفــي إذْ

لِي لِسَـمع الهَـْجرِ وَقْـرُ

وَحَثثْتُ رَحْليِ نَحْـوَ مَنْ

هُوَ للنَّبِـيِّ أخٌ وصِـهْـرٌ

____________

١ ـ أورد هذا المثل الميداني في مجمع الأمثال : ٢ / ١٥٢ رقم ٣٠٨٠ بهذا اللفظ : كَمُسْتَبضِعِ التَّمْرِ إلى هَجَرَ.

٢ ـ الِهرُّ : الاسم من قولك هَرَرْتُه هَرّاً أي كرهته. « لسان العرب : ٥ / ٢٦٠ ـ هرر ـ ».

٤٨

مولىً اُزيحُ بِِقَصْدِهِ

عن سَاحَتِي ضُرٌّ وعِسِرُ

وتلوت : ( الحَمدُ لِلّهِ الَّذي نَجَّانَا مِنَ القَوم الظَّالِمينَ وَقُل رَبِّ أنزِلنِي مُنزَلاً مُبَارَكاً وأَنتَ خَيرُ المُنزِلِينَ ) (١).

ثمّ إنّي بعد أن منّ الله عليّ بمجاورة سبط نبيّه ، وأهّلني للاقامة في حضرة وليّه وابن وليّه ، أطلق لساني بمدح رسوله المصطفى ، ووليّه المرتضى ، وأهل بيتهما الأئمّة النجباء سادة أهل الدنيا والاُخرى ، الّذين جعل الله أجر الرسالة مودّتهم ، وألزم الكافّة طاعتهم ، فصرت اُحلّي بذكرهم المنابر ، واُزيّن بشكرهم المحاضر ، واُشنّف بمدحهم المسامع ، واُشرّف بوصفهم الجوامع ، واقمع هامات من ناواهم بمقامع نظمي ونثري ، وارغم معاطس (٢) من عاداهم بأكفّ خطبي وشعري.

فقلّ أن يمضي يوم من الأيّام التي حباهم الله فيها بتفضيله ، ونوّه بذكرهم في محكم تنزيله ، الا وقد وضعتُ خطبة في فضل ذلك اليوم الشريف ، وأوردت كلمة في عمل ذلك الوقت المنيف ، كخطبة « مولد البشير النذير » ، وخطبة « يوم الغدير » وذيّلتها بأحاديث رائقة ، ونكت شائقة ، يطرب لها المؤمن التقي ، ويهجرها سمع المنافق الشقيّ ، وخطبة « يوم السادس من شهر ذي الحجّة » الّذي كان فيه تزويج البتول من صنو الرسول ، ويوم نزول سورة « هل أتى » ، وما في فضلهم أتى ، والمجلس المشهور ب‍ « تحفة الزوّار ومنحة الأبرار » وهو مجلس ذكرت فيه ثواب زيارة سيد الشهداء وفضل كربلاء ، وكالتعزية الموسومة ب‍ « مجرية العبرة ومحزنة العترة » وهي خطبة يوم التاسع من المحرّم ، وكالمجلس

____________

١ ـ سورة المؤمنون : ٢٨ و ٢٩.

٢ ـ المَعطِس والمَعْطَس : الأنف لأنّ العُطاس منه يخرج. « لسان العرب : ٦ / ١٤٢ ـ عطس ـ ».

٤٩

المشهور ب‍ « قاطع أسباب النفاق ، وقامع أرباب الشقاق » وهو مجلس قلته بإذن الله في اليوم السادس والعشرين من ذي الحجّة ، وخطبت به على صهوة (١) المنبر ، وأوردت فيه مآثم على عدوّ الله إبليس الأكبر ، وكالرسالة الموسومة ب‍ « السجع النفيس في محاورة الدلام وإبليس ».

