مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام عليه‌السلام له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين. إلى أن قال :

فعهد إليه عليه‌السلام أن لا يسبَّ أباه عليه‌السلام على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه.أبي تراب سلام الله عليه.

وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...

ولمَّا تصالحا كتب به الحسن عليه‌السلام كتاباً لمعاوية صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي عليهما‌السلام معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله

٦٤١

شهيداً (١).

فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين (٢) (٣).

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ٢ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ ح ١٩٣ ، كشف الغمّة ، الإربلي : ٢ / ١٩٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦ / ١٤ ـ ١٥ ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : ٤٥.

٣ ـ الغدير : الأميني : ١١ / ٥.

٦٤٢

المناظرة التسعون

مناظرة

أم محمّد علي المعتصم السودانيّة

مع خالها وقصّة تشيُّعها

وطرق التشيُّع بابنا

الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار.

قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات.

٦٤٣

ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة.

ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من ..؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان؟

لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين.

فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال؟

قال : الشيعة.

قلت : ماذا؟

٦٤٤

قال : الشيعة.

نعم. الشيعة .. فكانت تلك الكلمات هي صوت دقَّات الباب.

من هم الشيعة

استرسل خالي في الحديث مبِّيناً من هم الشيعة ، واضعاً إصبعه على أسس الخلاف بينهم وبين أهل السنّة ، ومدى أحقّيّتهم في هذا الخلاف ، فقد كنت لا أعرف عنهم إلاَّ أنهم هم الذين يدّعون بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته لم يترك الأمر شورى ، وإنّما قام بتعيين الإمام علي عليه‌السلام الشرعي.

فقد أكَّد خالي أنّ الخلاف المذهبي هو خلاف في عمق آليات الفهم الدينيِّ ، ولذا كان إيمان الشيعة بأهل البيت عليهم‌السلام كمرجعيَّة معصومة لقطع الطريق أمام دواعي الخلاف الدينيِّ ، فالضرورة العقليّة قاضية بأن وحدة المرجعيَّة هي كفيلة بجمع الصفوف وحلِّ التباين ، فإذا كان الله حريصاً على هداية الناس ـ وهو كذلك ـ فقد أرسل الأنبياء والرسل وأيَّدهم بمعجزاته حرصاً على هداية الناس ، فلمَّا تجاهل هذه الحقيقة العقليَّة الحاكمة بضرورة وجود مرجعيَّة معصومة ، ألا يكون لنا حجَّة يوم القيامة إذا سألنا عن سبب تفرُّقنا إلى مذاهب ; بأن نقول : لم تجعل لنا علماً هادياً نقتدي به ونلجأ إليه ، كما كان يفعل الصحابة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فجوهر الخلاف بين السنّة والشيعة في هذه النقطة المحوريّة ، حيث يدّعي الشيعة أن حكمة الله تقتضي أن ينصب لنا الله إماماً من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ألا تجدين في نفسك إن كان هناك ـ مثلا ـ عشرة أشخاص ينوون القيام بعمل ما ، فإن كان هناك قائد من بينهم يلجأون إليه ، ويأتمرون بأمره ، ألا يكفل

٦٤٥

ذلك وحدتهم ، وجمع صفِّهم؟ أمَّا إذا كان كل واحد منهم يعمل برأيه فسوف ينقلب جميعهم إلى عشرة طرق ، كل فريق بما لديه فرح.

فنقطة بداية الخلاف بين السنّة والشيعة في هذا الأمر تمسُّك الشيعة بضرورة حكم العقل ، ولم يعترف السنّة بذلك الحكم.

ولا تعتقدي أن هذا الحكم العقليَّ بعيد عن الحكم الشرعيِّ ، فالقرآن قاض بهذا الحكم ، ألا يكفيك في هذا الأمر أن الله لم يوكل للبشر اختيار أنبيائهم ، بل هو الذي ينتجب ويصطفي من عباده ما يشاء ، فإن لم يكن للبشر خيرة في تنصيب من يخصّة الله بالنبوَّة والرسالة ، كذلك ليس لهم الخيرة في تعيين من يقوم بأمر دينه ، ألم يقل تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (١)؟ فالجاعل هو الله ، فهذه هي سنَّة الله ولن تجد لسنّته تحويلا.

