مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

شموله لهم فإنه ينافي حكم المنطق والعقل ، وقد قيل : ما حكم به الشرع حكم به العقل.

وعدم شمولهم يؤدي إلى الإذعان بأن التعريف ناقص يحتاج إلى تكميل وترميم.

فابتسم عادل على مضض.

فقلت له : السكوت علامة الرضا.

قال عادل : سيدي! هذا يقال للبنت الباكر إذا عرض عليها الخطوبة فسكتت.

قلت : نعم ، ولكن المورد لا يخصِّص الوارد.

وضحكنا معاً ، ثم طلبنا من الموظَّف المسؤول الشاي الهندي المركَّب من الشاي مع الحليب ، وتسامرنا ، ثمَّ عرض عليَّ السؤال التالي :

ما تقول في هذا الحديث : لا تسبُّوا أصحابي ، ومن سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟ (١)

قلت : سبحان الله العظيم! إني أردت أن أذكر لك هذا ، ولكن كنت أتأمَّل في ذهني : هل أن الحديث مختصٌ بالمخاطبين ، أي الذين كانوا مع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر الإسلام من الصحابة ، أو أنّه عام يشمل جميع المسلمين طرّاً كما تقتضيه الأحكام الشرعية في الإسلام ، حيث تطبَّق على جميع المسلمين من صدر الإسلام إلى قيام الساعة؟

قال عادل : لا ، بل شامل لجميع المسلمين.

__________________

١ ـ المعجم الأوسط ، الطبراني : ٥ / ٩٥ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ٥٤٣ ح ٣٢٥٤٥.

٢٦١

قلت : طيِّب ، فهل خصِّص ، أي أخرج الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الصحابة منهم ، أو هو عام يشمل جميع الصحابة؟

قال عادل : كلا ، بل عام يشمل جميع المسلمين ، حيث صرَّح بحرمة سبِّ أحدهم.

قلت : وأزيدك علماً أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يجلد من يسبُّ عثمان ومعاوية (١) ، ولكن ما يوجب التعجُّب والذهول أن عمل بعض الأصحاب خلاف الشمول والعموم المدّعى ، فقد أخرجوا من تحت هذا الحديث بعض الصحابة وأهل البيت عليهم‌السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.

قال عادل : كيف؟

قلت : أما سمعت أو قرأت أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يُسَبُّ ويلعن على منابر المسلمين أربعين عاماً (٢)؟ ألم يكن صحابيّاً يشمله الحديث النبويُّ؟ وأبا ذر الغفاري طرد ونفي ، وقد قال فيه الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أظلَّت الخضراء ، وما أقلَّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (٣).

وما المبرِّر لمعاوية في تشريعه لعن وسبّ صحابيٍّ في الخطب وعلى

__________________

١ ـ الغدير ، الأميني : ١٠ / ٢٦٦ ، عن كتاب الصارم المسلول لابن تيمية : ٢٧٢.

٢ ـ بل روي ثمانين عاماً ، فقد روى عبد الله بن عثمان الثقفي ، قال : حدَّثنا ابن أبي سيف ، قال : قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده : لا تذكر ـ يا بنيَّ ـ عليّاً إلاَّ بخير ، فإن بني أميَّة لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده الله بذلك إلاَّ رفعة ، إن الدنيا لم تبنِ شيئاً قط إلاَّ رجعت على ما بنت فهدمته ، وإن الدين لم يبنِ شيئاً قط وهدمه.

شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٢١ ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله عليهم‌السلام ، البري : ٩٤ ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه‌السلام ، ابن الدمشقي : ٢ / ٢٣٠.

٣ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٢٦٢

المنابر؟ وهل سمعت أن عمر بن عبد العزيز جلد أحداً لسبِّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ وما الفرق بين عليٍّ وعثمان؟ أضف إلى ذلك اختصاص عليٍّ بآية التطهير دون عثمان.

قال عادل : إن معاوية يحظى بشرف الخؤولة ، فهو خال المؤمنين من جهة أم حبيبة أمِّ المؤمنين.

قلت : نعم ، ولكن للمصاهرة والقرابة شرف ومنزلة الصحبة ، ولماذا حرم علي عليه‌السلام منها؟ ولماذا انحصرت الخؤولة في معاوية ولم تشمل غيره؟ ألم يكن لمحمّد بن أبي بكر شرف الخؤولة؟ مع العلم أنه أفضل سيرة من معاوية ، فلو ذكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره ، ولو كان ذلك في معاوية غضبوا وأنكروا ولعنوا من ذكره بسوء ، وأردت الزيادة فسكتُّ خوفاً من صديقي أن ينزعج منّي.