وغير ذلك من رسالات وخطب وأشعار تحثّ على اقتناء الفضائل ، وتنهى عن اقتراف الرذائل ، وتوضح من أدلّة التوحيد ما فيه تلال الطالب ، وبلاغ الراغب ، بأدلّة قاطعة ، وحجج ساطعة ، والتحذير من الدار الفانية ، والترغيب في الحياة الباقية ، وكان ذلك يشتمل على مائتي ورقة وأكثر ، أبهى من عقود اللآلئ وأبهر ، قد فاز من البلاغة بالسهم المعلّى ، وحاز من الفصاحة السهم الأعلى ، تمجّ فقراته مسمع الحاسد البغيض ، وتسمر (٢) حلاوة ترصّعاته فم المعاند المريض ، كما وصفت في راتق (٣) نظمي من رام بصعر خدّه هظمي :

كـم شـامـخ بأنـفـه تـكبـّراً

وبـاذخ بـخـدّه تـصعـّرا

ومـضمر لحـسن لفـظي حسداً

ووجهه يظهر مـا قد أضمرا

ترجـف منه وحـشـاه حـنـقاً

يـكاد يزلـقـني بـما يـرا

يـنأى وينهى عن مقامي جـاهداً

يريد أن يشنأنـي بين الورى

كـانّ لـفـظي أسهـم بـقلـبه

حـدّ يـبالي لمعـاينـها برا

في مدح صنو المصطفى اسنادها

بالصدق ما كان حديثاً مفـترا

يمـجّها مســمع ذي وقـاحـة

أعسى النفاق سمعه والمبصرا

يعرض عنّـي مـعرضاّ بعارضٍ

فداً له كم فيه من لــوم جرا

____________

١ ـ صَهوَةُ كل شيء : أعلاه. « لسان العرب : ١٤ / ٤٧١ ـ صها ـ ».

٢ ـ السمرُ : شَدّك شيئاً بالمسمار. « لسان العرب : ٤ / ٣٧٨ ـ سمر ـ ».

٣ ـ الراتق : الملتئم.

٥٠

كذا مريض القلب في لهاته

يرى الزلال العذب صابا ممقرا

لا زال في أحشائه وقـلبه

من سقط زند مقولي نار الـشرا

ثمّ إنّي بعد ذلك عثرت على كتاب لبعض فصحاء اللغة الفارسيّة (١) ، وفرسان البلاغة الأعجميّة ، أصحاب المجد القديم ، والدين القويم ، الّذين قال الله سبحانه فيهم : ( وَءَاخَرِينَ مِنهُم لَمَّا يَلحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٢) تزيّن بتحقيقهم وتدقيقهم المجامع والمجالس ، وكيف لا يكون ذلك كذلك وقدقال سيد المرسلين : لو كان العلم معلّقاً بالثريّا لناله رجال من فارس (٣)؟

____________

١ ـ مراده كتاب « روضة الشهداء » ، للمولى الواعظ الحسين بن علي الكاشفي البيهقي ، المتوفّى في حدود سنة ٩١٠ ه‍ ، مرتّب على عشرة أبواب وخاتمة ، وهو أوّل مقتل فارسي شاعت قراءته بين الفرس حتى عرف قاريه ب‍ « روضة خوان » ، « الذريعة : ١١ / ٢٩٤ رقم ١٧٧٥ ».

٢ ـ سورة الجمعة : ٣.

٣ ـ روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ، ففي بعضها : لو كان الدين ، وفي بعضها : لو كان الإيمان. وإليك جملة من مصادره :

