تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

قلنا : الجواز منسوخ بأدلة التحريم ، ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس ، فنقول : كافرة فأشبهت الحربية ، أو : لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة ، أو : لما حرم نكاح الكافر للمسلمة ، حرم العكس.

قالوا : لا حكم للاعتبار مع الأدلة.

وقوله تعالى : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) قال المفسرون : أراد إذا كان بنكاح ؛ لأن الإعطاء ليس بشرط في صحة النكاح وفاقا ، وقوله تعالى : (مُحْصِنِينَ) أي : ناكحين غير زانيين ، وهو الذي أراد بقوله (غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) فالمسافح من يزني بالغريبة ، واتخاذ الأخذان من يزني بصديقته وفي الآية دلالة على وجوب المهر.

تكملة لهذا الحكم وهو يتضمن فروعا :

الأول : في نكاح الأمة الكتابية فجوز ذلك أبو حنيفة ، والشعبي ، والسدي ، وحملوا المحصنات على أنه أراد العفائف ، ومنع ذلك الشافعي ، ومالك ، ومجاهد من المفسرين ، وحملوا المحصنات على الحرائر ، ولا خلاف بينهم في جواز وطء الأمة الكتابية بالملك (١) ، ومذهب الأئمة المنع.

واحتج الشافعي أيضا بمفهوم الخطاب في قوله تعالى في سورة النساء : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فالمفهوم عدم جواز الفتيات الكوافر.

الفرع الثاني

اتفق من أجاز نكاح الكتابيات على جواز وطء الأمة الكتابية بالملك لعموم قوله تعالى في سورة النساء : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

__________________

(١) وفي قوله في النساء : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ) الآية قال : ويتفق أبو حنيفة ، والشافعي على جواز وطء الأمة الكتابية ، ولم يذكر مالك ومجاهد هناك.

٤١

وأما الوثنية المملوكة فمنعها الجمهور بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وأجازها مجاهد ، وطاوس ، حكى ذلك في النهاية ؛ لعموم قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوز نكاح المسبيات في سبايا أوطاس ، واستأذنوه في العزل فأذن لهم.

الفرع الثالث

في تحريم المناكحة بين ملل الكفر المختلفة ، واستنباطها من القياس على ملة الإسلام وملة الكفر بعلة اختلاف الملل ، وهذا مذهب الأئمة ، وأحد قولي الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : يجوز ؛ لأن الكفر ملة واحدة.

قلنا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقبل شهادة ملة على ملة إلا ملة الإسلام».

وقال : «ألا لا توارث بين أهل الملل المختلفة».

قال أبو حنيفة : ويجوز للمسلم نكاح الصابئة.

قال أبو ثور : يجوز له نكاح المجوسية ، ومنعه الأكثر.

وفي التهذيب : وجوز الحسن ، وسعيد بن المسيب الحربية.

قال في الروضة والغدير : والإجماع قد سبق هذا.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦]

٤٢

النزول

قيل : نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا ، وقيل : احتبس عليه‌السلام في سفر ليلا بسبب عقد ضاع لعائشة رضي الله عنها ، فأصبحوا على غير ماء فنزلت الآية (١).

ولهذه الآية الكريمة ثمرات هي أحكام شرعية :

الأول : وجوب الوضوء للصلاة ، وهو يشتمل على أعضاء بعضها مغسول وبعضها ممسوح ، لكن ظاهرها يجب على كل مصل ، سواء كان على طهر أم لا ، وهذا الظاهر أخذ به داود ، وقال الأكثر من العلماء : إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث فإن قيل : ما وجه الخروج من الظاهر؟.

قلنا : في ذلك ثلاثة أوجه :

الأول : أن هذا أمر ندب ، فإنه ورد قوله عليه‌السلام : «الوضوء على الوضوء نور يوم القيامة».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات».

وروي عنه عليه‌السلام والخلفاء بعده أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة.

وعنه عليه‌السلام أنه كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم الفتح صلى النبي عليه‌السلام الصلوات الخمس بوضوء واحد ، فقال له عمر : صنعت شيئا لم تصنعه ، فقال : عمدا فعلته يا عمر.

