مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

التعليم ، وكنت أجد مصلحة شاقّة وصعبة من الإعداديّة والثانويّة ، حيث كنت أسافر مع عمّي ( أبو طلال ) إلى بيروت ، وعلَّمني تجارة الإسمنت والحديد ، إذ أصبحت معلِّماً في هذا المجال ، ومكثت أكثر من شهرين بعد انتهائي من الخدمة.

وبعد فترة من العمل أكثر من أسبوع جاءتنا عطلة ، فتوقَّفت أسبوعاً آخر عن العمل ، وكنت أقف صباحاً مع العمَّال العاطلين في هذا المشروع ; لأن هناك مكاناً يشبه المعرض كنت أقف فيه وأنتظر الساعات الطويلة ، حتى يأتيني إنسان بحاجة إلى عامل أو معلِّم حدّاد أو نجّار ، وهكذا تجري الأَيَّام والليالي ، وإذا بهذا الصديق الشيعي ( دخل الله ) يأتي إلى معرض العمَّال ، فينظر في وجوه العاملين ، فيشاهدني من بينهم ، شتان ما بين الموقفين!! موقف كنت أرتدي البزّة العسكريّة ، وموقف حاليّاً أرتدي فيه لباس العمل ، فقال صديقي الشيعي : أتشتغل معي؟ تشغِّلني في مصلحة ( البلاط )؟

فقلت له بعد فترة : نعم ، وبدأنا نشتغل أنا وصديقي الشيعي سويَّة ، وفي اليوم الثاني قال لي : لِمَ لمْ تحدِّثني ـ يا أخي ـ إلى أين وصلت في كتاب المراجعات؟

فقلت له : والله لم أتمكَّن من قراءته كما يجب ; لأن القراءة ـ يا صديقي ـ تحتاج إلى ذهن صاف ; لأن العلم ـ كما يقال ـ شديد الانفلات ، إذا أعطيته كلَّك أعطاك بعضه ، وإذا أعطيته نصفك لم يعطك شيئاً ، وأنا كنت مكابراً معه لوصايا علمائنا الحادّة من مجالسة الشيعي والحوار معه.

وبدأ شبح المراجعات يطاردني من جديد ، وشبح صديقي يطاردني في كل مكان ، أفكِّر بكلمات الشيخ عندنا في المنطقة ، أفكِّر بكلمات الدكتور الشيخ عبد الفتاح صقر : يا بنَّي! هذا كتاب خياليٌّ ، كتبه العالم الشيعي بعد وفاة شيخ

٤٦١

الأزهر.

وأحدِّث نفسي وأصارعها ، هل أنا أعقل من هذا الدكتور الذي قضى عمره في الدراسة واختصاصه في الشريعة الإسلاميّة ، ومن الجامع الأزهر العاصمة الإسلاميّة للعالم؟

مع الشيخ عبدالله الهرري

وذات يوم جاء أخي إلى بيروت ليعمل في العطلة الصيفيّة ، حيث كان طالباً في الثانويّة ، فحدَّثته في الموضوع وقلت له : ما رأيك ـ يا أخي ـ تنزل معي إلى بيروت؟

قال لي : لماذا؟

قلت له : عندي بعض الأسئلة عن الشيعة ، وقلت له أيضاً بأني ذهبت فيما سبق إلى دار الفتوى منذ ستة أشهر ، والتقيت بشيخ مصري ، وأريد اليوم الذهاب إلى مسجد برج أبي حيدر ، يقال أن هناك عالماً علامة اسمه : الشيخ عبد الله الهرري ، أودُّ اللقاء معه ، وفعلا وصلنا أنا وأخي والصغير ( دحام ) إلى هذا المسجد ، والتقيت بشيخ اسمه : طارق اللحام ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلف سماحة الشيخ اقتربت منه وصافحته ، وقلت له : تقبَّل الله أعمالكم يا شيخ.

فردَّ عليَّ : وأنتم كذلك.

فقلت له : شيخنا! لديَّ بعض الأسئلة.

فقال لي : تفضَّل ، حيث كان يتكلَّم الفصحى.

فقلت له : ما رأيك بكتاب المراجعات عند الشيعة؟

٤٦٢

فقال لي الشيخ طارق : من أين أنت؟

قلت له : من سوريا ، وأصلا من ريف حلب ، وأسكن حاليّاً في مدينة القامشلي.

وإذا به يسألني : هل قرأت كتاب ( ثمَّ اهتديت ) للضالّ التونسي؟ إذا قرأته أو موجود عندك فأحرقه!!

قلت له : لأوَّل مرَّة أسمع باسم هذا الكتاب.