مصنّف عبد الرزّاق : ١١ / ٦٦ ح ١٩٩٢٣ ، مصنّف ابن أبي شيبة : ١٢ / ٢٠٦ ح ١٢٥٦١ وص ٢٠٧ ح ١٢٥٦٢ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧ وص ٣٠٨ ـ ٢٠٩ وص ٤١٧ وص ٤٢٠ وص ٤٢٢ وص ٤٦٩ ، صحيح البخاري : ٦ / ١٨٨ ، صحيح مسلم : ٤ : ١٩٧٢ ب ٥٩ ح ٢٥٤٦ ، سنن الترمذي : ٥ / ٣٨٤ ب ٤٨ ح ٣٢٦١ وص ٤١٣ ب ٦٣ ح ٣٣١٠ وص ٧٢٥ ب ٧١ ح ٣٩٣٣ ، شعب الايمان : ٤ / ٣٤٢ ح ٥٣٣٠ ، مسند أبي يعلى : ٣ / ٢٣ ح ١٤٣٣ وص ٢٧ ح ١٤٣٨ ، تفسير الطبري : ٢٦ / ٤٢ وج ٢٨ / ٦٢ ، المطالب العالية : ٤ / ١٥٨ ح ٤٢٢٨ ، المعجم الكبير للطبراني : ١٠ / ٢٥١ ح ١٠٤٧٠ ، حلية الأولياء : ٦ / ٦٤ ، دلائل النبوّة : ٦ / ٣٣٣ و ٣٣٤ ، فردوس الأخبار : ٤ / ٣٦٧ ح ٧٠٦٠ ، تفسير البغوي : ٤ / ١٨٧ وص ٣٣٩ ، البداية والنهاية : ٦ / ١٩٧ ، تفسير الكشّاف : ٤ / ٥٣٠ ، زاد المسير : ٧ / ٤١٥ ، كنز العمّال : ١٢ / ٩٢ ح ٣٤١٣٤ ، جامع الاُصول : ١٦ / ٢٥٨ وج ١٨ / ٩٣ ، مدارك التنزيل : ٤ / ١٤٣ ، لباب التأويل : ٤ / ١٤٣ وص ٢٦٤ ، البحر المحيط : ٨ / ٨٦ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ١٩٦ ، وص ٣٨٨ ، مجمع الزوائد : ١٠ / ٦٤ وص ٦٥ ، كشف الهيثمي : ٣ / ٣١٦ ح ٢٨٣٥ ، تفسير أبي

٥١

ووجدته رضي الله عنه قد رتّبه على عشرة مجالس لقيام المآتم ، لمصاب الغرّ الميامين من بني هاشم ، شهداء كربلاء وأهل ( قُل لَا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إلَّا المَوَدَّةَ فِي القُربَى ) (١) وجعلها خاصّة بالعشر الاُول من شهر محرّم الحرام الّذي فيه هتكت حرمة الاسلام ، وقتلت ذرّيّة سيد الأنام ، وجعل لكلّ يومٍ من أيّامه مجلساً لقواعد الحزن والتعزية مؤسّساً.

أثابه الله ثواب الصدّيقين ، وحشره في زمرة أوليائه الطاهرين.

فاستخرت الله سبحانه أن أنسخ على منواله في التصنيف والترتيب ، وأقتدي بأفعاله في التأليف والتهذيب ، واُزيّن مجالس أهل الإيمان بمناقب سادتهم ومواليهم ، واُهيّج أحزان قلوب أهل العرفان من شيعتهم ومواليهم ، واُحلّي أجياد اللسان العربي بدرر نظمي ونثري ، واُجدِّد معاهد الأشجان بنواضح بدائع فكري ، ورتّبته كترتيبه ، وبوّبته كتبويبه ، لكن لم أقصد ترجمة كلامه ، ولا سلكت مسلكه في نثاره ونظامه ، وجعلته عشرة مجالس ، وسمّيته ب‍ « تَسلية المُجالس وزينة المَجالس » ، ولم اٌورد فيه من الأحاديث الا ما صحّحه علماؤنا ، ورجّحه أعلامنا ، ودوّنوه في كتبهم ، ونقلوه عن أئمّتهم.

اللهم اجعلنا من السالكين بقدم الصدق إلى ما أوردوا ، والمؤيّدين من السنّة النبويّة لما أيّدوا ، إنّك على كل شيء قدير.

