مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

المناظرة الرابعة والثلاثون

مناظرة

الأمير أبي الفوارس مع الوزير يحيى بن هبيرة

في إيمان أبي طالب عليه‌السلام

عن سلار بن حبيش البغدادي ، عن الأمير أبي الفوارس الشاعر قال : حضرت مجلس الوزير يحيى بن هبيرة ومعي يومئذ جماعة من الأماثل وأهل العلم ، وكان في جملتهم الشيخ أبو محمّد بن الخشّاب اللغوي ، والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم ، فجرى حديث شعر أبي طالب ابن عبد المطلب ، فقال الوزير : ما أحسن شعره لو كان صدر عن إيمان!

فقلت : والله لأجيبن الجواب قربة إلى الله ، فقلت : يا مولانا! ومن أين لك أنّه لم يصدر عن إيمان؟

فقال : لو كان صادراً عن إيمان لكان أظهره ولم يخفه.

فقلت : لو كان أظهره لم يكن للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصر.

قال : فسكت ولم يحر جواباً ، وكانت لي عليه رسوم فقطعها ، وكانت لي فيه مدائح في مسودات فغسلتها جميعاً (١).

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، المجلسي : ٣٥ / ١٣٤ ح ٧٩.

١٤١

المناظرة الخامسة والثلاثون

مناظرة

إمرأة مع ابن الجوزي

قال ابن الجوزي يوماً على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فسألته امرأة عمَّا روي أن عليّاً عليه‌السلام سار في ليلة إلى سلمان فجهَّزه ورجع.

فقال : روي ذلك.

قالت : وعثمان تمَّ ثلاثة أيام منبوذاً في المزابل ، وعليُّ عليه‌السلام حاضر؟

قال : نعم.

قالت : فقد لزم الخطأ لأحدهما.

فقال : إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة الله ، وإلاَّ فعليه.

فقالت : خرجت عائشة إلى حرب عليٍّ بإذن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لا؟ (١)

فانقطع ولم يحر جواباً (٢).

__________________

١ ـ روى الموفّق الخوارزمي في المناقب : ١٧٦ ـ ١٧٧ ح ٢١٤ بالإسناد عن شهر بن حوشب قال : كنت عند أم سلمة رضي الله عنها ، فسلَّم رجل ، فقيل : من أنت؟ قال : أنا أبو ثابت مولى أبي ذر ، قالت : مرحباً بأبي ثابت ، ادخل ، فدخل فرحَّبت به ، فقالت : أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها؟ قال : مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قالت : وفِّقت ، والذي نفس أم سلمة بيده لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ولقد بعثت ابني عمر ، وابن أخي عبدالله ـ أبي أميَّة ـ وأمرتهما أن يقاتلا مع علي من قاتله ، ولو لا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا أن نقرَّ في حجالنا أو في بيوتنا ، لخرجت حتى أقف في صفِّ عليٍّ عليه‌السلام.

٢ ـ الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : ١ / ٢١٨ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٢٩ / ٦٤٧.

١٤٢

المناظرة السادسة والثلاثون

مناظرة

رجل مع قاضي بغداد في تصدُّق أميرالمؤمنين عليه‌السلام بالخاتم

قال السيِّد نعمة الله الجزائري عليه الرحمة : حكى لي بعض إخواني ، قال : كنت جالساً في بعض الأيَّام عند قاضي بغداد الحنفي ، فسمعنا سائلا يقرأ قصيدة التصدُّق بالخاتم ، فقال لي : اسمع هؤلاء الروافض كيف نظموا القصائد في مدح علي بن أبي طالب عليه‌السلام على تصدُّقه بخاتم ما تبلغ قيمته أربعة دراهم ، وأبو بكر الصدّيق تصدَّق بجميع ماله ، ولم يذكره أحد في نظم ولا نثر.

فقلت له : أصلح الله القاضي ، ليس للروافض ذنب في هذا المعنى ، إن كان شيءٌ فهو من عالم الملكوت ، لأنه أنزل في ذلك الخاتم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة (١) ، ولم ينزل في شأن أبي بكر آية ولا سورة مع تصدُّقه بالمال الجزيل (٢).

__________________

١ ـ روى ابن عساكر بالإسناد عن علي عليه‌السلام قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد ، والناس يصلّون بين راكع وقائم يصلّي ، فإذا سائل ، فقال : يا سائل! هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال : لا إلاَّ هذاك الراكع ـ لعلي ـ أعطاني خاتمه. تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

وروى الحاكم الحسكاني بالإسناد عن ابن عباس في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ

١٤٣

فحرَّك يده وقال : يا أخي! خطر هذا في بالي أيضاً ، ولكن كيف الحيلة؟! (١)

__________________

وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) قال : نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١ / ٢٠٩ ح ٢١٦.