فقال لي : مؤلِّفه خياليٌّ غير موجود ، اسمه : التيجاني السماوي ، كتبوه الشيعة باسمه على أنه سنّيٌّ وتشيَّع ، وبدأ يدعو لمذهبهم ، ونحن اتصلنا في تونس ، فقالوا لنا : هذا الاسم غير موجود.

وأمَّا عن كتاب المراجعات أحذِّرك من قراءته ، ولا تأخذ علمك من القراءة والصحف فتسمَّى مصحفياً ; لأن هناك قواعد للقراءة ، فتضلن بك السبل ، إذا عندك فراغ احضر عندنا للدروس ; لأن العلم عندنا بالتلقّي ، ومن ليس له شيخ فشيخه الشيطان ، وقال لي : تفضَّل إلى المكتبة ، وقدَّم لي كتاباً هديَّة اسمه ( المقالات السنيّة في كشف ضلالات ابن تيمية ) للشيخ عبد الله الهرري.

فودَّعت سماحة الشيخ طارق ، وقبلت منه الهديَّة ، وذهبت ، وبدأ يراودني الفضول للبحث عن كتاب ( ثمَّ اهتديت ) للتيجاني السماوي ، ورجعت أنا وأخي لمجمع نائل السكني حيث مقرُّنا هناك ، وبعد فترة أسبوع وإذا بصديقي الشيعي يقدِّم لى كتاب ( ثمَّ اهتديت ) هذا ما حدَّثني به سماحة الشيخ طارق وحذَّرني من قراءته ، وأنه شخص لا أصل له.

فأخذت الكتاب وقلت لصديقي بأن هذا الشخص شخص خياليٌّ ، وإذا بالأخ دخل الله يقول لي : منذ شهر كان في بيروت ، وأنا رأيته بنفسي ، دعك ـ يا

٤٦٣

أخي ـ من هذه الأقاويل ، أنت إنسان متعصِّب ، وتفكيرك على الطريقة التقليديّة الموروثة ، دائماً تقول لي : الشيخ عندنا قال كذا ، والشيخ قال كذا ، فكِّر بعقليَّتك لا بعقليَّة الشيخ.

فقلت لصديقي : عفواً ، أنا وأنت نفهم أكثر من العلماء والشيوخ؟

فردَّ عليَّ صديقي الشيعي قائلا : أنتم السنة .. الدين عندكم عادة وليس عبادة.

فقلت له : أفهمني كيف؟

قال لي : الشيوخ عندكم تصلون بهم إلى درجة القداسة ، وبعد قال الشيخ .. لم يبق مجالا إطلاقاً للنقاش والحوار معكم.

قلت : وأنتم الشيعة كيف تتعاملون مع الشيوخ؟

قال : نحن نحترم الشيوخ ، ولكن على الطريقة المألوفة في الوسط الشيعي ، إذا كان هناك خطأ من العالم .. ونبَّهته إليه فإنه يتقبَّل ذلك بكل رحابة صدر.

فقلت له : هل هذا من المعقول؟ عندنا العالم لا يستطيع أحد مناقشته ، حتى إذا أردت أن تسأل سؤالا ولم يعجبه لا يردُّ عليه أصلا.

مع مفتي دمشق في المسجد الأموي

وأعطيك مثالا على ذلك : مرَّة دخلت إلى المسجد الأموي ، وقصدت مفتي دمشق في هذا المسجد ، وكان برفقتي المهندس عبد الحكيم السلوم ، لأسأله عن حديث الفرقة الناجية والخلفاء الاثني عشر من هم؟

فأجابني بكلمة : آسف.

وكرَّرت السؤال ، وقال لي : آسف .. وكرَّرته ثالثاً وقال لي : آسف. بصوت

٤٦٤

عال.

فخرجت مخذولا .. لماذا لم يردَّ على أسئلتي؟

صديقي الشيعي : وهل هذا عالم؟ العالم متواضع ، ليِّن ، لا يكون فظّاً غليظ القلب ، يردُّ على أسئلة الناس ، يجب أن يستقطب الناس من حوله .. لأنه إذا صلح العالِم صلح العالَم ، وإذا فسد العالِم فسد العالَم ، هؤلاء علماء الأمّة هم القدوة ، والأسوة الحسنة في المجتمع الإسلاميّ.

ولكن نحن الشيعة عندنا مسألة مهمّة ، وهي الدليل في النقاش والحوار ، والدليل يجب أن يكون من القرآن والسنّة ، ونحن أبناء الدليل ، أينما مال نميل.