قال عادل : نعم ، وهنا حديث متواتر مشهور ، وهو : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (١).

قلت : هذا الحديث يتنافي مع روح الإسلام وعظمته ، وحكمة الباري وعدالته (٢).

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال ، الذهبي : ١ / ٨٢ ، رقم : ٢٩٦ ، لسان الميزان ، ابن حجر : ١ / ١٣٦ ، رقم : ٤٢٥ ، تحفة الأحوذي ، المباركفوري : ١٠ / ١٥٥ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢٠ / ١١ ، فيض القدير ، المناوي : ٦ / ٣٨٦ ، المغني ، عبد الله بن قدامة : ٣ / ٥٣٥.

٢ ـ قال بعضهم : وكيف يصح أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم )؟ لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمّار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحَّ الخبر الصحيح أنه قال له : ( تقتلك الفئة الباغية ) ، وقال في القرآن : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) ، فدلَّ على أنها ما دامت موصوفة

٢٦٣

قال : كلا.

__________________

بالمقام على البقي ، مفارقة لأمر الله ، ومن يفارق أمر الله لا يكون مهتدياً. راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٨ ، الجزء الأول من هذا الكتاب : ٥١٧ المناظرة الثانية والسبعون.

وقال الحجّة السيِّد محمّد تقي الحكيم عليه الرحمة : والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها ـ بعد التغافل عن أسانيدها ، وحساب ما جاء في بعضها من الطعون ، أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث : أصحابي كالنجوم من أنه حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصح ، وقال البزار : لا يصحُّ هذا الكلام عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن هذه الروايات لا يمكن الأخذ بظاهر بعضها ، ولا دلالة للبعض الآخر على المدّعى.

وأوَّل ما يرد على الرواية الأولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة صدور مضمونها من المعصوم ; لاستحالة أن يعبِّدنا الشارع بالمتناقضين ، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الأمور لمن قرأ تأريخهم ، واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث ، وحسبك أن سيرة الشيخين مما عرضت على الإمام علي عليه‌السلام يوم الشورى ، فأبى التقيُّد بها ، ولم يقبل الخلافة لذلك ، وقبلها عثمان وخرج عليها بإجماع المؤرِّخين ، وفي أيام خلافة الإمام نقض كل ما أبرمه الخليفة عثمان ، وخرج على سيرته ، سواء في توزيع الأموال أم المناصب أم أسلوب الحكم ، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة ، فأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجيّة ، وعمر فاوت فيها ، وأبو بكر كان يرى طلاق الثلاث واحداً ، وعمر شرَّعه ثلاثاً ، وعمر منع عن المتعتين ، ولم يمنع عنهما الخليفة الأول ، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.

وعلى هذا ، فأيَّة هذه السير هي السنّة؟ وهل يمكن أن تكون كلُّها سنَّة حاكية عن الواقع ، وهل يتقبَّل الواقع الواحد حكمين متناقضين؟! وما أحسن ما ناقش الغزالي ( المستصفى : ١ / ١٣٥ ) أمثال هذه الروايات بقوله : ( فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه فلا حجَّة في قوله ، فكيف يحتجُّ بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدَّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟ وكيف يتصوَّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الدليل على العصمة ، ووقوع الاختلاف بينهم ، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة ).

راجع : الأصول العامة للفقه المقارن ، السيِّد محمّد تقي الحكيم : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٦٤

قلت : مهلا يا أخي عادل! على فرض التسليم بصحّة الحديث سنداً ونصّاً ، ففيه أمرٌ بالأخذ ممن يصدر عليه الخطأ والجهل ، وهو غير معصوم ، ويجعل الكذب والافتراء والاختلاف هدى ، هذا صحيح؟

قال عادل : كلا ، ليس كما تقول.

قلت : لقد روي عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة أحاديث مفادها : أنه سيكون بعدي أمور منكرة عن فتن مظلمة كقطع الليل ، وأمراء ضلال لا يستنّون بسنّته ، ويستأثرون بالفيء ، وأن جماعة من أصحابه يرتدُّون على أعقابهم ، ويؤمر بهم يوم القيامة ذات الشمال ، فهل هذا هدى أم ضلال؟ أيجوز الاقتداء بهم أم لا؟

قال عادل : إنهم مجتهدون ، وقال المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المجتهد إن أصاب فله أجران ، وإن لم يصب فله أجر واحد.