وراجع ـ أيضاً ـ من المصادر : أسباب النزول ، الواحدي : ١٣٣ ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : ٢٦٤ ح ٢٤٦ و ٢٦٦ ح ٢٤٨ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٧٧ ، وراه أيضاً الحافظ أبو نعيم الإصبهاني في كتابه : ما نزل من القرآن في علي عليه‌السلام ، زاد المسير ، ابن الجوزي : ٢ / ٢٩٢ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٢١ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٧٤ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٢٩٤ ، نظم درر المسطين ، الزرندي : ٨٦ ـ ٨٨.

وقال شرف الدين الحسيني عليه الرحمة في تأويل الآيات : ١ / ١٥٣ ح ١١ : ونقل ابن طاووس : أن محمّد بن العباس روى حكاية نزول الآية الكريمة ، والولاية العظيمة من تسعين طريقاً ، بأسانيد متّصلة ، كلّها من رجال المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام ، ثم عدَّد الرواة وسمَّاهم.

ومما اشتهر ـ أيضاً ـ في هذه المنقبة الشريفة ما أنشده حسان بن ثابت ، قال :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبر ضائعا

وما المدح في جنب الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية

فبيَّنها في محكمات الشرائع

المناقب ، الموفّق الخوارزمي : ٢٦٥ ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١ / ٢٣٦ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٨٨.

٢ ـ ويروى ـ أيضاً ـ أن عمر تصدَّق بأربعين خاتماً رجاء أن ينزل فيه شيءٌ فلم ينزل ، وروي أن عمر بن الخطاب قال : والله لقد تصدَّقت بأربعين خاتماً وأنا راكع ، لينزل فيَّ ما نزل في علي بن أبي طالب عليه‌السلام فما نزل. الأمالي ، الصدوق : ١٨٦ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢ / ٢٠٩.

وفي رواية أخرى عن عمر أنه قال : أخرجت من مالي صدقة يتصدَّق بها عنّي وأنا راكع أربعاً وعشرين مرّة على أن ينزل فيَّ ما نزل في علي عليه‌السلام فما نزل. تأويل الآيات ، شرف الدين الحسيني : ١ / ١٥٣.

١ ـ زهر الربيع ، الجزائري : ٢٨ ـ ٢٩.

١٤٤

المناظرة السابعة والثلاثون

مناظرة

السيِّد الفندرسكي مع سلطان الهند في شتم معاوية

حكي : أن الأمير فندرسكي في أثناء سياحته وصل إلى الهند ، فطلب السلطان منه لقاءه ، فامتنع السيِّد لكون السلطان سنّياً ، وبعد الإصرار قبله بشرط عدم مذاكرات مذهبيّة ، ولكن بعد اللقاء قال السلطان : وإن كان شرط اللقاء عدم البحث في المذهب ولكنّي أسألكم سؤالا واحداً في سبّ معاوية لأيِّ جهة هو؟

قال السيِّد : لو فرضنا أنّك كنت في الحرب بين علي عليه‌السلام ومعاوية موجوداً ، بأمر أيِّهما كنت ممتثلا؟

قال السلطان : كنت أطيع أمر علي عليه‌السلام ; لكونه خليفة بالإجماع ، وكون مخالفته كفراً.

قال السيِّد : لو أمرك عليٌّ عليه‌السلام بمبارزة معاوية ، تطيعه أو تعصيه؟

قال السلطان : لقد كنت أطيعه ; لكون خلافه كفراً.

قال السيِّد : فحينئذ لو سلَّ معاوية سيفه وأراد قتلك ، هل كنت تقتله ، أو تهرب من الجهاد ، أو كنت تقتل نفسك؟

قال السلطان : كنت أقتله قطعاً.

١٤٥

قال السيِّد : تعدُّ قتله طاعة أو معصية؟

قال السلطان : أعدُّه طاعة ; لكونه طاعة لعليٍّ عليه‌السلام.

قال السيِّد : فمن كنت تقتله وتستبيح دمه تسألني عن سبِّه أنه يجوز أو لا يجوز؟! (١).

