الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
والرابع : قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) (١) فيمن نزلت؟
قال : على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال له أبو جعفر عليهالسلام : فهل شاركه أبو بكر في السكينة؟
قال الحروري : نعم.
قال له أبو جعفر عليهالسلام : كذبت ; لأنه لو كان شريكاً فيها لقال تعالى : عليهما ، فلمَّا قال : ( عليه ) دلَّ على اختصاصها بالنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لما خصَّه بالتأييد بالملائكة ; لأن التأييد بالملائكة لا يكون لغير النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالإجماع ، ولو كان أبو بكر ممن يستحقُّ المشاركة هنا لأشركه الله فيها كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين ، حيث يقول : ( ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ممن يستحقُّ المشاركة ; لأنه لم يصبر مع النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم غير تسعة نفر : علي عليهالسلام ، وستّة من بني هاشم ، وأبو دجانة الأنصاري ، وأيمن بن أم أيمن ، فبان بهذا أن أبا بكر لم يكن من المؤمنين ، ولو كان مؤمناً لأشركه مع النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في السكينة هنا ، كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين.
فقال الحروري : قوما (٣) فقد أخرجه من الإيمان.
فقال أبو جعفر عليهالسلام : ما أنا قلته ، وإنّما قاله الله تعالى في محكم كتابه.
قالت الجماعة : خصمت يا حروري.
__________________
١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٠.
٢ ـ سورة التوبة ، الآية : ٢٥ ـ ٢٦.
٣ ـ جاء في الهامش : لعلّ الصحيح : ( قوموا ) كما في نسخة ، والخطاب للحروري وجماعة الفقهاء الذين كانوا معه.
قال أبو جعفر عليهالسلام : وأمَّا قولك في الصلاة بالناس فإن أبا بكر قد خرج تحت يد أسامة بن زيد بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بإجماع الأمَّة ، وكان أسامة قد عسكر على أميال من المدينة ، فكيف يتقدَّر أن يأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجلا قد أخرجه تحت يد أسامة ، وجعل أسامة أميراً عليه أن يصلّي بالناس بالمدينة؟! ولم يأمر النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بردِّ ذلك الجيش ، بل كان يقول : نفِّذوا جيش أسامة ، لعن الله من تأخَّر عنه (١).
ثمَّ أنتم تقولون : إن أبا بكر لمَّا تقدَّم بالناس ، وكبَّر ، وسمع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم التكبير خرج مسرعاً يتهادى (٢) بين عليٍّ والفضل بن العباس ، وهو معصَّب الرأس ، ورجلاه يخطّان الأرض من الضعف قبل أن يركع بهم أبو بكر ، حتى جاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونحَّاه عن المحراب ، فلو كان النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمره بالصلاة لم يخرج إليه مسرعاً على ضعفه ذلك ، أن لا يتمَّ له ركوع ولا سجود ، فيكون ذلك حجّة له ، فدلَّ على أنه لم يكن أمره.
والحديث الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حال مرضه كان إذا حضر وقت الصلاة أتاه بلال ، فيقول : الصلاة يا رسول الله ، فإن قدر على الصلاة بنفسه تحامل وخرج ، وإلاّ أمر علياً عليهالسلام يصلّي بالناس.
قال أبو جعفر عليهالسلام : الرابعة زعمت أنه ضجيعه في قبره؟
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ٥٢ ، وقال الشهرستاني في الملل والنحل : ١ / ٢٩ : الخلاف الثاني في مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلَّف عنه ، فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتدَّ مرض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه.
٢ ـ أي مشى وهو يعتمد عليهما في مشيته.
قال : نعم.
قال أبو جعفر عليهالسلام : وأين قبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
قال الحروري : في بيته.
قال أبو جعفر عليهالسلام : أو ليس قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (١) ، فهل استأذنه في ذلك؟
قال الحروري : نعم.
