مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

وأعتمد على بعضها ، إذ كان شرح ذلك يطول.

وهو أن يقال لهم : إن كان دعاء العباس أميرالمؤمنين عليه‌السلام إلى البيعة يدلُّ على ما زعمتم من بطلان النصِّ وثبوت الإمامة من جهة الاختيار فيجب أن يكون دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ، ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان ، دليلا على أن نبوَّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما ثبتت له من جهة الاختيار ، فإنّه لو كان ثابت الطاعة من قبل الله عزَّ وجلَّ وإرساله له ، وكان المعجز دليل نبوَّته ، لا ستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى ، فإن قلتم ذلك خرجتم عن الملّة ، وإن أثبتموه نقضتم العلّة عليكم.

فإن قالوا : إنّ بيعة الناس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تك لإثبات نبوَّته ، وإنما كانت للعهد في نصرته ، بعد معرفة حقِّه وصدقه فيما أتى به عن الله عزَّ وجلَّ من رسالته.

قيل لهم : أحسنتم في هذا القول ، وكذلك كان دعاء العباس أميرالمؤمنين عليه‌السلام إلى بسط اليد إلى البيعة ، فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته ، والحرب لمخالفيه وأهل مضادّته ، ولم يحتج عليه‌السلام إليها في إثبات إمامته.

ويدلُّ على ما ذكرناه قول العباس : يقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك إثنان ، فعلَّق الاتفاق بوقوع البيعة ، ولم يكن لتعلُّقه بها إلاَّ وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ، ويحذرون من الخلاف ، ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف ، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتُّت الرأي ، وتعلُّق كل قبيل باجتهاده واختياره.

أو لا ترى إلى جواب أميرالمؤمنين عليه‌السلام بقوله : يا عمّ! إن لي برسول

٣٢١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم شغل عن ذلك ، ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ، ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أو لا ترى أنه لما ألحَّ عليه العباس في هذا الباب قال : يا عمّ! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إليَّ ، وأوصاني أن لا أجرِّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً ، وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لي مخرجاً ، فدلَّ ذلك أيضاً على أن البيعة إنّما دعا إليها للنصرة والحرب ، وأنّه لا تعلُّق لثبوت الإمامة بها ، وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه.

ووجه آخر وهو : أنَّ القوم لمَّا أنكروا النصَّ ، وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من طريق الاختيار ، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ، ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقاً لهم إلى الظلم ، وجحد النصِّ ، فقال لأميرالمؤمنين عليه‌السلام : ابسط يدك أبايعك ، فإن سلَّموا الحقَّ لأهله لم تضرَّك البيعة ، وإن ادّعوا الشورى والاختيار ، وأنكروا حقَّك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم ، فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك ، فأبى أميرالمؤمنين عليه‌السلام ذلك ، وكره أن يتوصَّل إلى حقِّه بباطل لا يوصل إليه ، وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النصِّ عليه ، ولأنّه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه الأمر ، فلا يستقيم له ـ مع الاختيار وعقد القوم له ـ أن يلزم التقيّة ، وقد تقدَّمت الوصيَّة له من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكفِّ عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام.

وقد بيَّن ذلك في مقاله عليه‌السلام ، حيث يقول : أما والله ، لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم ، فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه.

فإن قال بعضهم في هذا الجواب : قد وصل إلى حقِّه كما زعمتم بعد عثمان بالاختيار ، ودخل في الشورى ، فكيف استجاز التوصُّل إلى الحقِّ بالباطل على

٣٢٢

ما فهمناه عنكم من الجواب؟

قيل له : يقول القوم : إنّما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النصِّ عليه في تلك الأحوال ، واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقِّه ، فلم يجد إذ ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاضطرَّ إلى التوصُّل إلى حقِّه من حيث جعلوه طريقاً إلى التأمير على الناس ، على أن القوم جمعوا بين علّتين : إحداهما ما ذكرناه ، والأخرى ما أردفناه المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ، ولم يكن في الأول يجوز له ذلك ; للوصيَّة المتقدِّمة من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكفِّ عن السيف ، ولما رآه في ذلك من الاستصلاح ، وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه ، وهذا يبطل ما تعلَّقتم به.

ووجه آخر ـ وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال ، والمعوَّل عليه دون ما سواه ـ وهو : أن أميرالمؤمنين عليه‌السلام لم يتوصَّل إلى حقِّه في حال من الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنَّه الخصوم.

