تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

المفسرين ، والفقهاء من الأئمة وغيرهم ، وقيل : هي مجموع الأمرين ، عن أبي مسلم.

قال في السنن : عن محمد بن سيرين : فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعرنيين قبل أن تنزل الحدود.

وفي السنن : عن ابن عباس (١) : نزلت الآية في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه ، والظاهر من أقوال العلماء أن الحدود تسقط عنه بإسلامه (٢) ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يجب ما قبله».

وأما الخائن ، والمنتهب ، والمختلس فهؤلاء خارجون من الدخول في اسم المحاربة المذكورة ؛ لما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «ليس على المنتهب قطع» ومن قوله في حديث آخر : «ليس على الخائن قطع» ، وفي رواية : «ولا على المختلس قطع» هذه الأخبار من السنن.

وأما الأمر الثاني : وهو في بيان المحارب الذي يكون جزاؤه ما ذكر في الآية الكريمة.

والثالث : وهو بيان المحارب ، أما المحارب فهو : أن يفعل البالغ العاقل ما ذكر في الطريق ، ولا فرق عندنا بين الذكر والأنثى ، وهو قول الشافعي لعموم الآية.

وقال أبو حنيفة : لا تدخل الأنثى في ذلك ، وإن شاركت الرجل بطل حده ، وسقط.

__________________

(١) والذي في البحر عن ابن عباس مثل كلام أهل المذهب ، رواه عنه الشافعي وغيره. (ح / ص).

(٢) سيأتي في آخر تفسير هذه الآية أن الكافر تسقط عنه الحدود إذا تاب بلا خلاف ، فينظر. (ح / ص).

١٠١

وقال أبو يوسف : يحد الرجل دونها ، وإنما يحد عندنا إذا باشر ، لا إذا أعان ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

وقال أبو حنيفة : الردء كالفاعل فيستحق هذا الحد.

ولا فرق بين أن يكون المحارب حرا أو عبدا ، ولا فرق بين أن يكون مسلما أو كافرا ، ولا فرق في ذلك بين أن يخيف المسلم أو المعاهد.

قال في الكافي : ولا فرق بين أن يكون المحارب مسلما أو ذميا ، أو يخيف المسلمين أو أهل ملته ، ولا فرق بين أن يخيف بسلاح أو بغير سلاح.

قال في الكافي : وإذا اشترك في قطع الطريق من يجب عليه الحد ، ومن لا يجب عليه من صبي أو نحوه لم يسقط على من يجب عليه عندنا ، ويسقط عند أبي حنيفة.

قال في جامع الأمهات : وقد قتل عثمان (١) رضي الله عنه مسلما قتل ذميا حرابة ، [أي : محاربا](٢).

وتكملة لهذه الجملة بثلاث مسائل :

الأولى : إذا قطع السبيل في دار الحرب أو البغي ، وأخاف المسلمين التجار وغيرهم. فقال محمد بن عبد الله (٣) : إنه لا يقام عليه الحد.

__________________

(١) ولو قتل ذميا أو عبدا ، ذكر معنى ذلك في البحر ، وسواء كان القتل عمدا أو خطأ إذا قتله في حال محاربته ، ذكره في النجري ، يقال : أو أصلا لفرع ، أو جرا لعبد ، أو مسلما لذمي كما هو ظاهر الاطلاق ، وهو اختيار الإمام المهدي في البحر. هامش وابل. (ح / ص).

(٢) ما بين القوسين في بعض النسخ حاشية ، وفي بعضها أصل.

(٣) هو الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه‌السلام ، تقدمت ترجمته.

١٠٢

قال الفقيه محمد بن سليمان : هذا يوافق تخريج أبي طالب : أن من شرط الحد أن يقع ما يوجبه في بلد ينفذ فيها أمر الإمام.

وأما على قياس قول المؤيد بالله فيلزم أن يثبت عليه الحد ، وسيأتي الاستدلال للمذهبين إن شاء الله.

المسألة الثانية

إذا أخاف المحارب في المصر وقطع الطريق فيه هل يكون محاربا كما لو قطع في غير المصر؟. فالذي ذكره الهادي عليه‌السلام في المنتخب أنه لا يكون محاربا (١).

قال في شرح الإبانة : وعند الناصر ، والشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد أنه يكون محاربا ، قال في الزوائد : وسواء كان ليلا أو نهارا.

قال في شرح الإبانة : وعند الهادي ، وأبي حنيفة يكون محاربا ، إذا كان بحيث يلحقه الغوث ، وقد ذكر أبو طالب معنى هذا ، وأنه إذا كان لا يلحقه الغوث كان محاربا.