قلت : أولا : بعض الأصحاب اجتهدوا وقتلوا لاجتهادهم ، كما هو المعروف عن مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد ، ونزا على امرأته لمَّا امتنع من إعطاء الزكاة إلاَّ لمن أمره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعطائه له ، وهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وثانياً : ليس كل الصحابة مجتهدين ، بل فيهم أهل البادية ، ومنهم الأمّيُّون ، ومنهم من لم يسمع إلاَّ حكماً أو حكمين من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفجأة نظرت إلى ساعتي ، وإذا هي قد تجاوزت الثانية عشر منتصف الليل ، وشعرت من الأخ عادل ميله إلى الراحة ، وأن التعب أرهقني طول النهار ، فقلت : أستميحك عذراً ، تكلَّمت كثيراً ، وربما جرحت شعورك ، عفواً ، لا قصد لي في ذلك ، والله شاهد وهو خير شاهد.

فقال عادل : لا والله بالعكس ، إن الحبيب المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الحكمة

٢٦٥

ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ، وقد استفدت الكثير ، وظهرت لي أمور كنت أجهلها ، وربما تصوَّرت خلاف الحقيقة والواقع عنها ، والحمد لله ، على كل حال كانت فرصة سعيدة.

وأخذ بيدي واحتضنني ، وأضاف قائلا : أزعجتك هذه الأمسية ، وإن شاء الله غداً أزورك في نفسك الموعد الذي التقينا فيه في هذا اليوم.

فقلت : نعم ، وأنا في خدمتك ، ولحظات من حياتي لن تنسى.

وودَّعني شاكراً ، وانصرف إلى مكان إقامته.

اللقاء الثاني :

وفي اليوم التالي قبل الموعد المقرَّر بساعة تركت حجرتي ، وذهبت إلى الصالة منتظراً قدوم صديقي ، ولمَّا شاهدته قادماً قمت إليه مستقبلا ، وحيَّيته بحرارة ، وتبادلنا الكلمات المتعارفة والتحيَّات المتداولة ، وجلسنا على الطاولة في آخر الصالة لكي نتمتَّع بحرّيَّة أكثر في المحاورة ، ثمَّ بدأنا الحديث.

القول الثالث : الحد الوسط.

فقد قلنا سابقاً إن الصحبة لا تمنح الفرد تلك المناعة المسمَّاة بالعصمة ; لأن الملاك والمقياس للعلوِّ والمنزلة في الإسلام التقوى لا الصحبة ، بمفاد الآية الكريمة : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقول الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا فضل لعربي على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى (١) ، ولأجل توضيح أكثر وبيان أوسع نستدل بالأدلّة التالية :

١ ـ الكتاب الكريم

لقد ورد في الكتاب العزيز عدّة آيات ، بل سور تدلُّ على عدم صدق نيَّة

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤١١ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ٥ / ٨٦.

٢٦٦

كلِّ الصحابة ، ونتعرَّض إلى بعضها :

قال تعالى : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) (١) وقال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (٢) ، وقال تعالى : ( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (٣) ، وقال تعالى : ( وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (٤) وقال تعالى : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ) (٥).

٢ ـ السنّة الشريفة

روي عن علي أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنه قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذ بيدي ، ونحن نمشي في بعض سكك المدينة فمررنا بحديقة ، فقلت : يا رسول الله! ما أحسنها من حديقة! قال : لك في الجنّة أحسن منها ، حتى مررنا بسبع حدائق ، كل ذلك أقول : ما أحسنها! ويقول : لك في الجنّة أحسن منها ، فلمّا خلا الطريق اعتنقني ، ثمَّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله! ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاَّ من بعدي ، قلت : يا رسول الله! أفي سلامة من ديني؟ قال : في سلامة من دينك (٦).

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٩٧.

٢ ـ سورة التوبة ، الآية : ١٠١.

٣ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٨.

٤ ـ سورة التوبة ، الآية : ٧٤.

٥ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

٦ ـ مسند أبي يعلى الموصلي : ١ / ٤٢٦ ح ٥٦٥ ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١٢ / ٣٩٤ ، شرح نهج

٢٦٧

وقال علي عليه‌السلام للزبير يوم الجمل : أما تذكر يوم كنت أنا وأنت في سقيفة قوم من الأنصار ، فقال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتحبُّه؟ فقلت : ما يمنعني؟ قال : أما إنّك ستخرج عليه وتقاتله ، وأنت ظالم (١).

وروى سهل بن سعد ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي.

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ! أصحابي ، فيقول : إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى (٢).

وغيرها من الروايات (٣) التي تدلُّ على أن الصحبة ليست موجبة للعصمة

__________________

البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٤ / ١٠٧ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٣٢٣ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٢٣ / ٢٣٩ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ١١٨.