وذلك أنّه عليه‌السلام احتجَّ في يوم الشورى بنصوص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجبة له فرض الطاعة ، كقوله : أفيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، غيري؟ أفيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي ، غيري؟

وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه ، بدليله المغني له عن اختيار العباد ، ولمَّا قتل عثمان لم يدع أحداً إلى اختياره ، لكنَّه دعاهم إلى بيعته على النصرة له ، والإقرار بالطاعة ، وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون شيء على كل حال ، والجواب الأول لي خاصة ، والثاني لأصحابنا ، وقد نصرته بموجز من الكلام ... (١).

__________________

١ ـ الفصول المختارة ، المفيد : ٢٤٩ ـ ٢٥٢.

٣٢٣

المناظرة الستون

مناظرة

الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا

في أمر الصحابة واجتهاداتهم

يقول الدكتور التيجاني السماوي في حديثه عن رحلته إلى كينيا ، وتعرُّفه على الشيخ علي في كينيا ، وكان هو إمام الجماعة هناك ، وله شعبيَّة واسعة ، ويحفُّ به طلاب العلم وعامة الناس ، وكان على مذهب السنة :

وفي الصباح جاء الأصدقاء مهنئين ومباركين ليتناولوا فطور الصباح عندي ، وكان من بينهم الشيخ علي ، وقد حمل كل منهم إليَّ هديَّة بسيطة ، واغتنمتها فرصة ، فأهديت لكل واحد منهم نسخة من كتاب : ثم اهتديت ، وطلبت من الشيخ علي أن يقرأه ويعطيني رأيه ، وأشعرته بأن مكانته العلميَّة ، وكثرة اطلاعاته تبوِّئه رئاسة الجميع ، وإنّي شخصيّاً مهتمٌّ بأفكاره وكل ما يصدر عنه.

وبعد أسبوع دعاني وزوجتي للعشاء عنده في بيته ، وجلست معه وبعض الأصدقاء على الطعام ، بينما دخلت الزوجة مع النساء حسب الأصول والعادات العربيّة.

٣٢٤

سألت خلال السهرة الشيخ علي وبعدما أراني مكتبته القيِّمة ، سألته عن رأيه في كتابي : ثم اهتديت.

قال : من حيث الأسلوب فهو رائع ، يشدُّ القارئ شدّاً عجيباً ، ولكن من حيث الموضوع فهو جدّاً خطير.

قلت : أين يكمن الخطر ، فرأيك يهمُّني؟

قال : في نقد الصحابة وقدحهم ، فنحن ما عرفنا الإسلام الذي جاء به محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاَّ من خلالهم.

قلت : هذا صحيح لو كان الأمر يتعلَّق بجميعهم ، ولكن الحمد لله لم يمسَّ القدح والنقد إلاَّ البعض منهم ، الذين شهد التأريخ بانحرافهم ، والبعد عن سنَّة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت بحمد الله ممن عرف التأريخ وأحداثه ، وعرف اختلافهم ، وما سبَّبوه لنا من مشاكل وانقسامات داخل الأمَّة الواحدة.

قال باعتزاز : أنا أعلم كل ذلك ، ولكن الذين قسموا الأمَّة هم بنو أميَّة ، وعلى رأسهم معاوية ، وقد نصَّ على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته عندما قال : الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمَّ ملك عضوض (١) ، واسترسل يسبُّ بني أميَّة ويشتمهم ، ويمدح الخلفاء الراشدين ، وهو يحاول بذلك إقناع الحاضرين بأفكاره ، فتركته يتكلَّم حتى سكت.

قلت : اتق الله يا شيخ علي ، فالله سبحانه وتعالى لا يحبُّ العلماء الذين يعرفون الحقَّ ويكتمونه ، فقد قال جلَّ من قائل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ

__________________

١ ـ راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : ٧ / ٨٣ ـ ٨٤ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٢ / ٣٢٤.

٣٢٥

اللاَّعِنُونَ ) (١).

فهل اغتصب بنو أميَّة خلافة علي بن أبي طالب عليه‌السلام التي نصَّ عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم (٢)؟

هل اغتصب بنو أميَّة حقَّ الزهراء سلام الله عليها في النحلة والخمس والميراث ، حتى ماتت غاضبة تدعو الله عليهم في كل صلاة؟

هل أحرق بنو أميَّة ما جمع من سنَّة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنعوا الناس من التحدُّث بها (٣)؟

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٥٩.

٢ ـ لا شكَّ أن بني أميَّة من الغاصبين لخلافة أميرالمؤمنين عليه‌السلام وأولاده الطاهرين عليهم‌السلام ، ولكنَّ مقصود الدكتور التيجاني اغتصاب الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، والإقصاء الذي تمَّ على أيدي القوم لعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ إحراق أبي بكر خمس مائة حديث.