__________________

١ ـ روضة المؤمنين : ١٢٥ ، زهر الربيع ، الجزائري : ٣٢٣ ، مواقف الشيعة ، الأحمدي : ٣ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

١٤٦

المناظرة الثامنة والثلاثون

مناظرة

مع شيخ من أهل الشام جاء لمناظرة

العلامة الحلي رحمه‌الله في الفرقة الناجية

جاء في كتاب التحفة الشاهية (١) : أنَّه ـ بعد أن ذاع صيت اجتهاد شيخ الطائفة الإمامية في زمانه ، ووجههم ورئيسهم في ذلك الزمان ، وهو جمال الملّة والدين ، الحسن بن المطهَّر الحلي ، روَّح الله روحه ، وأسكنه بحبوحة جنَّاته ـ أنه قدم أحد المشائخ ، وكان ساكناً بأرض الشام ، فحينما سمع بأن العلامة على مذهب الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ، وأن الأحاديث والأخبار الشريفة تدل على أحقّيّتهم ، وأنهم على سنَّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافر من بلده إلى الحلّة قاصداً مناظرة العلاّمة ـ عليه الرحمة ـ وإفحامه.

وحينما وصل خبر وصوله إلى الحلّة خرج اثنان من تلامذة العلامة لاستقباله ، وليمتحنوا قدرته على مناظرة العلامة ، ومدى معرفته بالعلوم ليخبروا

__________________

١ ـ قد تفضل علينا بهذه المناظرة وترجمها إلى العربية صديقنا فضيلة العلامة المحقق الشيخ محمّد رضا الأنصاري جزاه الله خير الجزاء.

١٤٧

العلامة بذلك.

وحينما التقوا بالشيخ الشامي سألوه عن الحديث المرويّ المشهور : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّهم في النار إلاَّ واحدة (١) ، وأنه هل ثبت صحّة هذا الحديث عنده أم لا؟

فقال : نعم.

__________________

١ ـ روى الخزاز القمّي عليه الرحمة في كفاية الأثر : ١٥٥ ، عن يحيى البكا ، عن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية ، والباقون هالكة ، والناجية الذين يتمسَّكون بولايتكم ، ويقتبسون من علمكم ، ولا يعملون برأيهم ، فأولئك ما علهيم من سبيل ، فسألت عن الأئمة ، فقال : عدد نقباء بني إسرائيل.

وجاء في مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ١٢٠ ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن بني إسرائيل قد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وأنتم تفترقون على مثلها ، كلّها في النار إلاَّ فرقة. وجاء في ص ١٤٥ عن أنس أيضاً مثله ، وفيه : فتهلك إحدى وسبعين ، وتخلص فرقة ..

وفي سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢٢ ح ٣٩٩٢ : عن عوف بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي نفس محمّد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنّة ، وثنتان وسبعون في النار.

وراجع أيضاً : المستدرك ، الحاكم : ١ / ١٢٩ ، المصنّف ، عبدالرزاق : ١٠ / ١٥٦ ح ١٨٦٧٤ و ١٨٦٥٧ ، المعجم الصغير ، الطبراني : ١ / ٢٥٦.

وروى البيهقي في السنن : ١٠ / ٢٠٨ ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. قال : قال أبو سلميان الخطابي : قوله : وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فيه دلالة على أن هذه الفرق كلّها غير خارجين من الدين ; إذ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلهم كلّهم من أمته.

أقول : هذا الكلام غير صحيح وذلك لأنّه : أولا تنافيه الروايتان السابقتان المرويَّتان عن أنس وعوف بن مالك ; إذ هما صريحتان في كون سائر الفرق هالكة وأنها في النار إلاَّ واحدة ، ومعه كيف يصحّ عدّ سائر الفرق غير خارجة من الدين؟ وأيُّ خروج أعظم ممَّا يؤول إلى الهلاك وإلى النار؟

وثانياً : كون الشخص من أمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعطيه أماناً من عدم الخروج من الدين ومن الهلاك ومن النار ; إلا إذا كان من أهل الفرقة الناجية ـ بشرطها وشروطها ـ فكون الشخص من الأمة يعني أنه من أهل الإسلام له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وأنه محقون الدم والمال والعرض .. الخ.

١٤٨

فسألوه : هل أن الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام الذين يعتقد فيهم الشيعة العصمة والطهارة ، وأنهم أئمّة تجب طاعتهم داخلون في هذه الفرقة ، أم أنهم داخلون في الفرقة الهالكة؟

فلم يلتفت إليهم الشيخ الشامي ، ولم يجبهم ، ثم قفل عائداً إلى الشام وتركهم.

ويقال : إنه حينما سألوه عن السبب في عدم إجابتهم قال لهم : لأني كنت عاجزاً عن إجابتهم شِقَّي السؤال ; لأنه لو أجبتهم بدخول هؤلاء في الفرقة الناجية فإنه يستلزم الاعتراف بنجاة الفرقة الإماميّة ، وأدخل نفسي في الفرقة الهالكة ، وإن لم أعترف بدخولهم ـ والعياذ بالله ـ في الفرقة الناجية فإني أدخل في زمرة الكفرة والمخلدين في النار (١).