١ ـ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ٣٦٦ ، الأخبار الطوال ، الدينوري : ١٤٧ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١ / ٩٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢ / ١٦٧ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ١٩٦ ح ٣١٢٠٢.

٢ ـ صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٣ ـ والتي منها أيضاً ما روي عن ابن المسيب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يرد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ،

٢٦٨

في نفس الصحابي.

٣ ـ ولا إجماع على عصمتهم

وقد ذكرت لك سابقاً قول بعض العلماء في عدم صحّة نسبة العصمة إلى الصحابة.

٤ ـ العقل يرفض عصمتهم بلا ملاك

العقل يرفض أن يمنح مقام العصمة الذي هو أعلى مرتبة من مراتب القرب والمنزلة للعبد عند الله جلَّ جلاله ، والكرامة لديه سبحانه بلا ذريعة ولا عمل مبرِّر إلاَّ أن له صحبة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غير ، وهل هذا يكفي كمبرِّر وعذر لئلا يحترق بنار جهنم مهما فعل؟ ولماذا نحن نحترق بنارها التي لا تمسُّ الصحابة دوننا لأننا حرمنا من الصحبة لا غير؟

وهل العدل يذعن إلى هذا الملاك والمقياس ، أو أن العقل والمنطق يقبله؟ كيف وهو أحكم الحاكمين يحكم حكماً لا يستسيغه العقل والحكمة؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، وهو القائل : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (١).

عود على أدلة الجمهور

وأمَّا الروايات التي ذكرتها حول الصحابة فقد ذكر العلماء فيها ما يوجب قدحاً ، إضافة إلى بعدها عن المقاييس والموازين والمعايير الشرعيّة.

قال : كيف ، وقد قال العظيم في كتابه : ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ

__________________

فيحلَّؤون عنه ، فأقول : يا ربِّ! أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى. صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٨.

١ ـ سورة النجم ، الآية : ٣١.

٢٦٩

الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)؟

قلت : نعم ، هذه هي صفة بعض الصحابة ، وهم دعامة الإسلام وقوامه ، وبتضحياتهم ارتوت شجرة الدين ، وبسيوفهم ساد الحقُّ والعدل ، وزال الظلم والجور والشرك والكفر ، فهم اللبنة الأساسيّة في نشر هذا الدين القويم ، ولسنا بمنكرين لفضلهم ، وقد أمرنا جلَّ جلاله في كتابه الكريم بالدعاء لهم ، حيث قال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٢) ، صدق الله العليُّ العظيم.

ولكن الكلام ليس في هؤلاء ، بل إسداء عنوان العصمة لجميع الصحابة بلا استثناء أصلا حتى المرتكب منهم للجرائم ، ومن لعنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسانه كما يظهر من تعريف ابن حجر وابن حزم.

كيف يعقل هذا من الدين ، وقد نقل المؤرِّخون حوادث وحوادث استحقَّ مرتكبها الضرب والقتل واللعن؟ بل الأصحاب فيما بينهم كانوا يتنازعون ويتشاتمون ، وهذا هو معنى قولنا بعدم عصمة جميع الصحابة ، وأين هذا من كلام الشيخ جار الله الذي ادّعى فيه أننا نكفِّر عامة الصحابة؟ وهل يتناسب هذا مع الذوق السليم والمسلك القويم ، إذا حملنا كلامه على صدق النيّة ومحدوديَّة الاطلاع؟ أمَّا لو كان عالماً عامداً في نسبة هذا الكلام إلينا مع علمه لما نقول وندّعي فعلى الله جزاؤه ، وهو أحكم الحاكمين.

وأمَّا مسألة السبِّ واللعن ...

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية ٨٨ ـ ٨٩.

٢ ـ سورة الحشر ، الآية : ١٠.

٢٧٠

قال عادل : توجد روايات عديدة تحرِّم لعن وسبَّ المسلم ، فقد روي عن علي عليه‌السلام أنه منع أصحابه من أهل الشام ، وقال : لا تكونوا لعَّانين (١).

قلت : نعم ، كما للعصمة ملاك ومقياس ومعيار وهو التقوى ، كذلك جواز اللعن أيضاً له ملاك ، وعليه لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان بن حرب حين هجاه بأبيات ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهم إنّي لا أحسن الشعر ، ولا ينبغي لي ، اللهم العنه بكلِّ حرف ألف لعنة (٢).

وقد روي عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنه لعن في قنوت صلاته معاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبا موسى الأشعري ، وأبا الأعور السلمي (٣).

وقد ورد أن عائشة لعنت عثمان ولعنها ، وخرجت غضبى عليه إلى مكة (٤).