__________________

السعود : ٨ / ١٠٣ ، الجامع الصغير : ٢ / ٤٣٤ ح ٧٤٥٩ و ٧٤٦٤ ، الدر المنثور : ٦ / ٧٦ وص ٢١٥ ، الفتوحات الإلهيّة : ٤ / ١٥٥ ، روح المعاني : ٢٦ / ٧٥ وج ٢٨ / ٨٣ ، قرب الاسناد : ٥٢ ، مجمع البيان : ٥ / ١٠٨ وص ٢٨٤ ، تفسير أبي الفتوح الرازي : ١٠ / ١٩٨ وج ١١ / ١٤٣ ، منهج الصادقين : ٨ / ٣٥٧ وج ٩ / ٢٧٤ ، تفسير الصافي : ٥ / ٣٢ وص ١٧٣ ، نور الثقلين : ٥ / ٤٦ ح ٣٩ وص ٣٢٣ ح ٢٢.

١ ـ سورة الشورى : ٢٣.

٥٢

المجلس الأوّل

في ذكر اُمور تتعلّق بظلامة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام

وما في معناها ، وطرق في ذكر ثواب من أظهر الجزع

لمصابه ومصاب أهل بيته ، وثواب من بكى

لرزيّتهم ، وجلس لعزيّتهم

الحمد لله الّذي زيّن قلوب أوليائه بملابس عنايته ، وحلّى نفوس أصفيائه بنفائس كرامته ، وشرى منهم أنفسهم وأموالهم بنعيم جنّته ، وأطلعهم على أسرار ملكوته ، فعزفت (١) أنفسهم عن الدنيا الدنيّة إلى جوار حضرته لما جذب أنفسهم بزمام عنايته إلى جنابه الأقدس ، وأجلسهم على بساط اُنسه في ظلّ جواره المقدّس ، وناداهم في سرائرهم في ذلك المقام المشرّف ، وخاطبهم في ضمائرهم بخطابه الجليل الأشرف ، وسقاهم من شراب جنّته بالكأس الرويّة ، وأطلعهم على ما أعدّ للمجاهدين في سبيله من المقامات السنيّة والدرجات العليّة.

بذلوا أنفسهم فنالوا فضلها ، وكانوا أحقّ بها وأهلها ، وصلوا بقدوم صدقهم إلى تلك المعاهد والمعالم ، واستظلّوا بظلال تلك العواطف والمراحم ، يجاهدون

__________________

١ ـ العَزف ـ بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة ـ : الزهد. « ح ».

٥٣

في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، قرعت أسماعهم (١) رنّة آيات الذكر الحكيم ( إنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أنفُسَهُمْ وَأَموالَهُمْ بِأنََّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ اللهِ فَيَقتُلُونَ ويُقتَلُونَ وَعداً عَلَيهِ حَقّاً فِي التَّوراةِ وَالإنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوزُ العَظِيمُ ) (٢) فهاموا بلذيذ نعمتها طرباً ، وقضوا بامتثال أوامرها من السعادة الأبديّة إرباً ، لمّا رؤا انّ الجهاد في سبيل ربّهم من أفضل الطاعات ، وبذل الوسع في إعلاء كلمة خالقهم من أعظم القربات ، تلقّوا حدود الصفاح بوجوههم الشريفة ، وصبروا على ألم الجراح شوقاً إلى تلك المنازل المنيفة.

وكان أفضل من فاز بالمعلّى من سهامها ، وتلقّى بشريف طلعته مواقع نصالها وسهامها ، سبط سيّد المرسلين ، وقرّة عين إمام المتّقين ، صفوة المصطفين ، أبا عبد الله الحسين ، الّذي هُدِم ركن الايمان بوفاته ، وقُصِم حبل الاسلام بفواته ، واهتزّ العرش لمصيبته ، وبكت الأفلاك لرزيّته ، وأمطرت السماء دماً وتراباً ، وحيّرت من اُولي العرفان أفكاراً وألباباً.

يا لها من مصيبة لا ترقى عبرتها ، ولا تخبو (٣) زفرتها ، ولا نتسى واقعتها ، ولا توشى جراحتها ، تضرم نيران الأحزان في قلوب خالصي الايمان ، وتشيّد قواعد الأشجان في نفوس أرباب أهل العرفان ، فهي التي كست السماء شفقاً من دماء شهدائها ، وأذكت في القلوب حرقاً بشدّة بلائها ، لم تَحدُث في الخلق مصيبة مثلها منذ قامت السماوات والأرض ، ولم يغضب الجليل غضبها إلى يوم الحساب والعرض ، زفرت جهنّم حين حدوثها زفرة

__________________

١ ـ أي ضربت بشدّة الاعتماد.