__________________

(١) قال الكوفي رحمه‌الله في تحشيته على الكشاف : وهذه الآية مشتملة على سبعة فصول ، على طهارتين الوضوء والغسل ، ومطهرين الماء والتراب ، وحكمين الحدث والجنابة ، ومبيحين : المرض والسفر ، وكنايتين : الغاية والملامسة ، وكرامتين التطهير من الذنوب وإتمام النعمة. (ح / ص).

٤٣

قال في التهذيب : إنه قال عليه‌السلام : «ولو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء لكل صلاة».

وأما الوجوب : فلا يجب إلا على المحدث لقوله عليه‌السلام : «الوضوء من سبع» الخبر ، فلو كان متوضئا لم يجب.

وقيل : إنه كان واجبا لكل صلاة ثم نسخ الوجوب بالتخفيف ، وإنه إنما يجب على المحدث.

الوجه الثالث (١) : أن هذا خطاب لمن كان محدثا وقام إلى الصلاة ، لا لمن كان متوضأ.

قال في التهذيب : وقول داود محجوج بإجماع التابعين والفقهاء ، وقد روي عنه عليه‌السلام ـ أنه لا يجب إلا على المحدث ، وكذلك عن ابن عباس ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبيدة ، وأبي موسى ، وأبي العالية ، وابن المسيب ، وإبراهيم ، والحسن ، والضحاك ، والسدي ، وجابر.

وكذلك في قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) إشارة إلى أن الوجوب لأجل الحدث فلو فرضنا أن متوضئا توضأ قبل الوقت صح منه ، فعل الصلاة ولم يجب عليه الوضوء ، ويورد في المعاياة (٢) : أين رجل لم يجب عليه الوضوء مع سلامته من الأعذار ووجود الماء؟ وهذا بناء على أن الوضوء قبل الوقت يصح. قبل : وذلك إجماع.

__________________

(١) ينظر في هذا ، فالوجه الثاني ساقط ، لأنه لم يذكر إلا وجها أول ، ويحتمل أن الوجه الثاني هو القيل بأنه كان واجبا ثم نسخ.

(٢) أي : مسائل المعاياة ، وهي التي يعي فيها العارف والمتفقه ، وتكون مسائل فيها نوع من الإلغاز.

٤٤

وعن المهدي أحمد بن الحسين عليه‌السلام : أنه لا يصح قبل الوقت ؛ لأنه نفل ، والنفل لا يسقط الغرض؟

جوابه : أن هذا ليس عليه فرض الوضوء ؛ لأنه لا يجب إلا على محدث وجبت عليه الصلاة.

وقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) قيل : المراد قمتم من النوم ، عن زيد بن أسلم ، والسدي : وقيل : أراد (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)(١) إرادة الصلاة ، أو إلى قصد الصلاة فعبر بالإرادة عن الفعل.

قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي : إذا أردت قراءته ، وفي ذلك دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة ، وقد كانوا يمتنعون من الأعمال للحدث (٢).

وأما الطواف : فالوضوء واجب له لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام.

» وأبعاض الصلاة» نحو سجود التلاوة ونحوه كالصلاة في اشتراط الوضوء ، خلاف ما حكي عن أبي طالب ، وصلاة الجنازة يطلق عليها اسم الصلاة فافتقرت إلى الطهارة على قول أبي طالب ، وهو ظاهر المذهب خلافا لابن جرير ، والمفهوم من كلام المؤيد بالله أنها دعاء فلا يشترط لها الطهارة.

وأما مس المصحف فلزوم الوضوء له بدليل آخر عند من أوجبه ، وذلك قوله تعالى لعائشة : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).

قال في النهاية : واستحبه الأكثر إذا أراد الجنب النوم ، وأوجبه داود ،

__________________

(١) الأنسب : أردتم القيام إلى الصلاة ، ليناسب قوله : إذا أردت قراءة القرآن.

(٢) المراد : أعمال القرب والطاعات.

٤٥

واستحبه الأكثر لقراءة القرآن وذكر الله ، وأوجبه قوم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تيمم لرد السّلام.

قال الجمهور : ذلك منسوخ عنه بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة.

قال جار الله : يجوز أن تحمل الآية على أنها متناولة للمحدث وجوبا ، وللمتوضئ ندبا ؛ لأن تناول الآية لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية (١).

