مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

تخلُّفهما.

فقلت : هذا خطأ محض ، فإن الاجتهاد إنما يجوز في مسألة لا نصَّ فيها ، ولا يجوز مقابل النصّ بإجماع علماء الإسلام ، وقد قال الله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) فاجتهادهما هذا ردٌّ على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل يتصوَّر مسلم أنهما أعلم بصلاح المسلمين من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ما هذا ( إلاَّ ) العمى عن الحقّ ، والتلبُّس بالشبهات.

فقال : أمهلني حتى أنظر.

فقلت : قد أمهلتك إلى يوم القيامة ، ثمَّ ذكرت له ـ بعد ذلك ـ حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي ، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة ، من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقولن : أي ربِّ! أصحابي! فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٢).

ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر ، والمعنى متفق ، وفي آخره زيادة : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم (٣).

__________________

١ ـ سورة النجم ، الآية : ٣ ـ ٤.

٢ ـ مسند أبي يعلى الموصلي : ٧ / ٣٤ ـ ٣٥ ح ٣٩٤٢ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧ / ٤١٥ ح ٣٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤٨ و ٥٠ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٣٦ / ٨ ، فتح الباري ، ابن حجر : ١١ / ٣٣٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي ١٣ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ح ٣٦٧١٤ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٣٧٧.

٣ ـ مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٢٣٥ ، السنن الكبرى ، النسائي : ١ / ٦٦٨ ـ ٦٦٩ ح ٢٢١٤ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ٣ / ١٨٦.

١٦١

ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، وفي آخره زيادة : فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدَّل بعدي (١).

ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة ، من عدّة طرق ، وفي آخره زيادة : فلا يخلص منهم إلاَّ همل (٢) النعم (٣).

وقد روى مثل ذلك من مسند عائشة بعدّة طرق ، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر بعدّة طرق ، ومن مسند أم سلمة بعدّة طرق ، ومن مسند سعيد بن المسيَّب بعدّة طرق.

وهذا ذمٌّ لهم على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الثابت في صحاحكم ، قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو عين ما ندّعيه من ميل كثير منهم إلى الملك والرئاسة والحياة الدنيا ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وجدّوا في أذاهم.

وقد سمعنا بسير الملوك الذين قتلوا أبناءهم ، والأبناء الذين قتلوا آباءهم حرصاً على الملك ، وأظهر من ذلك في القرآن ، فقد أخبر بوقوع أكبر الكبائر منهم ، وهي الفرار من الزحف ، قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (٤).

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ٨٧ ، صحيح مسلم : ٧ / ٦٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٢٨ و ٥ / ٣٣٣.

٢ ـ قال ابن الأثير في مادة ( همل ) : في حديث الحوض : فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم. الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها : هامل. أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ( النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ٥ / ٢٧٤ ).

٣ ـ صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، فتح الباري ، ابن حجر : ١١ / ٣٣٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ح ٣٠٩١٨.

٤ ـ سورة التوبة ، الآية : ٢٥.

١٦٢

وقد كانوا أكثر من عشرة آلاف ، فلم يتخلف معه إلاَّ علي عليه‌السلام والعباس وجماعة أخرى ، والباقون سلَّموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من الله ولا من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وممَّا يشاهدانهما عياناً.

وقال الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ) (١) فإذا كانوا يتركون الصلاة خلفه للتفرُّج على القافلة ، فكيف يستبعد ميلهم إلى الدنيا بعده ، واتّباعهم هوى أنفسهم في طلب الملك؟ وقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في الأخبار المتقدّمة.

وذكرت له قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني (٢) ، وعزله عن براءة ، فلم يؤمن عليها ، وهي سورة واحدة ، وهزيمته وهزيمة عمر في خيبر وعدّة مواطن (٣).

__________________

١ ـ سورة الجمعة ، الآية : ١١.

٢ ـ المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : ١١ / ٣٣٦ ح ٢٠٧٠١ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٣ / ٢١٢ ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ٦١ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٣٠ / ٣٠٣ ، البداية والنهاية ، ابن الأثير : ٣٣٤ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١ / ٣٤.