٢ ـ سورة التوبة : ١١١.

٣ ـ أي ولا تسكن.

٥٤

لولا أنّ الحقّ منعها إلى أجل مسمّى لأحرقت الأرض بزفرتها ، وشهقت شهقة لولا الأمر الّذي كتب الله لعباده لأهلتك الخلق بفضيع شهقتها ، شردت على خزّانها فخوطبت : قرّي فلأجعلنّك لقتلته سجناً مؤبّداً ، ولأكتبنّ على أغلالهم وأصفادهم دواماً مخلّداً ، ولأجعلنّ فراعنة الأنبياء وأعداء الدين تستعيذ من عذابهم ، ولاُُصيّرنّ الكفرة والفجرة من أهل سجّين يعجبوا من عقابهم ، يشرف عليهم إبليس فيلعنهم ، ويطلع عليهم عبدة الأوثان فتوبّخهم ، ولأجعلنّ وليّي وابن أوليائي ، وصفيّي ونجل أصفيائي ، صاحب هذه المصيبة العظمى ، والواقعة الكبرى ، المجاهد بنفسه وولده ، والموفي بعقده وعهده ، الّذي لم يجاهد جهاده نبيّ من أنبيائي ، ولا صبر صبره مخلص من اُمنائي ، سيد الشهداء في الدنيا والآخرة ، ولاُقيمنّ حججي على عبادي من ذرّيّته الطاهرة.

فيا إخواني ، أفي غفلة أنتم من هذا الشهر الّذي أظلّكم؟ أم في رقدة من هذا العشر الّذي نزل بكم؟ أتعلمون أيّ رحم فيه للرسول قطعت؟ وأيّ مصيبة على بني البتول وقعت؟ وأيّ سادة منهم على الصعيد صرعت؟ وأيّ قادة بكؤوس الحمام جرعت؟ وأيّ كبد لسيّد الأنبياء فريت؟ وأيّ مهجة منه بسهام الأعداء رميت؟

فيا له من شهر لا يحسن الجزع الا في أيّامه ولياليه ، وياله من عشر لا يليق الهلع الا في أعجازه وبواديه ، سقيت فيه بنو الرسول كؤوس الحتوف بعد الظماء ، واُسلبت أرواحهم بغروب (١) السيوف والظباء ، وصارت أجسادهم على الرمضاء بلا وطاء ، منعوا فيه من شرب المباح ، وصدروا من دم الجراح ،

__________________

١ ـ الغَربُ : الحدّة ، غَربُ السيف ، أي كانت تُدارَى حّدّتُه وتُتَّقى. « لسان العرب : ١ / ٦٤١ ـ غرب ـ ».

٥٥

فيا ليت نفيس كانت لأنفسهم فداء ، ووجهي لأوجههم وقاء ، فلو أنّ عين الرسول عاينت سبطه وقد تحوّطت عليه بقيّة الأحزاب ، وأحاطت به كتائب كفرة الكتاب ، وهو يذكّرهم بآيات الله ، ويحذّرهم من سخط الله ، ويورد عليهم الحجّة ، ويوضح بهم المحجّة ، ولا يزدادون من عظته الا نفوراً ، ولا من تذكِرَته الا غروراً ، وراموا منه خطّة لا تليق بمثله ، وطلبوا منه خصلة لا تحسن بفرعه وأصله.