ثم إنّ أساس الخلاف في هذه الأمَّة هو فيما بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأهل السنّة والشيعة متفقون بشكل ما على الإيمان بالله والرسول ، والخلاف كل الخلاف فيما بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكرت لك أن الضرورة العقليَّة حاكمة في هذا الحال بأن يكون لنا إمام من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد حكم القرآن أيضاً بهذه الضرورة في قوله تعالى ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (٢) ، فقد بيّنت هذه الآية ثلاثة محاور أساسيَّة وهي : الله ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووليُّ الأمر ، فلم تستثنِ هذه الآية موضوع الإمامة ، ممّا يعني أن الدين لا يكتمل إلاَّ بهذه المحاور الأساسيَّة ، وإذا تدبّرت في هذه الآية بشكل أعمق تكتشفين حقائق أكثر بعداً.

__________________

١ ـ سورة الأنبياء ، الآية : ٧٣.

٢ ـ سورة النساء ، الآية : ٥٩.

٦٤٦

فإذا نظرنا إلى لفظة ( أَطِيعُواْ ) نجد أنها تكرَّرت في الآية مرَّتين ; المرَّة الأولى توجب الطاعة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) من غير لفظة ( طاعة ) جديدة ، ويتحقّق بذلك المعنى ، ولكن هذه دلالة على الفرق بين الطاعتين ، فطاعة الله عبادة ، وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثال لأوامره ، هذا ما يقودنا إلى الاستفسار عن عدم تكرار لفظة الطاعة مرَّة ثالثة في أولى الأمر ، فلو استخدم القرآن لفظة ثالثة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( وأَطِيعُواْ ) أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) لدلّل على الفرق بين الطاعتين ، وحين لم يستخدم ذلك بل عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول علمنا أن طاعة أولي الأمر هي عين طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي طاعة على سبيل الجزم ، والحتم ، هذا ما يقودنا إلى حقيقة عميقة وهي عصمة أولي الأمر ، وإلاَّ كيف يأمرنا الله بالطاعة المطلقة لمن هو يرتكب المعاصي فيكون أمراً من الله بالمعصية التي نهى عنها ، فيجتمع بذلك الأمر والنهي في موضع واحد وهو محال؟

فتعيَّن بذلك عصمة أولي الأمر ، وبذلك يكون رسم الله لنا معياراً نتعرَّف به على ولاة أمورنا وهو العصمة ، وبهذا تسقط خلافة كل إمام ادّعى الخلافة وهو غير معصوم ، فالخلفاء الراشدون لم يدّعوا العصمة لأنفسهم فضلا على ادّعاء الآخرين ، فمن هذه النقطة الجوهرية انطلق الفهم الشيعيُّ يبحث عن ولاة الأمر الذين عصمهم الله من الخطأ ، ولم يجد الشيعة بنص القرآن غير أهل البيت عليهم‌السلام الذين طهّرهم الله من الرجس ، وقال تعالى في حقّهم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) (١) فقد حصر الله في هذه الآية أهل البيت عليهم‌السلام وخصّهم بالطهارة من كل

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٦٤٧

رجس ودنس ، أو بمعنى آخر عصمهم من الخطأ.

وبمعرفة المعصومين نكون قد عرفنا من هم أئمتنا ، وولاة أمورنا في تلك الآية ، فتكون الطاعة واجبة على كل مسلم لله تعالى وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأهل البيت عليهم‌السلام ، وبذلك رسم لنا القرآن طريقنا من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو موالاة أهل البيت عليهم‌السلام ومودّتهم كما أمر الله بقوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ، ومن هنا جاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إنّ العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض .. (٢) فحصر هذا الحديث مسار الأمَّة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في اتّباع الكتاب والعترة ، فعندما رأى الشيعة هذه النصوص تشيَّعوا لأهل البيت عليهم‌السلام وتابعوهم ، فالتشيُّع يعني اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام.