فأجبته : هل نحن على الباطل حتى تقول لي : دليلكم القرآن والسنة؟

ونحن ماذا عندنا؟ أليس القرآن والسنة؟

صديقي الشيعي : يا أخي! نفترض جدلا هذا الكتاب كتاب ضلال ، لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم السنة؟

قلت له : يردّون على شخصيّة خياليّة موهومة ، مع الأسف عليك أيُّها الصديق ، إذا إنه إنسان خياليٌّ غير موجود فكيف يردُّون عليه؟

صديقي الشيعي : سؤال ، نفترض أن التيجاني شخصيّة خياليّة وهميّة غير موجودة ، فهل الأدلّة الموجودة في كتابه أيضاً خياليّة موهومة وغير موجودة؟ أجبني على ذلك.

فأحرجت أمامه ; لأني لا أعرف مضمون كتاب ( ثم اهتديت ) ، ومن ثمَّ حذَّرني منه الشيخ طارق وقال لي : احرقه ، فوقعت بين نارين ، بين إحراج الصديق الشيعي : لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم؟ وبين تحذيرات الشيخ طارق : إيَّاك أن تقرأه ، فأحرقه! يا إلهي! خلِّصني من هذا المأزق الشديد ، الله أكبر!

٤٦٥

لماذا؟ لماذا البحث والعناء؟ ما هذه القصّة؟ من أين جاءني هذا الشيعي ليشوِّش عليَّ أفكاري ، وينغِّص حياتي ، وأنا رجل الآن أعمل بالإسمنت والأعمال الشاقّة المتعبة المجهدة؟ فعشت في صراع حادٍّ مع عقلي ونفسي ، عقلي يقول لي : اقرأ كتاب ثمَّ اهتديت واعرف ما فيه ، ونفسي قتلها الخوف والتحذير من الشيخ طارق.

نهاراً محرج من الصديق الشيعي ، يقول لي : أنت متعصِّب ، ولا تأتي بالدليل ، ألم تسمع بالبخاري ومسلم؟ فكتاب ثم اهتديت كل أدلّته من البخاري ومسلم.

فقلت له : هناك طبعات للبخاري ومسلم مزوَّرة ومدسوسة ، فما بالك يا صديقي؟ إن التيجاني شخصيّة موهومة كما يقول علماؤنا ، وأتى بأدلّة مزوَّرة من البخاري ومسلم.

فأين أصبح يا صديقي؟! دعني في حالي وعملي ، وكلُّنا إن شاء الله مسلمين ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (١) ، وكلَّما أصبحنا وأتانا يوم جديد يقول لي : فكِّر بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فكِّر لتنقذ نفسك بموالاة علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قلت له : أنا وأنت متفقان على حبِّ عليٍّ ( كرَّم الله وجهه ) لكن مذهب أهل البيت عليهم‌السلام هذا مصطلح جديد لأوَّل مرَّة يطرق ذهني ، قلت له : وماذا تقصد من كلمة موالاة علي عليه‌السلام؟

سألني الشيعي قائلا : ألم تقل : عندكم سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٣٤.

٤٦٦

الحسن عليه‌السلام؟

قلت له : نعم ، يقول علماؤنا ذلك ، بأن سيِّدنا معاوية اجتهد فأخطأ فله نصف الأجر.

الشيعي : وما تقول في البخاري؟

المحاور : أصدق كتاب عندنا ، وهو لا يقبل الشك.

الشيعي : ينقل لنا البخاري في صحيحه حديثاً مشهوراً ومتواتراً ـ اسأل عنه علماؤكم ـ : يا عمَّار! تقتلك الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (١).

أليس الفئة الباغية هي فئة معاوية من خلال الحديث؟ وهي التي قتلت عمّاراً ، ألم يقل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمار : إن عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه؟ (٢)

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٣ / ٢٠٧ ، صحيح مسلم : ٨ / ١٨٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٩١ ، صحيح ابن حبان : ١٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٥ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ١٤٩ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ، فتح الباري ، ابن حجر : ١ / ٤٥١ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٣ / ٤٦ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٣ / ٢٦٤.

٢ ـ روى الواحدي النيسابوري في أسباب نزول الآيات : ١٩٠ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

وروى ابن أبي شيبة بالإسناد عن هانئ بن هانئ ، قال : كنّا جلوساً عند علي عليه‌السلام ، فدخل عمّار فقال : مرحباً بالطيِّب المطيب ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه.

راجع : المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٢١٧ ح ٧ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٣ / ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٢١ / ٢٢٢ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ١ / ٤١٣ ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : ٧ / ٣٥٨ ، الإصابة ، ابن حجر : ٤ / ٤٧٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ٧٢٤ ح ٣٣٥٤٠.

٤٦٧

قلت له : نعم.

