الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
تخلُّفهما.
فقلت : هذا خطأ محض ، فإن الاجتهاد إنما يجوز في مسألة لا نصَّ فيها ، ولا يجوز مقابل النصّ بإجماع علماء الإسلام ، وقد قال الله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) فاجتهادهما هذا ردٌّ على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهل يتصوَّر مسلم أنهما أعلم بصلاح المسلمين من الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! ما هذا ( إلاَّ ) العمى عن الحقّ ، والتلبُّس بالشبهات.
فقال : أمهلني حتى أنظر.
فقلت : قد أمهلتك إلى يوم القيامة ، ثمَّ ذكرت له ـ بعد ذلك ـ حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي ، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة ، من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : إن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقولن : أي ربِّ! أصحابي! فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٢).
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر ، والمعنى متفق ، وفي آخره زيادة : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم (٣).
__________________
١ ـ سورة النجم ، الآية : ٣ ـ ٤.
٢ ـ مسند أبي يعلى الموصلي : ٧ / ٣٤ ـ ٣٥ ح ٣٩٤٢ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧ / ٤١٥ ح ٣٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٤٨ و ٥٠ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٣٦ / ٨ ، فتح الباري ، ابن حجر : ١١ / ٣٣٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي ١٣ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ح ٣٦٧١٤ ، تفسير القرطبي : ٦ / ٣٧٧.
٣ ـ مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٢٣٥ ، السنن الكبرى ، النسائي : ١ / ٦٦٨ ـ ٦٦٩ ح ٢٢١٤ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ٣ / ١٨٦.
ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، وفي آخره زيادة : فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدَّل بعدي (١).
ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة ، من عدّة طرق ، وفي آخره زيادة : فلا يخلص منهم إلاَّ همل (٢) النعم (٣).
وقد روى مثل ذلك من مسند عائشة بعدّة طرق ، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر بعدّة طرق ، ومن مسند أم سلمة بعدّة طرق ، ومن مسند سعيد بن المسيَّب بعدّة طرق.
وهذا ذمٌّ لهم على لسان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الثابت في صحاحكم ، قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو عين ما ندّعيه من ميل كثير منهم إلى الملك والرئاسة والحياة الدنيا ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت عليهمالسلام ، وجدّوا في أذاهم.
وقد سمعنا بسير الملوك الذين قتلوا أبناءهم ، والأبناء الذين قتلوا آباءهم حرصاً على الملك ، وأظهر من ذلك في القرآن ، فقد أخبر بوقوع أكبر الكبائر منهم ، وهي الفرار من الزحف ، قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (٤).
__________________
١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ٨٧ ، صحيح مسلم : ٧ / ٦٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٢٨ و ٥ / ٣٣٣.
٢ ـ قال ابن الأثير في مادة ( همل ) : في حديث الحوض : فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم. الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها : هامل. أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ( النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ٥ / ٢٧٤ ).
٣ ـ صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، فتح الباري ، ابن حجر : ١١ / ٣٣٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ح ٣٠٩١٨.
٤ ـ سورة التوبة ، الآية : ٢٥.
وقد كانوا أكثر من عشرة آلاف ، فلم يتخلف معه إلاَّ علي عليهالسلام والعباس وجماعة أخرى ، والباقون سلَّموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من الله ولا من رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وممَّا يشاهدانهما عياناً.
وقال الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ) (١) فإذا كانوا يتركون الصلاة خلفه للتفرُّج على القافلة ، فكيف يستبعد ميلهم إلى الدنيا بعده ، واتّباعهم هوى أنفسهم في طلب الملك؟ وقد أخبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك في الأخبار المتقدّمة.
وذكرت له قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني (٢) ، وعزله عن براءة ، فلم يؤمن عليها ، وهي سورة واحدة ، وهزيمته وهزيمة عمر في خيبر وعدّة مواطن (٣).
__________________
١ ـ سورة الجمعة ، الآية : ١١.