قال أبو جعفر عليهالسلام : كذبت ; لأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سدَّ بابه عن المسجد وباب صاحبه عمر ، فقال عمر : يا رسول الله! اترك لي كوّة أنظرك منها ، قال له : ( ولا مثل قلامة ظفر ) فأخرجهما وسدَّ أبوابهما ، فأقم البيِّنة على أنَّه أذن لهما في ذلك ، فقال أبو جعفر عليهالسلام : بأيِّ وحي وبأيِّ نص؟
قال : بما لا يدفع ; بميراث ابنتيهما.
قال أبو جعفر عليهالسلام : أصبت ، أصبت يا حروري! استحقّا بذلك تسعاً من ثمن ، وهو جزء من اثنين وسبعين جزءاً ; لأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مات عن ابنته فاطمة عليهاالسلام وعن تسع نسوة ، وأنتم رويتم أن الأنبياء لا تورِّث.
فانقطع الحروري (٢).
__________________
١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٥٣.
٢ ـ بحار الأوار ، المجلسي : ٢٧ / ٣٢١ ـ ٣٢٥ ح ٤.
المناظرة الخامسة
مناظرة
الإمام الصادق عليهالسلام مع أبي حنيفة في أربعين مسألة
قال الحسن بن زياد الفقيه : سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر عليهالسلام ، لمَّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيِّئ لنا من مسائلك الصعاب ، فهيَّأت له أربعين مسألة ، ثمَّ بعث إليَّ المنصور فأتيته ، فدخلت وجعفر جالس عن يمينه ، فلمَّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور ، ثمَّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبدالله! أتعرف هذا؟
قال عليهالسلام : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثمَّ أتبعها : قد أتانا ، ثمَّ قال : يا أبا حنيفة! هات من مسائلك فاسأل أبا عبدالله ، فابتدأت أسأله ، فكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ، ونحن ـ يريد أهل البيت عليهمالسلام ـ نقول كذا وكذا ، فربَّما تابعنا ، وربما تابع أهل المدينة ، وربما خالفنا معاً ، حتى أتيت على أربعين مسألة ، ما أخرم فيها مسألة.
ثمَّ يقول أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلم الناس
بالاختلاف (١).
وفي جامع مسانيد أبي حنيفة أنه قال : فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة ويفحم حتى أجاب عن أربعين مسألة ، فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء ، فلذلك أحكم أنه أفقه من رأيت (٢).
قال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد عليهالسلام ، وكان يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ; فإنه لا يحدِّثكم بعدي بمثل حديثي (٣).
__________________
١ ـ تأريخ الإسلام ، الذهبي : ٩ / ٨٩ ـ ٩٠ ( حوادث سنة ١٤١ ـ ١٦٠ هـ ) ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٦ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٥ / ٧٩ ـ ٨٠.
٢ ـ جامع مسانيد أبي حنيفة ، الخوارزمي : ١ / ٢٢٢.
٣ ـ عيون التواريخ ، محمّد بن شاكر بن أحمد الشافعي : ٦ / ٣٠ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٥ / ٧٩ لكنَّه روى المقالة عن صالح ، بن أبي الأسود ، وكذلك في تذكرة الحفاظ ، الذهبي : ١ / ١٦٦ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٦ / ٢٥٧.
المناظرة السادسة
مناظرة
الإمام الصادق عليهالسلام مع عمرو بن عبيد في الخلافة وشؤونها
روى الكليني بإسناده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : كنت قاعداً عند أبي عبدالله عليهالسلام بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم ، وذلك حدثان قتل الوليد ، واختلاف أهل الشام بينهم ، فتكلَّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا.
فقال لهم أبو عبد الله عليهالسلام : إنكم قد أكثرتم عليَّ ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، وليتكلَّم بحججكم ويوجز.
فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فتكلَّم فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال أن قال : قد قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله عزَّوجلَّ بعضهم ببعض ، وشتَّت الله أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ، ومروّة وموضع ، ومعدن للخلافة ، وهو محمّد بن عبدالله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع عليه فنبايعه ، ثمَّ نظهر معه ، فمن كان بايعنا فهو منّا وكنَّا منه. ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه وردِّه إلى الحقّ وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك
فتدخل معنا ، فإنّه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك.
فلمَّا فرغ قال أبو عبد الله عليهالسلام : أكلُّكم على مثل ما قال عمرو؟
قالوا : نعم.
فحمد الله وأثنى عليه ، وصلَّى على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمَّ قال : إنما نسخط إذا عصي الله ، فأمَّا إذا أطيع رضينا ، أخبرني ـ يا عمرو ـ لو أن الأمَّة قلدتك أمرها ، وولَّتك بغير قتال ولا مؤونة ، وقيل لك : ولِّها من شئت ، من كنت تولِّيها؟
قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
قال : بين المسلمين كلِّهم؟
قال : نعم.
قال : بين فقهائهم وخيارهم؟
قال : نعم.
قال : قريش وغيرهم؟
قال : نعم.
قال : والعرب والعجم؟
قال : نعم.
قال : أخبرني ـ يا عمرو ـ أتتولَّى أبا بكر وعمر أو تتبرَّأ منهما؟
قال : أتولاَّهما.
فقال : فقد خالفتهما ، ما تقولون أنتم؟ تتولَّونهما أو تتبرَّؤون منهما؟
قالوا : نتولاَّهما.
قال : يا عمرو! ان كنت رجلا تتبرَّأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف علهيما ، وإن كنت تتولاَّهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور فيه
أحداً ، ثمَّ ردها أبو بكر عليه ولم يشاور فيه أحداً ، ثمَّ جعلها عمر شورى بين ستة ، وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار غير أولئك الستة من قريش ، وأوصى فيهم شيئاً لا أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ; إذ جعلتها شورى بين جميع المسلمين.
قال : وما صنع؟
قال : أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يشاور أولئك الستة ليس معهم أحد ، وابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار ـ إن مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلا ـ أن يضربوا أعناق أولئك الستة جميعاً ، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضربوا أعناق الإثنين ، أفترضون بهذا أنتم فيما تجعلون من الشورى في جماعة من المسلمين؟
قالوا : لا.
ثمَّ قال : يا عمرو! دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ، ثمَّ اجتمعت لكم الأمَّة فلم يختلف عليكم رجلان فيها ، فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية ، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المشركين في حروبه؟
قال : نعم.
قال : فتصنع ماذا؟
قال : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
قال : وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب؟
قال : سواء.
قال : وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان؟
قال : سواء.
قال : أخبرني عن القرآن تقرؤه؟
قال : نعم.
قال : اقرأ : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (١). فاستثناء الله عزَّوجلَّ واشتراطه من الذين أوتوا الكتاب ، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟
قال : نعم.
قال : عمَّن أخذت ذا؟
قال : سمعت الناس يقولون.
قال : فدع ذا ، فإن هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟
قال : أخرج الخمس ، وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه.
قال : أخبرني عن الخمس ، من تعطيه؟
قال : حيثما سمَّى الله ، قال : فقرأ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (٢).
قال : الذي للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من تعطيه؟ ومن ذو القربى؟
__________________
١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٢٩.
٢ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٤١.
قال : قد اختلف فيه الفقهاء فقال بعضهم : قرابة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام ، وقال بعضهم : الخليفة ، وقال بعضهم : قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين.
قال : فأيُّ ذلك تقول أنت؟
قال : لا أدري.
قال : فأراك لا تدري ، فدع ذا. ثمَّ قال : أرأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟
قال : نعم.
قال : فقد خالفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في سيرته ، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم ، فاسألهم فإنهم لا يختلفون ، ولا يتنازعون في أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، ولا يهاجروا ، على إن دهمه (١) من عدوِّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم ، وليس لهم في الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في كل ما قلت في سيرته في المشركين ، ومع هذا ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) إلى آخر الآية (٢).