الحكم الثاني

وجوب غسل الوجه ، وذلك بقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وهو يتعلق بهذا الحكم فوائد :

الأولى : ما ماهية الغسل.

والثانية : في بيان المغسول الذي تقتضيه الآية في لفظ الوجه.

والثالثة : هل في الآية دلالة على لزوم الترتيب والبداية بغسل الوجه.

أما الفائدة الأولى في ماهية الغسل.

قال في التهذيب إنه إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه ، وهو الذي يحكى عن أكثر العلماء من أبي حنيفة ، والشافعي.

والذي يذكر للمذهب مع الدلك ، وعن الناصر : مجرد الإمساس غسل ، فيلزم أن يأتي هذا الخلاف في الغسل.

قيل : الهدوية يوجبون الدلك في الوضوء والغسل ، ولا تقوم قوة الجري مقامه. وقد نصوا على أن الصب لا يكفي ، والمؤيد بالله يقول : الجري يكفي في الوضوء من غير ذلك ، وفي الغسل لا بد من الدلك ، أو

__________________

(١) الكشاف ١ / ٥٩٦ مع بعض الاختلاف ، والمؤلف أخذ بالمعنى.

٤٦

قوة الجري ، وأبو حنيفة ، والشافعي : مجرد الجري يجزي ، والناصر : مجرد الإمساس يكفي ، وإن لم يجر ، والذي في النهاية : وجوب إجراء اليد مع الماء في الوضوء ، والخلاف في الغسل.

وفي جامع الأمهات : يجب الدلك في الوضوء والغسل على المشهور ، فدلالة الآية على اسم الغسل وإمضاء اليد مع الماء مأخوذ من اعتبار آخر ، إما من كون من لم يمر الماء مع اليد لا يسمى غاسلا لغة ، وإما من القياس على المسح بعلة أنها طهارة تستباح بها الصلاة.

الفائدة الثانية : في بيان المغسول من إطلاق غسل الوجه.

فقال أهل المذهب : حد الوجه من منابت الشعر المعتاد ، فدخل غسل الجبهة في الأعم ؛ لأنه نباته في الجبهة غير معتاد ، ويخرج غسل النزعتين (١) ؛ لأن عدم النبات غير معتاد ، والنبات فيهما معتاد ، ومن الأذن إلى الأذن فيدخل ما بين العذار واللحية (٢) وفي أسفل الوجه إلى الذقن لأن هذا الوجه لغة.

وقال مالك : البياض الذي بين الأذن والعذار لا يغسل بعد نبات اللحية ، ويغسل قبل نباتها.

وفي النهاية ثلاثة أقوال :

من الأذن إلى الأذن وهو المشهور ، ومن العذار إلى العذار.

والثالث : من العذار إلى العذار بعد النبات ، ومن الأذن إلى الأذن قبله.

وقالت الإمامية : هو ما دارت عليه الوسطى والإبهام.

__________________

(١) النزعتان المعتادتان من الوجه مطلقا ، فيغسلان.

(٢) صوابه الأذن. (ح / ص).

٤٧

وعن الإمام الشهيد : ما واجه ، وحكاه في التهذيب عن بعضهم ، وسبب الخلاف ما يفهم من إطلاق اسم الوجه.

قلنا : في فعله عليه‌السلام بيان لما قلنا ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث ابن عباس أخذ الماء وضرب جبينه وأرسله ، ثم وضع إبهامه في أصول أذنيه وأرسل الماء.

وأما دخول الصدغين فقال أبو طالب : هما من الوجه (١) ، فيدخلان وهذا ظاهر كلام الهادي عليه‌السلام في الأحكام فإن لفظه : ولا يجزيه حتى يحمل الماء في كفيه ، ثم يغسل به وجهه وخديه ، وجبهته ، وصدغيه.

وقال بعض أصحاب الشافعي : إن الصدغين من الرأس ، واختاره في الانتصار فإن أراد أن يأخذ بالإجماع غسلهما مع الوجه ، ومسحهما مع الرأس ، والصدغ ما بين العين والأذن ، وقال ذلك في الضياء والصحاح.

وأما المضمضة والاستنشاق وتخليل اللحية ، وغسل ما استرسل من شعرها فمن أوجب ذلك استدل بأنه يدخل في اسم الوجه ، ومن لم يوجب ذلك نازع وقال : إن هذه الأشياء لا تدخل في اسم الوجه.