٢ ـ المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : ١١ / ٣٣٦ ح ٢٠٧٠١ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٣ / ٢١٢ ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ٦١ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٣٠ / ٣٠٣ ، البداية والنهاية ، ابن الأثير : ٣٣٤ ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١ / ٣٤.
٣ ـ روى الحاكم النيسابوري بالإسناد عن أبي ليلى ، عن علي عليهالسلام أنه قال : يا أبا ليلى! أما كنت معنا بخيبر؟ قال : بلى والله ، كنت معكم ، قال : فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث أبا بكر إلى خيبر ، فسار بالناس وانهزم حتى رجع. قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى أيضاً بالإسناد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دفع الراية يوم خيبر إلى عمر ، فانطلق فرجع يجبِّن أصحابه ويجبّنونه ، قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
( المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ٣٧ ـ ٣٨ ).
وروى ابن عساكر بالإسناد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا بكر إلى خيبر ، فهزم فرجع ، فبعث عمر فهزم ، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لأدفعنَّ الراية إلى رجل يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله ، يفتح الله عليه ، فدعا علياً ،
ومنعه فاطمة عليهاالسلام إرثها بحديث تفرَّد بروايته ، مخالف للقرآن يجب ردُّه ، وقالت له عليهاالسلام : أترث أباك ولا أرث أبي؟! أفي كتاب الله ذلك؟! (١).
ويلزم أن يكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد قصَّر في أنه لم ينذر إلاَّ أبا بكر ، ولم ينذر أهل البيت عليهمالسلام وقد قال الله تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ) (٢).
ومنها ( أنه غصب ) فدك التي أنحلها إيَّاها أبوها ، وشهد لها عليٌّ والحسنان عليهمالسلام وأم أيمن ، وردّ شهادتهم ـ وهم مطهَّرون ـ تعصُّباً وعناداً ، أو جهلا بالأحكام ، فماتت مغضبة عليهما ، وأوصت ألا يصلّيا عليها ، وأن تدفن ليلا ، وقد قال أبوها صلىاللهعليهوآلهوسلم : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (٣).
وذكرت له منع عمر من الكتاب الذي لا يضلُّ بعده ، وشتمه للنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : دعوه ، فإن نبيَّكم يهجر (٤) ، وهذا ردٌّ على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى الله ، وهو كفر.
ومنع من المغالاة في المهور ، فنبَّهته امرأة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر
__________________
فقيل له : إنَّه أرمد ، قال : ادعوه ، فدعوه فجاءه ، فدفع إليه الراية ففتح الله عليه.
( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٩٦ ـ ٩٧ ).
١ ـ تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٢٧ ، بلاغات النساء ، ابن طيفور : ١٤ ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : ١ / ١٦١.
٢ ـ سورة الشعراء ، الآية : ٢١٤.
٣ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٥٧.
٤ ـ راجع : صحيح البخاري : ٤ / ٣١ و ٦٦ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٢٢٢ ، صحيح مسلم : ٥ / ٧٥ ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : ٥٧ ح ٩٩٩٢.
حتى المخدَّرات ( في الحجال ) (١) ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما (٢) ، وهذا يقدح في إيمانه.
وأبدع في قيام نوافل رمضان جماعة ، واعترف بأنّهما بدعة (٣) ، مع أن كل بدعة ضلالة.
وذكرت له أن عثمان ولَّى أمور المسلمين للفساق ، لمحض القرابة ، بعد أن
__________________
١ ـ السنن الكبرى ، البيهقي : ٧ / ٢٣٣ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٤ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٢ و ١٢ / ٢٠٨ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٦ / ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ح ٤٥٧٩٦ ، فيض القدير ، المناوي : ٢ / ٨ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ١٣٣.
٢ ـ علل الدار قطني : ٢ / ١٥٦ ح ١٨٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٢ ، مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٣٢٥ ، تاريخ بغداد ، البغدادي : ١٤ / ٢٠٢ ، تاريخ دمشق. ابن عساكر : ٦٤ / ٧١ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٣١ / ٢١٤ ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : ١ / ٣٦٦ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٦ / ٥٢١ ح ٤٥٧٢٢ ، تفسير القرطبي ٢ / ٣٩٢.