قال : نعم ، فكيف تقسمها؟
قال : أقسمها على ثمانية أجزاء ، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً ، قال : وان كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف منهم رجلا واحداً أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟
__________________
١ ـ دهمه : غشيه ، والدهم : العدد الكثير ، وجماعة الناس.
٢ ـ سورة التوبة ، الآية : ٦٠.
قال : نعم.
قال : وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي ، فتجعلهم فيها سواء؟
قال : نعم.
قال : فقد خالفت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في كل ما قلت في سيرته ، كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسمه بينهم بالسويَّة ، وإنما يقسمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس عليه في ذلك شيء موقّت موظّف ، وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم ، فإن كان في نفسك مما قلت شيءٌ فالقِ فقهاء أهل المدينة ; فإنهم لا يختلفون في أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كذا كان يصنع.
ثمَّ أقبل على عمرو بن عبيد فقال له : اتق الله ، وأنتم ـ أيُّها الرهط ـ فاتقوا الله ، فإن أبي حدَّثني ـ وكان خير أهل الأرض ، وأعلمهم بكتاب الله عزَّوجلَّ وسنة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : من ضرب الناس بسيفه ، ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف (١).
__________________
١ ـ الكافي ، الكليني : ٥ / ٢٣ ـ ٢٧ ح ١ ، تهذيب الأحكام الطوسي : ٦ / ١٤٨ ـ ١٥١ ح ٧ ، الاحتجاج ، الطبرسي : ٢ / ١١٨ ـ ١٢٢.
المناظرة السابعة
مناظرة
الإمام الصادق عليهالسلام مع القاضي ابن أبي ليلى
في وجوب متابعة علي بن أبي طالب عليهالسلام
قال القاضي النعمان المغربي : روينا عنه ـ صلوات الله عليه ـ أنّه قال يوماً لابن أبي ليلى : أتقضي بين الناس ، يا عبد الرحمن؟
فقال : نعم ، يا بن رسول الله.
قال : تنزع مالا من يدي هذا فتعطيه هذا ، وتنزع امرأة من يدي هذا فتعطيها هذا ، وتحدُّ هذا ، وتحبس هذا؟
قال : نعم.
قال : بماذا تفعل ذلك كلَّه؟
قال : بكتاب الله.
قال : كل شيء تفعله تجده في كتاب الله؟
قال : لا.
قال : فما لم تجده في كتاب الله ، فمن أين تأخذه؟
قال : فآخذه عن رسول الله.
قال : وكل شيء تجده في كتاب الله وعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
قال : ما لم أجده في كتاب الله ولا سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخذته عن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال : عن أيِّهم تأخذ؟
قال : عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ عليهالسلام وطلحة والزبير ، وعدَّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال : فكل شيء تأخذه عنهم تجدهم قد اجتمعوا عليه؟
قال : لا.
قال : فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟
قال : بقول من رأيت أن آخذ منهم أخذت.
قال : ولا تبالي أن تخالف الباقين؟
قال : لا.
قال : فهل تخالف عليّاً فيما بلغك أنه قضى به؟
قال : ربّما خالفته إلى غيره منهم.
فسكت أبو عبد الله عليهالسلام ساعة ينكت في الأرض ، ثمَّ رفع رأسه إليه ، فقال : يا عبد الرحمن! فما تقول يوم القيامة إن أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بيدك ، وأوقفك بين يدي الله فقال : أي ربِّ! إن هذا بلغه عنّي قول فخالفه؟
قال : وأين خالفت قوله يابن رسول الله؟
قال : ألم يبلغك قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه : أقضاكم علي؟ (١).
__________________
١ ـ تقدَّم مع بعض التخريجات في مناظرة الإمام الباقر عليهالسلام مع هشام بن عبد الملك ، وسوف يأتي المزيد في مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم.
قال : نعم.