حجة من أثبته محاربا : عموم الآية.

ووجه القول الآخر : أن اسم المحارب ينطلق على من اعتاد إخافة الطريق في غير الأمصار.

الثالثة

ذكرها محمد بن عبد الله : أن إقرار المحارب يكون مرتين كالسارق ، ويقبل رجوعه (٢).

__________________

(١) وهو الذي اختاره الإمام المهدي عليه‌السلام للمذهب.

(٢) لفظ الفتح وشرحه : يثبت عليه ذلك كما مر في كتاب الشهادة ، وهو إما بشهادة رجلين ، أو إقراره مرتين ، ونعني رجلين أصليين ، ومثله في الكواكب ، والبيان.

١٠٣

قال في الشرح : وفي أخذ المال لا بد أن يكون نصابا.

وعن ابن خيران من أصحاب الشافعي : يكون محاربا بالقليل ، وقد دخل في هذا بيان المحارب والمحارب.

وأما الأمر الرابع

وهو : بيان حد المحارب ، فللعلماء في هذه المسألة أقوال مختلفة ، وهي تظهر في أثناء الكلام.

اعلم : أن للمحارب (١) حالات أربعا :

الأولى : أن يخيف السبيل ، ولم يحدث منه قتل ، ولا أخذ مال.

الثانية : أن يأخذ المال.

والثالثة : أن يقتل.

الرابعة : أن يأخذ المال ، ويقتل.

أما الأولى ففي جزائه أقوال :

الأول : مذهبنا وأبي حنيفة ، والشافعي ، والأكثر من أهل التفسير : أنه لا قتل ، ولا صلب ، ولكن إن لم يظفر به الإمام طرده ونفاه من كل مكان يستقر فيه ، وإن ظفر به عزره (٢).

قال أبو طالب : ولا نفي ، وهذا قول أصحاب الشافعي.

وقال المؤيد بالله تحصيلا لمذهب يحيى : إن النفي ثابت في الحالين ، قبل الظفر به وبعده ، وإنما لم يقتل لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل دم امرؤ

__________________

(١) مسألة : وإنما يحد المحارب حيث له نجدة تمنعه من المغوث ، فلا يخافه ، فإن لم يكن كذلك فمختلفين يستحق التعزير وليس بمحارب. بحر ومعناه في الهداية. (ح / ص).

(٢) وظاهر الأزهار أنه مخير بين التعزير والنفي حيث ظفر به ، والله أعلم. (ح / ص).

١٠٤

مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق».

وقال مالك : يقتل وإن لم يحدث شيئا ، لكن له أحوال ثلاثة : إن كان له رأي وقوة قتل ، وإن كان ذا قوة من غير رأي قطعت يده ورجله ، وإن عدم الرأي والقوة نفاه إلى بلد آخر.

الحال الثاني : أن يأخذ المال ، ولا يقتل.

فمذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي : أنه تقطع يده ورجله من خلاف ، ولا قتل.

وقال مالك : يخبر.

قال في النهاية : والمعنى : أنه يرجع إلى رأي الإمام ، فإن كان له رأي قتله أو صلبه ؛ لأن القطع لا يدفع المضرة ، وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف ، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي ، ولا ينفى العبد.

قال : وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور. أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام على ما ذكر الحال.

الحال الثالث : أن يقتل فقط.

فإنه يقتل ويصلب عندنا ، ويقدم القتل ، وهو قول أبي حنيفة ، وصححه أصحاب الشافعي.

وقال أبو يوسف ، ورواية عن الشافعي : يصلب حيا ، ثم يبعج بطنه بالرمح ، وهو قول الناصر.

قلنا : قد نهي عن المثلة ، وقال عليه‌السلام : «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».

قال في النهاية : وقال مالك : يخير بين القتل والصلب فقط ، ولا قطع هنا ولا نفي ، ويقتل ولو قتل من لا يكافئه كالعبد ، ذكره في التفريعات ، وهو داخل في عموم الأدلة ؛ لأن قتله حدا.

١٠٥

الحال الرابع : أن يأخذ المال ، ويقتل

ففي هذا أقوال ، فالذي نص عليه الهادي عليه‌السلام وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي : أنه يقتل ، ثم يصلب ، ولا يقطع (١).

قال في الوافي : يقطع ، ثم يقتل ، وهو قول الناصر ، ورواية لأبي حنيفة ، وحكاه في المغني عن تخريج المؤيد بالله ، وقتله بالسيف ضرب الرقبة لا الرجم ، ورواية عن أبي حنيفة : أن الإمام مخير إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ثم قتلهم ، وإن شاء قطع وصلب ، وإن شاء قتل وصلب.

