تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري

تسلية المُجالس وزينة المَجالس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري


المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-09-6-X
الصفحات: ٥٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

في روح وريحان وجنّة نعيم ، وقبرها روضة من رياض الجنّة. (١)

وكفاها رضي الله عنها فضلاً وفخراً في الدنيا والآخرة انّ ولدها ذرّيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسله ، وهم أحد الحبلين اللذين لم ينقطعا حتى يردا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحوض ، ولولا خوف الإطالة لأوردت من شعر أبي طالب رضي الله عنه الذي يحثّ فيه بنيه على نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّباع هديه جملة مفيدة تنبئ عن حسن عقيدته ، وإخلاص سريرته ، لكن اقتصرت على هذا القدر والله الموفّق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وإنّما قالت الناصبة ما قالت فيه عداوة لولده أمير المؤمنين وخطّاً من قدره ، ويأبى الله الا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون. (٢)

ولمّا توفّي أبو طالب رضي الله عنه اشتدّ البلاء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعمد لثقيف في الطائف ، فوجد ثلاثة ، هم سادة ، وهم إخوة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمرو ، فعرض صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم نفسه.

فقال أحدهم : أنا أسرق باب (٣) الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قطّ ، وقال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك؟ وقال الآخر : والله لا اُكلّمك بعد مجلسك هذا أبداً ، فإن كنت نبيّاً كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن يزد عليك الكلام ، وإن كنت تكذب على الله فلا ينبغي لي أن اُكلّمك ، وتهزّؤوا به وأفشوا في قومه ما

____________

١ ـ أمال يالصدوق : ٢٥٨ ح ١٤ ، روضة الواعظين : ١٤٢ ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : ٣١.

وأخرجه في البحار : ٣٥ / ٧٠ ح ٤ عن الأمالي والروضة ، وفي ص ١٧٩ عن الفصول المهمّة.

وفي ج ٨١ / ٣٥٠ ح ٢٢ عن الأمالي.

٢ ـ إشارة إلى الآية : ٣٢ من سورة التوبة.

٣ ـ في إعلام الورى : أستار. وفي مصادر اُخرى : أمرط ثياب الكعبة ، ومراده : اُمزّقها.

١٦١

راجعوه (١) ، ثمّ أغروا به سفهاءهم ، فقعدوا له صفّين على طريقه.

فلمّا مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين صفّيهم جعلوا لا يرفع قدماً ولا يضعها الا رضخوها بالحجارة حتى أدموا رجليه ، فخلص منهم وهما تسيلان بالدماء ، فعمد إلى حائط من حوائطهم ، واستظلّ بظلّ حُبلة ـ وهي الكرمة ـ وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دماً ، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وهما من بني عبد شمس ، وهما من أكابر قريش ، وكان لهم أموال بالطائف ، فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله.

وكلاهما قتلا يوم بدر وقتل معهما الوليد بن عتبة ، قتل عتبة أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ، ضربه على هامته بالسيف فقطعها ، وضرب هو عبيدة بن الحارث على ساقه فأطنّها (٢) فسقطا جميعاً ، وحمل شيبة ـ أخوه ـ على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما ، وحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه.

قال عليّ صلوات الله عليه : لقد أخذ الوليد يمينه بشماله فضرب بها هامتي ، فظننت أنّ السماء سقطت على الأرض ، ثمّ اعتنق حمزة وشيبة ، فقال المسلمون : يا عليّ ، أما ترى ا لكلب فقد أنهر (٣) عمّك؟ فحمل عليه علي عليه‌السلام ، ثم قال لحمزة : يا عمّ ، طأطئ رأسك ـ وكان حمزة أطول من شيبة ـ فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه عليّ صلوات الله عليه فطرح نصف

__________________

١ ـ في إعلام الورى : وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به.

٢ ـ أي قطعها.

٣ ـ أنهر الطعنة : وسّعها. وأنهَرتُ الدم : أي أسلته. « لسان العرب : ٥ / ٢٣٧ ـ نهر ـ ».

وفي مناقب ابن شهراشوب : يهرّ.

يقال : هرّ الكلب يَهِرُّ هريراً : إذا نَبَحَ وكَشَرَ عن أنيابه. « لسان العرب : ٥ / ٢٦١ ـ هرر ـ ».

١٦٢

رأسه ، ثمّ أتى إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه.

