مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

وصريحة في ذلك ، وأن دعوى النسخ غير ثابتة ، وكذلك التأويلات الأخرى ، وهي تنفي صراحة القول بغسلهما ، فما ورد من قول ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، واحتجاج أنس بالآية الشريفة على لزوم المسح وتكذيبه الحجاج الذي أمر الناس بالغسل ، وقول قتادة : افترض الله .. وقولهم : نزل جبرئيل بالمسح ، كلُّها دلائل قطعية على أن المتعيِّن في الرجلين هو المسح وليس الغسل.

ويدل كلام ابن عباس وقوله : أبى الناس إلاَّ الغسل على أن تحوُّل الناس من المسح إلى الغسل ليس شرعّياً ، ولهذا نسب الغسل للناس ، ولو كان من السنّة والشرع لما صحَّ أن ينسب الغسل للناس.

وبعد ما عرفت جملة من هذه الروايات التي تنصّ على لزوم المسح فلا عبرة إذن بما ورد من دعوى أن الصحابة كانوا يغسلون أرجلهم (١) ; إذ لا يعدو كونه اجتهاداً منهم ، كما يدل عليه قول ابن عباس : وأبى الناس إلاَّ الغسل ، فلا يمكن بوجه ترك ما جاء به القرآن الكريم والمصير إلى اجتهادات الصحابة ، وما قيل من أن المسح مضت به السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) فهو غير صحيح قطعاً ، فإنه لو كان من السنّة لما خفي على أميرالمؤمنين عليه‌السلام الذي هو باب مدينة علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقضى الأمة ، وعلى ابن عباس حبر الأمّة ، ومن حذا حذوه من الصحابة.

وما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه غسل قدميه ، فهو من الروايات التي لا

__________________

١ ـ الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٢٦٢.

٢ ـ الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٢٦٢.

٢٠١

تقاوم ما مرَّ عليك ، مضافاً إلى أنها مخالفة للقرآن فلا يؤخذ بها ، وعلى فرض صحّتها فيحمل الغسل فيها على ما بعد الوضوء ; إذ لا ضير أن يمسح قدميه للفرض ، ثم يغسل رجليه لمقتض آخر استوجب ذلك ، وهذا يحصل كثيراً عند المتوضِّئين ، فيمسح قدميه وبعد أن يتمَّ وضوءه يغسل قدميه للنظافة أو أمر آخر.

٢٠٢

المناظرة السابعة والأربعون

مناظرة

السيِّد مهدي الروحاني مع رجلين مصريين

في وجوب اتّباع أهل البيت عليه‌السلام

حدثني الحجة السيد مهدي الروحاني القمي عليه الرحمة قال : كنت جالساً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة المنوَّرة ، بعد صلاة المغرب ، وعن يميني شيخ حليق اللحية ، وقد ذكر لي أنه حنفيٌّ ، وأنه من أهل العلم ، وهو من ( أبو ظبي ) فجاء شابَّان مصريَّان ، عليهما آثار النجابة وسيماء الصالحين ، وهما شافعيَّان ، فسلَّما وقالا : هل أنت إيرانيٌّ؟

قلت : نعم.

قالا : هل أنت شيعيٌّ جعفريٌّ.

قلت : نعم ، أنا شيعيٌّ جعفريٌّ.

قالا : ما الفرق بيننا وبينكم؟ وكيف صرتم أنتم شيعة ونحن سنة؟

قلت : الفرق بيننا وبينكم في أمرين عظيمين ، وهما منشأ لاختلافات كثيرة ، وهما :

الأمر الأوَّل : مسألة الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٠٣

فالشيعة يقولون : إن خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكون بنصٍّ من الله تعالى على لسان نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نصَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وأمَّا السنة فإنهم يقولون : إن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعيِّن أحداً خليفة من بعده ، واختار الناس من بعده أبا بكر ، ثمَّ عمر ، ثمَّ عثمان ، ثمَّ علياً عليه‌السلام.

الأمر الثاني : تحديد المرجع في الأحكام والفتاوى وما تحتاج إليه الأمة.

فإن من المسلَّم أن أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله حجّة علينا ، ولكنه قد تجيء مسائل كثيرة لا نجد لها حكماً في كتاب الله ، ولا في سنَّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإلى من نرجع؟

فنحن الشيعة نقول : إن الرجوع في ذلك هو إلى آل محمَّد صلوات الله عليهم ، والاعتماد عليهم ، وأمَّا السنَّة فقد فزعوا إلى أربعة رجال جاءوا في عصر متأخِّر ، وهم : مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهم تلاميذ لأئمَّة آخرين ، ولعلَّ فيهم من هو أعلم منهم ، ولا دليل لكم على اتّباع هؤلاء الأربعة.