٣ ـ روى البخاري ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمَّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثمَّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة.
صحيح البخاري : ٢ / ٢٥٢ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٢ / ٤٩٣ ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : ٤ / ٢٥٩.
وجاء في شرح النهج : أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع ، فقال : بدعة فنعمت البدعة! فاعترف ـ كما ترى ـ بأنّها بدعة ، وقد شهد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن كل بدعة ضلالة. وقد روي أن أميرالمؤمنين عليهالسلام لمَّا اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرَّفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم ، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن عليهالسلام ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمَّا رأوه تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه! شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٢ / ٢٨٣.
نهاه الصحابة ، ولم يلاحظ الله في ذلك ، حتى أظهروا المناكير من القتل وشرب الخمر ، وضرب عبدالله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه ، وضرب عمَّار بن ياسر حتى حدث به فتق (١) ، ونفى أبا ذر مع عظم شأنه ، وتقدُّمه في الإسلام ، ولا ذنب له سوى إنكاره على بعض منكراته.
وآوى طريد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله منها ، وسأل قبل ذلك أبا بكر وعمر في ردِّه فلم يقبلا ، فعند ذلك ثار عليه الناس فقتلوه ، وكان الصحابة والتابعون بين قاتل وراض ، ولم يحم عنه منهم أحد ، وترك ثلاثة أيام بغير دفن.
وقد شهد عمَّار بن ياسر ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وجماعة آخرون بكفره ، وقالوا : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، وكانوا يقولون علانية : قتلناه ـ بحمد الله ـ كافراً (٣).
ثمَّ بيَّنت له أن عمر قد فتح البلاد بسيوف الصحابة ، وإمداد أهل البيت عليهمالسلام كما نقل ، ومع ذلك لا يدلّ على مدّاكم فيه ; لأن ذلك للزيادة في ملكه ، ونحن نجد الملوك يسفكون الدماء لفتح البلاد والزيادة في الملك ، وإن استوجب العقاب في الآخرة ، وما فعله عمر لزيادة ملكه وإظهار صيته ، وليس عليه في الآخرة منه لوم ، فأيُّ دليل على صلاح باطنه؟!
وذكرت له أمثال ذلك مما يطول شرحه ، واتفق أهل النقل من الشيعة والسنة والمعتزلة على نقله وصحّته ، فلم يمكنهم إنكاره ، ولهذا تأوَّلوه بتكلُّفات
____________
١ ـ راجع مصادره في الجزء الثالث من هذا الكتاب : ٤٨٧.
٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٤٤.
٣ ـ المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ١٧١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٧.
تصغر عن النقل ، ويحكم بفسادها كل ذي عقل.
وكان يجيبني في المجلس عن بعضها بما ذكروه من التكلُّفات ، فأردُّه بأيسر وجه ، وقلت له : إن اتّباع الحقّ يحتاج إلى إنصاف ، وترك الهوى ، والتقليد المألوف ، وإلاَّ فمعاجز نبيِّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم الدالّة على صدقه ، كالقرآن وانشقاق القمر لا تبقي لأحد شكاً ، والكفَّار لمَّا سلكوا التعصُّب والعناد والتقليد المألوف لهم ، نشزت أنفسهم عن قبول ذلك ، وقابلوه بالشبهات ، فبقوا على كفرهم ، فاعترف بذلك.
حديث الأئمة إثنى عشر
ودخلت إلى عنده يوماً ، فرأيت بين يديه كتباً منها صحيح البخاري ، فتذكَّرت الأحاديث التي فيه : إن الأئمة اثنا عشر ـ فأريته إيّاها ـ وذلك أنه روي في صحيح البخاري بطريقين :
أحدهما : إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلُّهم من قريش (١).