واحتمل عبيدة رضي الله عنه وبه رمق ، وحملاه عليّ وحمزة وأتيا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخّ ساقه يسيل ، فاستعبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عبيدة : ألست أوّل شهيد من أهل بيتك؟ قال : بلى ، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي. (١)

رجعنا إلى تمام القصّة :

فلمّا رأيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسلا غلاماً لهما يدعى عدّاس معه عنب ـ وهو نصرانيّ من أهل نينوى ـ ، فلمّا جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له رسول الله : من أيّ أرض أنت؟

قال : من أهل نينوى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متّى؟

فقال عدّاس : وما أعلمك بيونس؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني بخبره ، فلمّا أخبره بما أخبره الله به من شأن يونس خرّ عدّاس ساجداً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وجعل يقبّل قدميه وهما تسيلان دماً ، فلمّا نظر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا ، فلمّا أتاهما قالا : ما شأنك سجدت لمحمد ، وقبّلت قدميه ، ولم نرك فعلت بأحدٍ منّا ذلك؟

__________________

١ ـ انظر في وصف هذا الموقف في غزوة بدر : تفسير القمّي : ١ / ٢٦٥ ، مجمع البيان : ٢ / ٥٢٧ ، مناقب ابن شهراشوب : ٣ / ١١٩ ، عنها البحار : ١٩ / ٢٥٤ ح ٣ وص ٢٢٥ وص ٢٩٠.

٢ ـ في إعلام الورى : ساجداً لله.

١٦٣

قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى.

فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك فإنّه رجل خدّاع. (١)

وروي أنّ المشركين لمّا مضوا إلى بدر لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عدّاس مع سيّديه عتبة وشيبة ، فسأل منهما : من هذا الذي عزمتم على حربه والوقيعة به؟

فقالا له : يا عدّاس ، أرأيت الّذي أرسلناك إليه بالعنب في الطائف؟ قد اتّبعه قوم من الصُّباه ، وقد قصدنا حربهم ، وتفريق كلمتهم ، وأن نأتي بهم إلى مكّة اُسارى ، ونعرّفهم ضلالهم.

فقال عدّاس : بالله يا سيّديّ ، ارجعوا من فوركم هذا إلى مكّة ، والله لئن لقيتموه لا تفرحوا بالحياة بعدها ، والله إنّه نبي حق ، وقوله صدق ، فزجراه ولم يعبئا بكلامه. (٢)

ثمّ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجع إلى مكة من الطائف واشتدّ البلاء ، وأقبل المشركون يردّون المسلمين ويفتنونهم عن دينهم ، ثمّ انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استجار بالأخنس بن شَريق ، وسهيل بن عمرو فتعلّلا ، ثم استجار بالمطعم بن عديّ حتى دبّر في أمر الهجرة. (٣)

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في

____________

١ ـ إعلام الورى : ٦٤ ، عنه البحار : ١٩ / ٦ ضمن ح ٥.

وأورده في مناقب شهراشوب : ١ / ٦٨ ، عنه البحار : ١٩ / ١٧ ح ٩.

٢ ـ المغازي للواقدي : ٣٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٤ / ٩٦ ، البحار : ١٩ / ٣٣٠.

٣ ـ إعلام الورى : ٦٥ ، عنه البحار : ١٩ / ٧.

١٦٤

الموسم ، فلقي رهطاً من الخزرج ، فقال : ألا تجلسون اُحدّثكم؟

قالوا : بلى ، فجلسوا إليه ، فدعاهم إلى الله ، وتلا عليهم القرآن.

فقال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله انّه النبيّ الّذي كانوا يوعدوكم به اليهود (١) ، فلا يسبقنّكم إليه أحد ، فأجابوه ، وقالوا له : إنّا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والسوء مثل ما بينهم ، وعسى الله أن يجمع بينهم بك ، فستقدم عليهم وتدعوهم إلى أمرك ، وكانوا ستّة نفر.

فلمّا قدموا المدينة أخبروا قومهم بالخبر ، فما دار حول الا وفيها حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبايعوه على بيعة النساء ألاّ يشركوا بالله شيئاً ، ولا يسرقوا ، إلى آخرها ، ثمّ انصرفوا وبعث معهم مصعب بن عمير يصلّي بهم ، وكان يسمّى بينهم في المدينة « المقرئ » (٢) ، فلم تبق دار في المدينة إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا دار اُميّة وحطيمة ووائل وهم من الأوس.

ثمّ عاد مصعب إلى مكّة ، وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم ، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان في أيّام التشريق بالليل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اُبايعكم على الاسلام.

فقال بعضهم : يا رسول الله ، نريد أن تعرّفنا ما لله علينا ، وما لك علينا ، وما لنا على الله.

____________

١ ـ في المناقب والبحار : الذي كان يوعدكم به اليهود.

٢ ـ سمّي بذلك لأنّه كان يقرئهم القرآن.

١٦٥

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا ما لله عليكم فتعبدوه ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأمّا ما لي عليكم فتنصرونني مثل نسائكم وأبنائكم ، وأن تصبروا على عضّ السيوف ، وأن يقتل خياركم.

قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا على الله؟

قال : أمّا في الدنيا فالظهور على من عاداكم ، وفي الآخرة رضوان الله والجنّة ، فأخذ البراء بن معرور بيده ، وقال : والّذي بعثك بالحق نبيّاً لنمنعنّك بما نمنع به اُزرنا (١) ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كبار عن كبار.

فقال أبو الهيثم : إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً ، وإنّا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسّم رسول الله ، ثمّ قال : بل الدم الدم والهدم الهدم ، اُحارب من حاربتم ، واُسالم من سالمتم ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخرجوا لكم (٢) اثنى عشر نقيباً ، فاختاروا ، فقال : اُبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريّين كفلاء على قومهم بما فيهم ، وعلى أن تمنعوني بما (٣) تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فبايعوه على ذلك ، فصرخ الشيطان في العقبة : يا أهل الجباجب (٤) ، هل لكم في محمّد

____________

١ ـ قال ابن الأثير في النهاية : ١ / ٤٥ : وفي حديث بيعة العقبة « لَنَمْنَعَنََّكَ ممّا نمنع به اُزُرَنا » أي نساءنا وأهلنا ، كنّى عنهنّ بالأزر ؛ وقيل : أراد أنفسنا. وقد يكنّى عن النفس بالإزار.

٢ ـ في المناقب والبحار : إليّ.

٣ ـ في المناقب والبحار : ممّا.

٤ ـ قال ابن الأثير في النهاية : ١ / ٢٣٤ : في حديث بيعة الأنصار « نادى الشيطان : يا أصحاب الجُباجِب » هي جمع جُبجُب ـ بالضم ـ وهو المستوى من الأرض ليس بحَزن ، وهي هاهنا منازل بمنىً ، سمّيت به ، قيل : لأنّ كروش الأضاحي تُلقى فيها أيّام الحج. والجَبجَبة : الكَرِشُ يُجعل فيها اللحم يُتزوّد في الأسفار.

١٦٦

والصباة معه؟ اجتمعوا على حربكم ، ثم نفر الناس من منى وفشى الخبر ، فخرجوا في الطلب ، فأدركوا سعد بن عبّادة والمنذر بن عمرو ، فأمّا المنذر فأعجز القوم ، وأمّا سعد فأخذوه ، وربطوه بنسع رحله ، وأدخلوه مكّة يضربونه ، فبلغ خبره جبير بن مطعم والحارث بن حرب بن اُميّة فأتياه وخلّصاه.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الوقت لم يؤمر إلا بالدعاء والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل ، فطالت قريش على المسلمين ، فلمّا كثر عتوّهم أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالهجرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه المؤمنين : إنّ الله قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنون بها ، فخرجوا أرسالاً (١) يتسلّلون تحت الليل ، حتى لم يبق مع النبي إلا عليّ عليه‌السلام ، مع جماعة يسيرة من أصحابه ، فحذرت قريش خروجه ، وعلموا أنّه قد أجمع على حربهم ، فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قُصيّ بن كلاب يتشاورون في أمره ، فتمثّل لهم إبليس في صورة شيخ من أهل نجد ، فقال : أنا ذو رأي حضرت لموازرتكم.

فقال عروة بن هشام : نتربّص به ريب المنون ، وقال أبو البَختريّ : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه.

وقال العاص بن وائل واُميّة واُبيّ ابنا خلف : نبني له علماً (٢) نستودعه فيه ، فلا يخلص إليه (٣) من الصباة أحد.

____________

١ ـ قال المجلسي رحمه‌الله : الأرسال ـ بالفتح ـ : جمع الرسل ـ بالتحريك ـ وهو القطيع من كل شيء ، أي زمراً زمراً. ويحتمل الإرسال ـ بالكسر ـ : وهو الرفق والتؤدة.

٢ ـ زاد في المناقب : ونترك له فرجاً.

يقال لما يُبنى في جواد الطريق من المنازل يستدلّ بها على الطريق : أعلامٌ ، واحدها عَلَمٌ. والعلم : المنار ... والعلامة والعَلَم : شيء يُنصب في الفلوات تهتدي به الضالّة. « لسان العرب : ١٢ / ٤١٩ ـ علم ـ ».

٣ ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : فلا يخلص منه إليه.

١٦٧

وقال عتبة وشيبة وأبو سفيان : نرحل بعيراً صعباً ونوثق محمداً عليه كتافاً وشدّاً ، ثم نقصع (١) البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطعه بين الدكادك (٢) إرباً إرباً.

فقال أبو جهل : أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة فتنتدبوا من كلّ قبيلة رجلاً نجداً (٣) ، وتأتونه بياتاً ، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعها ، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطّلب مناهضة قريش فيه فيرضون بالعقل.