روى الذهبي في تذكرة الحفاظ : ١ / ٥ عن القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلَّب كثيراً ، قالت : فغمَّني ، فقلت : أتتقلَّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمَّا أصبح قال : أي بنيَّة! هلمّي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدَّثني فأكون قد نقلت ذاك.

أقول : كان على الخليفة حينما خشي هذا الأمر أن يُرجع الأحاديث إلى أصحابها ، لا أن يحرقها ويتلفها ، ولو كان هذا الخوف أمراً عقلائيّاً لما وصلنا شيء من كتب السنن والحديث ، لأن كل كتاب يحوي جملة من الأحاديث الشريفة يحتمل فيها هذا الاحتمال ، وأنت ترى أنَّ سيرة المسلمين قامت على اقتناء كتب الحديث والسنن ، ويرون إتلافها أمراً قبيحاً مستهجناً ، فلو أن أحداً جمع كتب السنن والحديث وأحرقها بذريعة هذا العذر لما كان مقبولا منه ، وحتى الراوي نفسه الذي سمع آلاف الأحاديث النبويّة وجمعها ثمَّ أحرقها بهذه الحجّة ليس معذوراً.

وجاء أيضاً في تذكرة الحفاظ : ١ / ٢ ـ ٣ قال : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة

٣٢٦

هل غيَّر بنو أميَّة أحكام القرآن ، وأحكام السنّة النبويّة ، وأبدلوها باجتهادات غيَّرت مسار الإسلام والمسلمين (١)؟

أنت تعلم أنّه لم يفعل كل ذلك غير الخلفاء الذين تسميهم الراشدين ، عندما لم يكن لبني أميَّة دولة ولا نفوذ ، ولم يكن لمعاوية ولا لأبيه وزن عند المسلمين ، والذي كبَّر معاوية ، وجعله إمبراطور الإسلام هم : أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين تحاول أنت بكل جهودك أن تسدل عليهم ستار الهالة والتقديس ، وتجعلهم من طراز الأنبياء والمرسلين.

قال مبتسماً أمام الحاضرين وهو يحاول المراوغة : نحن ما قلنا إن الخلفاء من طراز الأنبياء ، وما قلنا بأنهم معصومون عن الخطأ ، فهم كسائر البشر ، يخطئون ويصيبون ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين

__________________

نبيِّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : إنكم تحدِّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدِّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلُّوا حلاله وحرَّموا حرامه.

حرق عمر للأحاديث الشريفة

وجاء في الطبقات الكبرى ، لابن سعد : ٥ / ١٨٨ عن عبد الله بن العلاء قال : سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث ، فقال : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمَّا أتوه بها أمر بتحريقها ، ثمَّ قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب.

وجاء في كتاب حجّيّة السنة : ٣٩٥ : عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر : أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيُّها الناس! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاَّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي ، قال : فظنُّوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقوِّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمَّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب.

١ ـ وبنو أميَّة أيضاً لم يذخروا وسعاً في تغيير أحكام الله ، وتحريف حديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقلب الحقائق ، وتضليل الناس ، وآثار ذلك إلى يومنا هذا.

٣٢٧

التوَّابون (١) ، فنحن مسلمون بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كلهم أخطأ ، وكلهم مأجورون ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد (٢).

قلت : يا شيخ علي! أقول لك مرَّة ثانية : اتق الله ، ولا تلذ بالأوهام الواهية كبيت العنكبوت ، وتترك الحقائق الدامغة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أتحدَّاك أمام الحاضرين أن تأتيني بخطأ واحد للإمام عليٍّ عليه‌السلام ، فسوف لن تجد إلاَّ ما يردِّده أسلاف النواصب الذين أعيتهم الحيلة ليجدوا خطأ واحداً لعليٍّ عليه‌السلام ، فقالوا بأنه بعد تولّيه الخلافة أخطأ في عزل معاوية ، ولو أنّه صبر حتى استتبَّ له الأمر ثمَّ عزله بعد ذلك لكان أحسن (٣) ، أو أنّه أخطأ في واقعة التحكيم في حرب صفين ، وهو قول الخوارج.

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ١٩٨ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٢٠ ح ٤٢٥١ ، سنن الترمذي : ٤ / ٧٠ ح ٢٦١٦.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ١٩٨ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٧٦ ح ٢٣١٤ ، سنن الترمذي : ٢ / ٣٩٣ ح ١٣٤١ ، ولفظه : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.