____________

١ ـ الذي وردت به الرواية الآتية هو السبّ ، وليس فيها ذكرٌ للّعن ، وهناك فرق بين اللعن والسبِّ ، فقد جاء في نهج البلاغة لأميرالمؤمنين عليه‌السلام : ٢ / ١٨٥ ، رقم : ٢٠٦ : ومن كلام له عليه‌السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبُّون أهل الشام أيام حربهم بصفين : إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبِّكم إياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقَّ من جهله ، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ٢٩١.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦ / ١٣٧.

وجاء في مسند زيد بن علي عليه‌السلام : ١٣١ عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنه كان يقنت بالمدينة بعد الركوع ، ثم قنت بالكوفة وهو يحارب معاوية قبل الركوع ، وكان يدعو في قنوته على معاوية وأشياعه.

٤ ـ روى الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتاب الجمل : ٧٦ عن الحسن بن سعد قال : رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها وعثمان قائم ، ثمَّ قالت : يا عثمان! أقم ما في هذا الكتاب ، فقال : لتنتهين عمّا أنت عليه أو لأدخلن عليك جمر النار ، فقالت له عائشة : أما والله لئن فعلت ذلك

٢٧١

وأتذكَّر رواية لابن البطريق في كتاب العمدة ، عن عمرو بن يحيى ، عن جدِّه قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً بالمدينة ، ومعنا مروان ، فقال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدَّق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة .. الحديث (١).

__________________

بنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلعنك الله ورسوله ، وهذا قميص رسول الله لم يتغيَّر ، وقد غيَّرت سنّته يا نعثل.

وقال اليعقوبي في تأريخه : ٢ / ١٧٥ : كان بين عثمان وعائشة منافرة ، وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب ، وصيَّرها أسوة غيرها من نساء رسول الله ، فإن عثمان يوماً ليخطب إذ دلَّت عائشة قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونادت : يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنّته! فقال عثمان : ربِّ اصرف عنّي كيدهن إن كيدهن عظيم.

وجاء في كتاب المحصول ، الرازي : ٤ / ٣٤٣ ، قال : إن عثمان أخَّر عن عائشة بعض أرزاقها فغضبت ، ثمَّ قالت : يا عثمان! أكلت أمانتك ، وضيَّعت الرعيّة ، وسلَّطت عليهم الأشرار من أهل بيتك ، والله لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل.

وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ٢١٥ عن بعضهم أنَّ كل من صنَّف في السير والأخبار قال : إن عائشة كانت من أشدِّ الناس على عثمان ، حتى إنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنّته ، قالوا : أول من سمَّى عثمان نعثلا عائشة ، والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا!

وجاء في نفس المصدر : ٢٠ / ١٧ : ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة ، كانت تقول : اقتلوا نعثلا ، لعن الله نعثلا.

وراجع رأي عائشة في عثمان وقولها فيه : هذا قميص رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنَّته ، وقولها : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ـ في المصادر التالية :

شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٢ ، المحصول ، الرازي : ٤ / ٣٤٣ ، تاريخ الطبري : ٣ / ٤٧٧ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : ١ / ٧٢ ، لسان العرب ، ابن منظور : ١١ / ٦٧٠.

١ ـ العمدة ، ابن البطريق : ٤٥١ ـ ٤٥٢ ح ٩٤٠ ، عن صحيح البخاري : ٨ / ٨٨ ، مسند أحمد بن حنبل : ٢ / ٣٢٤ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٦ / ٤٥٥.

٢٧٢

وروى الإربلي في كشف الغمّة ، عن أبي محمّد الغمام ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : اتق الضغائن التي في صدور قوم لا يظهرونها إلاَّ بعد موتي ، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون .. الحديث (١).

وقبل التعرُّض إلى الملاك والمعيار لجواز اللعن في الشريعة المقدَّسة نقول : إن كلام الإمام عليه‌السلام في مورد لعن ( سبِّ ) أهل الشام معناه : نهى الإمام عليه‌السلام عن التعوُّد على السبِّ واللعن ، بحيث لو رأى شيئاً لا يلائم ذوقه فتح فاه باللعن والسبِّ ، وهذا مما لاغبار عليه ، وظاهر من لفظ لعَّانين (٢) ، وليس معناه أن الإمام عليه‌السلام يمنع لعن من استحقَّ اللعن ، ولو أراد هذا المعنى لقال : لا تكونوا لا عنين ، وبين الكلمتين فرق كبير يعلمه من له إحاطة بدقائق اللغة.

وحان الوقت ـ يا أخي عادل ـ لنبحث عن ملاك اللعن في الكتاب العزيز.