فقال أبو مرّة : أحسنت يا أبا الحكم ، هذا الرأي فلا نعدلنّ له رأياً ، فأنزل الله سبحانه : ( يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ ) (٤) الآية ، فهبط جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ، فدعا عليّاً عليه‌السلام ، فقال : إنّ الله سبحانه أوحى إليّ أن أهجر دار قومي ، وأن أنطلق إلى غار ثور أطحل (٥) ليلتي هذه ، وأمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي ، وأن ألقي عليك شبهي.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أو تسلم بمبيتي هناك؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم.

فتبسّم أمير المؤمنين ضاحكاً ، وأهوى إلى الارض ساجداً ، فكان أوّل من سجد لله شكراً ، وأوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته ، فلمّا رفع رأسه

____________

١ ـ أي نجرحه بأطراف الرماح حتى يغضب.

٢ ـ جمع الدكداك : وهو أرض فيها غلظ.

٣ ـ النجد : الشجاع الماضي فيما يعجز عنه غيره.

٤ ـ سورة الأنفال : ٣٠.

٥ ـ الطُحلَة ـ بالضم ـ : لون بين الغُبرة والسواد ببياض قليل. « القاموس المحيط : ٤ / ٦ ـ طحل ـ ».

١٦٨

قال : امض بما اُمرت به ، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي.

قال : فارقد على فراشي ، واشتمل بردي الحضرمي ، ثمّ إنّي اُخبرك يا علي انّ الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينهم (١) ، فأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (٢) ، وقد امتحنك الله يا ابن اُمّ بي ، وامتحنني فيك بمثل ما امتحن خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل ، فصبراً صبراً ( إنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ ) (٣) ثم ضمّه إلى صدره ، واستتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر وهند بن أبي هالة وعبيد الله (٤) بن فُهَيرة ، ودليلهم اُريقط (٥) الليثي فأمرهم رسول الله بمكان ذكره لهم ، ولبث (٦) صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عليّ يوصيه ، ثم خرج في فحمة العشاء (٧) والرصد من قريش قد أطافوا به ينتظرون انتصاف الليل ليهجموا عليه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ( وَجَعَلنَا مِن بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِن خَلفِهِم سَدّاً ) (٨) الآية ، وكان بيده قبضة تراب ، فرمى بها في رؤوسهم ، ومضى حتى انتهى إلى أصحابه الذين واعدهم ، فنهضوا (٩) معه

__________________

١ ـ في المناقب : دينه.

٢ ـ تقدّمت تخريجاته ص ٣٩ هامش ١٦.

٣ ـ سورة الأعراف : ٥٦.

٤ ـ في المناقب : عبد الله ، وكذا في المواضع الآتية.

وفي الكامل : عامر بن فُهَيرَة ـ وهو مولى الطُفَيل بن عبد الله الأزديّ ـ اشتراه أبو بكر. انظر في ترجمته « الكامل في التاريخ : ٢ / ٦٨ ».

٥ ـ في المناقب : اُزيقطة. ولعلّه أبو واقد ـ كما سيأتي في ص ٨٥ ـ.

وفي تاريخ الطبري : ٢ / ٣٧٨ و ٣٨٠ دليلهم : عبد الله بن أرقد.

٦ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : كتب ـ وهو تصحيف ـ.

٧ ـ الفَحمة من الليل : أوّله ، أو أشدّ سواده ، أو ما بين غروب الشمس إلى نوم الناس. « القاموس المحيط : ٤ / ١٥٨ ـ فحم ـ ».

٨ ـ سورة يس : ٩.

٩ ـ في المناقب : فمضوا.

١٦٩

حتى وصلوا إلى الغار ، وانصرف هند وعبيد الله بن فهيرة راجعين إلى مكّة. (١)

وكان قد اجتمع حول دار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعمائة رجل مكبّلين بالسلاح.

قال ابن عبّاس : فكان من بني عبد شمس عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن هشام وأبو سفيان ، ومن بني نوفل طعمة (٢) بن عديّ وجبير بن مُطعم والحارث بن عامر ، ومن بني عبد الدار النضر بن الحارث ، ومن بني أسد أبو البختري وزمعة (٣) ابن الأسود وحكيم بن حزام (٤) ، ومن بني مخزوم أبو جهل ، ومن بني سهم نُبَيه ومُنبّه ابنا الحجّاج ، ومن بني جُمَح اميّة بن خلف ، هؤلاء الرؤساء وغيرهم ممّن (٥) لا يعدّ من قريش. (٦)

وأحاطوا بالدار إلى أن مضى من الليل شطره هجموا على أمير المؤمنين صلوات الله عليه شاهرين سيوفهم ، ففطن بهم فاخترط سيفه وشدّ عليهم فانحازوا عنه ، وقالوا : أين صاحبك؟

قال : لا أدري ، أو رقيب كنت عليه ، ألجأتموه إلى الخروج ، فخرج.