وقال في شرح الإبانة للناصر : يخير إن شاء قطع ثم قتل ، وإن شاء قتل وترك القطع

قال في شرح الإبانة : أما لو جرح فقط ، فإنه يؤخذ بضمان الجراحة ، أما لو جرح وقطع ، أو جرح وقتل ، فقال أبو حنيفة ، والقاضي زيد : يسقط الجرح ، ويقتل (٢) أو يقطع (٣).

وقال الشافعي : يجرح ثم يحد.

قال أبو حنيفة : والصلب إلى ثلاثة أيام ، ثم يدفن.

وقال الناصر : على رأي الإمام ؛ لأنه للزجر وكذا عن أبي طالب.

قال علي بن العباس : حضرت يحيى بن الحسين ، وقد أتي برجلين قطعا الطريق ، فأمر بقتلهما ، ثم صلبا حتى تناثرا على الشجر.

__________________

(١) وهو المختار للمذهب.

(٢) أما حيث جمع بين القتل والجرح ، فهذا صريح الأزهار ، وأما لو جرح وقطع ، فظاهر الأزهار مع قطع النظر عن شرحه لزوم الأرش والقصاص ، والله أعلم. (ح / ص).

(٣) في أ(ويقتل ، ويقطع).

١٠٦

قال في شرح الإبانة : حكم قاطع الطريق حكم السارق في شلل يد ، أو ذهابها ، وإذا اجتمع عشرة على أخذ عشرة ، بقطعهم للسبيل ، فعند الناصر وأبي حنيفة ، والشافعي : لا يقطعون ، وعند الهادي (١) ، ومالك يقطعون.

واختلف : ما المراد بالنفي. فعند الهادي هو الطرد (٢) ، وهو مروي عن مالك ، والشافعي ، وعند زيد ، والحنيفة الحبس.

وقال الناصر : يخير الإمام بين حبسة سنة ، أو طرد سنة.

إذا ثبتت هذه الجملة فلقائل أن يقول : ظاهر الآية الكريمة يفيد أن المحارب والساعي في الأرض بالفساد جزاؤه مخير بين أربعة أشياء ، القتل ، أو الصلب ، أو القطع ، أو النفي ، من غير فرق بين الحالات الأربع ، فما وجه الخروج عن الظاهر؟.

[فإن](٣) قيل : إنه قد روي عن ابن عباس ، وابن مسعود أنهما قالا : إذا اجتمعت الحدود والقتل. قتل ، ودرىء ما سوى ذلك.

[إن](٤) قيل : إن كتاب الله تعالى لا يخص بقول الصحابي ، ولا يقاس مع وجود النص

قيل : قد روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، وأبي علي : أن الجناية عليه على قدر جنايته ، وهذا لا يقال إلا توقيفا ، فتكون أو للتقسيم ، لكن قوله تعالى : (أَوْ يُصَلَّبُوا) حملها الهادي عليه‌السلام

__________________

(١) وهو المذهب.

(٢) وهو المذهب ، وقيل : سمل بصره بالكحل ، وقيل : بالفقو ، ذكره في الوابل والغيث.

(٣) قال في (ح / ص): (الظاهر أن هذا هو الجواب ، والأولى حذف فإن .. وفي نسخة (قيل :) بغير فإن.

(٤) في بعض النسخ محذوف ما بين القوسين ، وجعله الجواب للإيراد الأول.

١٠٧

وغيره على أنها بمعنى : الواو (١) ، أي : ويصلبوا ، ومثل ذلك شائع في اللغة ، ومنه (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).

وأما ما ورد في حديث العرنيين من سمل أعينهم فقد نسخت المثلة.

قال في مسلم : وفي رواية أنس (إنما سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاء).

قال في سنن أبي داود : وكان فعله عليه‌السلام قبل نزول حد المحارب.

قال في السنن فيما روي عن أبي الدرداء في فعله بالعرنيين أن الله تعالى عاتبة على ذلك ونزلت الآية ، ومالك أثبت التخيير في بعض الوجوه على ما فسر أنه يرجع إلى رأي الإمام ، وقد قال في الكشاف : عن الحسن والنخعي : إن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفضيل ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعطاء ، وابن المسيب ، وهذه الآية الكريمة تحتمل أكثر من هذا.