وأمَّا نحن الإماميَّة فلنا دليل على اتّباع آل محمّد عليهم‌السلام وهو :

أوّلا : أنّنا فهمنا من وجوب الصلاة على آل محمَّد في الصلاة أن لهم مقاماً يتلو مقام الرسالة في الأمّة ; إذ لو لم يكن لهم هذا المقام لما جعلت الصلاة عليهم في الصلاة ; إذ لا يحتمل أن يكون ذلك مجاملة من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمجاملات تقع بيننا فقط.

ثانياً : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجع الأمَّة إلى العترة عليهم‌السلام صريحاً ، حيث قال : إني مخلِّف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن

٢٠٤

تضلّوا من بعدي .. (١) ، فبنصِّ هذا الحديث لابدَّ من التمسُّك بالعترة عليهم‌السلام ، كتمسُّكنا بالقرآن الكريم ، فتمسَّكنا بهم عليهم‌السلام ، وأما أنتم فقد رجعتم في أخذ الأحكام إلى أربعة لا دليل لكم على جواز الرجوع إليهم ، مع أنهم لهم فتاوى يخالف فيها بعضهم بعضاً ، وليسوا متفقين في فتاواهم ، فكيف ساغ لكم الرجوع إليهم؟

فقال أحد الشابين : شيخنا! إن علوم هؤلاء الأربعة علوم لدنيَّة من الله العزيز.

فضرب الآخر صدره وقال له : ما هذا الاستدلال؟

وقال لي الشيخ الجالس عن يميني : هذا غير صحيح ، وقد رأيت أن كلامه لا يتعلَّق بشيء ، ورأيت الشابين لا يعبآن بكلامه.

فقلت لهما : أنتم أهل السنة خصومنا في هذا الأمر ، ولنا ـ رغم ذلك ـ في كتبكم أدلّة كثيرة على مدّعانا ، وهو وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وليس لكم دليل واحد في كتبكم على إمامة أئمتكم ، وإذا كان هناك دليل فأتني بدليل واحد على إمامة الشافعي.

ولمَّا قلت هذا الكلام قام الشيخ الجالس عن يميني ، وثار عليَّ ، وذهب للشرطي وقال له : إن هذا الإيراني يرفِّض هذين الشابيّن.

فجاء الشرطي ولم يكلِّمني ، وأخذ يكلِّم الشابين وقال لهما : قوما ، فقاما ، وقال لهما : اذهبا فذهبا ، فقلت للشرطي : نحن نتذاكر في القرآن وسنن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا تفعل معهما هذا الفعل؟ إنَّهما لم يصنعا جرماً ، فلم يعبأبي.

__________________

١ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٢٠٥

المناظرة الثامنة والأربعون

مناظرة

السيِّد عبد الكريم الأردبيلي مع جمع من طلبة الجامعة

في عدالة الصحابة والخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال المحقِّق العلاّمة المرحوم الشيخ الأحمدي الميانجي : حكى لي صديقي المفضال العلاّمة السيِّد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي ، قال : كنت في المدينة المنورة الطيِّبة ، فذهبت إلى زيارة جامعة المدينة ، فحينما كنت قافلا صادفت في الطريق جمعاً من الطلاب قاصدين البلدة ـ والجامعة واقعة في خارجها ـ فقلت لهم : أيُّ العلوم يدرس فيها؟

قالوا : كل العلوم إلاَّ المنطق والفلسفة.

قلت : لماذا لا يدرس العلمان؟

قالوا : لأنهما يخرجان الطالب عن الدين.

قلت : أيُّ فرقة من المسلمين يشتغلون في الجامعة؟

قالو : كلُّهم إلاَّ الشيعة.

قلت : لماذا؟

قالوا : إنهم إن دخلوا التحقوا بالسنَّة وتركوا الرفض ، ولكنهم لم يدخلوا فعلا.

٢٠٦

قلت : أسألكم سؤالا؟

قالوا : نعم.

قلت : الذي تعتقدون أنتم من عصمة الصحابة وعدالتهم ، وأنهم كلّهم أبرياء وأتقياء ، فهل هذه العقيدة حادثة فيكم ، أم كانت الصحابة أيضاً معتقدين بهذه العقيدة فيهم؟

قالوا : بل كان هذا الاعتقاد عندهم أيضاً.

قلت : فأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يحارب معاوية ، ومعاوية يحاربه (١) ، هذا كان يريد قتل ذاك ، وهذا يريد قتله ، فهل هذا كان مع اعتقادهما بعدالتهما وتقواهما ، أو كل يرى الأخر مستحقّاً للقتل ومفسداً للدين والدنيا؟

قالوا : كل يرى الأخر مستحقّاً للقتل ، ولكن كان ذلك اجتهاداً منهما ، ومعاوية كان مخطئاً ، وعلي عليه‌السلام كان مصيباً.