__________________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ١٨١ ـ ١٨٣ ، عنه البحار : ١٩ / ٢٥ ح ١٥ « إلى قوله : يتشاورون في أمره ».

وأخرجه في البحار : ١٩ / ٢٣ عن المنتقى في مولد المصطفى للكازروني ، ولم أعثر على غير طبعته الفارسيّة والمسمّاة « نهاية المسؤول في رواية الرسول ».

وانظر في هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله : الكامل في التاريخ : ٢ / ١٠١ وما بعدها.

٢ ـ في تاريخ الطبري : طُعَيمَة.

٣ ـ كذا في المناقب وتاريخ الطبري ، وفي الأصل : ربيعة.

٤ ـ كذا في المناقب وتاريخ الطبري ، وفي الأصل : مزاحم.

٥ ـ كذا في المناق وتاريخ الطبري ، وفي الأصل : ممّا.

٦ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ٥٨ ، عنه البحار : ٣٨ / ٢٩٠.

وانظر تاريخ الطبري : ٢ / ٣٧٠.

١٧٠

وكان أمير المؤمنين في تلك الحال ابن عشرين سنة ، فأقام صلوات الله عليه بمكّة حتى أدّى أمانات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأدّى إلى كل [ ذي ] (١) حقّ حقّه ، ثمّ عزم صلوات الله عليه على الهجرة.

فكان ذلك دلالة على خلافته وإمامته وشجاعته ، وحمل نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ثلاثة أيّام ، وفيهنّ عائشة ، فله المنّة على أبي بكر بحفظ ولده ، ولعليّ عليه‌السلام المنّة عليه في هجرته ، وعليّ ذو الهجرتين والشجاع هو الثابت (٢) بين أربعمائة سيف ، وإنّما أباته النبي على فراشه ثقة بنجدته ، فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر ليقتلوه ظاهراً ، فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم بأنّ قاتليه من جميع القبائل. (٣)

وقد ذكرنا رؤساءهم الذين اجتمعوا لقتله قبل ذلك.

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا عزم على الهجرة قال له العبّاس : إنّ محمداً ما خرج إلا خفية ، وقد طلبته قريش أشدّ طلب ، وأنت تخرج جهاراً في أثاث وهوادج ومال ونساء ورجال تقطع بهم السباسب (٤) والشعاب من بين قبائل قريش ما أرى لك أن تمضي الا في خُفارَة (٥) خزاعة.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

____________

١ ـ من المناقب.

٢ ـ في المناقب : والشجاع البائت.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ٥٨ ـ ٥٩ ، عنه البحار ٣٨ / ٢٨٩ ـ ٢٩١.

٤ ـ السباسب : جمع السبسُب : المَفازة أو الأرض المستوية البعيدة. « القاموس المحيط : ١ / ٨١ ـ سَبّه ـ ».

٥ ـ خَفيرُ القوم : مُجيرهم. « المحيط في اللغة : ٤ / ٣٣١ ـ خفظ ـ ».

١٧١

إنّ المـنيّة شـربـة مـورودة

لا تجز عـنّ (١) وشدّ للترحيل

إنّ ابن آمنـة النـبي محـمداً

رجل صدوق قال عن جبريل

أرخ الزمام ولا تخف من عائق

فاللـه يرديـهم عـن التنكيل

إنّي بـربّـي واثـق وبأحمـد

وسبـيـله متلاحق بـسـبيلِ

قالوا : وكمن مهلع غلام حنظلة بن أبي سفيان في طريقه بالليل ، فلمّا رآه (٢) أمير المؤمنين عليه‌السلام اخترط (٣) سيفه ونهض إليه ، فصاح أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه صيحة خرّ على وجهه ، وجَلَدَه (٤) بسيفه ، ثمّ مضى صلوات الله عليه ليلاً. (٥)

وكان مبيت أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل ليلة.

واقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغار ثلاثة أيّام ، ولمّا ورد المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقُباء منتظراً لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان أمير المؤمنين أمر ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ واد ، وكان معه من النساء الفواطم (٦) وأيمن بن اُمّ أيمن (٧) مولى رسول الله صلّى الله

__________________

١ ـ في المناقب : لا تتزعنّ.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : رأى.

٣ ـ في المناقب : سلّ.

٤ ـ في المناقب : جلّله.

يقال : جَلَدته بالسيف والسوط جَلداً إذا ضربت جِلدَه : « لسان العرب : ٣ / ١٢٥ ـ جلد ـ ».

٥ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ٥٩ ، عنه البحار : ٣٨ / ٢٩١.

٦ ـ أي : فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وامّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب ـ وقد قيل هي ضُباعة ـ.