__________________

١ ـ التحفة الشاهية ، عبدالخالق قاضي زاده : ٣٥ ـ ٣٦.

١٤٩

المناظرة التاسعة والثلاثون

مناظرة

الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي

مع بعض فضلاء حلب (١)

قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي عليه الرحمة : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على ما أنعم به فكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، محمَّد النبيِّ الأُمّيِّ وأهل بيته ذوي الكرم والوفاء. أمَّا بعد :

فهذه صورة بحث وقع لهذا الفقير إلى رحمة ربه الغنيّ ، حسين بن

__________________

١ ـ قد ذكرنا في الجزء الأول من المناظرات في العقائد : ص ٤٨١ مناظرة مع بعض فضلاء حلب ، ولم نعرف آنذاك صاحبها ، وهي مخطوطة من مكتبة المرعشي النجفي ، بقلم ناسخها : محمّد بن عبد الإله السلامي ، سنة خمس وتسعين وتسعمائة ، وقد قارنتها بهذه المناظرة التي هي للشيخ حسين بن عبد الصمد والتي وقعت سنة واحد وخمسين وتسعمائة ، فوجدت بينهما بعض الالتقاء في مواضيعهما ، وأقرب الظنّ أنها هي نفسها مع وجود بعض الفوارق ، ويحتمل أن الشيخ حسين بن عبدالصمد قد كتب هذه المناظرة بقلمه الشريف مرّتين ـ مع وجود الزيادة والنقيصة والإطناب والاختصار في بعض بحوثهما والله العالم.

وهذه المناظرة أوسع وأكمل ، والأولى ـ أيضاً ـ تحتوي على بعض البحوث المهمّة التي لا توجد في الثانية ، وقد وجدنا هذه المناظرة مطبوعة بتحقيق شاكر شبع ، جزاه الله خيراً.

١٥٠

عبدالصمد الجبعي ، في حلب ، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة ، أضافني بعض فضلاء حلب ، وكان ذكيّاً بحّاثاً ، ولي معه خصوصية وصداقة وكيدة بحيث لا أتّقيه ، وكان أبوه من أعيانها.

فقلت له : إنه يقبح بمثلي ومثلك ـ بعد أن صرف كل منّا عمره في تحصيل العلوم الإسلاميّة وتحقيق مقدماتها ـ أن يقلِّد في مذهبه الذي يلقى الله به ، والتقليد مذموم بنصّ القرآن ، وليس حجَّةً منجية ; لأن كل أحد يقلِّد سلفه ، فلو كان حجَّةً كان الكل ناجين ، وليس كذلك.

فقال : هلمَّ حتى نبحث.

البحث في اتباع المذاهب الأربعة

فقلت : هل عندكم نصٌّ من القرآن ، أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجوب اتّباع أبي حنيفة؟

فقال : لا.

فقلت : هل أجمع أهل الإسلام على وجوب اتّباعه؟

فقال : لا.

فقلت : فما سوَّغ لك تقليده؟

فقال : إنّه مجتهد وأنا مقلِّد ، والمقلِّد فرضه أن يقلِّد مجتهداً من المجتهدين.

فقلت : فما تقول في جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام؟ هل كان مجتهداً من المجتهدين؟

فقال : هو فوق الاجتهاد ، وفوق الوصف في العلم والتقى والنسب وعظم الشأن ، وقد عدَّ بعض علمائنا من تلاميذه نحو أربعمائة رجل ، كلّهم علماء فضلاء مجتهدون ، وأبو حنيفة أحدهم.

١٥١

فقلت : قد اعترفت باجتهاده وتقواه ، وجواز تقليد المجتهد ، ونحن قد قلَّدناه ، فمن أين تعلم أنَّا على الضلالة وأنَّكم على الهداية؟! مع أنّا نعتقد عصمته ، وأنّه لا يخطئ ، بل ما يحكم به هو حكم الله ، ولنا على ذلك أدلّة مدوَّنة ، وليس كأبي حنيفة يقول بالقياس والرأي والاستحسان ويجوز عليه الخطأ ، وبعد التنزُّل عن عصمته ، والاعتراف بأنه يقول بالاجتهاد كما تزعمون ، فلنا دلائل على وجوب اتّباعه ليس في أبي حنيفة واحد منها.