فقلت : على اعترافكم كان معاوية مستحقّاً للقتل ، لأنكم قلتم : بأن عليّاً عليه‌السلام أصاب في اجتهاده.

قالوا : هذا مما تدرسون أنتم من المنطق والفلسفة.

قلت : سؤال آخر ; وهو أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين وفاته أيُّ العملين كان أحسن

__________________

١ ـ قال بعض أشراف مكة : لمَّا مضوا إلى برلين قبل اقتسامها التفت إليهم أحد المسؤولين الألمان فقال لهم : هل لمعاوية صورة عندكم ، أو تمثال؟ قالوا : لا ، ثمَّ قال له : ما أنت ومعاوية؟ قال : لو وجدنا له صورة لصنعنا له تمثالا من ذهب ، ووضعنا التمثال في أكبر ساحة في برلين ، فسألوه : ولماذا؟ ما أنتم ومعاوية؟ فقال : لو لم يقف معاوية في وجه علي عليه‌السلام وإصلاحاته ، لكانت أوروبا ـ ومنها ألمانيا ـ كلها مسلمة اليوم ، ولكن معاوية هو الذي وقف في وجه إصلاحات علي ، وهو الذي منع الإسلام أن ينتشر ، ويكتسح الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى.

مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : ٢ / ١٦٨.

٢٠٧

له : الوصية وتعيين الخليفة ، أو تركها وإهمال الأمّة وإرجاع الناس إلى شعورهم الاجتماعيّ الثقافي من تعيين رئيس لهم؟

قالوا : الثاني أولى عندنا ; لما فيه من الحرّيّة ، وإرجاع أمور المسلمين إليهم.

قلت : هذا صحيح ، ولكن يأتي سؤال آخر وهو : أن أبا بكر لم ترك الطريقة الحسناء ، وعدل عنها فعيَّن عمر بن الخطاب؟

فسكتوا عن الجواب.

فقلت لهم : أجيبوا بأن أبا بكر علم أن ترك التعيين سوف يورث الفرقة بين المسلمين ، ويولِّد البغضاء والشحناء ، فعمل ذلك حفظاً لهم وحياطة للدين.

قالوا : يأتي حينئذ سؤال آخر ، وهو : أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم لم يتوجَّه إلى هذه المصلحة الاجتماعيّة ، وأخطأ في ذلك ، وأوقع المسلمين في خلاف شديد؟

قالوا : فنحن إذن نسألك.

قلت : نعم.

قالوا : هل كان من الحسن أن يترك النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوصيّة وتعيين الخليفة ، أو كان من الحسن التعيين والإيصاء؟

قلت : هذا السؤال ساقط عندنا ; لأن تعيين الخليفة والوصيِّ ليس للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو لله عزَّ وجلَّ ، كبعث النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإرساله ، هو يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعيين الإمام والوصيّة به فحسب.

فقالوا : هل عندكم علم من هذه الأمور والمطالب الإسلاميّة؟

قلت : أي نعم ، كثير.

قالوا : ولكن نحن محرومون وممنوعون (١).

__________________

١ ـ مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : ٣ / ٧٤ ـ ٧٥.

٢٠٨

المناظرة التاسعة والأربعون

مناظرة

السيِّد مرتضى الرضوي مع الدكتور طه حسين

في النصِّ على الخلافة ورزيّة يوم الخميس

قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه الله تعالى : جرى حديث الدكتور طه حسين (١) بين أساتذة وكتَّاب ، وكان الدكتور حامد حفني داود إلى جنبي ، فطلبت منه أن يتّصل بالدكتور طه حسين ليحدِّد لنا موعداً نلتقي به معه ، فاتّصل به الدكتور حامد ، وقال له : قدم ناشر من العراق ومعه كتب للشيعة ، ويريد مقابلتك ، وإهداء الكتب لسيادتك ، فعيَّن الدكتور وقت المقابلة في الساعة السادسة من مساء الأربعاء ، فاتّصل بي الدكتور حامد ، وأخبرني بتحديد الموعد للمقابلة مع

__________________

١ ـ الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في القرن العشرين ، ولد بمديرية المينا بالصعيد ، في ٢١ اكتوبر ١٨٨٩ م ، درس في الأزهر الشريف ، والتحق بالجامعة الأهليّة ، حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا ١٩١٨ م ، كان مديراً أو رئيساً لتحرير مجلّة الكاتب المصري ، أهم آثاره : الأيام جزءان ، ويتضمَّن تاريخ حياته ، الأدب الجاهلي ، الشعر الجاهلي ، تجديد ذكرى أبي العلاء ، الفتنة الكبرى جزءان ، وله عشرات المقالات والمؤلَّفات الأخرى ، توفي في ١٤ نوفمبر ١٩٧٣ م ، من مشاهير رجال الأدب والفكر في العالم العربي ، يتميَّز بحرّيَّة الرأي والجرأة الأدبيَّة في عرض آرائه. مع رجال الفكر في القاهرة : السيِّد مرتضى الرضوي : ١ / ٢٦٥.