٧ ـ كذا في المناقب ، وفي الاصل : واُمّ أيمن.

١٧٢

عليه وآله وغيرهم ، وخرج عليه‌السلام إلى ذي طوى ، وابو واقد يسوق بالرواحل فأعنف بهم ، فقال أمير المؤمنين : أبا واقد ، ارفق بالنسوة فإنّهنّ ضعائف.

قال : إنّي أخاف أن يدركنا الطلب.

قال : اربع عليك (١) ، إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : يا علي ، إنّهم لن يصلوا إليك من الآن بمكروه ، ثمّ جعل أمير المؤمنين يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً ويرتجز عليه‌السلام :

ليس إلا الله فارفع ظنّكا

يكفيك ربّ العرش (٢) ما أهمّكا

فلمّا شارف ضجنان (٣) أدركه الطلب بثمانية فوارس ، فأنزل النسوة واستقبلهم منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه وقالوا : يا غُدَر (٤) ، كيف أنت (٥) ناج بالنسوة؟ ارجع لا أبا لك.

قال : فإن لم أفعل أفترجعون؟ ودنوا من النسوة فحال بينهم وبينها وقتل جناحاً ، وكان يشدّ عليهم شدّ الأسد على فريسته ، وهو يقول :

خلّوا سبيل الجاهد المجاهدِ

آليت لا اعبد غير الواحدِ

فتقهقروا عنه ، فسار ظاهراً حتى وافى ضجنان فتلوّم بها يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين ، فصلّى ليلته تلك والفواطم يذكرون الله قياماً

__________________

١ ـ أي توقّف وتحبّس.

٢ ـ في المناقب : الناس.

٣ ـ ضَجَنان : جبل قرب مكّة.

٤ ـ أي : يا غادر.

٥ ـ في المناقب : أظننت يا غدّار أنّك.

١٧٣

وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر ، فصلّى بهم صلاة الفجر ، ثمّ سار بهم حتى وصل المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم ، وهو قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِم ـ إلى قوله ـ أنِّي لَا اُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِن ذَكَرٍ أَو اُنثَى ـ فالذكر عليّ والاُنثى فاطمة ـ بَعضُكُم مِن بَعضٍ ـ عليّ من الفواطم وهنّ من عليّ ، إلى قوله ـ عِندَهُ حُسنُ الثَّوَابِ ) (١).

وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أنفُسَهُم وَأموَالَهُم ) (٢) الآية ، ثمّ قال : يا علي ، أنت أول هذه الامّة إيماناً بالله وبرسوله ، وأوّلهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي نفسي بيده لا يحبّك إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للايمان ، ولا يبغضك الا منافق أو كافر.

وكان قيام علي بعد النبي بمكّة ثلاث ليال ، ثمّ لحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . (٣)

روى السدّي ، عن ابن عبّاس ، قال : نزل قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ ) (٤) في عليّ بن أبي طالب حين هرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزلت الآية بين مكّة والمدينة.

__________________

١ ـ سورة آل عمران : ١٩١ ـ ١٩٥.

٢ ـ سورة التوبة : ١١١.

٣ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

ورواه الشيخ الطوسي في الأمالي : ٢ / ٨٤ ـ ٨٦ ، عنه البحار : ١٩ / ٦٥.

٤ ـ سورة البقرة : ٢٠٧.

١٧٤

وروي أنّه لمّا نام أمير المؤمنين عليه‌السلام قام جبرئيل عند (١) رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله به الملائكة؟ (٢)

وروي أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالزيادة؟ فلم يجيبا.

فأوحى الله إليهما : هذا عليّ بن أبي طالب قد آثر محمداً بعمره ، ووقاه بنفسه ، فاهبطا إليه واحفظانه ، فهبط جبرئيل وميكائيل ، الحديث (٣).

وأمّا المشركون فركبوا الصعب والذلول في طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . (٤)

قال الزهري : ولمّا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر الغار أرسل زوجاً من حمام ، حتى باضا في أسفل الثقب ، والعنكبوت حتى تنسج بيتاً ، فلمّا جاء سرقاة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام ونسج (٥) العنكبوت ، قال : لو دخله أحد لانكسر البيض وتفسّخ [ بيت ] (٦) العنكبوت ، فانصرف.

____________

١ ـ كذا في المجمع ، وفي الأل : على.

٢ ـ مجمع البيان : ١ / ٣٠١. وفيه : بك الملائكة.

٣ ـ أمالي الطوسي : ٢ / ٨٣ ـ ٨٤ ، إحياء علوم الدين : ٣ / ٢٥٨ ، الروضة لشاذان : ٢ ( مخطوط ) ، إرشاد القلوب للديلمي : ٢٢٤ ، تأويل الآيات : ١ / ٨٩ ح ٧٦.