قال عادل : هل في القرآن ما يشير إلى جواز اللعن؟

قلت : نعم ، ففي سورة الأعراف : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٣) ، وفي سورة هود : ( هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٤) ، وفي سورة غافر : ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (٥).

ومع ملاحظة هذه الموارد ندرك أن العلّة في مشروعيّة اللعن ، وأبرز مصداق لموضوعه : الظلم.

__________________

١ ـ كشف الغمّة ، الإربلي : ٢ / ٢٥ ، المناقب ، الخوارزمي : ٦٢ ح ٣١ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٤٠٥ ح ٤.

٢ ـ قد تقدم أن الذي جاءت به الرواية : إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين.

٣ ـ سوره الأعراف ، الآية : ٤٤.

٤ ـ سورة هود ، الآية : ١٨.

٥ ـ سورة غافر ، الآية : ٥٢.

٢٧٣

قال عادل : وما علاقة موضوع الظلم في بحثنا؟

قلت : نعم ، سأوضح لك ، ولكن اسمح لي أن أذكر لك هذه الرواية : عن شدّاد أبي عمار قال : دخلت على واثلة وعنده قوم ، فذكروا عليّاً فشتموه ، فشتمته معهم ، فلمَّا قاموا قال : شتمت هذا الرجل؟ قلت : رأيت القوم شتموه فشتمته معهم ، قال : ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة أسألها عن عليٍّ فقالت : توجَّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه عليٌّ وحسن وحسين ، أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليّاً وفاطمة فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ، ثمَّ لفَّ عليهم ثوبه أو كساء ، ثمَّ تلاهذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (١) ثم قال : اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحقُّ (٢).

وهذا الرجل ـ أعني أميرالمؤمنين عليه‌السلام ـ في هذه المرتبة والمنزلة التي طهَّره الله من كل رجس ، ومن كل الدنس ، ومن كل رذيلة ، أليس من الظلم شتمه ولعنه وسبُّه يا أخي عادل؟

أتعلم أنه شتم ولعن على منابر المسلمين ، وفرض على الناس لعنه وسبُّه ظلماً وعدواناً؟

والسؤال الوارد هنا ، هل يستحقُّ ظالمه اللعن حسب ما استفدت من الآيات التي سبق ذكرها؟

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٢ ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ٢ / ٦٧ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٢٢ / ٦٥ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٩٢ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ١٦٧.

٢٧٤

جواب هذا السؤال إليك ، ولكن عليَّ أن أدلَّك على بعض الموارد التي توضح لك الحقيقة.

روى المسعودي ، عن الطبري ، عن ابن أبي نجيح قال : لمَّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص ، فلمَّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة ، وأجلسه معه على سريره ، ووقع في علي عليه‌السلام وشرع في سبِّه ، فزحف سعد ، ثمَّ قال : أجلستني معك على سريرك ، ثمَّ شرعت في سبِّ عليٍّ ، والله لأن تكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ... الحديث (١).

وروي أن المغيرة بن شعبة لمَّا ولي الكوفة كان يقوم على المنبر ويخطب ، وينال من عليٍّ عليه‌السلام ويلعنه (٢).

__________________

١ ـ وتكملة الحديث قال : والله لأن أكون صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لي من الولد ما لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي ما قال له يوم خيبر : لأعطينَّ الراية رجلا يحبُّه الله ورسوله ، ويحبُّ الله ورسوله ، كراراً ليس بفرار ، يفتح الله على يديه ، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي ما قال له في غزوة تبوك : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي ، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثمَّ نهض. مروج الذهب ، المسعودي : ٣ / ١٤ ـ ١٥.

٢ ـ روى الحاكم في المستدرك ، عن زياد بن علاقة ، عن عمِّه أن المغيرة بن شعبة سبَّ علي بن أبي طالب ، فقام إليه زيد بن أرقم فقال : يا مغيرة! ألم تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن سبِّ الأموات ، فلم تسبُّ عليّاً وقد مات؟ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ١ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٣٦٩ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٥ / ١٦٨ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٨ / ٧٦ ، وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، ورجال أحد أسانيد الطبراني ثقات.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ٤ / ٧٠ ـ ٧١ : قال أبو جعفر رحمه‌الله : وكان المغيرة بن شعبة صاحب

٢٧٥

وروي أن مروان كان يسبُّ عليّاً عليه‌السلام كل جمعة على المنبر ، وكان مروان أميراً علينا (١).

أخي عادل! أنشدك الله ، أليس هذا ظلم؟ فإن كان فما جزاء الظالم؟

وقد ذكر العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم المعروف بالغدير ، الذي لا يستغني عنه طالب الحقيقة : قد صار لعن أميرالمؤمنين عليه‌السلام سنّة جارية في أيام الأمويين ، فكان أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها عليٌّ عليه‌السلام (٢).