٢٠٩

سعادة الدكتور طه حسين ، فحضرنا القصر ( الفيلا ) الذي يقيم فيه الدكتور في الوقت الذي حدَّده لنا سعادته.

ولمَّا طرقنا الباب فتحها الأستاذ فريد شحاته الملازم له ، فقال له الدكتور حامد : لنا موعد سابق في هذه الساعة مع سعادة الدكتور ، فرحَّب بنا ، ودخلنا عليه في غرفة الاستقبال ـ وكان الدكتور حاضراً ـ وبعد أن سلَّمنا عليه وردَّ علينا الجواب خاطبني قائلا : حضرتك من أين؟

قلت : من النجف الأشرف ـ العراق.

قال : شيعيٌّ؟

قلت : نعم ، بالطبع شيعيٌّ ، ثمَّ قلت : الشيعة تعتقد أن الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام قد ظلم ، وغصب حقّه ، واعتدي عليه ، وخالفوا في شأنه نصَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فأجاب الدكتور قائلا : لو أننا نعترف بوجود نصٍّ لكفَّرنا جميع الصحابة.

فقلت : قال الله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (١) ، ولم يبق ـ يا دكتور ـ من الصحابة سوى أفراد يعدّون بالأصابع (٢).

__________________

١ ـ سورة آل عمران : الآية : ١٤٤.

٢ ـ روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل : ١ / ٢٥٧ بالإسناد عن أبي هارون العبدي قال : كنت أرى رأي الخوارج ، لا رأي لي غيره ، حتى جلست إلى أبي سعيد الخدري فسمعته يقول : أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة.

فقال له رجل : يا أبا سعيد! ما هذه الأربع التي عملوا بها؟ قال : الصلاة والزكاة والحج والصوم ـ أعني صوم شهر رمضان ، قال : فما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب ، قال : وإنها

٢١٠

فأجاب الدكتور قائلا : لا ، لا ، أكثر من هذا.

وقد لاحظت على الدكتور أنه يرى للخليفتين أبي بكر وعمر منزلة خاصة ، فقلت : إن عمر قد تجرَّأ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحدَّاه ووقف دون وصيَّته ، ونسب إليه ما نسب له عند مرضه ، روى البخاري عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتدَّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه ، وتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه فذهبوا يردّون عليه .. الحديث (١).

قال الدكتور : حاشا لعمر أن يقول هذا ، وهذا الحديث غير صحيح.

فأجبته : يا دكتور! الحديث الذي يوافقك تأخذ به ، والذي يخالفك ترفضه وتحكم بعدم صحّته ، فإمّا أن تعترف بصحّة ما جاء في البخاري ، وإمَّا أن تحكم

____________

مفترضة معهن؟ قال : نعم ، قال : فقد كفر الناس ، قال : فما ذنبي؟ انتهى.

وقال هناد : كتبت عن عمرو بن ثابت أبي المقدام بن هرمز الكوفي كثيراً ، فبلغني أنه كان عند حبان بن علي ، فأخبرني من سمعه يقول : كفر الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاَّ أربعة ، فقيل لحبان : ألا تنكر عليه؟ فقال حبان : هو جليسنا.

راجع : تهذيب الكمال ، المزي : ٢١ / ٥٥٧ ، ميزان الاعتدال ، الذهبي : ٣ / ٢٤٩ ، رقم : ٦٣٤٠ ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : ٨ / ٩ ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١٢ / ١٣٥.

وروى الجوهري عن غسان بن عبد الحميد ، قال : لمَّا أكثر في تخلُّف علي عليه‌السلام عن البيعة ، واشتدَّ أبو بكر وعمر في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة ، فوقفت عند قبر النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونادته : يا رسول الله!

قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

فاختلَّ قومك فاشهدهم ولا تغب

السقيفة وفدك ، الجوهري : ٦٩.

١ ـ صحيح البخاري : ٥ / ١٣٧ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٣ / ٤٣٤ ح ٥٨٥٤ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٢ / ٢٤٢.

٢١١

بعدم صحّته ولا تستشهد به ، وإن ابن عباس كان يقول : الرزيَّة الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب (١).