ولا تتصوَّري أن الفكر الشيعي وليد ذهنيّة ابتكرت فكرة الإمامة في ظروف تأريخيّة معيَّنة ، وإنّما هو امتداد طبيعيٌّ لحركة الرسالة الإسلاميَّة ، وقد كان الصحابة الذين يوالون الإمام عليّاً عليه‌السلام ـ أمثال : أبي ذر وسلمان والمقداد رضي الله تعالى عنهم ـ يسمُّونهم بشيعة عليٍّ عليه‌السلام ، كما أكَّد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المفهوم ، وجذّر هذا المصطلح في عقليَّة الأمَّة الإسلاميَّة بمجموعة أحاديث بشّر بها شيعة عليٍّ عليه‌السلام بالفوز بالجنّة ، وأكَّدت أنّهم هم الفرقة الناجية ، كقول رسول

__________________

١ ـ سورة الشورى ، الآية : ٢٣.

٢ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣ / ١٠٩ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجات الحديث الشريف.

٦٤٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل جنَّة عدن التي وعدني ربّي ، فليوال عليَّ بن أبي طالب من بعدي ، ويوال وليَّه ، ويقتدِ بأهل بيتي ، فإنّهم خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، ويل للقاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي (١) ، وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي! أنت وشيعتك على منابر من نور ، مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة ، يا علي! أنت وشيعتك هم الفائزون (٢).

وغيرها من الأحاديث التي رسمت للأمَّة طريقها.

فهذا هو التشيُّع باختصار ، وأنا أدعوك إلى التأمُّل فيما قلته لك ، ويكون الحوار بيننا ممتدّاً.

توقَّف الزمن أمامي وأنا أستمع إلى هذا الكلام .. ارتسمت على محيَّاي الدهشة .. وبدا عليَّ السّكون .. ولكنّه في الواقع هزّ نفسي بعنف ، وكأنّه اقترب بأنامله حول عنقي ليحبس بكلماته أنفاسي ، فهل سحب خالي بهذا الكلام البساط من تحت أقدام كلِّ المذاهب ... لكنّه بدأ من النقطة التي وقفت عندها في مفترق الطريق ، فلعله هو العابر الذي كنت أنتظره ليسلّي وحدتي ، ويربط على قلبي لكي أقتحم تلك الصفحات التي ختمت بحبر التقديس.

ولكن سرعان ما لملمت أشتات ذهني ، وحزمت أمر نفسي قائلة : لا

__________________

١ ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٢٤٠ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩ / ١٧٠ ، عن حلية الأولياء لأبي نعيم الإصبهاني ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٢ / ١٠٣ ح ٩٤١٩٨ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ح ٢.

٢ ـ راجع : مناقب أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، الكوفي : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ح ١٦٧ ، المناقب ، الخوارزمي : ١٢٩ ح ١٤٣ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ح ٤.

٦٤٩

يمكن تجاوز كل ذلك الزخم الفكريّ في الموروث الإسلاميِّ ، وما أبدعت فيه عبقريَّات العقل المسلم بهذه الكلمات ، فالأمر موقوف على كثير من البحث والنقاش.

قاطعني قائلا : أنا لم أطلب منك تحديد موقف بهذا الكلام ، كما أنني لا أؤمن بسياسة التلقين وتمرير الأفكار ، فكل ما ذكرته توضيح عام ، وما زال البحث والنقاش بيننا.

قلت : الأمر بحاجة إلى تركيز أكثر ، وأنا لا أجد أنّ المكان مناسب في وسط هذه الضجّة وزغاريد الفرحة ، فمن المناسب أن ننتظر بعد أن تهدأ الأمور ، وأجد الفرصة الكافية لاستجماع نفسي لطرح الحوار نقطة بعد نقطة.

قال : لا بأس بهذا الاقتراح ، فأنا موجود متى طلبتِ منّي الحوار.