أحدها : إجماع كل أهل الإسلام ـ حتى الأشاعرة والمعتزلة ـ على غزارة علمه ، ووفور تقواه ، وعدالته ، وعظم شأنه ، بحيث إني إلى يومي هذا ـ مع كثرة ما رأيت من كتب أهل الملل ، والتواريخ والسير ، وكتب الجرح والتعديل ، ونحو ذلك ـ لم أرَ قطّ طاعناً عليه بشيء من مخالفيه ، وأعداء شيعته ، مع كثرتهم ، وعظم شأنهم في الدنيا ; لأنهم كانوا ملوك الأرض ، والناس تحبُّ التقرُّب إليهم بالصدق والكذب ، ولم يقدر أحد أن يفتري عليه كذباً في الطعن ليتقرَّب به إلى ملوك عصره ، وما ذاك إلاَّ لعلمه أنه إن افترى كذباً كذَّبه كل من سمعه ، وهذه مزيَّة تميَّز هو وآباؤه وأبناؤه الستّة بها عن جميع الخلق.

فكيف يجوز ترك تقليد من أجمع الناس على علمه وعدالته وجواز تقليده ، ويقلَّد من وقع فيه الشك والطعن؟! مع أن الجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر في موضعه ، وهذا إمامكم الغزالي صنَّف كتاباً سمَّاه : المنخول ، موضوعه الطعن على أبي حنيفة ، وإثبات كفره بأدلّة يطول شرحها ، وصنَّف بعض فضلاء الشافعية كتاباً سمَّاه : النكت الشريفة في الردّ على أبي حنيفة ، رأيته في مصر ، ذكر فيه جميع ما ذكره الغزالي وزاد أشياء أخر.

ولا شبهة في وجوب تقليد المتّفق على علمه وعدالته ; لأن ظنّ الصواب

١٥٢

معه أغلب ، ولا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح إجماعاً ، والجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر.

ثانيها : أنَّه ـ عندنا ـ من أهل البيت المطهَّرين عليهم‌السلام بنصّ القرآن ، والتطهُّر هو : التنزُّه عن الآثام ، وعن كل قبيح ، كما نصَّ عليه ابن فارس في مجمل اللغة ، وهذا نفس العصمة التي يدّعيها الشيعة ، وأبو حنيفة ليس منهم إجماعاً ، ويتحتَّم تقليد المطهَّر بنصّ القرآن ، لتيقُّن النجاة معه.

قال : نحن لا نسلِّم أنه من أهل البيت عليهم‌السلام ; إذ قد صحَّ في أحاديثنا أنهم خمسة.

فقلت : سلَّمنا أنه ليس من الخمسة ، ولكن حكمه حكمهم في العصمة ، ووجوب الاتّباع لوجهين :

الأول : إن كل من قال بعصمة الخمسة قال بعصمته ، ومَنْ لا فلا ، وقد ثبتت عصمة الخمسة بنصّ القرآن ، فثبتت عصمته ; لأنه قد وقع الإجماع على أنّه لا فرق بينه وبينهم ، فالقول بعصمتهم دونه خلاف إجماع المسلمين.

الثاني : إنه اشتهر بين أهل النقل والسير أن جعفر الصادق وآباءه عليهم‌السلام لم يتردَّدوا إلى مجالس العلماء أصلا ، ولم ينقل أنهم تردَّدوا إلى مخالف ولا مؤالف ، مع كثرة المصنِّفين في الرجال ، وطرق النقل ، وتعداد الشيوخ والتلاميذ ، وإنّما ذكروا أنه أخذ العلم عن أبيه محمّد الباقر عليه‌السلام ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين عليه‌السلام ، وهو أخذه عن أبيه الحسين عليه‌السلام ، وهو من أهل البيت عليهم‌السلام إجماعاً.

وقد صحَّ عندنا أنهم عليهم‌السلام لم يكن قولهم بطريق الاجتهاد ، ولهذا لم يسأل أحد قط صغيراً ولا كبيراً عن مسألة فتوقَّف في جوابها ، أو احتاج إلى مراجعة ، وقد صرَّحوا عليهم‌السلام أن قول الواحد منهم كقول آبائهم ، وقول آبائهم كقول

١٥٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثبت ذلك عندنا بالطرق الصحيحة المتّصلة بهم ، فقوله عليه‌السلام هو قول المطهرَّين بنصّ القرآن.

وثالثها : ما ثبت في صحاح أحاديثكم بالطرق الصحيحة المتكثِّرة ، المتّحدة المعنى ، المختلفة اللفظ ، من قوله عليه‌السلام : إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض (١).

وفي بعض الطرق : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله وعترتي (٢) ، فصرَّح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن المتمسِّك بكتاب الله وعترته لن يضلَّ ، ولم يتمسَّك بهما إلاَّ الشيعة كما لا يخفى ; لأن الباقين جعلوا عترته كباقي الناس ، وتمسَّكوا بغيرهم ، ولم يقل : مخلِّف فيكم كتاب الله وأبا حنيفة ، ولا الشافعي.