وأما الأمر الخامس : وهو في بيان ما يسقط حد المحارب ، فقد قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قيل : هذا في المشرك إذا أسلم ، وهذا مروي عن عكرمة ، والحسن ، وقيل : نزل في المشرك ، والمسلم المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وأبي هريرة ، والسدي ، وغيرهم ، وقد قال الهادي عليه‌السلام : إذا تاب قبل الظفر به سقط (٢) عنه كل تبعة من حد أو قتل أو دين ؛ لعموم الآية.

__________________

(١) وهو هكذا في البحر والصراط المستقيم في تفسير القرآن الكريم وهو للكازرون الشافعي ، وذكر فيهما أن قوله أَوْ يُصَلَّبُوا مع القتل حيث قتل ، وأخذ المال ، في الصراط عن ابن عباس ، وغيره. (ح / ص).

(٢) لفظ الأزهار : (وتسقط عنه الحدود ، وما قد أتلف ولو قتلا) تمت. وفي الفتح : بحال المحاربة ، فرع : والتوبة مسقطة عنه ، ولو في غير وقت إمام ؛ لعموم الآية ، وكذا لو تاب ولم يصل إمام زمانه ، لكن لا يسقط المال إلا بحكم لأجل

١٠٨

وروي عن الشعبي أن حارثة زيد (١) حارب الله ورسوله في السعي في الأرض بالفساد ، ثم تاب قبل أن يقدر عليه ، فكتب علي عليه‌السلام إلى عامله بالبصرة أن حارثة بن زيد ممن حارب الله ورسوله ، ثم تاب قبل أن يقدر عليه ، فلا تعرض له إلا بخير.

وقال زيد بن علي ، والناصر ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : تسقط الحدود التي لله دون حقوق بني آدم ، من قتل ، أو مال ؛ لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتى ترد» وقوله عليه‌السلام : «لا يحل مال امرؤ مسلم إلا بطيبة من نفسه».

قال في شرح الإبانة : وروى زيد بن علي بإسناده إلى أمير المؤمنين : أن قاطع الطريق إذا تاب قبل أن يؤخذ ، وظفر به الإمام. ضمن المال واقتص منه ، وهذا نص.

والاستدلال بقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وبحديث الشعبي ، عن علي عليه‌السلام محتمل أنه أراد لا يتعرض [له] في الحدود ولو كان على المحارب حد آخر من زنى ، أو شرب ، ثم تاب سقط ذلك الحد ، حيث يسقط حد المحاربة عندنا ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو الأصح من مذهب الشافعي ، وله قول آخر أنه لا يسقط.

__________________

ــ الخلاف. تمت بحر ، قال في الصعيتري : ولو من غير جنس المحاربة في وقتها بعد الحكم. (ح / ص).

والذي يبنى عليه من كلامه عند أصحابنا أنه لا يسقط إلا ما أخذه حال المحاربة فقط.

(١) في الكشاف : الحارث بن بدر ، وفي البغوي حارثة بن زيد ، وفي البحر : ابن زيد كما في هذه النسخة.

١٠٩

أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود.

وأما توبة غير الكافر ففي المحارب اتفاق ؛ إذا تاب قبل الظفر به.

وأما غير في سائر الحدود فعندنا لا تسقط بالتوبة ، إلا حد المرتد ، وقاطع الطريق ، وقاطع الصلاة.

قال في التهذيب : وعند الشافعي إذا كان الحد لله محضا سقط بالتوبة ، وإن كان فيه حق لآدمي لم يسقط.

وعن الليث بن سعد ، والأوزاعي ، ومالك : تسقط الحدود ، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة في توجيه المسألة.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) [المائدة : ٣٥]

هذا أمر بثلاثة أشياء :

الأول : تقوى الله وذلك باجتناب المعاصي.

والثاني : ابتغاء الوسيلة ، قيل : هي ما يتوسل به إلى الغير والمراد هاهنا الطاعات ، قال لبيد :

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

ألا كل ذي لب إلى الله فاسل

أي : متوسل وقيل : إنها أعلى درجة في الجنة ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلوا الله الوسيلة».

الأمر الثالث : الجهاد وهو ما يتضمن ما فيه قوة للإسلام ، من اليد واللسان وقد دخل شرحه في غير هذا المكان.

قوله تعالى

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً

١١٠

مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣٨ ـ ٣٩]

النزول

قيل : نزلت الآية في طعيمة سارق الدرع ، وقيل : إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر بقطع يدها ، فقال قومها : نحن نفديها بخمسمائة دينار ، فقال عليه‌السلام : «اقطعوا يدها» فقطعت يدها اليمنى ، فقالت الامرأة : هل من توبة؟ قال : «نعم» ونزل : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) الآية.