٣ ـ روى الحاكم النيسابوري بالإسناد عن أبي ليلى ، عن علي عليه‌السلام أنه قال : يا أبا ليلى! أما كنت معنا بخيبر؟ قال : بلى والله ، كنت معكم ، قال : فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر إلى خيبر ، فسار بالناس وانهزم حتى رجع. قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وروى أيضاً بالإسناد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع الراية يوم خيبر إلى عمر ، فانطلق فرجع يجبِّن أصحابه ويجبّنونه ، قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

( المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ٣٧ ـ ٣٨ ).

وروى ابن عساكر بالإسناد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر إلى خيبر ، فهزم فرجع ، فبعث عمر فهزم ، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأدفعنَّ الراية إلى رجل يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله ، يفتح الله عليه ، فدعا علياً ،

١٦٣

ومنعه فاطمة عليها‌السلام إرثها بحديث تفرَّد بروايته ، مخالف للقرآن يجب ردُّه ، وقالت له عليها‌السلام : أترث أباك ولا أرث أبي؟! أفي كتاب الله ذلك؟! (١).

ويلزم أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قصَّر في أنه لم ينذر إلاَّ أبا بكر ، ولم ينذر أهل البيت عليهم‌السلام وقد قال الله تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ) (٢).

ومنها ( أنه غصب ) فدك التي أنحلها إيَّاها أبوها ، وشهد لها عليٌّ والحسنان عليهم‌السلام وأم أيمن ، وردّ شهادتهم ـ وهم مطهَّرون ـ تعصُّباً وعناداً ، أو جهلا بالأحكام ، فماتت مغضبة عليهما ، وأوصت ألا يصلّيا عليها ، وأن تدفن ليلا ، وقد قال أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (٣).

وذكرت له منع عمر من الكتاب الذي لا يضلُّ بعده ، وشتمه للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : دعوه ، فإن نبيَّكم يهجر (٤) ، وهذا ردٌّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الله ، وهو كفر.

ومنع من المغالاة في المهور ، فنبَّهته امرأة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر

__________________

فقيل له : إنَّه أرمد ، قال : ادعوه ، فدعوه فجاءه ، فدفع إليه الراية ففتح الله عليه.

( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٩٦ ـ ٩٧ ).

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٢٧ ، بلاغات النساء ، ابن طيفور : ١٤ ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : ١ / ١٦١.

٢ ـ سورة الشعراء ، الآية : ٢١٤.

٣ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٥٧.

٤ ـ راجع : صحيح البخاري : ٤ / ٣١ و ٦٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٢٢٢ ، صحيح مسلم : ٥ / ٧٥ ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : ٥٧ ح ٩٩٩٢.

١٦٤

حتى المخدَّرات ( في الحجال ) (١) ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما (٢) ، وهذا يقدح في إيمانه.

وأبدع في قيام نوافل رمضان جماعة ، واعترف بأنّهما بدعة (٣) ، مع أن كل بدعة ضلالة.

وذكرت له أن عثمان ولَّى أمور المسلمين للفساق ، لمحض القرابة ، بعد أن

__________________

١ ـ السنن الكبرى ، البيهقي : ٧ / ٢٣٣ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٢ و ١٢ / ٢٠٨ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٦ / ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ح ٤٥٧٩٦ ، فيض القدير ، المناوي : ٢ / ٨ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ١٣٣.

٢ ـ علل الدار قطني : ٢ / ١٥٦ ح ١٨٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٢ ، مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٣٢٥ ، تاريخ بغداد ، البغدادي : ١٤ / ٢٠٢ ، تاريخ دمشق. ابن عساكر : ٦٤ / ٧١ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٣١ / ٢١٤ ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : ١ / ٣٦٦ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٦ / ٥٢١ ح ٤٥٧٢٢ ، تفسير القرطبي ٢ / ٣٩٢.

٣ ـ روى البخاري ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمَّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثمَّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة.

صحيح البخاري : ٢ / ٢٥٢ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٢ / ٤٩٣ ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : ٤ / ٢٥٩.