أما المضمضة والاستنشاق فنص القاسم ، والهادي ، والمؤيد بالله على وجوب ذلك ، وبه قال عطاء ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق ، واستدلوا بالآية وقالوا : الباطن في الفم والأنف كالظاهر ؛ بدليل غسله من النجاسة ، فإن ما وصله لا يفطر به الصائم.

وقال زيد ، والباقر ، والناصر ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لا يجب ذلك ؛ لأن ذلك كالباطن بدليل أنه لا يتعلق به التيمم ، ويطهر بالريق.

__________________

(١) هذه الرواية الصحيحة عن أبي طالب كما في البيان وغيره ، خلاف ما روى عنه الإمام المهدي عليه‌السلام في الغيث. (ح / ص).

٤٨

قلنا : ورد في حديث ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تمضمضوا واستنشقوا».

وفي حديث علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تمضمضوا واستنشقوا».

والأمر للوجوب ، قالوا : يحمل ذلك على الندب لأن الزيادة بخبر الآحاد نسخ ، والمظنون لا ينسخ المقطوع.

قلنا : مثل هذه الزيادة عندنا لا تكون نسخا.

قال المؤيد بالله : ولا يمتنع إثباتها بخبر الواحد (١).

وفرّع على القول الأول : إذا كان بين أسنانه ما يمنع من وصول الماء إلى ما تحته ، فقال أبو جعفر : يجب إزالته. وقال المنصور بالله : لا يجب ، وقوي هذا القول ؛ لأنه لم يعرف من أصحابه عليه‌السلام ـ ذلك ، مع مباشرتهم لما يمنع من التمر واللحم.

قال أبو طالب : ويجب دلك الفم ، أو مج الماء فيه ، قيل : ويظم المنخرين ويدلكهما.

وعن أحمد ، وأبي ثور : وجوب الاستنشاق دون المضمضة.

قلنا : في الحديث عنه عليه‌السلام : «المضمضة والاستنشاق من الوضوء لا يقبل الله الصلاة إلا بهما».

وأما تخليل اللحية وإيصال الماء إلى البشرة فنص الهادي عليه‌السلام على وجوب ذلك ، وذلك مروي عن المزني ، وأبي ثور ، وإسحاق ، والحسن بن صالح.

__________________

(١) لأنها لم تنسخ قطعيا. ويحتمل أن يقال : إنه من بيان المجمل.

قال في (ح / ص) (الأحسن في الجواب قلنا : لا نسلم أن هذه زيادة بل إدخال ما يتوهم خروجه من الوجه ، ولو سلم فمثل هذه الزيادة لا تكون نسخا عندنا ، إنما تكون نسخا لو رفعت حكما شرعيا ، وهذه ليست كذلك)

وأشار في حاشية الأصل إلى وجود بياض في الأم المنقول عنها قدر ثلاثة أسطر

٤٩

احتجوا بقوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وهذا من الوجه ؛ بدليل دخوله في اسم الوجه قبل نبات اللحية.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتاني جبريل فقال : إذا توضأت فخلل لحيتك» وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته ، وقال : «هكذا أمرني ربي».

وقال أبو حنيفة ، وزيد ، ومالك : لا يجب.

وقال الشافعي : يجب إن خفّت.

قال في النهاية : وسبب الخلاف هل يطلق على ذلك اسم الوجه.

قال : وما ورد في التخليل لم يصححه هؤلاء.

وأما القياس على غسل الجنابة فمردود بقوله عليه‌السلام : (انقوا البشر».

وأما غسل ما استرسل من اللحية فقال الأخوان وأبو حنيفة : لا يجب غسله ؛ لأنه لا يطلق عليه اسم الوجه ، كالذوائب في مسح الرأس ، وأوجب ذلك أبو العباس ، والشافعي ، وحكاه في النهاية عن مالك ؛ لأنه يدخل في اسم الوجه لأنه من المواجهة ، وحكاه أبو جعفر ، والتهذيب عن الهادي.

والذي في التهذيب : لا يجب غسل اللحية عن الحسن ، وإبراهيم ، وابن سيرين ، ومكحول ، وعطاء ، ومجاهد.