ثمراتها : تظهر في تفصيلها

واعلم : أن الآية قد تضمنت ذكر السارق ، وهو يقتضي ذكر المسروق عليه ، والمسروق ، والموضع المسروق منه ، وزمان السرق ، وتضمنت الآية قطع الأيدي ، والقطع يشتمل على بيان المقطوع ، ومن يقطع ، ومن القاطع ، وكيفية القطع ، وتضمنت توبة السارق ، وهي تقتضي بيان ما يسقط عنه ، فهذه عشرة أشياء (١) ، وقبل الكلام عليها نذكر كلام العلماء في دلالة الآية هل هي مجملة ، أو مبينة؟ فعن عيسى بن أبان : أنها مجملة ؛ لذلك يدخلها التخصيص في السارق والمسروق.

قال أبو عبد الله البصري : الحكم يتعلق بشروط لا تبين بالظاهر ، فهي كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٢).

قال أبو علي ، وأبو هاشم ، والقاضي ، وجماعة من الشافعية ، والحنيفة : ليست بمجملة (٣).

__________________

(١) ذكر السارق اقتضى أربعة ، وقطع الأيدي أربعة ، والتاسع : قبول التوبة ، والعاشر : بيان بيان ما سقط عنه بالتوبة.

(٢) ينظر هل بين هذا القول ، وقول عيسى بن أبان فرق أم لا؟؟.

(٣) وهذا هو المقرر عند أهل الأصول.

١١١

قال القاضي : لأن ما لا يمكن الامتثال فيه إلا ببيان فهو مجمل ؛ لقول الله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وما كان يمكن الاختيار فيه فليس بمجمل ، وإن احتاج إلى بيان ما يخرج منه كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وما أخرج منه تخصيص له.

وأما بيان السارق : فهو من يأخذ مال غيره خفية من الحرز.

وأما لو جحد الوديعة فإنه لا يسمى سارقا ، فلا يستحق القطع.

وقلنا : خفية ؛ لأن المنتهب ، والطرار ، والمختلس لا يسمى سارقا فلا قطع عليه ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ليس على الخائن ، ولا على المختلس ، ولا على المنتهب قطع).

وقلنا : من الحرز ؛ لأن من أخذ من غير حرز فليس يسمى سارقا شرعا ، فلا قطع عليه عندنا ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي.

وقال داود ، وابن حنبل : من استعار شيئا فجحده فعليه القطع.

قال الحاكم : اختلفوا فقيل : يؤخذ اشتراط الحرز من الآية ، وقيل : من غيرها ، قال : والأول أصح ؛ لأن غير المحرز لا يسمى سرقة (١) ، وإنما يؤخذ غصبا ونهبا.

وقد ورد في الحديث ما تقدم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا قطع على المختلس والمنتهب» وفي حديث عمرو بن شعيب في حريسة الحبل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (فيها غرامة مثلها ، وجلد أو نكال ، فإذا أواه المراح ، وبلغ ثمن المحن ففيه القطع).

قيل : حريسة الحبل : هي الشاة تحرس في الحبل فتسرق ، وإنما يستحق القطع إذا كان بالغا ؛ لأن القلم مرفوع عن الصغير ، ولا بد أن يكون عاقلا لذلك.

__________________

(١) في أ(لأن غير الحرز لا يؤخذ سرقة).

١١٢

فأما السكران إذا سرق فلا أعرف نصا ، وهو يحتمل أن يقال : قد حكي عن أبي العباس ، وأبي طالب : لا يقاد إذا قتل فكذا لا يقطع ، وأصلهما : أن طلاقه غير واقع كما لا يصح بيعه ، فيلزم أن تسقط تبعة أفعاله عموما ، لكن قد قالوا : إذا زنى حدّ وفاقا.

وفي الزوائد : عن الناصر ، والمؤيد بالله : أنه يقاد إذا قتل ، فيحتمل أن يقال : يقطع إذا سرق ، وفي ردته خلاف ، وهذه المسألة مفتقرة إلى بيان القاعدة التي تبنى عليها أحكام أفعاله ، وبيان وجه الإجماع في حده إذا زنى ، وقد قيل : وكذا يحد إذا قذف ، ولا فرق بين الذكر والأنثى ، والحر والعبد ، أما لو كان آبقا وسرق وقطع.

قال في النهاية : لم يظهر في ذلك خلاف إلا خلاف من خالف في الصدر الأول وهم ابن عباس ، وعثمان ، وعمر بن عبد العزيز.

وشرط القطع أن يكون السارق لا شبهة له في المسروق ؛ ليخرج الأب والأم ، فإنه لا خلاف أنه لا قطع في ذلك (١) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك».