وجاء في شرح النهج : أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع ، فقال : بدعة فنعمت البدعة! فاعترف ـ كما ترى ـ بأنّها بدعة ، وقد شهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن كل بدعة ضلالة. وقد روي أن أميرالمؤمنين عليه‌السلام لمَّا اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرَّفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم ، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن عليه‌السلام ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمَّا رأوه تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه! شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٢ / ٢٨٣.

١٦٥

نهاه الصحابة ، ولم يلاحظ الله في ذلك ، حتى أظهروا المناكير من القتل وشرب الخمر ، وضرب عبدالله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه ، وضرب عمَّار بن ياسر حتى حدث به فتق (١) ، ونفى أبا ذر مع عظم شأنه ، وتقدُّمه في الإسلام ، ولا ذنب له سوى إنكاره على بعض منكراته.

وآوى طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله منها ، وسأل قبل ذلك أبا بكر وعمر في ردِّه فلم يقبلا ، فعند ذلك ثار عليه الناس فقتلوه ، وكان الصحابة والتابعون بين قاتل وراض ، ولم يحم عنه منهم أحد ، وترك ثلاثة أيام بغير دفن.

وقد شهد عمَّار بن ياسر ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وجماعة آخرون بكفره ، وقالوا : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، وكانوا يقولون علانية : قتلناه ـ بحمد الله ـ كافراً (٣).

ثمَّ بيَّنت له أن عمر قد فتح البلاد بسيوف الصحابة ، وإمداد أهل البيت عليهم‌السلام كما نقل ، ومع ذلك لا يدلّ على مدّاكم فيه ; لأن ذلك للزيادة في ملكه ، ونحن نجد الملوك يسفكون الدماء لفتح البلاد والزيادة في الملك ، وإن استوجب العقاب في الآخرة ، وما فعله عمر لزيادة ملكه وإظهار صيته ، وليس عليه في الآخرة منه لوم ، فأيُّ دليل على صلاح باطنه؟!

وذكرت له أمثال ذلك مما يطول شرحه ، واتفق أهل النقل من الشيعة والسنة والمعتزلة على نقله وصحّته ، فلم يمكنهم إنكاره ، ولهذا تأوَّلوه بتكلُّفات

____________

١ ـ راجع مصادره في الجزء الثالث من هذا الكتاب : ٤٨٧.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٤٤.

٣ ـ المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ١٧١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٧.

١٦٦

تصغر عن النقل ، ويحكم بفسادها كل ذي عقل.

وكان يجيبني في المجلس عن بعضها بما ذكروه من التكلُّفات ، فأردُّه بأيسر وجه ، وقلت له : إن اتّباع الحقّ يحتاج إلى إنصاف ، وترك الهوى ، والتقليد المألوف ، وإلاَّ فمعاجز نبيِّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالّة على صدقه ، كالقرآن وانشقاق القمر لا تبقي لأحد شكاً ، والكفَّار لمَّا سلكوا التعصُّب والعناد والتقليد المألوف لهم ، نشزت أنفسهم عن قبول ذلك ، وقابلوه بالشبهات ، فبقوا على كفرهم ، فاعترف بذلك.

حديث الأئمة إثنى عشر

ودخلت إلى عنده يوماً ، فرأيت بين يديه كتباً منها صحيح البخاري ، فتذكَّرت الأحاديث التي فيه : إن الأئمة اثنا عشر ـ فأريته إيّاها ـ وذلك أنه روي في صحيح البخاري بطريقين :

أحدهما : إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلُّهم من قريش (١).

وثانيهما : إلى ابن عيينة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا ، ثمَّ تكلَّم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش (٢).

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ١٢٧ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٩٠ و ٩٣ و ٩٥ ، صحيح ابن حبان : ١٥ / ٤٤ ، مسند أبي داوود : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، فتح الباري ، ابن حجر : ١٣ / ١٨١.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٩٧ ـ ٩٨ و ١٠١ ، صحيح مسلم : ٦ / ٣ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٦ / ٢٥٤ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ٦١٧ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٢ / ١٩٦.

١٦٧

وروى بطريق آخر إلى ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان (١).

وذكرت له أن مسلماً روى في صحيحه هذا الحديث بلفظه ، وروى مسلم أيضاً في صحيحه الحديث الأول بطرق متعدِّدة ، وكان صحيح مسلم عنده فأتى به ، فأريته ذلك فيه ، وفي بعض طرقه : لا يزال هذا الدين عزيزاً (٢).