قال : فإذا خالفت قوله ، ألم تخالف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
فاصفرَّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد كالأترجة ، ولم يحر جواباً (١).
وفي رواية الكليني : عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال : كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتى جئنا إلى المدينة ، فبينا نحن في مسجد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ دخل جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، فقلت لابن أبي ليلى : تقوم بنا إليه؟
فقال : وما نصنع عنده؟
فقلت : نسائله ونحدِّثه.
فقال : قم ، فقمنا إليه ، فسائلني عن نفسي وأهلي ، ثمَّ قال : من هذا معك؟ فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين.
فقال له : أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟
قال : نعم.
قال : تأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ وتقتل ، وتفرِّق بين المرء وزوجه؟ لا تخاف في ذلك أحداً؟
قال : نعم.
قال : فبأيِّ شيء تقضي؟
قال : بما بلغني عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعن علي عليهالسلام ، وعن أبي بكر وعمر.
قال : فبلغك عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : إن عليّاً عليهالسلام أقضاكم؟
__________________
١ ـ دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : ١ / ٩٢ ، مستدرك الوسائل ، الميرزا النوري : ١٧ / ٢٤١ ـ ٢٤٢ ح ٢ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ١٠١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ح ٣ ، و ٤٠ / ١٥٠.
قال : نعم.
قال : فكيف تقضي بغير قضاء عليٍّ عليهالسلام وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضّة ، وسماء من فضّة ، ثمَّ أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بيدك فأوقفك بين يدي ربِّك فقال : يا ربِّ! إن هذا قضى بغير ما قضيت؟
قال : فاصفرِّ وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ، ثمَّ قال لي : التمس لنفسك زميلا ، والله لا أكلِّمك من رأسي كلمة أبداً (١).
__________________
١ ـ الكافي ، الكليني : ٧ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ح ٥.
المناظرة الثامنة
مناظرة
الإمام الصادق عليهالسلام مع القاضي غيلان بن جامع
روى الكليني عن عقبة بن خالد قال : قال لي أبو عبدالله عليهالسلام لو رأيت غيلان بن جامع واستأذن عليَّ فأذنت له ، وقد بلغني أنه كان يدخل إلى بني هاشم ، فلمَّا جلس قال : أصلحك الله! أنا غيلان بن جامع المحاربي قاضي ابن هبيرة.
قال : قلت : يا غيلان! ما أظنُّ ابن هبيرة وضع على قضائه إلاَّ فقيهاً؟
قال : أجل.
قلت : يا غيلان! تجمع بين المرء وزوجه؟
قال : نعم.
قلت : وتفرِّق بين المرء وزوجه؟
قال : نعم.
قلت : وتقتل؟
قال : نعم.
قلت : وتضرب الحدود؟
قال : نعم.
قلت : وتحكم في أموال اليتامى؟
قال : نعم.
قلت : وبقضاء من تقضي؟
قال : بقضاء عمر ، وبقضاء ابن مسعود ، وبقضاء ابن عباس ، وأقضي من قضاء أميرالمؤمنين عليهالسلام بالشيء.
قال : قلت : يا غيلان! ألستم تزعمون ـ يا أهل العراق ـ وتروون أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : علي أقضاكم؟
فقال : نعم.
قال : قلت : وكيف تقضي من قضاء علي عليهالسلام ـ زعمت ـ بالشيء ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : عليٌّ أقضاكم؟
قال : وقلت : كيف تقضي يا غيلان؟
قال : أكتب : هذا ما قضى به فلان بن فلان لفلان بن فلان ، يوم كذا وكذا ، من شهر كذا وكذا ، من سنة كذا ، ثمَّ أطرحه في الدواوين.
قال : قلت : يا غيلان! هذا الحتم من القضاء ، فكيف تقول إذا جمع الله الأولين والأخرين في صعيد ، ثمَّ وجدك قد خالفت قضاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلي عليهالسلام؟
قال : فأقسم بالله لجعل ينتحب.