وأما إذا سرق من مال والده ففي ذلك القطع عند القاسم ، والهادي ، والناصر لعموم الآية.

وقال أبو حنيفة ، وزيد ، والمؤيد بالله ، والشافعي : لا قطع ، لكن الشافعي يقول : لا قطع على من سرق من مال آبائه ، وأبو حنيفة يقول : لا قطع على من سرق على ذوي رحم محرم.

واحتجوا بقوله تعالى في سورة النور : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) [النور : ٦١] قلنا : في ذلك وجوه :

__________________

(١) وإن سفل الولد.

١١٣

الأول : أن المراد مع الإذن ، وخص هؤلاء لكثرة خلطتهم ، ولهذا قال : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) وقيل : أراد بهؤلاء من الكفار مع الإذن لئلا يعتقد المسلم أن الأكل مع أقاربه الكفار محرم ، وقيل : كان هذا ثابتا ، ثم نسخ بقول تعالى في سورة الأحزاب : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب : ٥٣]

وبالسنة : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه».

أما لو سرق العبد من مال سيده فلا قطع عليه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ؛ لأن عليا عليه‌السلام قال : «مالك سرق بعضه بعضا لا قطع عليه».

وقال عمر : «فتاكم سرق مالكم ، لا قطع عليه» وكان هذا مع سكوت الصحابة كالإجماع فخص عموم الآية.

وأما لو سرقت مال ابنها من الرضاعة فعليها القطع ؛ لأنه لا شبهة لها ، فلا مخصص لها من عموم الآية.

ولو سرق من مال غريمه ، فقال الهادي : يقطع ، وتأول على أنه غير ممتنع.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يقطع مع الجحود ؛ لأن له شبهة ، ولهذا له الأخذ على حسب الخلاف ، وكذلك الشريك إذا سرق من مال شريكه في المكاسب لا قطع عليه ؛ لأن له شبهة.

والحربي المستأمن يقطع عندنا ، وأحد قولي الشافعي ؛ لعموم الآية.

وقال أبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : لا يقطع.

وأما الأمر الثالث : وهو بيان المسروق ، فلا بد أن يكون نصابا محترما لا شبهة فيه.

قلنا : (نصابا) (١) ، فأما القليل فلا قطع فيه عند أكثر العلماء.

__________________

(١) نصابا ـ على الحكاية لنصاب في قوله (فلا بد أن يكون نصابا).

١١٤

وقال أهل الظاهر ، والخوارج ، والحسن ، والبتي : يقطع في القليل والكثير ، واختلف كم نصاب السرقة؟ فعند الهادي ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة : عشرة دراهم ، لكن غلظ (١) الهادي بأن تكون خالصة ، وزن كل درهم ثمان وأربعون حبة.

قال في شرح الإبانة : هو خلاف الإجماع ، وإنما تكون وزن سبعة (٢) ، وغلظ المؤيد بالله ، وأبو حنيفة : بأن تكون مضروبة. قال أبو حنيفة : ولو كانت زائفة.

وقال الشافعي ، وأحمد بن عيسى : ربع دينار.

قال مالك : أو ثلاثة دراهم.

وقال النخعي : خمسة ، وقال أبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، وعثمان : أربعة دراهم.

وسبب الخلاف أخبار اختلفت ، منها : ما روى عمرو بن شعيب ، بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقطع اليد إلا في دينار ، أو عشرة دراهم» ، فهذه حجتنا.

واحتج الشافعي بما روى البخاري ، ومسلم (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم) ذكر ذلك في النهاية ، وأخذ أهل الظاهر ، ومعهم الحسن رواه في النهاية بعموم الآية ، وبما رواه البخاري ، ومسلم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده».

__________________

(١) وفي نسخة (غلّط الهادي)

(٢) أي : سبعة أعشار المثقال ، وسبعة أعشار المثقال اثنتان وأربعون شعيرة ، لأن وزن المثقال ستون شعيرة

١١٥

قلنا : مع الاختلاف (١) يؤخذ بالمتيقن.

وقد اختلفوا في قيمة المجن الذي قطع به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سارقه هل خمسة؟ أو عشرة؟ أو ثلاثة؟.

واختلفوا إذا اشترك جماعة في النصاب ، فمذهبنا ، ومالك : يقطعون.

وقال أبو حنيفة ، ورواية للشافعي : لا يقطعون ، ولو سرق عبدا صغيرا أو مكرها قطع عندنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، خلافا لأبي يوسف.