فقلت له : هذا عين ما تقوله الشيعة ، وشاهد بصحّة معتقدهم ، فلا يتمُّ إلاَّ على مذهبهم ، فيكونون هم الفرقة الناجية ; لأنهم هم المتمسِّكون بالخليفتين اللذين لن يفترقا حتى يردا الحوض ، القائلون بالاثني عشر خليفة ، الموادُّون أهل بيت نبيهم عليهم‌السلام ، الذين جعل الله ودَّهم أجر الرسالة بقوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) فإن غير الشيعة لم يميِّزوهم ، بل قدَّموا غيرهم عليهم ، فلا يضرُّهم تلبيس المتلبِّسين بالشبهات ، ولا معاداة المعاندين.

ثمَّ باحثته في مسائل كلاميّة ، كالرؤية ، والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعيَّة كالمسح ، والمتعة ، وذلك بعد أن كان قد أذعن واستقرَّ الإيمان في قلبه ، وسبَّ أعداء أهل البيت عموماً ، لما تبيَّن له أحوالهم ، وما وقع منهم ، واتّضحت له حقيقة الحال ، وصار من خواصّ الشيعة.

ولله الحمد أولا وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين إلى يوم الدين.

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ١٠٥ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٦ / ٣٩٠ ، شرح مسلم ، النووي : ١٢ / ٢٠٠.

٢ ـ صحيح مسلم : ٦ / ٤ ، سنن أبي داوود : ٢ / ٣٠٩ ح ٤٢٨٠ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٩٦.

٣ ـ سورة الشورى ، الآية : ٢٣.

١٦٨

المناظرة الأربعون

مناظرة

الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية

في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة

قال محمّد طاهر القمّي الشيرازي عليه الرحمة : حكاية لطيفة مناسبة ، قد اتّفق لي صحبة في مكة المشرفة مع بعض فضلاء أهل السنة ، وكان مفتي الحنفيّة ، وكان يتوهَّم أني علم مذهبه وعقيدته ، فجرى بيني وبينه مكالمات هذا مضمونها وحاصلها : قلت له : هل يرجى النجاة للشيعة؟ وهم يقولون : ليس دليل يدلّ على عدم جواز اتّباع غير الأربعة ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام؟

فأجاب : بأن جعفر بن محمّد كان من المجتهدين الكبار ، ويجوز اتّباعه ، ولكن ما يدّعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمّد عليه‌السلام غير ثابت.

فقلت له : إن الشيعة يقولون : إنّا إذا سألنا الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة ، وقلنا لهم : من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين؟ قال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة : إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل

١٦٩

برأيه ، وهكذا نحن عملنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال : إذا كان هذا فهم من أهل النجاة (١).

__________________

١ ـ كتاب الأربعين ، محمّد طاهر القمي الشيرازي : ٦٤٠ ـ ٦٤١.

١٧٠

المناظرة الحادية والأربعون

مناظرة

رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين

قال العلاّمة الدربندي عليه الرحمة : حدَّثني علاّمة علماء العامة المفتي الأروسي ، قال : كنت مع جمع من عظماء العامة والمتنصِّبين المتعصِّبين منهم ، وكنّآ جالسين في مكان يكثر فيه عبور المسافرين والغرباء ، فمرَّ بنا رجل من أهل العجم ، وكان ممَّن لايملأ العيون لكونه وضيعاً ومن العوام ، فخاض طائفة من الجالسين في طعنه وإيذائه والاستهزاء به ، فقالوا : مالكم ـ أيَّها الأعاجم ، أيُّها الحمقاء! ـ تفعلون في كل سنة في شهر المحرَّم فعل المجانين والأطفال ، تضربون صدوركم ، وتحثون التراب على صدوركم ، وتجزعون ، وترفعون أصواتكم في الصيحة والضجَّة ، وتقولون : واحسناه واحسيناه ، ونحو ذلك؟

فقال : هذا الرجل : أتدرون سبب هذا وسره؟

فقالوا : لا.