٣ ـ روي عن جبلة بن سحيم ، عن أبيه ، قال : لمَّا بويع أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بلغه أن معاوية قد توقَّف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرَّني على الشام وأعمالي التي ولاَّنيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة إلى أميرالمؤمنين عليه‌السلام فقال له : يا أميرالمؤمنين! إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاَّه الشام من قد كان قبلك ، فولِّه أنت كيما تتَّسق عرى الأمور ، ثمَّ اعزله إن بدا لك ، فقال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : أتضمن لي عمري ـ يا مغيرة ـ فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال : لا ، قال : لا يسألني الله عزَّوجلَّ عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) لكن أبعث إليه ، وأدعوه إلى ما في يدي من الحقِّ ، فإن أجاب فرجل من المسلمين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله ، فولَّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن ..

الأمالي ، الطوسي : ٨٧ ح ٤٢ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢ / ٣٧٥.

٣٢٨

فهل تجدون لعليٍّ عليه‌السلام أكثر من هذين الخطأين المزعومين ، وكلُّها لا تعدو الآراء السياسيّة التي يختلف فيها الناس ، فتظهر للبعض بأنها خطأ ، وتظهر للبعض الآخر بأنها عين الصواب ، وهي من باب قول الله سبحانه وتعالى : ( عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (١).

هذا على افتراض أن علياً عليه‌السلام شخص عاديٌّ ، ليست له ميزة ولا علم ..

إلى أن قال : وإذا كان الأمر كما تقول ـ يا شيخ علي ـ فلماذا لا تلتمس عذراً لإبليس لعنه الله الذي اجتهد في قوله : ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ) (٢)؟ فاجتهاده أو صله إلى نتيجة أن النار هي خير من الطين ، أو كما قال بعض المتصوِّفة : إن إبليس هو أكبر الموحِّدين ; لأن اجتهاده منعه أن يسجد لغير الله تعالى.

ألا ترى معي أن الموازين كذلك المقاييس العقليّة يجب أن تتوقَّف عن الاجتهاد عند صدور الحكم الإلهيّ ، انظر إلى قوله تعالى : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (٣) ، فكل الملائكة قالوا : سمعاً وطاعة ، ولم يجتهدوا بآرائهم في هذا الحكم الصادر من الخالق إلى المخلوق ، إلاَّ إبليس أبى أن يكون من الساجدين ، لماذا؟ لأنه اجتهد برأيه مقابل هذا الحكم الإلهيِّ ، فرأى أنّه أفضل من آدم ، فعصى وتمرَّد.

وإذا كان الأمر كذلك فكلُّ المجرمين والفاسقين مأجورون على

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ٢١٦.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٢.

٣ ـ سورة الحجر : ٢٩ ـ ٣١.

٣٢٩

اجتهادهم ، فهذا فرعون اجتهد في تكذيب موسى عليه‌السلام ; لأنه كان يظنُّ أن كل الآيات التي جاء بها موسى عليه‌السلام هي من قبيل السحر ، ولذلك جمع له السحرة ، واعتقد بأنّه كبيرهم الذي علَّمهم السحر ، وهذا السامريُّ الذي اجتهد فأخذ قبضة من أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتسبَّب في ضلالة بني إسرائيل ، وهذا أبو لهب عمُّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتهد أيضاً ; لأنه ظنَّ أن ابن أخيه يريد الدعوة لنفسه مقابل الآلهة التي يعبدونها.

وهذه عائشة اجتهدت في قتل الآلاف من المسلمين الأبرياء ; لأنها كانت لا ترى مصلحة في خلافة عليٍّ عليه‌السلام ، وهذا يزيد اللعين اجتهد هو الآخر في قتل سيِّد شباب أهل الجنة الحسين عليه‌السلام ; لأنه كان يرى جميع الناس على طاعة الخليفة وعدم الخروج عليه.

وهذا هتلر الذي اجتهد ورأى بأن الألمان ـ وهم الجنس السامي ـ هم أسياد العالم ، وكل الناس هم عبيد ، لهم ويجب محقهم ، وهذا صدّام اجتهد الآخر في قتل الملايين .. وهو بطل القادسيَّة ، وقد اجتهد في احتلال الكويت ; لأنه يرى بأنها جزء من العراق ...

وما أظنُّك ـ يا شيخ علي ـ توافق على أن كل هذا هو الاجتهاد الذي يستوجب الأجر من عند الله.

قال وهو يتنهَّد : لا طبعاً ، أنا أعرف الفرق بين الاجتهاد والعصيان وهو كما قدَّمت ، إلاَّ أنه عندي تعليق على ذكرك أمَّ المؤمنين السيِّدة عائشة ، فهي التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء (١) ، ويقصد بذلك

__________________

١ ـ والمروي عندهم : خذوا شطر دينكم عن الحميراء ، راجع : النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير :

٣٣٠

عائشة.