لنا : أنه مال لم يخرج من العموم بدليل ، أما لو سرق الحر فلا قطع فيه (٢) ، ولا فيما عليه من حلية وغيرها ، على ما ذكره في الأحكام ، وصححه الأخوان ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ؛ لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» وقوله عليه‌السلام : (لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن) فكان هذا مخصصا للعموم.

وقال في المنتخب ، ومالك : تقطع لعموم قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) الآية.

ولو سرق على ذمي خمرا ، أو خنزيرا في بلد لهم سكناه ، فقال الهادي في الأحكام : يجب القطع في ذلك.

__________________

(١) يعني : الاختلاف في ثمن المجن ، وذلك لأن الأحاديث متكثرة في انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقطع في أقل من ثمن المجن ، حتى بلغت حد التواتر المعنوي ، فأما حديث البيضة ، والحبل ، ونحوهما فهي لا تعارض أحاديث المجن ، ولعل هذا الخبر ورد للزجر والمبالغة ، والتبعيد عن مقارفة مثل ذلك ، والله أعلم. (ح / ص).

(٢) قال في (ح / ص): (ولا فيما عليه من الحلية وغيرها) وفي نسخة ب جعل هذه الحاشية أصلا.

١١٦

وقال القاسم ، وأبو حنيفة ، والشافعي : لا قطع.

سبب الخلاف أن الهادي نظر إلى أنه مال لهم ، وقال الأكثر : ليس بمال في دين الإسلام.

وأما لو سرق الطيور ، ففيها القطع ؛ لعموم الأدلة عندنا ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا قطع فيها.

وأما لو سرق الثمار قبل الجذاذ فلا قطع فيها ، وإن كانت محرزة ؛ لأن ذلك مخرج من العموم في الآية بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا قطع في ثمر ولا كثر» (١) ، وهذا قول أبي حنيفة.

وقال الناصر ، والشافعي : يجب القطع لعموم الأدلة ، والخبر ورد فيما لا يحرز ، على ما جرت به عادة أهل المدينة.

وكذلك يقطع عندنا في اللحم ، وسائر ما يتسارع إليه الفساد ، وفي الأشجار المقطوعة من حشيش وغيره ، إذا بلغت النصاب ؛ لعموم الآية ؛ خلافا لأبي حنيفة فيما يتسارع إليه الفساد ، وفي الأخشاب ، إلا في الساج ، والصندل ، والأبنوس ، والقنا ، والعود المصبوغ.

وسبب الخلاف هل يطلق على ذلك اسم المال أو لا؟.

أما آلات الملاهي من الطنبور ونحوها ، فقال المرتضى وأبو حنيفة ، وأبو طالب : لا قطع في ذلك ؛ لأنها ليست بمال.

ولو كان للسارق شبهة ، كأن يسرق من بيت المال ، أو من الغنيمة فلا قطع عليه ؛ لأن الحد يدرأ بالشبهة (٢).

وأما سرق المصحف فعندنا ، والشافعي : يقطع لأنه مال ، بدلالة جواز بيعه ، وقال أبو حنيفة : لا بقطع ولو كان عليه حلية.

__________________

(١) الكثر : هو الجمار ، وهو ما يلقح به النخل.

(٢) ولو كان السارق من أهل الذمة.

١١٧

وأما الأمر الرابع : وهو بيان موضع المسروق ، فلا بد أن يكون حرزا في دار الإسلام ، وما وقع من الخلاف في مواضع من السرق من الكمّ ، والجوالق ، ونحو ذلك.

فسبب الخلاف : هل يطلق على ذاك أنه حرز أو لا؟.

وإذا سرق المسروق من بيت السارق فلا قطع لأن مكانه غير حرز للمسروق.

وأما حديث صفوان (وقطع من سرق رداءه من المسجد) فقد قال في الشرح : إنه منسوخ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا قطع على خائن ، ولا مختلس».

وأما إذا سرق ثياب الميت من قبره فعندنا ، والشافعي أن القبر حرز فيقطع ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام وعن أبي حنيفة : ليس بحرز ولا يقطع.

وأما ذكر زمان السرقة فلا بد أن يكون في وقت إمام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أربعة إلى الولاة».

ولا يقطع في عام سنة لحصول الشبهة أنه سرق للخشية ، وقد ورد في الحديث : «لا قطع في عام سنة» (١).