فقال : هذا مما يجب فعله علينا ; لأنّا إن تركنا ذلك وبقينا على هذا الترك مدّة مديدة لكنتم تقولون : إن يزيد لم يقتل ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرّة عينه ، ولم يسبِ ـ بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إن قضيّة يوم الطفّ ليس لها أصل.

١٧١

فقالوا : فلم ذا؟

قال : إنّا قد جرَّبناكم وشاهدنا أمثال ذلك منكم مراراً.

فقالوا : فكيف ذا؟

فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل ابن عمِّه ووصيَّه وأميرالمؤمنين وسيِّد الوصيين إماماً وخليفة بأمر مؤكَّد من الله تعالى ، وكان ذلك بعد حجّة الوداع في مكان يسمَّى بخم ، وكان ذلك في محضر سبعين ألف رجل حاج في تلك السنة ، وقد وصل ذلك إليكم بطرق متكاثرة متظافرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ، مذكورة في كتبكم ، فلمَّا رأيتمونا أنَّا لا نفعل ـ خوفاً وتقيَّة منكم ـ يوم الغدير ، الذي هو أعظم الأعياد سلكتم جادّة الاعتساف ، وخالفتم أمر الله تعالى ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنكرتم قضيَّة الغدير من أصلها (١).

__________________

١ ـ وفي يوم الغدير يقول الكميت :

وَيَوْمَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ

أَبَانَ لَهُ الْوِلاَيَةَ لَوْ أُطِيْعَا

ولكنَّ الرِّجالَ تَبَايعوها

فكم لك مثلُها خَطباً منيعا

وَلَمْ أر مِثْلَ ذاك اليومِ يوماً

وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ حقّاً أُضيعا

وروي أن ابن الكميت رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فقال : أنشدني قصيدة أبيك! فلمَّا وصل إلى هذا بكى بكاء شديداً ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدق أبوك رحمة الله ، اي ـ والله ـ لم أر مثله حقّاً أضيعا.

الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : ١ / ٣١٠.

وفي كنز الفوائد للكراجكي : ١٥٤ قال هناد بن السري : رأيت أميرالمؤمنين عليه‌السلام في المنام ، فقال لي : يا هناد! قلت : لبَّيك يا أميرالمؤمنين ، قال : أنشدني قول الكميت :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان لنا الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها أمراً شنيعا

قال : فأنشدته فقال : خذ إليك يا هناد ، فقلت : هات يا سيدي ، فقال :

ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً

ولم أر مثله حقاً أضيعا

١٧٢

ونجدِّد في كل سنة إقامة التعزية ، وذكر مصائب سيِّد الشهداء عليه‌السلام والنوح والجزع والبكاء عليه ، واللعن على قاتله ، وتسميتهم بأسمائهم لئلا تطمعوا في إنكار هذا الأمر البديهيِّ الضروريِّ ، الواصل شأنه إلى هذا المقام ..

قال : لمَّا سمعوا مقالته هذه ارتعدت فرائصهم ، وتغيَّرت ألوانهم ، واصفرَّت وجوههم ، وطأطأوا رؤوسهم إلى الأرض ، فارتطموا في الوحل.

ثمَّ قال : والله إن هذا كان في باب ذلك الرجل من ألطاف الله تعالى وإلهاماته بحسب المقام ; لأنه كان رجلا من عوام الناس ، غير مطّلع على اصطلاحات العلماء ، وكيفيّة معارضتهم ومباحثاتهم (١).

قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني المستبصر : والمحاولات التي يبثُّها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين عليه‌السلام ما هي إلاَّ إحدى المحاولات لإسكات صوت الحقّ ، وإطفاء نور الله ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢).

ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ، ولقالوا لنا اليوم إن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي عليه‌السلام ، ويكفي فخراً لمجالس الحسين عليه‌السلام أنَّها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة ، وتلهب في النفس المؤمنة روح الجهاد ، ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين عليه‌السلام ليسري مفعولها السحريُّ في الأرواح المؤمنة (٣).

__________________

١ ـ أسرار الشهادة ، الدربندي : ١ / ٧٥ ـ ٧٦.

٢ ـ سورة التوبة ، الآية : ٣٢.