قال : فمن أين جاء؟ فأين له وجه الاجتهاد كي يحصل على نصف الأجر ، وهو قد قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صبراً صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة (١)؟ فأين له من عمار بن ياسر؟

وجاء الليل وجاء الصراع ، عقلي يقول : هل علماؤنا مضلَّلون عبر التاريخ؟ هل علماؤنا ضحايا لإعلام مضلِّل؟ تفكيرهم قائم على الطريقة التقليديّة الموروثة ، لا يقبلون الناش والحوار ، ومن خالفهم في الرأي اتهموه بالكفر وفسّقوه وضلَّلوه ، وأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها ، لأنه خالفهم في الرأي ، وأخذوا يشهِّرون به في المجالس ، ويحذِّرون الناس منه لمجرد أنه أثار تساؤلا لا يعرفون الإجابة عليه ، أو لا يريدون الخوض فيه.

__________________

وعن عمرو بن شر حبيل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. المصنف ابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٢١٧ ح ٦.

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٠ / ١٠٣ روى الحديث مثله وقال : ويروى إلى أخمص قدميه.

قال ابن حجر في فتح الباري : ٧ / ٧٢ : وقد جاء في حديث أن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. أخرجه النسائي بسند صحيح ، والمشاش بضمِّ الميم ومعجمتين الأولى خفيفة ، وهذه الصفة لا تقع إلاَّ ممن أجاره الله من الشيطان.

وقال المناوي في فيض القدير : ٤ / ٤٧٣ ح ٥٦٠٤ : ( عمار ملئ إيماناً إلى مشاشه ) بضمِّ الميم بضبط المصنّف ; أي ملأ الله جوفه به حتى تعدَّى الجوف ووصل إلى العظام الظاهرة ، والمشاش رؤوس العظام ، وفي رواية أبي نعيم أيضاً : عمار ملي إيماناً من قرنه إلى قدمه قال : يعني مشاشه. صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ٣٨٣ و ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١ / ١٦١ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٣ / ٢٤٩ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٢٤ / ٣٠٣ ، المعجم الأوسط : ٢ / ١٤١ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ٢٩٣ ، وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٥٥.

٤٦٨

أستاذي العالم! لا تريد أن تبحث فدعني أبحث ، دعني أقرأ .. دعني أفكِّر ، فإلى متى ( ممنوع أن تقرأ ، ممنوع أن تبحث ، ممنوع أن تفكِّر ) إلاّ بإذن من الشيخ ، وإلاَّ فسَّقني ودمَّرني ، وأقام عليَّ أهل البلد.

الله أكبر! ما هذه السلطة المستبدّة؟ ما هذه الدكتاتوريَّة؟ نفسي تقول : إيَّاك أن تقرأ! الرعب مسيطر عليها ، تحذيرات الشيخ في المنطقة والشيخ الدكتور عبد الفتاح صقر ، والتحذيرات الحادّة من الشيخ طارق اللحام ، دوَّامة لا أعرف متى الخروج منها؟ فاستيقظت ليلا من شدّة الصراع الذي أرهقني وهدَّ كياني ، أفكار هذا الصديق الشيعي وطريقته في الحوار مقنعة ... إذا كان هذا الكتاب على ضلال فليردَّ عليه علماؤكم ، فليحاوروا هذا الكتاب ، وإلاَّ فإن هذا الكتاب كتاب صحيح.

وكيف تفكِّر وتقول : سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا عمّاراً ( رضي الله عنه ) ، وسيِّدنا معاوية سمَّ أو قتل سيِّدنا الحسن عليه‌السلام ، والحسن معروف بسيِّد شباب أهل الجنة؟ ما هذا التناقض الحادّ؟ هل الدين جاء بالتناقض؟ لا والله لم يأتِ بالتناقض.

مع الشيخ صالح عيزوقي

وفي اليوم الثاني وبعد أن انتهينا من العمل قلت لأخي : ما رأيك في أن تنزل معي إلى بيروت؟ قال لي : أنا متعب جدّاً هذا اليوم.

فعزمت أن أنزل لوحدي ، وذهبت إلى مسجد صبرا ، والتقيت بالشيخ صالح عيزوقي ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلفه قلت له : شيخنا الجليل! لديَّ بعض الأسئلة ، فسألني : من أين الأخ؟

فأجبته : من سوريا.

٤٦٩

فقال لي : أنا درست في دمشق ، وتتلمذت على شيوخ دمشق.

فقلت له : سماحة الشيخ! أريدك أن ترشدني إلى كتب الصحاح ، وهل كتب الصحاح كلها صحيحة عندنا أهل السنة؟

فأخذني إلى جانب من الناس ، وقال لي : يا بنيّ! رحم الله من قبلنا ، إن الصحاح عندنا مليئة بالمسيحيّات والإسرائيليّات ، وتغيير بعض الحقائق.