__________________

دنيا ، يبيع دينه بالقليل النزر منها ، ويرضي معاوية بذكر عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال يوماً في مجلس معاوية : إن عليّاً لم ينكحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته حبّاً ، ولكنّه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه. قال : وقد صحَّ عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرَّات لا تحصى.

١ ـ العلل ، أحمد بن حنبل : ٣ / ١٧٦ ح ٤٧٨١ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٥٧ / ٢٤٣ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٨ / ٢٨٤.

٢ ـ قال العلاّمة الحجّة الشيخ الأميني في كتابه القيِّم الغدير : ٢ / ١٠١ : لم يزل معاوية دائباً على ذلك ، متهالكاً فيه ، حتى كبر عليه الصغير ، وشاخ الكهل ، وهرم الكبير ، فتداخل بغض أهل البيت عليهم‌السلام في قلوب ران عليها ذلك التمويه ، فتسنَّى له لعن أميرالمؤمنين عليه‌السلام وسبُّه في أعقاب الصلوات في الجمعة والجماعات ، وعلى صهوات المنابر في شرق الأرض وغربها ، حتى في مهبط وحي الله ( المدينة المنورة ).

قال الحموي في معجم البلدان : ٣ / ١٩١ : قال الرهني : لعن علي بن أبي طالب عليه‌السلام على منابر الشرق والغرب ، ولم يلعن على منبر سجستان إلاَّ مرّة ، وامتنعوا على بني أميَّة ، حتى زادوا في عهدهم : وأن لا يلعن على منبرهم أحد ، وأيُّ شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبرهم وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة؟ ا هـ.

وذكر الأميني عليه الرحمة عن العقد الفريد : ٢ / ٣٠٠ : لمَّا مات الحسن بن علي عليهما‌السلام حجَّ معاوية ، فدخل المدينة ، وأراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقيل له : إن ههنا سعد بن أبي وقاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنَّ من المسجد ثمَّ لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد ، فلمَّا مات لعنه على المنبر ، وكتب

٢٧٦

فشاهدت الدموع كالدرر تتساقط بسرعة ولهفة مذهلة .. لو قدِّر لها أن تعبِّر لفظاً لقالت : رحمك الله يا أبا الحسن ، يا أميرالمؤمنين ، يا علي بن أبي طالب ، فأنت حقّاً المظلوم الذي جهلناه ، وما عرفنا قدره ومظلوميَّته ..

وخنقتني العبرة ، فأهملت دموعي بلا مشاحة ، وبعد هنيئة خيَّم علينا صمت رهيب ، وطلبت أقداحاً من الشاي ، فأحضرت بين أيدينا ...

إلى أن قال بعدما ذكر كلاماً جرى بينهما لا يتعلَّق بالمناظرة : وحان وقت الفراق بعد أن طاب لنا المقام ، وسبحان الله الذي هو لا غيره مفرِّق الأحباب ، وتعانقنا طويلا ، وعزَّ علينا الانفصال ، ولكن الدهر ذو أحوال ، وافترقنا بعدما تعاهدنا على أن نجتمع في القريب العاجل.

وبعد أيام رجعت إلى إيران ، ودوَّنت ما دار بيننا من مقال ، وإلى حديث قادم إن شاء الله تعالى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (١).

__________________

إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا ، فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية : إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبَّه ، وأنا أشهد أن الله أحبَّه ورسوله ، فلم يلتفت إلى كلامها.

وقال الجاحظ في كتاب الردّ على الإماميّة : إن معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهم إن أبا تراب .. إلخ ، وكتب ذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز.

وإن قوماً من بني أميَّة قالوا لمعاوية : يا أميرالمؤمنين! إنّك قد بلغت ما أمَّلت ، فلو كففت عن هذا الرجل ، فقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلا. وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ٤ / ٥٧ و ١٣ / ٢٢٢.

وقال عليه الرحمة : قال الزمخشري في ربيع الأبرار على ما يعلق بالخاطر ، والحافظ السيوطي : إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب عليه‌السلام بما سنَّه لهم معاوية من ذلك.

١ ـ وجدنا هذه المناظرة مطبوعة في كتيِّب صغير باسم : مناظرة لطيفة ، في اثنين وثلاثين صفحة ، نشر مؤسَّسة : في طريق الحق ، مطبعة سلمان الفارسي سنة ١٤١٨ هـ.