وقال القاضي : يجب غسل ما لم يتساقط عن دائرة الوجه ، قيل : ولا خلاف أنه يجب غسل شعر العنفقة والشارب والعذار.

وإما إدخال الماء في العين فتخريج المؤيد بالله ، وهو مروي عن الناصر : أن ذلك واجب.

وقال الأكثر : إنه غير واجب ؛ لأن ذلك لم يعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٠

فرع : لو نقشت المرأة وجهها بالحناء جاز ذلك كما لو تخضبت بالزعفران ونحوه ، وهل يجب قلعه إذا أرادت الوضوء أو الغسل؟.

قلنا : إن لم تخش مضرة ، ومع خشية المضرة لا يجب ، كما لو أثبتت سنا نجسا ، وخشيت من قلعه المضرة ، وقد أفتى شيخنا شرف الدين حسن بن محمد النحوي بذلك ، ولعله يأتي كالجبائر مع الخشية من القلع.

الفائدة الثالثة : في لزوم البداية بالوجه ، وهذا مبني على لزوم الترتيب وعدمه ، فالذي ذكره الهادي ، والناصر ، وغيرهما من الأئمة ، قال المؤيد بالله : ولا أحفظ عن أحد منهم خلافا في ذلك. أنه واجب ، وهذا قول الشافعي إلا بين اليدين والرجلين ، وما قاله الأئمة محكي عن أحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيدة ، وأبي ثور ، وقتادة.

وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي : إنه غير واجب.

حجة الوجوب قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فأوجب غسل الوجه ابتداء ، ومن قال بذلك أوجب الترتيب ، وإنما لزم ابتداء ؛ لأن الفاء للتعقيب (١).

قالوا : هذه في العاطفة ، لا في السببية ، فإنها جواب الشرط لا للتعقيب.

قلنا : جاء بواو العطف ، وهي للترتيب.

__________________

(١) هذه الفاء لا دلالة لها على وجوب تقديم الوجه ؛ لأنها الفاء الداخلة على الجزاء ، وإذا قلنا : إن الواو للجمع المطلق كما هو مذهب الجمهور ، كان المعنى : إذا قمتم إلى الصلاة فاجمعوا بين غسل هذه الأعضاء المذكورة ، من غير بيان للمتقدم منها والمتأخر ، وإن قلنا : إن الواو للترتيب كما هو مذهب الأقل كان استفادة تقديم الوجه منها لا من الفاء المذكورة ، نعم يؤخذ الترتيب من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الجمهور ، لا من الآية. والله أعلم (ح / ص).

٥١

قالوا : هذا لا يلزم إذا كان أهل اللغة بينهم الخلاف.

قلنا : توضأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتبا وقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».

قالوا : ذلك إشارة إلى أنه توضأ مرة مرة.

وأما ما فعله من الترتيب فهو ينزل على الخلاف في أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل تدل على الوجوب ، أو على الندب ، والخلاف (١) ..

الحكم الثالث : وجوب غسل اليدين

وذلك يتعلق بقوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وقد دلت الآية على وجوب الغسل وهو مجمع عليه ، لكن في ذلك مسائل :

المسألة الأولى

هل تدخل المرافق في الغسل أم لا؟ وهذه خلافية بين العلماء فمذهب الأئمة من أهل البيت ، وأبي حنيفة ، والشافي ، وجمهور الفقهاء ـ دخول المرفقين ، وقال زفر : لا يدخلان ، وحكاه في النهاية علن الطبري ، وبعض أصحاب مالك ، وبعض أهل الظاهر.

وسبب الخلاف دخول لفظه إلى وذلك لترددها بين الغاية ، وعدم إدخال ما بعدها فيما قبلها ، وبين إدخال ما بعدها فيما قبلها.

فمن الأول قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وقوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ).

ومن الثاني قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(٢) وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ)

__________________

(١) بيض في الأصل قدر سطر.

(٢) قوله (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الظاهر أن إلى فيه للغاية ، لا بمعنى مع ، ففي إيراده في التقسيم نظر ، والله أعلم.