فقلت له : البخاري ومسلم هل فيه مسيحيّات وإسرائيليات؟

قال ، نعم ، كلها جاءتنا عن طريق كعب الأحبار اليهودي ، وتميم الداري المسيحي وغيرهما.

قلت له : سماحة الشيخ! ما تنصحني؟ هناك صديق شيعي نعمل أنا وإيّاه في ورشة عمل في خلدة ، وقدَّم لي كتابين للقراءة ( المراجعات ، ثمَّ اهتديت ) وصار له فترة بعد أن امتنعت عن قراءتهما بسبب فتاوى من علمائنا ، أصبحت محرجاً أمامه في بعض الحوارات.

فقال لي : يا أخي! المذهب الخامس لديهم الاجتهاد مفتوح ، أمَّا قصَّة الحوار فهم أذكياء فيه ، بسبب ظلمهم واضطهادهم عبر التأريخ من السلطات ، فاضطرُّوا بكل السبل وأساليب فنّ الكلام للدفاع عن أنفسهم ، ممَّا جعلهم يغربلون الصحاح عندنا وكتب التأريخ ليثبتوا أنفسهم ، لأن علماءنا علماء المذاهب الأربعة لم يعترفوا بهم كمذهب قائم ، لكن أنصحك بعدم الخوض في حوارات مع صديقك هذا ; لأن القضية شائكة ، والبحث طويل ، وطريق صعب ومتعب ، هم لديهم أدلّة مقنعة ، ونحن لدينا أدلّة مقنعة ، فاتركه يا أخي.

فودَّعت الشيخ صالح ، ورجعت إلى مكان عملي ، أفكِّر بكلمات الشيخ صالح ، وجاء الليل ، وجاء التفكير ، لديهم أدلّة مقنعة ، ولدينا أدلّة مقنعة ، فقلت :

٤٧٠

ما دام لديهم أدلة مقنعة ـ كما قال لي الشيخ ـ ما المانع من أن أقرأ كتاب المراجعات ، وكتاب ثمَّ اهتديت ، وأقف على هذه الأدلّة؟

مع الشيخ إسماعيل عرناسي

وقعت في تناقض حادّ ، الشيخ المصري حذَّرني!! والشيخ طارق حذَّرني!! والشيخ فتح الباب ولكن في مصراع واحد ، لماذا لا أكمل رحلة البحث؟ فسألت أحد أصدقائي من الذين يعملون معنا في الورشة ، فقلت له : من يصلّي عندكم إماماً للجماعة؟

فقال لي : نحن في برج البراجنة عندنا شيخ كبير اسمه : الشيخ إسماعيل عرناسي ( جامع العرب ) ، وفي اليوم الثاني وبعد الانتهاء من العمل ذهبت إليه ، حيث انتظرت في المسجد موعد صلاة المغرب ومجيء الشيخ ، فجاء الشيخ وصلَّينا خلفه جماعة ، وعندما انتهى صافحته واقتربت منه ، فقلت له : سماحة الشيخ! أنا شابٌّ سوريٌّ ، وأعمل في ورشة في منطقة خلدة ، وأشتغل مع صديق شيعيٍّ ، وكل ساعة يحاورني في الدين ، ويسألني ويحرجني ، فما تنصحني بالله عليك أيُّها الشيخ وتريحني؟!!

فقال لي : يا بنيَّ! صار لي أكثر من أربعين سنة في هذا المسجد ، ولم اختلط مع واحد شيعيٍّ ، والكل يعلم ذلك ، لكن أنصحك هؤلاء الشيعه يقولون في آخر الصلاة : تاه الوحي ثلاث مرَّات ، وينسبون أقوالا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : قال الإمام علي عليه‌السلام.

فقلت له : شيخنا الجليل! أنا قرأت في كتيِّب لتعليم الصلاة عندهم ، حيث يقولون آخر الصلاة ثلاث مرَّات : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر.

٤٧١

فردَّ عليَّ : يا بنيَّ! ماذا تعرف من دهاء هؤلاء الشيعة؟ إنهم يستعملون التقيَّة ، وإمامهم الصادق عليه‌السلام يقول : ( التقيّة ديني ودين آبائي ).