وحاولت إقناعه بأن هذه الأحاديث وأمثالها موضوعة في عهد بني أميَّة ، فقد أكثروا من إطراء الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان من الرجال ، وعائشة من النساء ; للدور الذي قامت به بعد وفاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكان يوافقني تارة ، ويتردَّد ويشكِّك أحياناً في بعض الأحداث التأريخيّة ، وهو يريد رغم محاولاتي أن يضفي على عائشة هالة من التقديس ، حتى جعلها أعلم الصحابة ; لأن نصف الدين عندها وحدها ، وكل الباقين عندهم النصف الثاني.

وضحكت لهذا الاعتقاد ، وقلت له : ما رأيك لو أوقفتك على دليل ملموس

__________________

١ / ٤٢١ ، إرواء الغليل ، الألباني : ١ / ١٠ ، وقال في الهامش عن الحديث : حديث موضوع ، انظر : المنار المنيف لابن القيِّم.

وهذا الحديث عندهم ضعيف لا يؤخذ به ، وإن كان مشهوراً بينهم ، فليس له إسناد ولا أصل ، قال ابن كثير في البداية والنهاية : ٨ / ١٠٠ : فأمَّا ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث : خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء ، فإنه ليس له أصل ، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام ، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال : لا أصل له.

وقال العجلوني في كشف الخفاء : ١ / ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ح ١١٩٨ : ( خذوا شطر دينكم عن الحميراء ) قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث ابن الحاجب من إملائه : لا أعرف له إسناداً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلاَّ في النهاية لابن الأثير ، ذكره في مادة ح م ر ، ولم يذكر من خرَّجه ، ورأيته في الفردوس بغير لفظه ، وذكره عن أنس بغير إسناد بلفظ : خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء ، وذكر ابن كثير أنّه سأل الحافظين : المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه ، وقال السيوطي في الدرر : لم أقف عليه ، لكن في الفردوس عن أنس : خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة ، انتهى ، وقال الحافظ عماد الدين في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب : هو حديث غريب جدا ، بل هو منكر ، سألت عنه شيخنا المزي فلم يعرفه ، وقال : لم أقف له على سند إلى الآن ، وقال شيخنا الذهبي : هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها سند. انتهى.

٣٣١

بأن ما تقوله لا يصحُّ؟

قال : هات نسمع منك.

قلت : هل تعرف رضاعة الكبير؟

قال : وما هي رضاعة الكبير؟

قلت : باختصار أنّه يمكن لزوجتك أن ترضعني أنا فأصبح بعد تلك الرضاعة ربيبك ، ويمكن لي أن أستحلَّ منها ما يستحلُّ الولد من والدته.

فضحك عند سماعه هذه الأطروحة ، وقال مستغرباً : كيف؟ أنت ترضع من زوجتي أنا؟ لا يحقُّ لك ذلك.

قلت : هذا من نصف دينك الذي تقول به أمُّ المؤمنين عائشة.

قال : لا ، لا ، ما سمعت بهذا أبداً ، لعلّك تمزح.

قلت : أنا لا أمزح في مثل هذه الأبحاث العلميّة ، وكيف أمزح باتهام أم المؤمنين عائشة؟ ولكن أنا قدمت من باريس ، وليس معي إلاَّ كتاب : ثم اهتديت ، وأنت ـ ما شاء الله ـ عندك هنا مكتبة ضخمة ، وبالتأكيد إن فيها صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك.

قال : نعم ، عندي هذه الكتب ، وهل فيها هذا الحديث؟

قلت : نعم ، سأترك لك المجال لتقرأ بنفسك على راحة البال ، وتعطيني بعد ذلك رأيك.

قال : دلَّني على الحديث في أيِّ موضع من الكتاب؟

قلت : اقرأ باب رضاعة الكبير في الكتابين (١) ، وغداً أعطني النتيجة ،

__________________

١ ـ جاء في كتاب الموطأ لمالك : ٢ / ٦٠٥ ح ١٢ عن ابن شهاب ، أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال :

٣٣٢

وقمت أعتدر للخروج فقد مضى نصف الليل أو أكثر.

قال : وفي صباح اليوم التالي جاء الجامعة كالعادة لفطور الصباح ، وتأخَّر الشيخ علي أكثر من ساعة ، وكدنا نكمل الإفطار وإذا به يدخل علينا ، ويبدِّد حيرتنا ، وعندما وصل إليَّ مسلِّماً ضحك ، وقال : أرضعيه ولو كان ذا لحية.