٥٢

وقوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) وقد تقدم ما قيل في ذلك هل هي قاصرة للحكم إلى الغاية كما قاله الأكثر ، أو هو مسكوت عما بعد إلى ، كما قاله أبو رشيد ، وأصحاب أبي حنيفة ، فلا دلالة على نفي الحكم فيما يعدها ، أو يفرق بين أن يحد بشيء معلوم (١) فلا يدخل ما بعدها ، أو شيء مجهول فيدخل ما بعدها ، كما قاله الرازي ، وقيل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل نحو : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وإن كان من غير جنسه لم يدخل نحو : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فلما كانت إلى هذه مترددة اختلفوا.

قال صاحب النهاية : وقول من لم يدخل المرفقين من جهة الدلالة اللفظية أرجح ، وقول من أدخلهما من جهة الأثر أبين ؛ لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة (أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع (٢) في العضد ثم اليسرى كذلك ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع إلى الساق ثم اليسرى كذلك).

احتج أهل المذهب بحديث جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدير الماء على مرفقيه.

قالوا : ودلالة الآية مجملة ، وهذا بيان للمجمل ، وبيان المجمل الواجب يكون واجبا.

المسألة الثانية

أن السنة في البداية في غسل اليدين يكون من الأصابع ، ويتم بالمرافق.

__________________

(١) ك (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وقوله : أو مجهول. كما في المرافق. مقدمة هذا الكتاب ، وحينئذ لا فرق بين هذا القول والقول الثاني بعده.

(٢) قوله : حتى (أشرع في العضد) أي : أدخله في الغسل ، وأصل الماء إليه. نهاية.

٥٣

قال الحاكم : وقد وردت السنة بذلك ، وهو الذي عليه الفقهاء ، والدلالة لفظ إلى لأنها للغاية ، وغاية الشيء آخره.

وقالت الإمامية : السنة أن يبتدئ بالمرفق ، وقالوا : إن إلى هاهنا بمعنى من.

قال الحاكم : وهذا تقدير فاسد.

المسألة الثالثة

الترتيب بين اليمنى واليسرى ، وقد اختلفوا في ذلك ، فمذهب الأئمة وجوبه.

وقال الشافعي : هو مستحب غير واجب ، واحتج بأن الآية لا تفيد ذلك فمن غسلهما مرتبا أو غير مرتب قدم اليمنى ، أو اليسرى ، فقد امتثل الأمر.

قلنا : الدلالة على وجوب البداية باليمنى من السنة ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ مرتبا ، وقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».

وفي حديث أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم».

قالوا : هذا أمر ندب كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا لبستم أو توضأتم فابدءوا بميامنكم» فقرن بينه وبين اللبس.

قلنا : أجمعت العترة على وجوب الترتيب بينهما ، فكان حجة.

قالوا : كون إجماعهم حجة غير مسلم لعدم الدليل.

قلنا : نقيم الحجة على ذلك من كتاب الله ، وذلك قوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) إلى قوله : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وسبيل ذلك سبيل

٥٤

إجماع الأمة حيث قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) والخبر. وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم ...» الخبر (١).

تنبيه

وهو أن يقال إذا طول الرجل أظفاره (٢) هل يجب عليه إيصال الماء ليغسل ما تحتها لأنه من اليد ، وقد أمر بغسلهما فيلزم بمقتضى الآية.

قلنا : قد قال بذلك بعضهم (٣).

وقال بعضهم : يعفى عنه ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنكر على قوم يطولون أظفارهم حتى تكون كمخالب الطير ، ولم يأمرهم بالإعادة ، وصحح هذا الإمام يحيى بن حمزة.

تنبيه آخر

وهو إذا جبر على كسر أو جرح أو كسر ، وخشي من نزع الجبائر ضررا.

قال في الأحكام ، وأبو العباس ، وأبو طالب : لا يشرع له المسح ؛ لأن الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها.

وقال في المنتخب ، والمؤيد بالله ، وعامة الفقهاء : يمسح ، وأثبتوا

__________________

(١) وقد يزاد في الاحتجاج على حجية إجماع العترة أن يحتج بآية التطهير ، وهي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وأن يحتج مع الخبر المذكور بأخبار نحو (أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، و (إني مخلف فيكم) و (إني أوشك أن أدعى فأجيب) الخبر ، و (أين يتاه بكم) الخبر ، وغيره مما تواتره معنى.

(٢) حتى زادت على لحم الأنامل.