فرجعت إلى مكاني مخذولا تائها محتاراً ، وأوشكت من أن أصاب بأزمة نفسيَّة ، وسيطر عليَّ القلق ، بحيث لم أعد أستطيع العمل ، أصبت برجفة حادّة وقشعريرة ، فأخذني أخي إلى الدكتور ، وقال لي الدكتور : جسميّاً لا يوجد فيك شيء ، فأنت مرهق نفسيّاً وفكريّاً ، يا أخي! بماذا تفكر؟ هذه الدنيا لا تستحقّ التفكير ، خذ إجازة من العمل وسافر إلى البلد.

فنمت يومين في الفراش ، محاولا التخلُّص من التفكير ، وصرت أجلس مع أصدقائي ، أشاهد برامج التلفزيون والمسلسلات لأروِّح عن نفسي التعب والإرهاق.

وبعدها عزمت أن أكمل قراءة كتاب المراجعات ، وقلت لصديقي الشيعي : إذا سمحت ، غداً اجلب لي معك كتاب المراجعات.

ففرح صديقي وقال : أين أنت هذين اليومين؟

فقلت له مكابراً : والله إن أعصابي وجسمي مرهقان ، وأخذني أخي دحام إلى الدكتور ، وقال لي : تحتاج إلى إجازة وراحة من العمل.

وفعلا في اليوم الثاني أتاني صديقي الشيعي بكتاب المراجعات ، وبدأت بالقراءة فيه حتى وصلت إلى ص ٧١ ، فاستوقفني مقال للشيخ الأنطاكي الحلبي المتشيِّع ( الاختلاف بين المذاهب الأربعة ) ، واستوقفتني أقوال للإمام عليٍّ ( كرَّم الله وجهه ) ، ما أقواها وأشدَّها وطأ وأثراً على النفس! في ص ٧٥ قوله : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمِّي سارقاً ).

٤٧٢

ثمَّ قال في ص ٨٢ : وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ أهاب بالجاهلين وصرخ في الغافلين ، فنادى : ( يا أيُّها الناس! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ).

فسجَّلت مصادر الحديث الذي ينقلها العالم الشيعي في كتابه ( المراجعات ) ، وبعد يومين نزلت إلى مكتبة دار الفتوى ( عائشة بكار ) لأفتِّش عن المصادر ، لأرى مدى صدق الشيعة في أقوالهم ، وفعلا عندما أتيت بسنن الترمذي فوجدت الحديث (١) ، فشعرت بالانتصار النفسي ، وفرحت فرحاً شديداً ، وتابعت المصادر فأنزلت تفسير ابن كثير فوجدت فيه الحديث (٢).

الله أكبر! الله أكبر!! صرت أصيح ما هذا الانتصار؟ اصبر اصبر ، أحدِّث نفسي ، تابع البحث ، لا تيأس ، أشجِّع نفسي ، الآن وليس غداً يجب الذهاب إلى الشيخ عبد الفتاح صقر لأناقشه في هذا الحديث الذي سجَّلت مصادره عندي بورقة وضعتها في جيبي ، وأغلقت عليها كأني عثرت على كنز!! أحدِّث نفسي : اصبر ، تابع البحث ، فصبَّرت نفسي على فرحها الشديد.

ورجعت أتابع القراءة ، وأيُّ شيء كان يثيرني كنت أسجِّله ، وأنزل إلى المكتبة فقط ، أنزل إلى مكتباتنا حذراً من الصحاح الموجودة عند الشيعة ، كما

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ٥ / ٣٢٩.

٢ ـ تفسير ابن كثير : ٤ / ١٢٣.

٤٧٣

يقول علماؤنا السنة : أغلبها مزوَّرة ومحرَّفة!!

وأثارني حديث آخر استغربت منه أشدَّ الاستغراب : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) ، فسجَّلته وسجَّلت مصادره وتابعت القراءة إلى أن وصلت ص ١٣٧ ، حيث جاءت آية قرآنية تقول : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) (٢) ، وأخرج النسائي في صحيحه نزولها في عليٍّ عليه‌السلام عن طريق رواية عبدالله ابن سلام ، وأخرج نزولها صاحب الجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة ، وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير نزولها في أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، فراجعت المصادر ووقفت عليها.

واستدلَّ العالم الشيعي على أن الولاية بعد الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وتابع القول في آية أخرى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٣) ، ويقول : ألم يصدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغها عن الله يوم الغدير حيث

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

٢ ـ قال هشام قطيط معلِّقاً في الهامش : وقفت على صحّة هذه الأقوال ، يقول العالم الشيعي : أجمع المفسِّرون ـ كما اعترف به القوشجي الأشعري ، وهو من فطاحل علماء السنة ، في مبحث الإمامة من شرح التجريد ـ على أن الآية نزلت في علي عليه‌السلام عندما تصدَّق بخاتمه وهو راكع.