فأبى أبو الاُسد الهاصرة (١) ، أو الليوث الحاسرة (٢) ، وقدّم بينه وبين الله أفراطاً بين يديه ، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وبذلوا الوسع في طاعة ربّهم ووليّهم ، واستشعروا الصبر في نصرة ابن نبيّهم ، يرون القتل في العزّ حياة ، والحياة في العزّ القتل ، كشف الله عن بصائرهم ، وتجلّى لهم في سرائرهم ، فرأوا ما أعدّ لهم من السعادة الباقية ( في جَنَّّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ـ وقيل لهم : ـ كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أسلَفتُمْ فِي الأيَّامِ الخَالِيَةِ ) (٣) فتلقّوا رماح الأعداء بصدور بنيت على الاخلاص قواعدها ، وبقلوب بنيت على الايمان عقائدها ، وقابلوا صفاح الأشقياء بوجوه طالما أحيت ليلها بسجودها وركوعها ، وارضت ربّها بتهجّدها وخشوعها ، محامية عن ابن إمامها ورسولها ، تابعة أمر هاديها ودليلها ، كلّ منهم قد أرضى بتصمّم عزيمة إلهه وربّه قائلاً : اليوم

__________________

١ ـ أسدٌ هَصورٌ وهصّارٌ وهَيصرٌ وهَيصارٌ ... : يَكسِرُ ويُميلُ. « لسان العرب : ٥ / ٢٦٤ ـ هصر ـ ».

٢ ـ في الحديث : يخرج في آخر الزمان رجلٌ يسمّى أمير العُصَب ، وقال بعضهم : يسمّى أمير الغَضَب ، أصحابه مُحشّرون مُحقّرون مُقصَون عن أبواب السلطان ومجالس الملوك ، يأتونه من كل أوبٍ كأنّهم قَزَع الخريف ، يُورّثهم الله مشارق الأرض ومغاربها ، محسّرون محقّرون أي مؤذون محمولون على الحسرة أو مطرودون متعبون من حَسَرَ الدابّة إذا أتعبها. « لسان العرب : ٤ / ١٩٠ ـ حسر ـ ».

٣ ـ سورة الحاقّة : ٢٢ ـ ٢٤.

٥٦

نلقى الأحبّة ، محمد وحزبه ، حتى إذا فازوا من السعادة بالدرجة العليّة ، وحازوا أعظم سهم من السعادة الأبدية ، وأصبحت أجسادهم بسيوف الأعداء مبضّعة ، وأطرافهم بصفاح الأشقياء مقطّعة ، ورؤوسهم عن الأجساد منتزعة ، وعلى الرماح مرفعة ، قد سقوا من كؤوس الحتوف بالكأس المترعة ، وتلقّوا حدود السيوف بوجوه كانت إلى ربّها مسرعة ، وعمّا نهى عنه ورعة ، قد أشرق صعيد كربلاء بدمائهم ، وشرف طفّ نينوى باسلابهم ، وصار مختلف أرواح الأنبياء والمرسلين ، ومهبط ملائكة الله المقرّبين ، فهم التائبون العابدون الحامدون الراكعون الساجدون (١) يحسبهم الجاهل أمواتاً وهم أحياء عند ربّهم يرزقون (٢) ويظنّهم رفاتاً وهم في الغرفات آمنون (٣) ( لاَ يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هذَا يَومُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (٤) ( فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لَم يَلحَقُوا بِهِم مِن خَلفِهِم ألَّا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُمْ يَحزَنُونَ ) (٥).

ولمّا شاهد فوزهم بالشهادة العظمى ، ونيلهم السعادة الكبرى ، وصار وحيداً من أهله واُسرته ، فقيداً لإخوانه وصَحَبَتِه ، وقد أحدقت به الأعداء من كلّ جانب ، وضاقت به المسالك والمذاهب ، وفوّقت (٦) الأعداء نحوه سهامها ومعابلها ، وجرّدت عليه مناصلها وعواملها ، وبنات المصطفى يلذن به صارخات ، ويتوسّلن

__________________

١ ـ إشارة إلى الآية : ١١٢ من سورة التوبة.

٢ ـ إشارة إلى الآية : ١٦٩ من سورة آل عمران.

٣ ـ إشارة إلى الآية : ٣٧ من سورة سبأ.

٤ ـ سورة الأنبياء : ١٠٣.

٥ ـ سورة آل عمران : ١٧٠.