__________________

(١) عام سنة ، أي : عام قحط ومجاعة .. وقد بيض قدر سطر في النسخة الأصل ب. السنة لغة : القحط ، والحديث ذكر معناه في الكشاف وغيره ، ومنه الحديث (اللهم أعني على مضر بالسنة) السنة : الجدب ، ويقال : أخذتهم السنة إذا أجدبوا ، وأقحطوا ، وهي من الأسماء الغالبة ، نحو الدابة في الفرس ، والمال في الإبل ، وقد خصوها بقلب لاماتها. وأسنتوا : إذا أجدبوا ، ومنه حديث عمر (أنه كان لا يجيز نكاح عام سنة) أي : عام جدب ، يقول : لعل الضيق يحملهم على أن ينكحوا غير الأكفاء ، وكذلك حديثه الآخر (كان لا يقطع في عام سنة) يعني السارق ، وقد تكرر في الحديث ، وفي حديث طهفة (فأصابتنا سنية حمراء) أي : جدب شديد ، وهو تصغير تعظيم. نهاية. (ح / ص).

١١٨

وأما بيان المقطوع فيه : فقد قال تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما).

قال في التهذيب : بدأ بالسارق ؛ لأن غلبة السرقة من الرجال.

وقال في آية الزنى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) فبدأ بالزانية ؛ لأن غلبة ذلك في النساء لفرط شهوتهن ، وقوله : (أَيْدِيَهُما) أراد اليمين من اليدين بالإجماع.

قال في التهذيب : عن بعضهم أنه مخير ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وقراءة الشاذ كخبر الآحاد.

وروي أن سارقا جيء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقطع يمينه ، واختلف العلماء في أي موضع يكون القطع؟ لأن الآية مجملة ، فمذهب جماهير الأئمة ، وجماهير الفقهاء ، والمؤيد بالله : مفصل الكف.

والوجه : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتي بسارق فقطع يده من الكوع ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وأبي بكر ، وعمر ، من غير مخالف (١) من الصحابة.

وقال بعض السلف ، وأحمد بن عيسى : من أصول الأصابع ، وقالت الخوارج : من الإبط.

فأما إذا أعاد ثانيا فدلالة قطع رجله من السنة.

وهاهنا فرع

وهو إذا كانت يمينه شلاء ، أو مقطوعة الأصابع ، فقال أبو طالب : لا تقطع ، وتنقل إلى الرجل ، وإنما تقطع يمينه إذا كان لها إصبعان على ظاهر قول الهادي.

وقال المؤيد بالله : تقطع اليمين الشلاء ، والمقطوعة الأصابع لعموم الآية.

__________________

(١) في ب (من غير مخالفة من الصحابة).

١١٩

أجيب : بأنها لا تسمى يدا على الإطلاق ، وقد قال أبو حنيفة ، والشافعي : لا تقطع اليمنى إذا كانت مقطوعة الأصابع.

قال أبو حنيفة : وتقطع اليمين الشلاء ، أما لو كانت اليمين صحيحة واليسرى شلاء ، فقال أبو طالب ، وأبو حنيفة : لا تقطع اليمين ، وكذا إذا غلط فقطعت يساره ، ولم تقطع يمينه.

والوجه : أن منافع يديه معا لا يجوز ذهابها.

وقال الشافعي : إذا غلط فقطعت اليسرى أعيد قطع اليمنى ، هذا قوله الأخير.

وأما من يقطع؟ فهو من ثبتت عليه سرقة ما تقدم ، وحصل فيها ما ذكر من الصفات ، وكان ذلك بإقراره مرتين عندنا ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأحمد ، وإسحاق (١).

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : مرة واحدة.

ما قلنا مروي عن علي عليه‌السلام والخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أتي بسارق اعترف بالسرقة فقال : «ما إخالك سرقت» فقال : بلى يا رسول الله مرتين ، أو ثلاثا.

قال أهل المذهب : فدل على أن الإقرار مرة لا يكفي.

وأما لو أقر العبد بسرق عين في يده ، فقال أبو العباس ، وزفر ، ومحمد : لا يقطع ؛ لأن في ذلك ضررا على الغير ، وهو السيد (٢).

__________________

(١) وهو المختار للمذهب.

(٢) وقيل : لأن ثبوت المال أصل ، والقطع فرع ، فإذا لم يثبت المال وهو الأصل لم يثبت القطع وهو الفرع. تعليق القاضي .. هذا حيث أقر بشيء معين في يده ، فأما إذا أقر أنه سرق ما يوجب القطع ، ولم يعينه فإنه يقطع وفاقا. كواكب. أولها بالمعنى ـ وكذا لو أقر بعد تلف المال فإنه يقطع وفاقا ، ذكره في البيان ، وكذا بعد رده لصاحبه ، وقوى عليها للمشايخ.

ولعله يجب في صورة رابعة ، وهي حيث كانت في يد العبد ، واعترف السيد بأنه للمسروق عليه ، ولو أنكر كونه سارقا.

١٢٠