(٣) وهو الذي اختاره في الأزهار ، وشرحه الغيث ، ولعل البعض صاحب الكافي ، والبيان على ما ذكره في بيان ابن مظفر ، والباقي ـ المنصور بالله ، والإمام يحيى ، ذكره في البيان حكاية عن الفقيه علي.

٥٥

ذلك بالسنة ، ولذلك لحديث علي عليه‌السلام : أصيبت إحدى زندي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجبر ، فقلت : يا رسول الله كيف أصنع بالوضوء؟ فقال : «امسح على الجبائر» قال : فقلت : فالجنابة؟ قال : «كذلك فافعل».

الحكم الرابع

يتعلق بقول تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وفي ذلك غرضان : بيان ماهية المسح ، وبيان قدر الممسوح من الرأس.

أما بيان ماهية المسح فمذهبنا أنه إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل (١).

وعند الناصر هو : أن يصيب ما أصاب ، ويخطئ ما أخطأ ، والمرجع هذا إلى المفهوم لغة من لفظ المسح.

وأما قدر الممسوح من الرأس فذهب الهادي ـ عليه‌السلام ـ والقاسم ، والمؤيد بالله ، ومالك ، وأبي علي الجبائي ، وأحمد ، والمزني : أنه يجب الاستيعاب لجميع الرأس.

وقال الناصر ، وزيد ، والصادق ، والباقر ، وأبو حنيفة ، والشافعي : لا يجب الاستيعاب ، فقال زيد ، والباقر ، والصادق ، والناصر : مقدم الرأس.

وقال أبو حنيفة والشافعي : الربع من غير تعيين.

وقال الشافعي : أقل ما يسمى مسحا وهو ثلاث شعرات.

وعن الغزالي : شعره.

وسبب الخلاف : دخول الباء في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)

__________________

(١) في نسخة (بحيث لا يسيل عنه).

٥٦

فقال الأولون : الباء في اللغة لإلصاق الفعل بالمفعول فيجب التعميم ، وقد ترد زائدة.

وقال الآخرون : هي هنا للتبعيض كما تقول : مسحت يدي بالمنديل ، ومسحت برأس اليتيم.

قلنا : التبعيض عرفا ، بدليل أن التبعيض يبقى مع حذف الباء ، وبدليل أنه لو قال : أخذت بجميع زمام الناقة أن يكون مناقضا.

قالوا : إذا احتملت عمل بالمتيقن (١).

قلنا : إذا جعلناها زائدة فلا احتمال (٢).

قالوا : في الحديث الذي خرجه مسلم من رواية المغيرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح على ناصيته.

قلنا : في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح بجميع رأسه وقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».

وفي حديث علي عليه‌السلام ـ أنه علم الناس وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسح رأسه مقبلا ومدبرا.

وفي حديث طلحة بن مصرّف عن أبيه عن جده قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح مقدم رأسه حتى بلغ القذال من مقدم عنقه.

قالوا : هذا جمع بين الواجب والمسنون ؛ لذلك اقتصر على الناصية.

وتأويل هذا الحديث : بما لا يفيده الظاهر مردود لعدم الدلالة على التأويل ، والشافعي أخذ بالمتيقن فلم يحد الممسوح بحد ، ولا حد في الماسح بحد.

__________________

(١) المتيقن : هو البعض.

(٢) وجوابه أن الزيادة خلاف اصل. والله أعلم (ح / ص).

٥٧

قال في النهاية : وحدّه بعض أصحاب مالك بالثلث وبعضهم بالثلثين ، وحد أبو حنيفة بالربع في الرأس ، وبثلاث أصابع في اليد الماسحة ، وقال : إن مسح بدونها لم يجز ، وأخذ ببيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه مسح على الناصية ، وهي مقدرة بالربع.

تكميل لهذا الحكم

وهو أنه لا يجب مسح ما استرسل من الذوائب عن حد الرأس وفاقا ، ولو غسله بدلا من المسح.

وقال أبو طالب : لا يجزي ؛ لأنه عدول عن المأمور به.