٦ ـ الفُوقُ من السهم : موضع الوتر ... ومَشَقُّ رأس السهم حيث يقع الوتر.

وفَوّقتُه تفويقاً : عملت له فُوقاً. وفَوّقَ نبله تَفويقاً إذا فرضها وجعل لها أفواقاً. « لسان العرب : ١٠ / ٣١٩ و ٣٢٠ ـ فوق ـ ».

٥٧

ضارعات ، وهو يدافع عنهنّ ، ويمانع دونهنّ ، ويتلقّى السيوف بشريف طلعته ، ويفرّق الصفوف بشدّة عزمته ، قد قتلت رجاله ، وذبحت أطفاله ، وانتهكت حرمة الرسول بانتهاك حرمته ، وعظمت مصيبة البتول لعظيم رزيّته.

فما ظنّكم بسيّد المرسلين لو رآه في تلك الحال عديم الأعوان ، فقيد الاخوان ، ممنوعاً من شرب المباح ، مخضوباً بدم الجراح ، قد أجمعت أئمّة السوء على قتله ، واجتمعت عصابة البغي لخذله؟ هل كان يتلقّى عنه السيوف بيديه وساعديه؟ أم يدفع عنه الحتوف بجنبيه وعينيه؟

بل لو رآه أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وهو يستغيث ولا يغاث ، ويستسقى فلا يسقى ، قد أثخنه الجراح ، وأثقله السلاح ، وجعلته عصبة الضلال طعمة لمناصلها ، ومَوْرداً لعواملها ، وهو يحمل كَحَمَلات أبيه في اُحد وبدر ، ويتلقّى سيوف أهل البغي والغدر ، لا يزيده قلّة الأنصار الا بصيرة من أمره ، ولا يكسبه تظافر الأشرار الا إخلاصاً في علانيته وسرّه ، أهل كان يليق الصبر بجلال كماله؟ أم يتلقّى عنه السيوف بأعضائه وأوصاله؟

بل لو رأته سيّدة النساء وهو يتلظّى ظماً ، ويتلهّف عطشاً ، وعاينت بناتها اُسارى على الأقتاب ، حيارى بغير نقابٍ ولا جلباب ، يطاف بهنّ في البلاد ، ويتشرّفهنّ الحاضر والباد ، وشاهدت تلك الوجوه التي طالما قبّلها الرسول المجتبى ، وأكرمها الوصي المرتضى ، أصحاب سورة هل أتى ، وأرباب ( قُل لَا أَسأَلُكُمْ علَيهِ أَجراً إلّا المَوَدَّةَ فِي القُربَى ) (١) ، يسار بها على رماح الأعداء مخضباً شيبها بالدماء ، أكانت تهنأ لها الحياة بعدها أم تتمنّى

__________________

١ ـ سورة الشورى : ٢٣.

٥٨

الممات عندها؟ (١)

روي من طريق أهل البيت عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : تقبل فاطمة يوم القيامة على ناقة من نوق الجنّة ، خطامها من لؤلؤ رطب ، وقوائمها من الزمرّد الأخضر ، وذنبها من المسك الأذفر (٢) ، وعيناها ياقوتتان حمراوان ، عليها قبّة من النور ، يرى باطنها من ظاهرها ، وظاهرها من باطنها ، داخلها عفو الله ، وخارجها رحمة الله (٣) ، وعلى رأسها تاج من نور ، للتاج سبعون [ ركناً ، كلّ ركن مرصّع بالدر والياقوت يضيء كما يضيء الكوكب الدرّي في اُفق السماء ، وعن يمينها سبعون ألف ملك ، وعن شمالها سبعون ] (٤) ألف ملك وجبرائيل آخذ بخطام الناقة ينادي بأعلى صوته : غضّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة ، فتسير حتى تحاذي عرش ربّها وتزّج بنفسها عن الناقة وتقول : إلهي وسيّدي احكم بيني وبين من ظلمني ، اللهم احكم بيني وبين من قتل ولدي ، فإذا النداء من قبل الله : يا حبيبتي وابنة حبيبي ، سلي تعطي ، واشفعي تشفّعي ، فوعزّتي وجلالي لا يفوتني في هذا اليوم ظلم ظالم.