فأجاب الدكتور : إن ابن عباس لا يحتجُّ بقوله.

فقلت له : إن الشيعة غير مجمعة على صحّة جميع ما روي عنه ، ولكنه حبر الأمّة ، ولكن أليس أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد الخير لأمَّته بأن يكتب لهم الكتاب كي لا يضلُّوا بعده ، وقال عمر : حسبنا كتاب الله؟ أفهل يمكن العمل بالكتاب وحده؟! أليس السنَّة هي المبيِّنة للكتاب؟ قال الله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (٣)

__________________

١ ـ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لمّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا. قال عبيد الله : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيَّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

صحيح البخاري : ٧ / ٩ و ٨ / ١٦١ ، صحيح مسلم : ٥ / ٧٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ و ٣٣٦ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٣ / ٤٣٣ ح ٥٨٥٢ و ٤ / ٣٦٠ ح ٧٥١٦ ، صحيح ابن حبان : ١٤ / ٥٦٢ ، شرح مسلم ، النووي : ١١ / ٨٩ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢ / ٥٥ و ٦ / ٥١ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٥ / ٢٤٨.

وجاء في رواية ابن سعد في الطبقات الكبرى : ٢ / ٢٤٤ : فلمَّا كثر اللغط والاختلاف وغمُّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : قوموا عنّي.

٢ ـ سورة النمل ، الآية : ٤٤.

٣ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٢١٢

فالعترة هي المفسِّرة لكتاب الله جلَّ شأنه.

ونسبة الهجر إلى رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يرضى به الباري تعالى ، وقد نزَّهه الله سبحانه ونسبه بقوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١).

وبعد هذا سألت الدكتور عن رأيه في الخليفة عثمان ، فقال : كان عثمان يقاد ..

ثمَّ سألته عن أمِّ المؤمنين عائشة ، فقال : كان أحد الأساتذة يقول : لو أدركت عائشة .. أقعدتها في بيتها ; لقوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ

__________________

وحديث الثقلين ـ كماترى ـ ينصُّ على وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم علي عليه‌السلام والأئمة من ولده عليهم‌السلام ، ولا مسوِّغ أبداً لاتّباع غيرهم ، كما أنَّه يدلُّ دلالة صريحة على وجود أهل البيت عليهم‌السلام ـ وهم الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ـ في كل زمان ، وذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ولو خلا الزمان من أحدهم لما صحَّ هذا الحديث.

قال السمهودي : تنبيه ، قال الشريف : هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلا للتمسُّك من أهل البيت والعترة الطاهرة عليهم‌السلام في كل زمان إلى قيام الساعة ، حتى يتوجَّه الحثُّ المذكور إلى التمسُّك به ، كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانا أماناً لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض ، انتهى.

وقال الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنية : قال القرطبي : وهذه الوصيَّة وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام آله وبرِّهم وتوقيرهم ومحبَّتهم ، وجوب الفرائض التي لا عذر لأحد في التخلُّف عنها ، هذا مع ما علم من خصوصيَّتهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأنهم جزء منه ، كما قال : فاطمة بضعة منّي ، ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا صغارهم ، وخربوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم وفضلهم ، واستباحوا سبَّهم ولعنهم ، فخالفوا وصيَّته ، وقابلوه بنقيض قصده ، فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه ، ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه ، فالوصيَّة بالبرِّ بآل البيت على الإطلاق ، وأمّا الاقتداء فإنما يكون بالعلماء العاملين منهم ، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن.

شرح الزرقاني على المواهب اللدنية : ٧ / ٧ ـ ٨ ، دار المعرفة ـ بيروت ـ ، فيض القدير ، المناوي : ٣ / ٢٠.

١ ـ سورة النجم ، الآية : ٣ ـ ٤.

٢١٣

تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى ) (١).

ثمَّ قال الدكتور : ولمَّا بلغ عائشة خلافة الإمام علي عليه‌السلام قالت : ليت السماء قد أطبقت على الأرض ، ولمَّا بلغها وفاته فرحت وتمثَّلت بهذا البيت وقالت :

فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى

كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر (٢)

وعندما أهديت مجموعة الكتب للدكتور ـ وهي التي قمت بنشرها في القاهرة ـ مع كتاب الإسلام للأستاذ العلاّمة الكبير الشيخ محمّد أمين زين الدين ، وكتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده لصديقنا العلاّمة المحقِّق السيِّد عبد الزهراء

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصبهاني : ٢٦ : الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٣ / ٤٠ ، العلل ، أحمد بن حنبل : ١ / ١٣ ، تأريخ الطبري : ٤ / ١١٥.