فكيف يجوز ترك التمسُّك بمن تتحقَّق النجاة بالتمسُّك به ، ويتمسَّك بمن لم تعلم النجاة معه؟! إن هذا إلاَّ لمحض السفه والضلال ، وهذا يقتضي العلم بوجوب اتّباعهم ، وإن نوزع فيه فلا ريب في اقتضائه ظنَّ وجوب الاتّباع ، وذلك

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٣٦٧ ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ٢٢ ، صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ١١٠ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٢ / ١٤٨ و ٧ / ٣٠ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ٥١ ، مسند أبي يعلى الموصلي : ٢ / ٢٩٧ ح ٤٨ و ٣٠٣ و ٥٤ ، والمعجم الكبير ، الطبراني : ٥ / ١٥٤ ح ٤٩٢٣ وص ١٦٦ ، ذيل تاريخ بغداد ، ابن النجار البغدادي : ٥ / ١٤ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ٢٠٠ ، ينابيع المودة ، القندوزي : ١ / ١٢١ ح ٤٩.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ١٨١ ـ ١٨٢ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٥ / ١٥٣ ـ ١٥٤ ح ٤٩٢١ و ٤٩٢٢ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١ / ١٧٢ ح ٨٧٢ و ١٨٦ ح ٩٤٧ و ٣٨٤ ح ١٦٦٧ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٦٠ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ١ / ١٧٠ ، وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون ، وذكره أيضاً في : ٩ / ١٦٢ ـ ١٦٣ وقال : رواه أحمد وإسناده جيّد.

١٥٤

كاف لوجوب العمل بالراجح ، واختيارهم عليهم‌السلام بهذه المرجِّحات على غيرهم من المجتهدين ، فلا يكون العدول عنهم إلاَّ اتّباعاً للهوى والتقليد المألوف.

فقال : أنا لا أشك في اجتهادهم ، وغزارة علمهم ، ونجاة مقلِّدهم ، ولكن مذهبهم لم ينقل ولم يشتهر ، كما نقلت المذاهب الأربعة.

فقلت : إن كان مرادك أن الحنفيّة والشافعيّة لم ينقلوه ، فمسلَّم ، ولكن لا يضرُّنا ; لأنَّا لم ننقل مذهبهما أيضاً ، والشافعيَّة لم ينقلوا مذهب أبي حنيفة ، وبالعكس ، وكذا باقي المذاهب ، وليس ذلك طعناً فيها عندكم.

وإن كان مرادك أنه لم ينقله أحد من المسلمين ، فهذه مكابرة محضة ; لأن شيعتهم ، وكثيراً من أهل السنة وباقي الطوائف قد نقلوا أقوالهم وآدابهم وعباداتهم ، واعتنى الشيعة بذلك أشدَّ الاعتناء ، وبحثوا عن تصحيح الناقلين وجرحهم وتعديلهم أشدَّ البحث ، وهذه صحاح أحاديثهم وكتب الجرح والتعديل عندهم مدوَّنة مشهورة بينهم ، لا يمكن إنكارها.

وعلماء الشيعة وإن كانوا أقلَّ من علماء السنة ، ولكن ليسوا أقلَّ من فرقة من فرق المذاهب الأربعة ، خصوصاً الحنابلة والمالكيّة ، فإن الشيعة أكثر منهم يقيناً ، ولم يزل ـ بحمد الله ـ علماء الشيعة في جميع الأعصار أعلم العلماء وأتقاهم ، وأحذقهم في فنون العلوم ، أمَّا في زمن الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام فواضح أنه لم يساوهم أحد في علم ولا عمل ، حتى فاق تلاميذهم ، واشتهروا بغزارة العلم ، وقوّة الجدال ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، وجميل بن درّاج ، وزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأشباههم ممّن عرفهم مخالفوهم في المذهب ، وأثنوا عليهم بما لا مزيد عليه.

وأمَّا بعد زمان الأئمَّة فمنهم مثل ابن بابويه ، والشيخ الكليني ، والشيخ

١٥٥

المفيد ، والشيخ الطوسي ، والسيِّد المرتضى ، وأخيه ، وابني طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وميثم البحراني ، والشيخ أبي القاسم المحقِّق ، والشيخ جمال الدين ابن المطهَّر الحلي ، وولده فخر المحقِّقين ، وأشباههم من المشايخ المشاهير ، الذين قد ملأوا الخافقين بمصنَّفاتهم ومباحثهم ، ومن وقف عليها علم علوَّ شأنهم ، وبلوغهم مرتبة الاجتهاد وقوَّة الاستنباط ، وإنكار ذلك إمَّا لتعصُّب أو جهل.