٣ ـ بنور فاطمة اهتديت ، عبدالمنعم حسن السوداني : ٢٠٣.

١٧٣

المناظرة الثانية والأربعون

مناظرة

الشيخ الكاظمي مع الآلوسي

قال العلاّمة الميانجي رحمه‌الله : نقل السيِّد المحقِّق العلامة الحاج السيِّد مهدي الروحاني : أن في بغداد انعقدت حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة ، وحضرها العالم الكبير والمحقِّق التقيُّ الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي ، فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال : كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينيّة في المجالس فيستفيد منه الناس ، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعيَّة حتى يستفيد هؤلاء؟

قال الشيخ : باختياركم.

قال الآلوسي : فهل في الأصول أو الفروع؟

قال الشيخ : باختياركم.

قال : فإذن نبحث في الأصول ، ولكن في أيِّ أصل منها؟ فهل نجعلها مناظرة؟

قال الشيخ : باختياركم.

قال الآلوسي : لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين؟

قال الشيخ : للمدّعي أن يأتي بدليل ، فإنّا نسأل أهل السنة : لم اختاروا إمامة الشيخين؟

١٧٤

قال الآلوسي : لأنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصبه للصلاة في أيام مرضه.

وهنا أخذ الشيخ يذكِّر الآلوسي بأن بعض الصحابة زعم أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه كان يهجر ( وذلك لما قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آتوني بدواة وكتف ... ) (١).

سكت الآلوسي وبهت وتحير ، وبان على وجهه الانكسار والعيُّ ، وفهمه الحاضرون ، وانكسر أهل السنّة الموجودون في المجلس ، وسرَّ وفرح الشيعة ، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشيء ينسيه فقال : هلمّوا بالطعام ، فجاءوا بالطعام إليَّ وإليه ، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح ، وأخذ يأكل من الطعام.

فقال الألوسي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أكل وحده فشريكه شيطان.

فقال الشيخ : صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانكسر الآلوسي أيضاً ، وضحك الحاضرون.

وكان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع أمام كل من الحاضرين دجاجة ، فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه ، فقال : عرف الحقُّ أهله فتقدَّم ، فقال الشيخ : لا ، بل حفر الشيخ تحته فتهدَّم.

قال الأحمدي الميانجي رحمه‌الله : نقل السيِّد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاك فرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الأول من ١٤٠٦ هـ ق (٢).

__________________

١ ـ والمعنى الذي يريد أن يوصله الشيخ للآلوسي ولأمثاله من السنة : أنهم ماداموا يسلِّمون بصدور هذه المقالة بمحضر النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه وقد زعموا : أنّه يهجر وفي رواية قالوا : غلب عليه الوجع كما في صحيح البخاري وغيره ، ولم نر أحداً منهم ردَّ هذه المزاعم الكاذبة أو أنكر على قائلها ، فكيف يأخذون ويحتجّون ـ والحال هذه ـ ويدّعون أنه في مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟! فإن كان كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة في حال المرض فقوله : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حجّة أيضاً ، فلماذا غضّوا الطرف عن هذه الوصيَّة ، وأخذوا بما يروونه من أنّه في المرض قدَّم أبا بكر للصلاة؟ مع أن هذه الرواية غير ثابتة أيضاً وغير صحيحة. راجع : الجزء الثالث : ٢٦٠.

٢ ـ مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : ٣ / ٤٧٩ ـ ٤٨١.