__________________

أخبرني عروة بن الزبير ، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ... كان تبنَّى سالماً الذي يقال له : سالم مولى أبي حذيفة ، كما تبنَّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد بن حارثة ، وأنكح أبو حذيفة سالماً ، وهو يرى أنه ابنه ، فلمَّا أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ... ردَّ كل واحد من أولئك إلى أبيه .. فجاءت سهلة بنت سهيل ، وهي امرأة أبي حذيفة ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله! كنّا نرى سالماً ولداً ، وكان يدخل عليَّ وأنا فضل ، وليس لنا إلاَّ بيت واحد ، فماذاترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها ) وكانت تراه ابناً من الرضاعة ، فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحبُّ أن يدخل عليها من الرجال ، فكانت تأمر أختها أمَّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال.

وأبى سائر أزواج النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس ، وقلن : والله ، ما نرى الذي أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهلة بنت سهيل إلاَّ رخصة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رضاعة سالم وحده ، لا والله ، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد ، فعلى هذا كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رضاعة الكبير.

وجاء في صحيح مسلم : ٤ / ١٦٩ : عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحبُّ أن يدخل عليَّ ، قال : فقالت عائشة : أما لك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة .. إلخ.

وعن زينب بنت أبي سلمة تقول : سمعت أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقول لعائشة : والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة ، فقالت : لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله! والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرضعيه ، فقالت : إنه ذو لحية ، فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة ، فقالت : والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة.

وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تقول : أبى سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة .. إلخ.

٣٣٣

وفهمت أنه اطّلع على الموضوع من شتّى جوانبه ، وفرحت لذلك ، ودعوناه للجلوس وتناول الإفطار متسائلين : ما الذي أبطأه عن الموعد المعتاد؟

قال : لم أنم إلاَّ قليلا ، فقد سهرت بعدكم ، واطّلعت على قصة رضاعة الكبير في كل من صحيح مسلم وموطأ مالك ، فحيَّرتني وطار النوم من عيني ، فلم أنم إلاَّ بعد صلاة الفجر.

قلت : فهل ما زلت على رأيك في أخذك نصف الدين عن الحميراء؟

قال : أعوذ بالله ، هذا لا يجوز أبداً ، أنا من اليوم شيعيٌّ ، لا أتّبع إلاَّ عليّاً عليه‌السلام.

قال أخوه الشيخ محمّد : أتدري ـ يا دكتور ـ أننا من سلالة عليٍّ كرَّم الله وجهه؟

قلت : إذن فأنتم أحقُّ بجدِّكم من غيركم ، قال الله تعالى : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (١).

وفرح الإخوة الكويتيون بهذا الاستبصار المفاجئ ، وكذلك الدكتور الخطيب ، وأخرج الشيخ علي الكتب إلى الطلبة ، وبدأ الدكتور الخطيب وأخوه عثمان ينشطان بحرّيّة ، ويعملان بكل جهودهم ، ولم يمض أسبوع واحد حتى استبصر أكثر من مائتين من الطلبة.

وجاء يوم الفراق للرجوع إلى باريس ، وخرج أكثرهم يودِّعونني ، وفي مقدِّمتهم الشيخ علي وأخوه الشيخ محمّد ، وقبل دخولي الطائرة عانقت الشيخ ، وقلت له أمام الجميع : سامحني إن كنت أسأت لك ، أو صدر مني شيءٌ تكرهه ، فأنا أرجوك العفو.

__________________

١ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٧٥.

٣٣٤

قال : العفو العفو ، أنت سيِّدنا ، وقد هديتنا إلى صراط الله المستقيم ، فجزاك الله عنّا خيراً ، ونتمنَّى أن لا تنسانا من زيارتك.

قلت : أتشهد أمام الحاضرين أنّك استبصرت للحقِّ وغيَّرت عقيدتك؟

قال بصوت عال : أشهد أنني تشيَّعت ، وإمامي هو عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والله على ما أقول شهيد.

عانقته مرَّة أخرى بحرارة أكثر ، وقبَّلت رأسه ، وفاضت أعيننا وأعين الحاضرين من الدمع ، وهم يكبِّرون صائحين : اللهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد (١).

__________________

١ ـ كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني السماوي : ٢٥٣ ـ ٢٦١.