ودّعت خالي بعد تلك الجلسة العابرة ، ودخلت مع النساء في معمعة الزواج ، بين ضجيج النسوة ، وصراخ الأطفال ، ولكنّها لم تحجب عن سمعي تلك الكلمات التي سمعتها من خالي ، فما زالت تتردّد في أذني ، فعزمت على إعداد العدّة ، فلا يمكن الاستهانة بهذا الكلام ، كما لا يمكن الاستهانة بمقدرة خالي العلميَّة ، فقد أدهشني فعلا بتلك الكلمات التي كانت تنساب على لسانه من غير جهد وتكلُّف.

الخلافة بين النص والشورى

بعد الانتهاء من مراسيم الزواج وفي مساء يوم من الأيام دعوت خالي لإكمال الحوار ، وقد سجّلت مجموعة أدلّة تنقض ما قاله خالي ، فوافق بترحاب ، بشرط أن يكون النقاش مع مجموعة لتعمَّ الفائدة.

٦٥٠

وفي جوٍّ من الهدوء والسكينة وتحت ضوء القمر اجتمعنا أنا وأخواتي وبنات خالتي ، وبدأ الحوار مع خالي ..

قلت : أولا ، وقبل كل شيء تعلم أن كل من لا يؤمن بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهو كافر ، والشيعة لا يؤمنون بذلك ، ويعتبرون أنّ الخليفة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عليٌّ عليه‌السلام فحسب ، وفي هذا الكلام تجاوز على الخلفاء ، وكذبٌ وافتراء على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطعن في الصحابة ، وتسقيط لمكانة أبي بكر وعمر وعثمان.

خالي : لعلَّ الله منَّ عليَّ بكِ حتى أهتدي على يديكِ إن كنت ضالا ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك ممَّا طلعت الشمس عليه وغربت (١) ، وقال تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (٢).

فتعالي ، اكشفي لي المستور ، وأنيري دربي للحقيقة ، ولكن أرجو منك ـ يا بنت أختي ـ بأن تنتهجي طريق الحكمة والدليل ، فنحن قوم نميل مع الدليل أينما مال ، قال تعالى : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) ، وقال تعالى : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (٤) وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : رحم الله امرأ سمع حكماً فوعى ، ودعي إلى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا (٥).

__________________

١ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣ / ٥٩٨ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١ / ٣١٥ ح ٩٣٠ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٥ / ٣٣٤.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٣٢.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية : ١١١.

٤ ـ سورة النحل ، الآية : ١٢٥.

٥ ـ نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٢٥ ـ من ١٢٦ خطبة له عليه‌السلام رقم : ٧٦ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٦٦ / ٣١٠ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ١٧٢.

٦٥١

وعندها أطرقت رأسي خجلا ، وقلت : سامحني يا خالي ، ولكنَّ الحوار ليست فيه اعتبارات ، وأنت صادق فيما قلت ، وما عليك إلاَّ مواصلة النقاش ، وعليك ذكر دليل الشيعة على أن الإمام علياً عليه‌السلام قد نصّ عليه من قبل الله تعالى.

خالي : إذا كنت مديرة مدرسة أو شركة وطرأ عليك سفر ، فهل تغادرين هذه المدرسة أو تلك الشركة بدون تعيين أيِّ وكيل؟

قلت : طبعاً لا ، وليست هذه صفة أيِّ إداريٍّ عاقل.

خالي : إذن فهل خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الدنيا بدون وضع أيِّ حلٍّ لأمّته؟ فهل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجهل بما سيقع من بعده من حروب وفتن واختلافات؟ وهل يعقل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هذه الشخصيَّة العملاقة التي بنت أعظم حضارة في تأريخ الإنسانيَّة ـ يترك هذه الحضارة من غير تعيين من يرعى شؤونها؟

أو ليس من الواجب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون حريصاً على العباد ، فيختار إليهم من يكون إمامهم في أمور الدين والشريعة؟ أو ليس هو القائل : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلُّها في النار إلاّ واحدة (١).

حاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك أمَّته سدىً ، وهو العالم بما سيجري بعده ، وقد أثبت التاريخ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أراد أن يخرج من المدينة إلى غزوة كان لا يخرج حتى يجعل خليفة ، وقد ذكر البخاري في صحيحه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما خرج لغزوة تبوك خلَّف علي بن أبي طالب عليه‌السلام على المدينة ، وقال له : يا علي! ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ١٢٠ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ١ / ١٢٨ ، وقد تقدَّمت تخريجاته.

٦٥٢

بعدي (١) ، فيتضح من ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع حلاًّ لأمّته .. أليس كذلك؟

قلت : أنا لا أعترض على شيء ممّا قلت ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج من هذه الدنيا حتى وضع حلاًّ .. ولكن لا يعني هذا أن يكون الحلّ الذي وضعه هو النصّ على الإمامة.

خالي : إذن ما هو الحل؟

قلت : الحل هو الشورى بين المسلمين.

خالي : إذن خلاصة هذا الكلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم بما سيجري من بعده ، وأنه قد وضع حلاًّ لأمَّته .. ولكن اختلفنا في نوعيَّة ذلك الحل ، فأنتم تقولون : إن الحل الذي وضعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الشورى بين المسلمين .. أمَّا الشيعة فقد ذهبت إلى أن الحلَّ هو النص والتعيين من قبل الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أنّ الرسول عيّن من بعده علياً وأهل بيته عليهم‌السلام.

قلت : إنّ الأدلة على الشورى واضحة في آيات الله تعالى ، ولا أدري كيف تغافل عنها الشيعة ، فهل هناك نص أوضح من قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (٢) ، وقوله : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (٣)؟!

فإنّ الظاهر من هذه الآيات هو إعطاء الشرعيَّة للأمَّة في انتخاب خليفتها ، وليست لك حجّة ممّا ينتج من هذا الانتخاب من اختلاف ; لأنّ من ميزات

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ٥ / ٣٠١ ـ ٣٠٢ ح ٣٨٠٨ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٢ / ٣٣٧ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث الشريف المتواتر.

٢ ـ سورة الشورى ، الآية : ٣٨.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٦٥٣

شريعتنا الغرّاء أنّ الاختلاف مسموح به ، بل هو رحمة كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اختلاف أمَّتي رحمة (١) ، هذه من أعظم القيم الإسلاميّة وهو إقرار مبدأ الديمقراطية.

كما أن الواقع العملي لسيرة المسلمين وخاصة سيرة السلف الصالح قد أجمعوا على هذا المبدأ ، وأنّ أول شورى حدثت في التاريخ أسفرت عن أعظم حضارة بقيادة الخلفاء كانت نتاج مبدأ الشورى ، وهذا ما أراده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القائل : لا تجتمع أمَّتي على ضلال (٢) ، وهذا للأمَّة فماذا يكون الحال إذا كان المجمعون هم الصحابة الذين زكَّاهم الله عزّوجل ومدحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم تكن ـ يا خالي ـ خلافة أبي بكر خارجة عن الدين ، بل هي الدين بعينه.

__________________

١ ـ شرح مسلم ، النووي : ١١ / ٩١ ، الجامع الصغير ، السيوطي : ١ / ٤٨ ح ٢٨٨ ، كشف الخفاء ، العجلوني : ١ / ٦٤ ح ١٥٣.

قال المتقي الهندي في كنز العمال : ١٠ / ١٣٦ ح ٢٨٦٨٦ : اختلاف أمَّتي رحمة ( نصر المقدسي في الحجة ، والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند ، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ، ولعلّه خرِّج في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا ).