فقد لزمك القول بصحّة مذهبنا ، وأرجحيَّة من قلَّدناه ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الإنصاف ، ولا يلزمنا القول بصحّة مذهبك ; لأنّا قد شرطنا في المتَّبع العصمة ، فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعاً ، وأنتم وإن لم تقولوا بصحّة مذهبنا ، ولكن يلزمكم ذلك بحسب قواعدكم ; للدليل المسلَّم المقدّمات عندكم ; إذ سبب نجاتكم أنكم قد قلَّدتم مجتهداً ، وهذا بعينه حاصل لنا باعترافكم ، مع ترجيحات فيمن اتّبعناه لا يمكنكم إنكارها.

البحث في عدالة الصحابة

فبهت ، ولم يجب بشيء.

ولكن عدل عن سوق البحث ، وقال : إني أسألكم عن سبِّكم أكابر الصحابة ، وأقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذين نصروه بأموالهم وأنفسهم ، حتى ظهر الدين بسيوفهم ، في حياته وبعد موته ، حتى فتحوا البلاد ، ونصروا دين الله بكل ما أمكنهم ، والفتوحات التي فتحها عمر لم يقع مثلها في زمن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمصر والشام ، وبيت المقدس ، والروم والعراق وخراسان ، وعراق العجم ، وتوابع ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن إنكاره ، كما لا يمكن إنكار قوَّته في الدين

١٥٦

وسطوته ، وشدّة بأسه ، وإني إذا نظرت في أدلّتكم وجدتها واضحة قويَّة ، وإذا رأيت من مذهبكم سبّ أكابر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخواصّه ، الذين سبقوا في الإسلام ، وكانوا من المقرَّبين عنده حتى تزوَّج بناتهم ، وزوَّجهم بناته ، ومدحهم الله في كتابه بقوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (١) إلى آخر الآية ، فإذا رأيت ذلك نفرت نفسي ، وجزمت بفساد مذهبكم.

فقلت له : ليس في مذهبنا وجوب سبِّهم ، وإنَّما يسبُّهم عوام الناس المتعصِّبون ، وأمَّا علماؤنا فلم يقل أحد بوجوب سبِّهم ، وهذه كتبهم موجودة ، وأقسمت له أيماناً مغلَّظة بأنّه لو عاش أحد ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ويتولاَّهم ، ويتبرَّأ من أعدائهم ، ولم يسبَّ الصحابة قط ، لم يكن مخطئاً ، ولا في إيمانه قصور ، فتهلَّل وجهه ، وأنس بذلك ; لأنه صدَّقني فيه.

فقلت له : إذا ثبت عندك غزارة علم أهل البيت عليهم‌السلام ، واجتهادهم ، وعدالتهم ، وترجيحهم على غيرهم ، فهم أولى بالاتّباع ، فتابعهم.

فقال : أشهد على أني متابع لهم ، ولكني لا أسبُّ الصحابة.

فقلت : لا تسبَّ أحداً منهم ، ولكن إذا اعتقدت عظم شأن أهل البيت عليهم‌السلام عند الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما تقول فيمن عاداهم وآذاهم؟

فقال : أنا بريء منهم.

فقلت : هذا يكفيني منك ، فأشهد الله ورسوله وملائكته أنه محبٌّ لهم ومتابع ، وبريء من أعدائهم ، وطلب منّي كتاباً في فقههم ، فدفعت إليه النافع ،

__________________

١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

١٥٧

وتفرَّفنا.

ثم رأيته بعد ذلك في غضب وتكدُّر من التشيُّع ، بواسطة ما رسخ في قلبه من عظم شأن الصحابة ، واعتقاده أن الشيعة تسبُّهم.

فقلت له في ليلة أخرى : إن عاهدت الله على الإنصاف ، وكتم الأمر عليَّ ، بيَّنت لك أمر السبِّ ، فعاهد الله على ذلك ما دمت حيّاً بأيمان مغلَّظة ، ونذور مؤكَّدة ، وسألته : ما تقول في الصحابة الذين قتلوا عثمان؟

فقال : إن ذلك وقع باجتهادهم ، وإنهم غير مأثومين ، وقد صرَّح أصحابنا بذلك.

فقلت : وما تقول في عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم ، الذين حاربوا عليّاً عليه‌السلام يوم الجمل ، وقتل في حربهم من الفريقين نحو ستة عشر ألفاً؟ وما تقول في معاوية وأصحابه ، الذين حاربوا في صفّين ، وقتل من الفريقين ( نحو ) ستين ألفاً؟

فقال : كالأول.

فقلت : هل جواز الاجتهاد مقرٌّ على فرقة من المسلمين دون فرقة؟

قال : لا ، كل أحد له صلاحيَّة الاجتهاد.