قال الأمير أحمد حسين بهادر خان الهندي : وفي المعارف لابن قتيبة قال : توفِّيت عائشة سنة ثمان وخمسين ، فقيل لها : ندفنك عند رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقالت : إنّي قد أحدثت بعده ، ادفنوني مع أخواتي ، فدفنوها بالبقيع. تاريخ الأحمدي : ٢٢٣ ، ط. بيروت ، نشر مركز الدراسات والبحوث العلميّة.

وقال ابن عبد ربِّه الأندلسي : وماتت عائشة في أيام معاوية ، وقد قاربت السبعين ، وقيل لها : تدفنين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قالت : لا ، إني أحدثت بعده حدثاً فادفنوني مع إخوتي بالبقيع. العقد الفريد ٤ / ٣٣١ ط. مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة.

وفي المستدرك للحاكم : ٤ / ٦ بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال : قالت : إنّي أحدثت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع.

قال ابن عبد ربِّه في العقد الفريد ، : ٣ / ١٠٨ طبع مصر سنة ١٣٥٣ : وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها : يا حميراء! كأني بك تنبحك كلاب الحوأب ، تقاتلين عليّاً وأنت له ظالمة ، والحوأب بضمِّ الحاء وتثقيل الواو ، وقد زعموا أن الحوب ماء في طريق البصرة ، قال في ذلك بعض الشعراء :

إني أدين بحبِّ آل محمّد

وبني الوصيِّ شهودهم والغيَّب

وأنا البريء من الزبير وطلحة

ومن التي نبحت كلاب الحوأب

٢١٤

الخطيب ، وذكرت له أسماءها واحداً بعد واحد إلى أن وصلت إلى ذكر كتاب عبد الله بن سبأ سألني الدكتور : هل قرأت الفتنة الكبرى؟

فأجبته : لا.

فقال : إنّي نصرتكم في عبد الله بن سبأ ، وقلت في كتابي الفتنة الكبرى : إن عبد الله بن سبأ شخصيّة خياليّة أوجدها خصوم الشيعة للطعن بهم ، ما فيش حاجة اسمها عبد الله بن سبأ ، لم يخلق الله شيئاً اسمه عبد الله بن سبأ.

فأجبته : هذا هو رأيك يا أستاذ.

ثمَّ قلت للدكتور : إن الدكتور حامد ألَّف كتاباً في الصاحب بن عبَّاد ، ولي رغبة في أن تكتب سيادتك تقديماً له ، وإن الصاحب بن عبَّاد كان عميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع ، وأنت ـ يا أستاذ ـ عميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع عشر ، وبينك وبينه ألف عام.

فابتسم سيادته ابتسامة حلوة ، وقال : هات الكتاب لأقرأه ، وكنت قد صحبت الكتاب معي عندما قابلته في داره ، فدفعته إليه ، وتركته عنده ليطّلع عليه ويكتب التقديم له ، واستأذنته وانصرفت.

وكان هذا الكتاب ( الصاحب بن عباد بعد ألف عام ) رسالة الماجستير التي قدَّمها الدكتور حامد حفني داود إلى الجامعة ، وحصل على هذه الدرجة (١).

رأي الدكتور طه حسين في حقيقة عبد الله بن سبأ

قال السيِّد الرضوي أيَّده الله تعالى : وإليك نص ما قاله الدكتور طه حسين

__________________

١ ـ مع رجال الفكر في القاهرة : السيِّد مرتضى الرضوي : ١ / ٢٧٦ ـ ٢٧٩.

٢١٥

في حقيقة عبد الله بن سبأ في كتابه الفتنة الكبرى : ٢ / ٩٨ طبعة دار المعارف بمصر عام ١٩٥٣ م :

وأقلُّ ما يدلُّ عليه إعراض المؤرِّخين عن السبئيَّة ، وعن ابن السوداء في حرب صفين : أن أمر السبئيّة وصاحبهم ابن السوداء إنّما كان متكلَّفاً منحولا ، قد اخترع بآخرة ، حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلاميّة ، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهوديّاً ، إمعاناً في الكيد لهم ، والنيل منهم.

ولو قد كان أمر ابن السوداء مستنداً إلى أساس من الحقِّ والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقَّدة المفصَّلة التي كانت بصفين ، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب عليٍّ في أمر الحكومة ، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحرب الجديد الذي كان يكره الصلح وينفر منه ، ويكفر من مال إليه أو شارك فيه.

ولكنّا لا نرى لابن السوداء ذكراً في أمر الخوارج ، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلِّل غياب ابن سبأ من وقعة صفين ، وعن نشأة حزب المحكِّمة؟!