وقال الفتني في تذكرة الموضوعات : ٩٠ ـ ٩١ : في المقاصد اختلاف أمتي رحمة للبيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رفعه في حديث طويل بلفظ : واختلاف أصحابي لكم رحمة ، وكذا للطبراني والديلمي والضحاك عن ابن عباس منقطع ، وقال العراقي : مرسل ضعيف ، وقال شيخنا : هذا الحديث مشهور على الألسنة ، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس ، وكثر السؤال عنه ، وزعم كثير من الأئمة أنَّه لا أصل له ، لكن ذكره الخطابي وقال : اعترض على الحديث رجلان ; أحدهما ماجن ، والآخر ملحد ، وهما : إسحاق الموصلي والجاحظ ، وقالا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ، ثمَّ ردَّ الخطابي عليهما ، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث ، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده ، وفي حاشية البيضاوي ذكر هذا الحديث السبكي وغيره وليس بمعروف عند المحدِّثين.

٢ ـ أحكام القرآن ، الجصاص : ٢ / ٣٧ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٨ / ١٢٣ ، وقد تقدَّم هذا الحديث في مناظرة أميرالمؤمنين عليه‌السلام مع أبي بكر.

٦٥٤

وإذا كنت في شك ممَّا قلت لك تكون قد خالفت أهل البيت عليهم‌السلام الذين تدّعون التمسُّك بهم ; لأنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام بنفسه بايع أبا بكر ولم يخالفه ، وإذا كانت الخلافة له لم سكت وبايع أبا بكر ، وكان على الأقل احتجّ عليهم وذكَّرهم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصَّ عليه ، ولكن حدث عكس ذلك ، فقد أقرَّ عليٌّ عليه‌السلام مبدأ الشورى كما جاء في هذا النص ـ كتبته من كتاب يرجعه إلى نهج البلاغة ـ : وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين (١) ، ولعلّ عليّاً عليه‌السلام كان يدري أنَّ أناساً يأتون من بعده يدّعون أن الإمامة حقٌّ له دون غيره ، ولذلك سطَّر هذه الكلمات حتى تكون حجّة عليهم مدى الدهر.

هذا من جهة عليٍّ عليه‌السلام ، أمَّا من جهة الصحابة فالأمر أوضح ، لأنهم لم يبايعوا علياً ، ولو كان هناك نص عليه لم يتخذوا دونه بدلا ، ولا يمكن أن يقبل أن كل الصحابة قد تواطؤا على عليٍّ ، وهم الذين مدحهم الله في كتابه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (٢) ، وكما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (٣) (٤).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، ٣ / ٧ ، من كتاب له عليه‌السلام لمعاوية ، رقم : ٦ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٣ / ٧٥ و ١٤ / ٣٥ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٥٩ / ١٢٨ ، المناقب ، الخوارزمي : ٢٠٢.

٢ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

٣ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٤ ـ قال محمّد بن عقيل في النصائح الكافية : ١٨١ ـ بعدما ساق حديث : أصحابي كالنجوم ـ : قال ابن عبد البرّ : هذا إسناد لا تقوم به حجَّة ; لأن الحرث بن غصين مجهول ، وقال أيضاً عن محمّد بن أيوب

٦٥٥

فإذا كان الصحابة لم يبايعوا عليّاً فهذا دليل قويٌّ على أنَّه لا يوجد أيُّ نص ; إذ لو كان هناك ثمَّة نصٌّ لالتزم به الصحابة الكرام.

ثمَّ بالله عليك ، إذا كانت الإمامة نصّاً إلهيّاً ، وهي بهذه الدرجة من الخطورة كما تدّعون وتطبِّلون على ذلك ، لماذا لم تذكر في القرآن الكريم؟ لماذا لم يذكر اسم عليٍّ عليه‌السلام كما ذكر اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لم يترك حتى إشارة واضحة محكمة في ذلك الخصوص؟

فهذا يدلُّ على أنّ القضيَّة هي قضيّة شورى بين المسلمين ، وليست القضيّة نصاً كما تدّعي وتذهب.

وإن تنازلنا وسلّمنا للشيعة أنّ الخليفة لابد أن يكون منصوصاً عليه فحينها تكون الكفّة مع أبي بكر الصديق.