وأخرجه في البحار : ١٩ / ٣٩ وص ٦٤ وص ٨٥ ح ٣٦ وص ٨٦ ح ٣٧ عن بعض المصادر أعلاه.

٤ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ١٨٣.

٥ ـ في المجمع : وبيت.

٦ ـ من المجمع.

١٧٥

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللّهمّ أعم أبصارهم عنّا ، فعميت أبصارهم عن دخوله ، وجعلوا ينظرون (١) يميناً وشمالاً حول الغار.

وقال أبو بكر : لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا.

وروى علي بن ابراهيم في تفسيره : كان رجل من خزاعة ، يقال له أبو كرز ، فما زال يقفو أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى وقف بهم على الحجر (٢) ، فقال : [ هذه ] (٣) قدم محمد ، هي والله اُخت القدم التي في المقام ، وقال : هذه قدم أبي قحافة والله ، وقال : ما جاوزا هذا المكان ، إمّا أن يكونا صعدا في السماء أو نزلا في الارض.

وجاء فارس من الملائكة في صورة الإنس ، فوقف على باب الغار ، وهو يقول : اطلبوه في هذه الشعاب فليس هاهنا.

ونزل رجل من قريش فاستقبل باب الغار وبال ، فقال أبو بكر : قد أبصرونا يا رسول الله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم. (٤)

( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ ) (٥) أي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي : ألقى في قلبه ما سكن به ، وعلم أنّهم غير واصلين إليه.

وفي تخصيص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسكينة ، وعد إدخال أبي

__________________

١ ـ في المجمع : يضربون.

٢ ـ في المجمع : باب الغار.

٣ ـ من المجمع.

٤ ـ أورده عن عليّ بن إبراهيم في مناقب ابن شهراشوب : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، عنه البحار : ١٩ / ٧٧ ح ٢٨.

٥ ـ سورة التوبة : ٤٠.

١٧٦

بكر فيها ، أقوى دليل على عدم إيمانه ، وقوّة يقينه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورباط جأشه ، وقد أشرك الله المؤمنين مع رسوله في السكينة في هذه السورة وغيرها بقوله : ( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ ) على رسوله والمؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وفي سورة إنّا فتحنا : ( فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤمِنِينَ وَأَلزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقوَى ) (١) الآية. (٢)

وقد ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هند وعبد الله بن فُهيرة حين أوصلاه إلى الغار ، وحبس أبي بكر لعلمه برباط جأشهما ، وشدّة يقينهما ، وقوّة إيمانهما ، وانّهما لو قتلا ما أخبرا بمكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحبس أبا بكر عنده خوفاً على نفسه منه ، لأنّه كان قد علم أوّلاً بعزم الرسول ، وخاف إن اذن له كما أذن لهما أن تعلم قريشاً بمكانه فيخبرهم به إمّا رهبة أو نفاقاً.

وقد روى أبو المفضّل الشيباني بإسناده عن مجاهد ، قال : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغار ، فقال لها عبد الله بن شّاد بن الهاد : فأين أنتِ من علي بن أبي طالب حيث نام [ في ] (٣) مكانه وهو يرى أنّه يقتل؟ فسكتت ولم تجد جواباً.

وشتّان بين قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ ) (٤) وبين قوله : ( لَا تَحزَن إنَّ اللهَ مَعَنَا ) (٥) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوّي قلبه ، ولم يكن مع عليّ أحد يقوّي قلبه ، وهو لم يصبه وجع ، وعليّ كان

__________________

١ ـ سورة الفتح : ٢٦.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٣١ ، عنه البحار : ١٩ / ٣٣.

٣ ـ من المناقب.

٤ ـ سورة البقرة : ٢٠٧.

٥ ـ سورة التوبة : ٤٠.

١٧٧

يرمى بالحجارة وهو على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبو بكر مختف بالغار ، وعليّ ظاهر للكفّار.

واستخلفه الرسول لردّ الودائع لأنّه كان أميناً ، فلمّا أدّاها قام صلوات الله عليه على سطح الكعبة ، فنادى بأعلى صوته : يا أيّها الناس ، هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عدة له قِبَلَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . (١)

فنزل معه على كلثوم (٢) ، وكان أبو بكر في بيت خبيب (٣) بن إساف ، فأقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقبا يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسّس مسجده ، وصلّى يوم الجمعة في المسجد الذي ببطن الوادي ـ وادي رانوقا (٤) ـ فكانت أوّل صلاة صلّاها بالمدينة ، ثمّ أتاه غسّان بن مالك وعبّاس بن عبادة في رجال من بني سالم ، فقالوا : يا رسول الله ، أقم عندنا في العدّة والعدد والمنعة.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّوا سبيلها ، فإنّها مأمورة ـ يعني ناقته ـ ، ثم

____________

١ ـ مناقب ابن شهراشوب : ٢ / ٥٧ ـ ٥٨ ، عنه البحار : ٣٨ / ٢٨٩.