أمَّا أنا فلا أعلِّل الأمرين إلاَّ بعلة واحدة ، وهي : أن ابن السوداء لم يكن إلاَّ وهماً ، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوَّره المؤرِّخون ، وصوَّروا نشاطه في أيام عثمان ، وفي العام الأول من خلافة علي عليه‌السلام ، وإنّما هو شخص اذّخره خصوم الشيعة وحدهم ، ولم يذّخروه للخوارج ... إلخ.

قال السيد الرضوي حفظه الله تعالى : إن الدكتور طه حسين لإلمامه بالتاريخ ، ولتعمُّقه فيه ، ولسعة اطلاعه استطاع أن يقول بجرأة وقوَّة : إن عبدالله

٢١٦

بن سبأ شخصيّة خياليّة كما صرَّح لي سيادته بذلك ، وهو أوَّل من نبَّه على هذا ، وذكره في كتابه : الفتنة الكبرى : ٢ / ٩٨ ، وعلى أثر صدور هذا الكتاب أخذ السيِّد العسكري يبحث هذا الموضوع بحثاً مطوَّلا ، وأخرج نصوصه ، ونشر الجزء الأوَّل منه بعنوان : المدخل ، وطبع في النجف الأشرف ـ العراق عام ١٣٧٥ هـ ـ ١٩٥٥ م ، وأضاف عليه بعض التحقيق والتعليق ، ونشرته مكتبتنا ; مكتبة النجاح ضمن مطبوعاتها ; مطبوعات النجاح بالقاهرة ، وذلك في عام ١٩٦٥ ، ثمَّ بعد ذلك أخذ السيِّد المؤلِّف يعقب هذا الموضوع حتى استطاع أن يلحقه بجزء ثان ، وطبع في طهران عام ١٩٧٢ م (١).

__________________

١ ـ مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : ١ / ٢٧٨.

٢١٧

المناظرة الخمسون

مناظرة

السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ الكبير عبد الفتاح

عبدالمقصود في أحقّيّة الإمام علي عليه‌السلام بالخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يقول السيِّد مرتضى الرضوي : في رحلتي إلى القاهرة عام ١٩٧٤ م سافرت إلى الإسكندرية لمواجهة الأستاذ عبد الفتاح (١) فيها ، وأتيت داره العامرة ، فجاءت السيِّدة حرمه وفتحت الباب ، فأدخلتني الغرفة المعدَّة للضيوف ، ورحَّبت بي ترحيباً منقطع النظير ، فسألتها عن الأستاذ أجابت : سافر

__________________

١ ـ قال السيِّد الرضوي حفظه الله تعالى : الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود ، الكاتب المصري الشهير ، مؤلِّف الموسوعة العلوية ( الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ) ولد في ١٠ / ١٢ / ١٩١٢ م ، بكفر عشري الواقعة قرب راقوتة ، التي بنى علهيا الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية ، دراسته : ليسانس الآداب ، قسم التاريخ بجامعة الإسكندرية ، دراسات في الرأي العام ، دراسات في فنّ الإدارة العليا ، عيِّن مديراً لمكتب السيِّد نائب رئيس الجمهوريّة لشؤن الاتّحاد ، أهم آثاره : الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام تسعة أجزاء ، أبناؤنا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الزهراء عليها‌السلام أم أبيها ، يوم كيوم عثمان ، السقيفة والخلافة ، من مشاهير الأساتذة والكتَّاب البارزين بمصر ، ينظم الشعر باللغتين الفصحى والعامّيّة ، كتب موسوعة تحليلية في شخصيّة الإمام علي عليه‌السلام في ٢٥٠٠ صفحة ، يتميَّز بحرية الرأي والأصالة الفكرية. مع رجال الفكر في القاهرة ، الرضوي : ٢ / ٩١.

٢١٨

أمس إلى القاهرة ، وسيتصل بنا تليفونياً في صباح غد ، ويمكنك أن تترك عندنا نمرة تليفونك في القاهرة ، وعندما يتصل بنا نخبره ليتصل بك من هناك ، فتركت عندها رقم تليفون مطعم المنظر الجميل ، وعدت إلى القاهرة.

وفي اليوم الثاني اتصل بي الأستاذ عبد الفتاح ، وحدَّدت معه وقتاً للمقابلة في المطعم المذكور ، فجاء إلى المطعم ، وجلست معه جلسة امتدَّت إلى ساعات ، سألته خلالها عن انطباعاته عن الإمام علي عليه‌السلام والخلافة ، فأجاب : إنّني عرفت أحقّيّة الإمام بالخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة أبي بكر (١) ، فإن خطبته التي خطبها في المسجد تنطبق على الإمام علي عليه‌السلام أكثر مما تنطبق على أيِّ إنسان سواه (٢).