____________

١ ـ وردت في « ح » عدّة أبيات :

وآل رسول الله تسـبَى نساؤهم

ومن حـولهنّ الستر يهتك والخدرُ

سبايا بأكوار المطـايا حواسراً

يلاحظهنّ العبدُ فـي الناس والحرّ

ورملة في ظلّ القصور مصانة

يناط على أقراطـها الـتبر والدرّ

فويل يزيد مـن عـذاب جـهنّم

إذا أقبلت في الحـشر فاطمة الطهر

ملابسها ... مـن السـمّ سـود

وآخـر قـان من دم الـسبط يخرّ

تنادي وأبصار الأنـام شواخص

وفي كـلّ قلـب من مـهابتها ذعر

٢ ـ أي طيّب الريح.

٣ ـ كنابة عن أنّها مشمولة بعفو الله ورحمته ، وتجيء إلى القيامة شفيعة للعباد معها رحمة الله وعفوه لهم.

٤ ـ من أمالي الصدوق.

٥٩

فتقول : إلهي ذرّيّتي وشيعتي وشيعة ذرّيّتي ومحبّي [ ومحبّي ] (١) ذرّيّتي ، فإذا النداء من قبل الله : أين ذرّيّة فاطمة وشيعتها ومحبّوها ومحبّوا ذرّيّتها؟ فيقومون وقد أحاطت بهم ملائكة الرحمة فتقدّمهم فاطمة كلّهم حتى تدخلهم الجنّة. (٢)

وفي حديث آخر : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تحشر فاطمة وتخلع عليها الحلل وهي آخذة بقميص الحسين ملطّخ بالدماء وقد تعلّقت بقائمة العرش تقول : يا ربّ احكم بيني وبين قاتل ولدي ، فيؤخذ لها بحقّها. (٣)

____________

١ ـ من أمالي الصدوق.

٢ ـ أمالي الصدوق : ٢٥ ح ٤ ، عنه غاية المرام : ٥٩٤ ح ٤٥ ، والبحار : ٤٣ / ٢١٩ ح ١ ، وعوالم العلوم : ١١ / ٥٦٤ ح ٤.

وأورده في مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٢٦ ، وروضة الواعظين : ١٤٨ ، والفضائل لشاذان : ١١.

وفي « ح » عدّة أبيات أخرى :

إذا عـلـى الـدنيا الدنيـّة ظفرت

أيدي بغاة طغـاتهـا بهـداتـها

فـهـناك ينـصفـها الإله بـعدله

وتـسـوق شيـعهـا إلى جنّاتها

يـومـاً بـه تأتـي بتـولـة أحمد

تتمـرّغ الأمـلاك فـي خطواتها

وخديجة الـكـبـرى وحـوّا حولها

مع مريم يبـكيـان مـن كرباتها

وبكفّهـا ثـوب الـشهـيد مضمّـخ

ودموعها تـجري علـى وجناتها

تبـدي شـكايتـها لجبّـار السـما

ولها الخلائـق هـوّدت أصواته

يا مصرخ المستـصرخـين وناصر

ا المستضـعفــين منتهى دعواتها

هل امـّة فعـلت بـآل نـبـيّـهـم

كـفـعـال اُميـّة مـع ساداتهـا

غصبت نصيبي من أبـي واستضعفت

بَعلي مزيل الـكـرب في شدّاتـها

وغدت إلى ولدي تـسـنّ سـيوفهـا

وسقته كـأس الـموت في حملاتها

وسبت بـناتـي جهـرة ومضت بها

نـحو الـشـام هديّـة لـبغاتهـا

٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ٨ ح ٢١ وص ٢٦ ح ٦ ، مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ٣٢٧.

وروي في صحيفة الامام الرضا عليه‌السلام : ٨٩ ح ٢١ ، وفيه تخريجات اُخرى ، فراجع.

٦٠