فقلت : إذا جاز الاجتهاد في قتل أكابر الصحابة ، وقتل خلفاء المؤمنين ، وحرب أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابن عمّه ، وزوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، أعلم الخلق ، وأزهدهم ، وأقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووارث علمه ، الذي قام الإسلام بسيفه ، ومن أثنى عليه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا يمكن إنكاره ، حتى جعله الله وليَّ الناس كافّة بقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) (١) يعني

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

١٥٨

عليّاً عليه‌السلام بالإجماع ، وقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (١) ، أنا مدينة العلم وعلىٌّ بابها (٢) ، اللَّهُمَّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك (٣) ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى (٤) ، وأشباه ذلك ممَّا يطول تعداده ، فلم لا يجوز الاجتهاد في سبِّ بعض الصحابة؟!

فإنّا لا نسبُّ إلاَّ من علمنا أنه أظهر العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ، ونحبُّ المخلصين منهم ، الحافظين وصيَّة الله ورسوله فيهم ، كسلمان ، والمقداد وعمَّار ، وأبي ذر ، ونتقرَّب إلى الله بحبِّهم ، ونسكت عن المجهول حالهم ، هذا اعتقادنا

__________________

١ ـ سوف يأتي الحديث مع تخريجاته في مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني.

٢ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٣ ـ روى النسائي ، عن أنس بن مالك أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عنده طائر ، فقال : اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطير ، فجاء أبو بكر فردَّه ، وجاء عمر فردَّه ، وجاء عليٌّ فأذن له.

راجع : السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ١٠٧ ح ٨٣٩٨ ، خصائص أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، النسائي : ٥١ ـ ٥٢ ، مسند أبي يعلى الموصلي : ٧ / ١٠٥ ح ٤٠٥٢ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٤ / ٣٠.

وروى الترمذي بالإسناد عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي هذا الطير ، فجاء عليٌّ فأكل معه.

راجع : سنن الترمذي : ٥ / ٣٠٠ ح ٣٨٠٥ ، التاريخ الكبير ، البخاري : ١ / ٣٥٨ ، رقم : ١١٣٢ ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي ٣ / ٣٩٠ ، رقم : ١٥٣١ ، مناقب أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، الكوفي : ٢ / ٤٨٩ ح ٩٩٣ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٢٤٥ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٧ / ٣٨٧ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ١٠٧ ـ ١٠٨ ح ١١٤ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١ / ٢٥٣ ح ٧٣٠ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٦١ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ١٢٦ ، وقال : رواه البزار والطبراني باختصار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٨ / ٢٤ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ١٠١ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٣ / ١٦٦ ح ٣٦٥٠٥.

٤ ـ تقدَّمت تخريجاته.

١٥٩

فيهم.

وهذا معاوية قد سبَّ عليّاً وأهل بيته عليهم‌السلام ، واستمرَّ ذلك في زمن بني أميَّة ثمانين سنة ، ولم ينقص ذلك من قدره عندكم ، وكذلك الشيعة اجتهدوا في جواز سبِّ أعداء أهل البيت منهم ، ولو كانوا مخطئين فيهم غير مأثومين.

ومدح الله تعالى لهم في القرآن نقول به ; لأنهم ممدوحون بقول مطلق ; لأن فيهم أتقياء أبراراً ، وليس كلّهم كذلك جزماً ، وحديث الحوض يوضح ذلك (١).

وأيضاً فيهم منافقون بنصّ القرآن ، فلا يمنع مدح الله لهم فسق بعضهم أو كفره ، واجتهادنا في جواز سبِّ ذلك البعض.

فقال كالمتعجِّب : أو يجوز الاجتهاد بغير دليل؟!

فقلت : أدلّتهم في ذلك كثيرة واضحة.

فقال كالمستبعد : بيِّن لي منها واحداً.

فقلت : سأذكر لك ما لا يمكنك إنكاره ، وذلك أنه قد ثبت عندكم وعندنا أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمَّا جعل أسامة بن زيد أميراً ، وجهَّزه إلى الشام أمر الصحابة عموماً باتّباعه ، وخصَّص أبا بكر وعمر وأمرهما باتّباعه ، وقال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عن جيش أسامة (٢) ، وقد تخلَّف الرجلان بإجماع المسلمين ، فكانا مشمولين بنصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصّ الله ; لأنه لم ينطق عن الهوى.

فقال : إنما تخلَّفا باجتهاد ، وشفقة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وقالا : كيف نمضي ونترك نبيَّنا مريضاً ، نسأل عنه الركبان؟! ورأيا صلاح المسلمين في

__________________

١ ـ سوف يأتي قريباً.

٢ ـ السقيفة وفدك ، الجوهري : ٧٧ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ٥٢ ، وراجع المصادر الأخرى في الجزء الثالث : ٤٢٣.

١٦٠