٣٣٥

المناظرة الحادية والستون

مناظرة

الدكتور التيجاني مع الشيخ المفتي عزيز الرحمان في بومباي

قال الدكتور التيجاني في رحلته إلى الهند : طلب مني ـ أي السيد شرف الدين صاحب دار النشر للمنشورات الإسلامية ـ إن كان بإمكاني زيارة مفتي الجماعة الإسلامية في بومباي فهو سني وله أتباع كثيرون يأتمرون بكل أوامره ، ولوا أقنعته هو فسيكون فتح عظيم لكل المسلمين في الهند. قلت : ما اسمه؟ أليس هو أبو الحسن الندوي؟

قال : لا ، أبو الحسن الندوي يقيم الآن في دلهي ، أما هذا فاسمه عزيز الرحمن ، وهو الكل هنا.

قلت : أنا لا أرى مانعاً في لقائه إن كان يرغب في ذلك طبعاً.

قال : لا عليك أنا عندي معه علاقة وديّة وسأرتّب الأمور ، فأين أتّصل بك؟

قلت : عند السيّد محمّد الموسوي.

قال : عندي رقم تليفونه فأتّصل بك حالماً أتفاهم وأتفق مع الجماعة ـ إلى أن قال : وبعد يومين فقط ، جاءني السيد محمّد الموسوي إلى مقرّ إقامتي

٣٣٦

وأعلمني بأن الجماعة في انتظاري وأن السيد شرف الدين قادم ليأخذني عندهم ، فهيأت نفسي للخروج ووقف السيّد الموسوي يقرأ على رأسي بعض الأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وفهمت بأنه متخوّف عليّ ، وخصوصاً بعدما قدم السيّد شرف الدين فحذّره السيّد الموسوي وأوصاه بي قائلا : لولاك أنت وثقتي فيك لما تركت السيّد التيجاني يذهب إليهم ، فطمنه السيد شرف الدين قائلا : يحصل خير إن شاء الله.

وذهبت بصحبة السيد شرف الدين إلى الجامع الكبير في مدينة بومباي ودخلنا من باب صغير خلف الجامع وصعدنا طابقين ومشينا كثيراً حتى وصلنا إلى مقرّ الجماعة.

سلّمنا عليهم وكانوا خمسة يحيطون بالشيخ المفتي عزيز الرحمان وكلّهم يلبسون اللّباس السعودي ولحاهم تكشف هويّتهم السلفية ، وكان في أفواههم ورق أو حشيش يلوكونه بأسنانهم ويمتصوّن عصارته ثم يبصقون من حين لآخر في أواني وضعت إلى جانب كلّ واحد منهم.

واشمأزت نفسي لأول وهلة رأيتهم فيها وما شعرت إلاّ بالنّفور وفهمت بأن الجماعة يبادلوني نفس الشعور ، وزيادة خصوصاً وأنا أشاهدهم يبصقون لونا أحمر ظننت أنه دم ، وعرفت فيما بعد بأنه عصير الورق الذي يمضغونه.

وقلت في نفسي : هذا يذكّرني بالحشّاشين وبالغلابة الذين شاهدتهم في اليمن وفي موريطانيا والمغرب وفي كينيا الذين يخدّرون عقولهم بهذا النّوع من « القات » ليسبحوا في بحر النسيان والخيال فهل هؤلاء العلماء الذين دعوني للنّقاش العلميّ يخدّرون عقولهم أيضاً فكيف سأناقشهم وموازينهم العقليّة مختلّة؟

٣٣٧

جلست معهم وأنا أبتسم لكل واحد منهم فلا أرى إلاّ وجوها كالحة تنظر إليّ شزرا وكأنها حيوانات مفترسة تريد أن تنقضّ عليّ وتفتك بي.

دعوت السيّد شرف الدين للجلوس بجانبي فأسرع وأخذ بيدي وقدّمني للجماعة وهو يقول : السيد الدكتور التيجاني صاحب كتاب « ثم اهتديت ».

ضحك أحدهم قائلا : ثم اهتدى إلى ماذا؟ إلى الضلالة بلا شك.

وقلت في نفسي : هذه أول لكمة ، فما عليك يا تيجاني إلاّ بالصبر وتحمّل الأذى ما دمت ورطّت نفسك وجئت إليهم تمشي على قدميك.

قلت : سامحك الله ، أنا اهتديت لأهل البيت ، العترة الطاهرة عليهم‌السلام فإذا كان أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً هم ضلالة ، فقولك هذا لا يغضبني بل يزيدني شرفا وافتخارا.

تكلّم الثاني قائلا : هكذا الشيعة دائماً يكذبون على الله ويؤولون القرآن على حسب مزاجهم ، فالقرآن يقول صراحة بأن أهل البيت هم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم يقولون : أهل البيت هم أئمّة الشيّعة.

قلت : نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدق منا جميعاً فهنّ اللائي قلن صراحة بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة.