١٧٥

المناظرة الثالثة والأربعون

مناظرة

الشيخ كاشف الغطاء مع أحمد أمين المصري

قال الشيخ الأحمدي الميانجي رحمه‌الله : سافرنا إلى الأهواز للقاء العلماء العظام فيها ، ونزلنا على السيِّد الجليل العالم الفاضل السيِّد محمّد علي الجزائري الشوشتري ، إمام الجمعة في الأهواز ، دامت إفاضاته ، كنت يوم الخميس ١٥ / ١٠ / ١٣٦٢ هـ. ش ، الموافق لـ ١ / ٤ / ١٤٠٤ هـ ق حبيس البيت ، جالساً أطالع في مكتبة السيِّد الجزائري دامت إفاضاته العالية ، فإذا بكتاب جنّة المأوى للعلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه‌الله ، المطبوع في تبريز بتحقيق العلاّمة الشهيد السيِّد محمّد علي القاضي الطباطبائي رحمه‌الله ، وفي مقدَّمته بقلم المحقِّق الشهيد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هذه الحكاية نقلا عن مجلة العرفان في المجلَّد ٢١ ج ٣ / ٣٠٨ : عند مجيء البعثة المصريّة المؤلَّفة من الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وإخوانه إلى النجف الأشرف ، ليلة ٢١ شهر رمضان من عام ١٣٤٩ هـ. ق ، وزيارته للإمام المترجم له ـ يعني المرحوم كاشف الغطاء ـ في داره ، ومشاهدة مكتبة الإمام في مدرسته العلميّة ، فكان لملاقاتهم له أثر بالغ في نفوسهم.

١٧٦

وإليك ما دار بينهم من المناظرات والمسألة لتقف على المواهب العالية كيف يخصُّ الله تعالى بعض عباده بها؟

قال سماحته لأحمد أمين : من العسير أن يلمَّ بما حول النجف وأوضاعها ـ وهي تلك المدينة العلميّة المهمّة ـ شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدّة ثلاثة أشهر متجوِّلا في بلدانها ، باحثا ومنقِّباً ، ثمَّ فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً إلاَّ قليلا ضمَّنته أبياتاً أتذكَّر منها :

تبزغ شمس العلى ولكن

من أفقها ذلك البزوغ

ومثلما تنبغ البرايا

كذا لبلدانها نبوغ

أكل شيء يروج فيها

اللهو وألزهو والنزوغ

فضحكوا من كلمة النزوغ.

قال الأستاذ أحمد أمين مخاطباً الشيخ : قلتم هذا قبل عشرين سنة؟

قال : نعم ، وقبل أن ينبغ طه حسين ، ويبزغ سلامة موسى ، ويبزغ فجر الإسلام ، وقد ضمَّنته ـ مخطاباً أحمد أمين ـ من التلفيقات عن مذهب الشيعة مالا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتّباعه (١).

__________________

١ ـ قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم الغدير : ٣ / ٣١٠ : فجر الإسلام ، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، هذه الكتب ألفَّها الأستاذ أحمد أمين المصري لغاية هو أدرى بها ، ونحن أيضاً لا يفوتنا عرفانها ، وهذه الأسماء الفخمة لا تغرُّ الباحث النابه مهما وقف على ما في طيِّها من التافهات والمخازي ، فهي كاسمه ( الأمين ) لا تطابق المسمَّى ، وأيم الله إنه لو كان أميناً لكان يتحفَّظ على ناموس العلم والدين والكتاب والسنّة ، وكفِّ القلم عن تسويد تلك الصحائف السوداء .. ولم يطمس الحقائق ، ولم يظهرها للناس بغير صورها الحقيقيّة المبهجة ، ولم يحرِّف الكلم عن مواضعها ، ولم

١٧٧

قال أحمد أمين : ولكنه ذنب الشيعة أنفسهم ; إذ لم يتصدّوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه.

الشيخ : هذا كسابقه ... فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من أيِّ كتب ، وأيِّ مذهب آخر ، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها ، هذا فضلا عمّا يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها.

أحمد أمين : حسناً ، سنجهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني .. إلخ (١).

__________________

يقذف أمّة كبيرة بنسب مفتعلة ، ولم يتقوَّل عليهم بما يدنِّس ذيل قدسهم. كما أن تآليفه هذه لو كانت إسلامية ـ كما توهمها أسماؤها ـ لما كانت مشحونة بالضلال والإفك وقول الزور ، ولما بعدت عن أدب الإسلام.