وقال الناصر : يجزي ؛ لأن المسح يدخل في الغسل ، ولو ستر شعره موضعا ثم انحسر عنه الشعر ، فعن الأمير شرف الدين : لا يجزى المسح على الشعر الساتر (١) وصحح خلاف ذلك ؛ لأن كشفه لم يعرف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كثرة جرائحهم ، ويتعلق بهذا أمران :

أحدهما : في حكم الأذنين ، فذهب الهدوية أنه يجب مسحهما كما يمسح الرأس ، ويشرع أن يكون ذلك ببقية ماء الرأس ؛ لما روي في حديث أبي أمامة الباهلي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسحهما ، وقال : (الأذنان من الرأس)

وقال مالك ، وأحمد : هما من الرأس ، إلا أنه يؤخذ لهما ماء جديد.

وقال الشافعي : عضوان مستقلان ، مسحهما مستحب بماء جديد.

وأما قول الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه فخلاف الظاهر ، وكذلك قول الشعبي ، وإسحاق : ما أقبل منهما من الوجه يغسل معه ، وما أدبر فمن الرأس يمسح معه.

__________________

(١) ورواه في الياقوتة عن المؤيد بالله وغيره ، وفي البيان (فرع) ولا يجب مسح موضع الشجج المغمورة بالشعر ، وقواه يعني كلام البيان ، واختار الإمام المهدي في الأزهار قول الأمير الحسين. (ح / ص).

٥٨

الأمر الآخر : أنه لا يجزي المسح على العمامة ، نص عليه الهادي ، والشافعي ، وهو قول مالك.

وقال والثوري ، والأوزاعي ، وابن جرير ، وداود : إنه يجزي المسح عليهما ، وعلى الخمار.

حجتنا قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) والماسح على العمامة لم يمسح على الرأس ، وتعلقهم بما خرجه مسلم (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح بناصيته ، وعلى العمامة) وفي بعض طرقه (أنه مسح على العمامة).

قلنا : هذا مردود ، ومطعون في روايته ، وقد قيل : إنه حديث معلول ، وهو معارض للكتاب.

الحكم الخامس

يتعلق بقوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ولا خلاف أن الرجلين من أعضاء الوضوء ولكن اختلف في صفة طهارتهما ، فظاهر مذهب القاسمية ، وزيد ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأكثر الفقهاء : طهارتهما الغسل.

وقال الناصر ، والصادق ، والباقر ، ومروي عن القاسم : الواجب الجمع بين المسح والغسل.

قال الناصر : فإن غسلهما ودلكهما بيده أجزأه ، وإن خضخضهما لم يجزه ، وعند الإمامية الواجب هو المسح.

قال أبو علي الجبائي ، وابن جرير ، والحسن : إنه مخير بين الغسل والمسح ، وسبب هذا الخلاف أن قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ) قد قرئ بنصب اللام وجرها فقراءة نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، بالنصب ، وذلك قراءة أمير المؤمنين ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وقرأ الباقون بالكسر ، وهي قراءة ، أنس ، والحسن ، والنصب

٥٩

عطف على الوجه واليدين ، والمعطوف يشارك المعطوف عليه في اللفظ والحكم.

فقال الأولون : قراءة النصب ظاهرا يفيد الغسل ، وقراءة الجر ظاهرها يفيد المسح ، فلما حصل ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجر في الظاهر.

والمرجح للغسل أمور :

الأول : ما ورد من أخبار منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأعرابي الذي سأله عن الوضوء : «توضأ كما أمرك الله ، فاغسل وجهك ويديك ، وامسح رأسك ، واغسل رجليك».

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جانبا جافا من عقب مصل ، فقال : «يا صاحب الصلاة إني أرى جانبا من عقبك جافا ، فإن كنت أمسسته الماء فامض ، وإن كنت لم تمسه الماء فاخرج من الصلاة» فقال : يا رسول الله كيف أصنع؟ أستقبل الطهور؟ قال : «لا بل اغسل ما بقي».

وفي حديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يا علي خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار).

الأمر الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غسل قدميه ، ففي حديث أبي رافع عن أبيه عن جده قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضأ فغسل رجليه ثلاثا.

وعن علي عليه‌السلام : أنه توضأ فغسل رجليه ثلاثا ، وقال : «هذا طهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه ، فيغسل وجهه وذراعيه ، ويمسح رأسه ويغسل رجليه».

وفي حديث (أنه لما رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوما توضئوا وأعقابهم بيض تلوح ، فقال : «ويل للأعقاب من النار» ، وفي حديث : «ويل للعراقيب من النار».

٦٠