__________________

الرقي قال : قال لنا أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار : سألتهم عمَّا يروى عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممَّا في أيدي العامّة يروونه عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إنّما مثل أصحابي كمثل النجوم ، أو أصحابي كالنجوم فبأيِّها اقتدوا اهتدوا ، قالوا : هذا الكلام لا يصحُّ عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وربَّما رواه عبدالرحيم عن أبيه عن ابن عمر ، وإنّما ضعف هذا الحديث من قبل عبدالرحيم بن زيد ; لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه ..

وقال الحجّة العلم آغا بزرك الطهراني عليه الرحمة في الذريعة : ١٣ / ١٨٨ تحت رقم : ٦٥١ : ( شرح حديث أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم ) لبعض الأصحاب ، استدلَّ به من وجوه على وضع هذا الحديث وكذبه وبطلانه ، وهو في أربعمائة بيت ، أوَّله : الحمد لله الذي جعل مقام شيعة عليٍّ عليّاً ، وصيَّرهم مع خليله إبراهيم في ذلك الاسم سميّاً .. إلخ ، وعلى فرض صحّة هذا الحديث وصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس المراد به كافّة الأصحاب ، بل هم أهل البيت المعصومون عليهم‌السلام ، وآخره : الحمد لله الذي جعل الحقَّ ممّا يعلو ولا يعلى ، والنسخة في مكتبتي المسمَّاة بـ : ( مكتبة صاحب الذريعة العامّة ) في النجف الأشرف ، وورقها سميك ، لكنَّه ليس بأقدم من القرن الماضي أو قبله بقليل ، والظاهر أنَّه ألفِّ جواباً على بعض العامة المستدلين بالحديث على صحّة مذهبهم.

٦٥٦

خالي متعجِّباً : ... أبو بكر؟

قلت : أجل ، الصدّيق ..

خالي : نوِّرينا ، كيف ذلك؟؟

قلت : عن عليٍّ عليه‌السلام قال : دخلنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلنا : يا رسول الله! استخلف علينا ، قال : إن يعلم الله فيكم خيراً يولِّ عليكم خيركم ، فقال علي ( رضي الله عنه ) : فعلم الله فينا خيراً فولَّى علينا خيرنا أبا بكر (١).

وعن عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام أيضاً : أتت امرأة إلى النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر أن ترجع إليه ، فقالت : إن جئت ولم أجدك ; كأنها تقول الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (٢).

وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة ; أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا .. (٣).

وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقتدوا بالذين بعدي ; أبي بكر وعمر (٤).

هذا بالإضافة إلى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ

__________________

١ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣ / ١٤٥ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٣٠ / ٢٨٩ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٣ / ١٨٩ ح ٣٦٥٦٢.

٢ ـ صحيح البخاري : ٤ / ١٩١ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٧ / ١٦ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٥ / ٢٤٨.

٣ ـ المعجم الكبير ، الطبراني : ١ / ٩٠ ح ١٤٢ ، الكامل ، ابن عدي : ٢٠٨ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٣٠ / ٢٢٩.

٤ ـ سنن الترمذي : ٥ / ٢٧١ ح ٣٧٤٢ ، مسند الحميدي : ١ / ٢١٤ ح ٤٤٩ ، المستدرك ، الحاكم ٣ / ٧٥ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ٤ / ١٤٠ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ٥٣ ، قال : رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.

٦٥٧

فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فإن هذه الآية نازلة في حق أبي بكر الصدّيق ، فكانت النتيجة طبيعيَّة أن يعيِّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر كما عيّنه إماماً ليصلّي بالمسلمين.

الاستدلال بآيات الشورى باطل

خالي : انتهيت؟

قلت : أجل ، وهل بعد هذا الكلام من زيادة ، وابتسمت قائلةً : قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ولو كان للشيعة ربع هذه الأدلة لقلنا إنهم تأوّلوا ، ولوجدنا لهم عذراً.

خالي : هوِّني عليك يا بنت أختي ، زادني الله وإياك بصيرة في الحق .. وهدانا الله إلى طريق الهدى والصراط المستقيم.