__________________

١ ـ وهي قوله : أيُّها الناس! نحن ـ المهاجرين ـ أول الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأكثرهم ولادة في العرب ، وأمسُّهم رحماً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... إلخ عيون الأخبار ، ابن قتيبة : ٢ / ٢٣٢.

٢ ـ وهذه الالتفاتة من الأستاذ عبد الفتاح التفاتة جيِّدة وفي محلِّها ، فإذا كان الخليفة يستدل بأولوية المهاجرين بما ذكره من أوصاف فليس هناك أحد أحقّ بالخلافة من أميرالمؤمنين عليه‌السلام ; لأن كلَّ هذه الأوصاف موجودة فيه زيادة على الأوصاف الأخرى ، والتي كان يتحلَّى بها عليه‌السلام ، وقد كانت الصحابة تتمنَّى ولو بعض فضائله الشريفة ..

والجدير بالذكر هنا ـ أيضاً ـ كلام العلاّمة المحقِّق الشيخ باقر شريف القرشي حفظه الله تعالى ، إذ يقول في هذا المعنى : إن المنطق الذي استند إليه أبو بكر لأ حقّيّة المهاجرين من قريش بالخلافة هو أنهم أمسُّ الناس رحماً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقربهم إليه ، وهذا الملاك على أكمل وجوهه ، وأتمِّ رحابه متوفِّر في أهل البيت عليهم‌السلام ، فهم ألصق الناس به ، وأمسُّهم به ، وما أروع قول الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام : احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة! وخاطب عليه‌السلام أبا بكر بقوله :

فإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبيِّ وأقرب

وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيَّب

٢١٩

وإنّي حينما أستعرض هذه الأمور أعتمد على المعقول قبل المنقول ، وإنّي لا أنظر إلى صغر سنِّ الإمام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل أسامة أميراً على أبي بكر وعمر (١).

فقلت للأستاذ عند ذلك : إنَّ عمر قد طعن في شخصيَّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

__________________

ويقول الكميت :

بحقِّكم أمست قريش تقودنا

وبالفذِّ منها والرديفين نركب

وقالوا : ورثناها أبانا وأمنا

وما ورَّثتهم ذاك أمٌّ ولا أب

يرون لهم فضلا على الناس واجباً

سفاهاً وحقُّ الهاشميين أوجب

وعرض الإمام عليه‌السلام في حديث له عن شدّة قربه من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض مواهبه ، فقال : والله إني لأخوه ـ أي أخو النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ووليُّه ، وابن عمِّه ، ووارث علمه ، فمن أحقُّ به منّي؟ ... لقد انساب القوم وراء أطماعهم وأهوائهم ، وتهالكوا على الحكم ، والظفر بخيراته ، وأعرضوا عمَّا ألزمهم به النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التمسُّك بعترته ، وعدم التقدُّم عليها ، ووجوب رعايتها في كل شيء.

حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ، الشيخ باقر شريف القرشي : ١ / ٢٤٧.

١ ـ روى ابن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سريَّة فيهم أبو بكر وعمر ، واستعمل عليهم أسامة بن زيد ، فكأن الناس طعنوا فيه ; أي في صغره ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن الناس قد طعنوا في إمارة أسامة وقد كانوا طعنوا في إمارة أبيه من قبله ، وإنهما لخليقان لها ، وإنه لمن أحبِّ الناس إليَّ ، ألا فأوصيكم بأسامة خيراً.

وعن حنش قال : سمعت أبي يقول : استعمل النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد وهو ابن ثماني عشرة سنة. الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : ٢ / ٢٤٩ و ٤ / ٦٦.

وقد أورد الحلبي خبر هذه السريّة في الجزء الثالث من سيرته ، وحكى حكاية طريفة نوردها بعين لفظه ، قال : إن الخليفة المهدي لمَّا دخل البصرة رأى أياس بن معاوية ، الذي يضرب به المثل في الذكاء ، وهو صبيٌّ ، ووراءه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة ، فقال المهدي : أفٍّ لهذه العثانين ـ أي اللحى ـ أما كان فيهم شيخ يتقدَّمهم غير هذا الحدث؟! ثمَّ التفت إليه المهدي وقال : كم سنُّك يا فتى؟ فقال : أطال الله بقاء أميرالمؤمنين ، سنُّ أسامة بن زيد بن حارثة لمَّا ولاَّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جيشاً فيه أبو بكر وعمر ، فقال : تقدَّم بارك الله فيك. قال الحلبي : وكان سنُّه سبع عشرة سنة.

النص والاجتهاد ، السيِّد شرف الدين : ٣١.

٢٢٠