وقال في موضع آخر : ٣ / ٣٣٨ : وواجب رجال الدعاية والنشر في الحكومات الإسلاميّة عرض كل تأليف مذهبيٍّ حول أيِّ فرقة من فرق الإسلام إلى أصولها ومبادئها الصحيحة المؤلَّفة بيد رجالها ومشايخها ، والمنع عما يضادُّها ويخالفها .. وعليهم قطع جذور الفساد قبل أن يؤجِّج المفسد نار الشحناء في الملأ ، ثمَّ يعتذر بعدم الاطّلاع وقلّة المصادر عنده ، كما فعل أحمد أمين بعد نشر كتابه فجر الإسلام في ملأ من قومه ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ولا عذر لأيِّ أحد في القعود عن واجبه الديني الاجتماعي ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سوره آل عمران ، الآية : ١٠٤.

١ ـ مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : ٣ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.

١٧٨

المناظرة الرابعة والأربعون

مناظرة

العلاّمة الشيخ الأميني رحمه‌الله مع الأستاذ حسين الأعظمي

وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد

في الحديث عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام بما وصفه الوحي الإلهيّ

قال الشيخ رضا الأميني : لقاء بين علمين ، في حديث لشيخنا الوالد ـ طاب ثراه ـ قال : وقفت في ( جريدة الساعة ) البغداديّة الصادرة في شهر محرَّم (١) على قصيدة عصماء للأستاذ حسين علي الأعظمي ، وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد ، في رثاء الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأشار في التعليق على بعض أبياتها إلى أن له مؤلَّفاً في حياة الإمام أميرالمؤمنين عليه‌السلام.

فأحببت أن أقف عن كثب على تأليفه ، وأسبر طريقته في ذلك ، وإن وجدت لديه نظماً في واقعة ( الغدير ) جعلته ضمن شعراء القرن الرابع عشر الهجري.

__________________

١ ـ جاء في الهامش : لم يحضرني التاريخ بصورة دقيقة ، وأكثر ظنّي أنه كان بين أعوام ٦٥ ـ ١٣٦٧ هجريّة.

١٧٩

فقصدت داره ، وكانت على مقربة من إحدى سفارات الدول الغربيّة ، فطرقت الباب فخرج إليَّ خادمه ، فسألته عن الأستاذ فأجاب : نعم ، هو موجود في الدار ، فطلبت مواجهته فخرج إليَّ الأستاذ ، وما إن رآني أخذ يفكِّر في السرِّ الذي دعاني إلى زيارته ، لم قصد هذا العالم الشيعيُّ زيارتي؟ أهو بحاجة للتوسُّط في قبول أبنائه في الجامعة؟ أم للتوسُّط في توظيف أحد منسوبيه في إحدى الدوائر؟ فبدأته بالسلام وقلت : أنا أخ لك في الدين ، فإن كنت في شك من إسلامك فأنا قبل كل شيء أعترف بإسلامك وإيمانك ، لما سبرته في قصيدتك العصماء في رثاء سيِّدنا السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام من نزعة دينيّة ، وإن كنت في شك من إسلامي فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسله بالهدى ودين الحقّ.

فخرج الأستاذ إلى خارج الدار ، ومدَّ يده للمصافحة ، عند ذلك بسطت له ذراعي واحتضنته ، فتبادلنا القبلات ، وسار بي إلى الغرفة الخاصة باستقبال زائريه ، عند ذلك افتتحت الحديث بالكلام حول قصيدته ، وتطرَّقت إلى ما أشار إليه في التعليق على بعض أبياتها ، وأن له مؤلَّفاً حول الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأني قصدته من النجف الأشرف لأشكره على قصيدته ورؤية مؤلَّفه.

خلال بحثنا فيما عرضته عليه دخل الغرفة بكل أدب أشباله الثلاثة ، وكانوا من ذوي الثقافة العالية ، عليهم سيماء العلم والأدب ، وبعد المصافحة وتبادل عبارات الترحيب ، اغتنم الأستاذ الأعظمي الفرصة وأراد أن يستخبر ميزان ثقافتي وعلمي ، وما أتحلَّى به من العلوم الإسلاميَّة ، فقال : شيخنا! ما رأيكم حول كتاب ( عبقريَّة الإمام علي عليه‌السلام ) تأليف الأستاذ المصري عباس محمود العقَّاد؟ ولم يكن مضى على عرض كتابه في الأسواق التجاريَّة سوى أشهر عديدة ، وقد لاقى إقبالا كبيراً بين الشباب العربي والإسلامي.

١٨٠