٢٧٧

المناظرة السادسة والخمسون

مناظرة

الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة

زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتوسُّل به إلى الله تعالى (١)

العاملي : من مختصَّات ابن تيميّة وبدعه : تحريمه التوسُّل والاستشفاع والاستغاثة بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قال السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ص ٢٩١ : اعلم أنه يجوز ويحسن التوسُّل والاستغاثة والتشفُّع بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ربِّه سبحانه وتعالى ، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوام من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتى جاء ابن تيميَّة فتكلَّم في ذلك بكلام يلبِّس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار!! انتهى.

__________________

١ ـ جرت هذه المناظرة في ( الانترنيت ) في ساحة النقاش الإسلامية ـ شبكة هجر ، في شهر جمادى الأولى من سنة ١٤٢٠. وقد ذكرها العلامة العاملي في كتابه الانتصار : ٥ / ٢٣ ـ الخ.

٢٧٨

صارم : سؤالي : لماذا تدعون إلى شدِّ الرحال وزيارة القبور ، والتبرُّك بها؟

العاملي : حديث شدِّ الرحال لم يصحَّ عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد صحَّ عند بقيَّة المذاهب ، وفهموا منه عدم شموله لشدِّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدليل أنهم كانوا يفعلون ذلك ، وما رووه في بعض صيغه : ( لا تشدُّ الرحال إلى مسجد ) وفهم هؤلاء حجَّة على من يعتقد بالحديث ، ويعتقد بحجّيّة فهم الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب ، لأنهم أقرب إلى عصر النصّ ومعناه ، وقد ألَّف عدد من العلماء قبل ابن تيميّة رسائل في تفسير الحديث ، وعندما جاء ابن تيميَّة ببدعته ردَّ عليه عدد آخر منهم ، واتفقوا على أن فهمه للحديث مخالف لإجماع علماء المسلمين وسيرتهم لمدّة ثمانية قرون ، بل هو مخالف لفهم عامّة علمائهم إلى يومنا هذا!!

فنحن نشدُّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبور الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، لأن زيارة قبورهم مستحبّة عندنا ، ومن أفضل القربات إلى الله تعالى ، ولم يثبت عندنا أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن ذلك ، بل ثبت أنه دعا إليه وحثَّ عليه ، وكان يزور القبور المباركة لتكون سنَّة من بعده ، وكذلك كانت سيرة علي وفاطمة والأئمَّة عليهم‌السلام ، ولزيارة القبور عندنا أحكام وشروط وآداب شرعيَّة ، وليس فيها شيء ينافي التوحيد أبداً ، بل فيها ما يؤكِّد التوحيد ، وأن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى الله تعالى كما أمرنا.

صارم : أحسنت ، وهذا ما أريده منك بالضبط ، فقد شفيت غليلي بهذه الإجابة الشافية الكافية ، ولعلَّ صدرك يتّسع لأسئلتي ، وسؤالي الآن : لماذا تستشفع بهم؟ لم لا تتّجه في طلبك إلى الله مباشرة؟

٢٧٩

لماذا تجعلهم واسطة بينك وبين الله؟ ألم تعلم أن الجاهليّين كانوا يعبدون الأصنام ، يستشفعون بها ، ويجعلونها واسطة بينهم وبين الله؟! وقد ناقضت نفسك حينما قلت : ( وأن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى الله تعالى كما أمرنا ) كيف تستشفع بهم وهم ( لا يملكون من عندهم شيئاً بل هم عباد مكرمون ) لقد خالفت المنهج الربَّانيَّ وسنَّة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وجهين :

الوجه الأول : من مخالفة السنّة ; لأن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، فما بالك بامتلاك النفع لغيرهم؟!

الوجه الثاني : مشابهة الكفار ، وقد نهينا عن مشابهتهم ، فهل بعد هذا تستشفع بهم؟ أرجو للجميع الهداية.

العاملي : سؤالك في أصله وجيه ، فلو كان الأمر لنا لقلنا : فلنطلب كل شيء من الله تعالى مباشرة ، ولا نجعل بيننا وبينه واسطة من المخلوقين ، ولكنَّ الأمر له عزَّ وجلَّ وليس لنا ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (١) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (٢) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (٣) ولا حاجة إلى مجيئهم واستغفارهم عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستغفار الرسول لهم .. وهذا يعني أنَّه تعالى قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كن موحِّداً بلا شرط ، ومهما قلت لك فأطعني ، وحتى لو قلت لك عندي ولد فاعبده فافعل وقل لهم : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية ٣٥.

٢ ـ سورة الإسراء ، الآية : ٥٧.

٣ ـ سورة النساء الآية : ٦٤.

٢٨٠