حججك ـ يا عزيزتي ـ قويّة ومنطقيّة ، ولكن عندي عدّة أسئلة وبعض الشبهات حول ذلك ، فإن أجبت عنها كان الصواب معك.

قلت بوجه مستبشر وبلهفة : تفضَّل .. تفضَّل.

خالي : ذكرت أنّ الحل والمنهجيّة التي وضعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمَّته بعد وفاته هي الشورى بين المسلمين ، واستدليت بالآيتين المباركتين : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (٢) ، ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (٣).

قلت : أجل ، هو ذلك.

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٣ ـ سورة الشورى ، الآية : ٣٨.

٦٥٨

خالي : حسناً! من هو المخاطب بقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (١)؟

قلت : المخاطب هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

خالي : إذن فالخطاب في الآية متوجِّهٌ إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، أليس كذلك؟

قلت وبعد ثوان من الصمت : لم أفهم ذلك.

خالي : بما أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الحاكم الشرعي ، وخطاب الآية متوجّهٌ له ، فلا يمكن أن تكون الآية مؤسِّسة لنظريَّة الحكم ، وإلاّ يكون في الأمر خلف وتحصيل حاصل ; لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحاكم حين ذاك ، فكيف تكون الشورى لتنصيب الحاكم والحاكم موجود؟! فأقصى ما نفهمه من الآية أنّ من وظائف الحاكم الشرعيِّ هو الشورى مع رعيّته ، هذا ما أكَّده أميرالمؤمنين عليه‌السلام : من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرجال في أمورها شاركها في عقولها (٢) ، هذا أوَّلا.

وثانياً : إنّ مشورة الحاكم للرعيَّة ليست على وجه الإلزام ; أي ليس واجباً على الحاكم الأخذ برأيهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (٣) ، فالأمر أوَّلا وأخيراً منوط بالحاكم.

هذه هي الشورى الشرعيَّة التي أمر بها الإسلام ، وهي لا تنعقد إلاّ بوجود

__________________

١ ـ سورة الشورى ، الآية : ٣٨.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٤ / ٤١ ح ١٦١ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٧٢ / ١٠٤ ح ٣٨ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٨ / ٣٨٢.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٦٥٩

الحاكم والقيّم على الشورى ، فأركان الشورى في الإسلام ، أوَّلا : المتشاورون ، وهذا من قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ ) ، وثانياً : موضوع للشورى ، والدليل عليه : ( فِي الأَمْرِ ).

وثالثاً : وليٌّ وقيّم على الشورى ، حيث ترجع إليه الآراء ، وهو الذي يحكم فيها : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ، فبهذا لا يمكن أن تنعقد الشورى بكيفيَّتها الإسلاميَّة إلاّ بحاكم ، وأنتم تزعمون أنّ الحاكم لا يأتي إلاَّ عن طريق الشورى ، وهذا دور ، والدور باطل كما تعلم ، أي ـ بمعنى آخر ـ إن الحاكم لا يأتي إلاّ بالشورى ، والشورى لا تقوم إلاَّ بالحاكم ، فإذا حذفنا المتكرِّر تكون المحصَّلة : الحاكم لا يقوم إلاَّ بالحاكم ، أو الشورى لا تقوم إلاّ بالشورى ، وهذا باطل بإجماع العقلاء ، فتكون الآية خارجة عن موضوع تعيين الحاكم ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من [ أهل ] السقيفة احتجّ بهذه الآية.

فالمتعمعِّن في الآية يتضح له أنّ الأمر بالمشاورة كان بقصد الملاينة معهم والرحمة بهم ، ومن سبل الترابط الذي يجمع بين القائد وأمَّته ، قال تعالى : ( فَبَِما رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ ) (١).

أمَّا قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (٢) فالكلام فيها بنفس ما تقدَّم ; لأن الخطاب كان شاملا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً ، فمن الممنوع عقلا وشرعاً أن يعقد الصحابة مشورة من دون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بينهم ، فإذا

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٢ ـ سورة الشورى ، الآية : ٣٨.

٦٦٠