٣ ـ سورة المائدة ، الآية : ٦٧ ، نزلت هذه الآية يوم ١٨ من ذي الحجة سنة ١٠ من الهجرة ، في حجّة الوداع ، في رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى المدينة ، في مكان يقال له : غدير خم ، فأمر الله نبيَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينصب علياً عليه‌السلام إماماً وخليفة من بعده.

٤٧٤

خطب خطابه ، وعبَّ عبابه ، فأنزل الله يومئذ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (١) ألم تر كيف فعل ربك يومئذ بمن جحد ولايته علانية ، وصادر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهرة ، فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فرماه الله بحجر من سجّيل ، كما فعل من قبل بأصحاب الفيل ، وأنزل في تلك الحالة : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (٢).

وهنا جاء التأمُّل والصراع ، والمسألة مع النفس ومع الذات ، فراجعت المصادر ، ووقفت عليها ، ووجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي ، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم ، وإحاطته الدقيقة بالتأريخ والسيرة والصحاح ، واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب ، وثوبه الناعم المزركش ، وصرت أفكِّر ، يا إلهي! أين كنت أنا؟ أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمَّدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنه ليس من اختصاصنا البحث في الدين وإنما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط ، أم أنهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟!

وتابعت القراءة إلى أن وصلت إلى الخطبة الشقشقية : ص ٦٨٠ من المراجعات ، فاستوقفتني خطب ومناشدات للإمام علي عليه‌السلام ، وشدَّت انتباهي ، وأسرت تفكيري ; لما فيها من البيان والتصريح عن مظلوميّته بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٣.

٢ ـ سورة المعارج ، الآية : ١ ـ ٢ ، نزلت هذه الآيات في النعمان الفهري لمَّا شك في تنصيب النبي لعلي عليهم‌السلام الخلافة فوقع عليه العذاب. راجع : شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : ج ٢ ، ص ٢٨٦ حديث : ١٠٣٠ ـ ٣١ ـ ٣٢ ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي : ص ٣٠.

٤٧٥

حيث كان يبثُّ شكواه من خلال هذه الخطب والمناشدات ، فيقول إمامنا علي عليه‌السلام أيام خلافته متظلِّماً ، يبثُّ آلامه متألِّما منها ، حتى قال :

أما والله لقد تقمَّصها فلان وهو يعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ... إلخ الخطبة (١).

وكم وقف متظلِّماً من القوم ، يبثُّ شكواه قائلا : اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغَّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثمَّ قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه (٢).

يا الله!! ما أعظم هذه الكلمات! إنها تخرق الحجر ، وليس الدم واللحم ، فيتابع قوله : فنظرت فإذا ليس لي معين إلاَّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، أغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرَّ من طعم العلقم (٣).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١ / ٣٠ ـ ٣١ ، خطبة رقم : ٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢ / ٨٥ ، خطبة رقم : ١٧٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٤ / ١٠٣ ـ ١٠٤ و ٦ / ٩٦ و ٩ / ٣٠٥ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١ / ١٧٦.

٣ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١ / ٦٧ ، خطبة رقم : ٢٦ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٠ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١ / ١٧٦.

٤٧٦

فصرت أتساءل : ما ذنب عليٍّ عليه‌السلام في التاريخ؟ الله أكبر! وأتابع البحث من جديد ، وأشحذ همّتي كي أستطيع التأمُّل والتفكُّر في مناشدات وخطابات سيِّدي وإمامي علي عليه‌السلام روحي فداه .. ما قرأت مقطعاً من كلماته إلاَّ وانهمرت دموعي!!

ومرَّة أخرى يبثُّ شكواه بمرارة : فجزت قريشاً عنّي الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمّي (١).

أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً علينا وبغياً ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (٢).

وقوله أيضاً في خطبة له خطبها بعد البيعة له : لا يقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمة أحد ، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله (٣).

فكلمات الإمام بعد البيعة تؤكِّد على صدق ما ذهبنا إليه ، فكلَّما وصلت

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٣ / ٦١ ، خطبة رقم : ٣٦ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦ / ١٤٨.

٢ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢ / ٢٧ ، خطبة رقم : ١٤٤ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب ١ / ٢٤٥ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩ / ٨٤ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٢٠٧ ح ٧.

٣ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ١ / ٣٠ ، خطبة رقم : ٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٨٣ ح ٢٣.

٤٧٧

إلى مقطع يزداد ألمي.

هذه الكلمات القويّة لا تخرج من إنسان عاديٍّ ، كلمات بحدِّ ذاتها معجزة ، يتدفَّق الإشعاع منها إلى أعماق قلبي ، عبارات رصينة ، أدلّة قوية تسيطر على القارئ المتدبِّر.