٢ ـ في المناقب : كلثوم بن هِدم.

وهو كلثوم بن هدم بن امرئ القيس بن الحارث بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي ، كان يسكن قباء ، ويعرف بصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان شيخاً كبيراً ، وأسلم قبل وصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، توفّي قبل بدر بيسير ، وقيل : إنّه أوّل من مات من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . « اُسد الغابة : ٤ / ٢٥٣ ».

٣ ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل والمناقب : حبيب ـ وهو تصحيف ـ.

وهو خُبَيب بن إساف ؛ وقيل : يساف ، ابن عِنَبة بن عَمرو الأنصاري الخزرجي : شهد بدراً واُحداً والخندق ، وكان نازلاً بالمدينة وتأخّر إسلامه حتى سار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدر ، فلحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الطريق فأسلم. « اُحد الغابة : ١ / ٣٦٨ ، وج ٢ / ١٠١ ـ ١٠٢ ».

٤ ـ في المناقب : رافوقا.

١٧٨

تلقّاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة ، فقال كذلك ، ثمّ اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة ، ثمّ اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث ، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني مالك بن النجّار بركت على باب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يومئذ مِربَد (١) لغلامين يتيمين من بني النجّار ، فلمّا بركت ورسول الله لم ينزل وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفّت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أوّل مرّة فبركت ، ثمّ تجلجلت (٢) ورزمت ووضعت جرانها ، فنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها ، واحتمل أبو أيّوب رحله ووضعه في بيته ، ونزل رسول الله في بيت أبي أيّوب وسأل عن المربد فاُخبر انّه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء ، فأرضاها معاذ ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببناء المسجد ، وعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ، وعمل فيه المهاجرون والأنصار ، وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون ، فقال بعضهم :

لئن قعدنا والنبيّ يعمل

لذاك منّا العمل المضلّل

____________

١ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : مزيد. وكذا في المواضع التالية.

والمريد : موضع الإبل.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : تخلخلت.

وتجلجلت : أي تخاضعت وتضعضعت. وما في الأصل لعلّه : تحلحلت ـ وهو الموافق لما في سيرة ابن إسحاق ، ومعناه : تحرّكت.

قال ابن الأثير في النهاية : ٤ / ٢٣٩ : « ثم تَلَحلَحَت وأرزَمَت ، ووَضَعت جِرانَها » تَلَحلَحَت : أي أقامَت وَلَزِمَت مكانها ولم تَبرح ، وهو ضدّ تَحَلحَل.

وقال في ج ٢ / ٢٢٠ : « وأرزمت » أي صَوّتَت ، والإرزام : الصوت لا يفتح به الفَمُ ، و « ناقة رازم » هي التي لا تتحرّك من الهزال.

والجران باطن العنق ؛ وقيل : مقدّمه.

١٧٩

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

لا عيش إلا عيش الآخرة

ربّ (١) ارحم الأنصار والمهاجرة

وعلي أمير المؤمنين يقول :

لا يستوي من يعمل (٢) المساجدا

يدأب فيها قائماً وقاعداً

ومن يُرى عن الغبار (٣) حائداً

ثم انتقل من بيت أبي أيّوب إلى مساكنه التي بنيت له ؛ وقيل : كانت مدّة مقامه بالمدينة إلى أن بنى المسجد وبيوته من شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة القابلة. (٤)

ولمّا كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقول : ( اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بأَنَّهُم ظُلِمُوا ) (٥) الآية ، وقلّد في عنق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفاً. وفي رواية : لم يكن له غمد ، وقال : حارب بهذا قومك حتى يقولوا لا إله إلا الله.

وروى أهل السير أنّ جميع ما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ستّ وعشرون غزاة ، على هذا النسق : الأبواء ، بواط (٦) العشيرة ، بدر الاُولى ، بدر

____________

١ ـ في المناقب : اللهم.

٢ ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : يعمر.

٣ ـ في المناقب : الغيار. ـ بمعنى : الغيرة ـ ، وكلاهما يناسب المقام. والحائد : المعرض والمائل عن الشيء.

٤ ـ مناقب ابن شهراشوب : ١ / ١٨٤ ـ ١٨٦ ، عنه البحار : ١٩ / ١٢٢ ح ٩.

٥ ـ سورة الحج : ٤٠.

٦ ـ بُواط : واد من أودية القبليّة ... ، وهو جبلٌ من جبال جُهينة ، بناحية رَضوى به غزاة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . « مراصد الاطّلاع : ١ / ٢٢٨ ».

١٨٠