قلت : أيُّها الرجل! اقصد لسانك.
قال : ثمَّ قدمت الكوفة ، فمكثت ما شاء الله ، ثمَّ إنّي سمعت رجلا من الحيِّ يحدِّث ، وكان في سمر ابن هبيرة ، قال : والله إنّي لعنده ليلة إذ جاءه الحاجب
فقال : هذا غيلان بن جامع ، فقال : أدخله ، قال : فدخل فساءله ، ثمَّ قال له : ما حال الناس؟ أخبرني لو اضطرب حبل من كان لها؟
قال : ما رأيت ثمَّ أحداً إلاَّ جعفر بن محمّد عليهالسلام .. (١).
__________________
١ ـ الكافي ، الكليني : ٧ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ح ١٣.
المناظرة التاسعة
مناظرة
الإمام الصادق عليهالسلام وبعض أصحابه مع الشامي
روى الكشي عليه الرحمة ، عن هشام بن سالم قال : كنّا عند أبي عبد الله عليهالسلام جماعة من أصحابه ، فورد رجل من أهل الشام ، فاستأذن فأذن له ، فلمَّا دخل سلَّم ، فأمره أبو عبد الله عليهالسلام بالجلوس.
ثمَّ قال له : ما حاجتك أيُّها الرجل؟
قال : بلغني أنّك عالم بكل ما تسأل عنه ، فصرت إليك لأناظرك.
فقال أبو عبد الله عليهالسلام : في ماذا؟
قال : في القرآن ، وقطعه وإسكانه ، وخفضه ونصبه ورفعه.
فقال أبو عبد الله عليهالسلام : يا حمران! دونك الرجل.
فقال الرجل : إنّما أريدك أنت لا حمران.
فقال أبو عبد الله عليهالسلام : إن غلبت حمران فقد غلبتني.
فأقبل الشاميُّ يسأل حمران حتى غرض (١) ، وحمران يجيبه.
فقال أبو عبدالله عليهالسلام : كيف رأيت يا شاميّ؟!
قال : رأيته حاذقاً ، ما سألته عن شيء إلاَّ أجابني فيه.
__________________
١ ـ أي : ملَّ وضجر.
فقال : أبو عبدالله عليهالسلام : يا حمران! سل الشاميَّ ، فما تركه يكشر (١).
فقال الشامي : أرأيت ـ يا أبا عبد الله ـ أناظرك في العربية.
فالتفت أبو عبدالله عليهالسلام فقال : يا أبان بن تغلب! ناظره ، فناظره فما ترك الشامي يكشر.
قال : أريد أن أناظرك في الفقه.
فقال أبو عبدالله عليهالسلام : يا زرارة! ناظره ، فما ترك الشامي يكشر.
قال : أريد أن أناظرك في الكلام.
فقال : يا مؤمن الطاق! ناظره ، فناظره فسجل الكلام بينهما ، ثمَّ تكلَّم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به.
فقال : أريد أن أناظرك في الاستطاعة.
فقال للطيار : كلِّمه فيها.
قال : فكلَّمه فما تركه يكشر.
فقال : أريد أناظرك في التوحيد.
فقال لهشام بن سالم : كلِّمه ، فسجل الكلام بينهما ، ثمَّ خصمه هشام.
فقال : أريد أن أتكلَّم في الإمامة.
فقال لهشام بن الحكم : كلِّمه يا أبا الحكم فكلَّمه فما تركه يريم ولا يحلي ولا يمري.
قال : فبقي يضحك أبو عبدالله عليهالسلام حتى بدت نواجذه.
فقال الشامي : كأنك أردت أن تخبرني أن في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟
قال : هو ذلك ، ثمَّ قال : يا أخا أهل الشام ، أمَّا حمران فحزقك فحرت له فغلبك بلسانه ، وسألك عن حرف من الحقِّ فلم تعرفه.
__________________
١ ـ كشَّر عن أسنانه ، كشف عن أسنانه ، أرعده.