وحسبك قوله في خطبة أخرى : رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير مواضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (١).

فما تمالكت من نفسي إلاَّ والدموع تعاودني بالانهمار ، فوقفت مبهوتاً من هذه الأمّة ، وهؤلاء القوم الذين يدّعون الإسلام ، ما أقوى هذه الكلمات! تركت نفسي تقرأ بكل ما أمتلك من تركيز ; لأني أقرأ كلمات من سيِّد الوصيين ، وخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكل ذلك لم أكن أعلم بعد صدق هذه الخطب ، ولكنها هزَّت مشاعري ، وسيطرت عليَّ ، وصرت أتساءل : هل هذه الكلمات تصدر من الإمام علي عليه‌السلام؟

هل غصبت الخلافة من عنده؟ هل هذه الكلمات لها سند معتبر؟ فبدأت تنهال عليَّ موجات عارمة من الأسئلة ، وتابعت البحث حتى عثرت على مناشدة للإمام علي عليه‌السلام يوم الشورى (٢) ، وما أدراك ما يوم الشورى؟!!

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢ / ٣٦ ، خطبة رقم : ١٥٠ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩ / ١٣٢.

٢ ـ راجع : المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ٢٢٢.

٤٧٨

وساق الحديث إلى أن قال : بداية الحيرة والشك والتساؤل :

بعد تأثّري الشديد بخطب ومناشدات علي عليه‌السلام الذي أوردها صاحب كتاب المراجعات في الصفحة ٦٨٠ طبع ( الدار الإسلامية ) عام ١٩٨٦ ، صحيح أني تأثَّرت وصدمت إثر قراءتها ، ولكن بدأت بالبحث للتأكُّد من صحّة ما يذهب إليه السيِّد الشيعي رحمه‌الله و قدس‌سره ، فوجدت قسماً للخطب ينقلها ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ، فقلت في نفسي : إن ابن أبي الحديد معتزليٌّ ، وليس شيعياً حتى ينتصر لمذهبه أو عقيدته ، وكان لديَّ من المسلَّمات أن نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام ، وليس للشريف الرضي كما يقول بعض المتقوِّلين والمتعصِّبين ، حيث إنه شرحه وعلَّق عليه أكثر من عالم من علمائنا السنة الكبار ، أمثال الشيخ محمّد عبده شيخ الأزهر ، والدكتور صبحي الصالح الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة سابقاً.

وبقي لدي تساؤل واحد ، إذا ثبتت لديَّ خطبة ومناشدة علي عليه‌السلام يوم الشورى سوف أعلن عن تشيُّعي وولائي واستبصاري لخطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، وعند ما بدأت أقرأ وأحقِّق مصادر هذه الخطبة فعثرت على أكثر من مصدر منهم :

١ ـ شيخ الإسلام الشافعي الحمويني صاحب كتاب فرائد السمطين.

٢ ـ مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ابن المغازلي الشافعي.

ومنها رجعت إلى أمر آخر ، وهو تحليل خطبة الشورى ، والوقوف على مصادر ما قاله الإمام علي عليه‌السلام من أحاديث وحجج ، فوجدتها بمصادرها ( من حيث الحديث والآية التي استشهد بهما ) حيث كنت أقف على المصدر ونقله من كتاب المراجعات وأراجع في ذلك فأجد كل هذا الكلام موجوداً (١).

__________________

١ ـ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : ١٩ ـ ٤٦.

٤٧٩

المناظرة الثالثة والثمانون

مناظرة

هشام آل قطيط مع الشيخ عبد الأمير الهويدي وغيره

وبحثه عن الحقيقة وأشياء يسمعها لأوَّل مرة

قال الشيخ هشام آل قطيط تحت عنوان ( لقاء الصدقة ) : كنت أبحث عن بعض المصادر في مدينة بيروت التي تخصُّ بحثي عن الحقيقة ... وإذا بشيخ موجود في دار النشر ، فدفعني الفضول لأتعرَّف عليه ، فقال لي : أنا الشيخ عبد الأمير الهويدي من العراق ، وسألني : من أين أنت؟

فأجبته : من سوريا.

فسألني : ماذا تعمل هنا؟

فأجبته بكل صراحة : لقد أعارني أحد الشباب الشيعة كتاب المراجعات ، ومن هنا كانت بداية البحث والتساؤل والحيرة.

فقال لي : لماذا تتعب نفسك؟ ١ + ١ = ٢ ، أسألك سؤال : هل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصَّى أم لم يوصِّ؟

فقلت له : ماذا تقصد؟

قال : أقصد خلافنا كله قائم على الخلافة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا وصَّى

٤٨٠