ضحك شيخهم الكبير عزيز الرحمان حتى بدت نواجذه وهو يقول : في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن ما كان هناك شيعة فضلا عن أئمّتهم ، فكيف يقول نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة؟

فرحت في داخلي وقلت : الحمد لله إن الجماعة لم تغب عقولهم بعد بهذا الحشيش الذي يملأ أفواههم فقلت : لا يا سيّدي الشيخ أنا لم أقصد اللّفظ ولكنّي قصدت المعنى.

٣٣٨

فزاد ضحكه واستعجابه وقال : وهل عند الشيعة أن اللّفظ يخالف المعنى؟

قال الذي بجانبه : إنه النّفاق الذي يسمونه التقية.

بدأت أملّ هذا النقاش الذي لا زال في بدايته ، ولكنّي تجلّدت ولم أبالي بالمتكلّم الجديد وتوجهت لشيخهم الكبير ظنّا منّي بأنه أذكاهم وأعلمهم ، وإذا قدرّ له أن يقتنع بكلامي فسيكون فتحاً كبيراً.

قلت : يا سيدي الشيخ دعني أشرح الموضوع بطريقة أخرى ، إن عائشة وأم سلمة أمهات المؤمنين وهنّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالتا بأن الآية لم تنزل فينا بل نزلت في محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وهؤلاء الأشخاص اتّخذهم الشيعة أئمّة لهم ، فلا يتّقون إلا فيهم ولا يقتدون إلاّ بهم ، وهذا هو قصدي من اللّفظ الذي لا يخالف المعنى.

فضحك بقهقهة حتى شرق بالسّعال وقال : فاطمة عليها‌السلام إمام الشيعة؟ قال رسول الله : « لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » فكيف تكون فاطمة أميرالمؤمنين عليه‌السلام؟

وضحك هو وكلّ الحاضرين ، وغمزني السيّد شرف الدين أن اصبر على استهزائهم.

التفت إلي أحدهم وقال : الشيعة كلّهم منافقون ويتستّرون بمحبّة أهل البيت عليهم‌السلام لهدم الإسلام وتخريبه ، ولذلك كان أهل البيت يلعنون الشيعة ويحذّرون المسلمين منهم ومن دسائسهم.

قلت : متى وأين وجدت أهل البيت عليهم‌السلام يلعنون الشيّعة؟

قال : في نهج البلاغة سيّدنا علي كرّم الله وجهه يلعنهم ويشتمهم.

قلت : أو لا سيّدنا علي عليه‌السلام لم يلعن شيعته ولكن ذمّ الذين تخاذلوا عن

٣٣٩

الجهاد في سبيل الله ، فهذا هو الموجود في نهج البلاغة ، أمّا ثانياً فأنا أطلب منكم أن تتفاهموا فيما بينكم على أهل البيت ، وتشخّصوهم هل هم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ادعيتم منذ قليل أم هو سيّدنا علي عليه‌السلام كما تقولون الآن؟

فتكلّم أحدهم وكأنه أراد أن ينقذهم من الورطة التي وقعوا فيها فقال : العجيب في الأمر أن الشيعة من حماقتهم يحتجّون بنهج البلاغة ، وهو عندهم كالقرآن الكريم ، وهذا الكتاب يلعنهم ويشتمهم ويكشف كلّ فضائحهم.

وتكلّم الذي بجانبه يؤيّده فقال : الشيعة هم المجوس الذين دخلوا في الإسلام ليتآمروا على المسلمين ، وهم الذين قتلوا سيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي عليه‌السلام.

قلت : دعونا من الشيعة فأنا لست لسان الدّفاع عنهم ، وناقشوني أنا فأنا لا أمثل إلاّ نفسي ، وقد كنت مالكيّا ولكن بعد البحث والتنقيب اكتشفت بأني كنت مضلّلا ، وبأن أهل البيت عليه‌السلام هم أحقّ بالاتباع من غيرهم وقد سمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفينة النّجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، فإن كانت لكم حجّة غير هذه فأقنعوني بها وأعطوني الأدلّة كي اتّبعكم ، وأكن لكم من الشّاكرين ، وإن لم تكن عندكم حجّة ولا دليل ، فاسمعوني واسألوني عسى أن تهتدوا.

قالوا : كيف نستمع إليك وأنت جاهل لا تعرف آيات القرآن ولا أحكامه؟

قلت : فلنحتكم إلى البخاري ومسلم وهما أصحّ الكتب عندكم بعد كتاب الله ، وسأعطيكم الأدلّة من البخاري ومسلم على أن أهل البيت عليهم‌السلام ليسوا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما هم أئمّة الشيعة.

قالوا : كلّ حديث تحتجّون به في البخاري ومسلم هو مدسوس من الشيعة.

٣٤٠