وثانيهما : إلى ابن عيينة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا ، ثمَّ تكلَّم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش (٢).
__________________
١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ١٢٧ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٩٠ و ٩٣ و ٩٥ ، صحيح ابن حبان : ١٥ / ٤٤ ، مسند أبي داوود : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، فتح الباري ، ابن حجر : ١٣ / ١٨١.
٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٩٧ ـ ٩٨ و ١٠١ ، صحيح مسلم : ٦ / ٣ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٦ / ٢٥٤ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ٦١٧ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٢ / ١٩٦.
وروى بطريق آخر إلى ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان (١).
وذكرت له أن مسلماً روى في صحيحه هذا الحديث بلفظه ، وروى مسلم أيضاً في صحيحه الحديث الأول بطرق متعدِّدة ، وكان صحيح مسلم عنده فأتى به ، فأريته ذلك فيه ، وفي بعض طرقه : لا يزال هذا الدين عزيزاً (٢).
فقلت له : هذا عين ما تقوله الشيعة ، وشاهد بصحّة معتقدهم ، فلا يتمُّ إلاَّ على مذهبهم ، فيكونون هم الفرقة الناجية ; لأنهم هم المتمسِّكون بالخليفتين اللذين لن يفترقا حتى يردا الحوض ، القائلون بالاثني عشر خليفة ، الموادُّون أهل بيت نبيهم عليهمالسلام ، الذين جعل الله ودَّهم أجر الرسالة بقوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) فإن غير الشيعة لم يميِّزوهم ، بل قدَّموا غيرهم عليهم ، فلا يضرُّهم تلبيس المتلبِّسين بالشبهات ، ولا معاداة المعاندين.
ثمَّ باحثته في مسائل كلاميّة ، كالرؤية ، والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعيَّة كالمسح ، والمتعة ، وذلك بعد أن كان قد أذعن واستقرَّ الإيمان في قلبه ، وسبَّ أعداء أهل البيت عموماً ، لما تبيَّن له أحوالهم ، وما وقع منهم ، واتّضحت له حقيقة الحال ، وصار من خواصّ الشيعة.
ولله الحمد أولا وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين إلى يوم الدين.
__________________
١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ١٠٥ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٦ / ٣٩٠ ، شرح مسلم ، النووي : ١٢ / ٢٠٠.
٢ ـ صحيح مسلم : ٦ / ٤ ، سنن أبي داوود : ٢ / ٣٠٩ ح ٤٢٨٠ ، مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٩٦.
٣ ـ سورة الشورى ، الآية : ٢٣.
المناظرة الأربعون
مناظرة
الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية
في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة
قال محمّد طاهر القمّي الشيرازي عليه الرحمة : حكاية لطيفة مناسبة ، قد اتّفق لي صحبة في مكة المشرفة مع بعض فضلاء أهل السنة ، وكان مفتي الحنفيّة ، وكان يتوهَّم أني علم مذهبه وعقيدته ، فجرى بيني وبينه مكالمات هذا مضمونها وحاصلها : قلت له : هل يرجى النجاة للشيعة؟ وهم يقولون : ليس دليل يدلّ على عدم جواز اتّباع غير الأربعة ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام؟
فأجاب : بأن جعفر بن محمّد كان من المجتهدين الكبار ، ويجوز اتّباعه ، ولكن ما يدّعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمّد عليهالسلام غير ثابت.
فقلت له : إن الشيعة يقولون : إنّا إذا سألنا الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة ، وقلنا لهم : من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين؟ قال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة : إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل
برأيه ، وهكذا نحن عملنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال : إذا كان هذا فهم من أهل النجاة (١).
__________________
١ ـ كتاب الأربعين ، محمّد طاهر القمي الشيرازي : ٦٤٠ ـ ٦٤١.
المناظرة الحادية والأربعون
مناظرة
رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين
قال العلاّمة الدربندي عليه الرحمة : حدَّثني علاّمة علماء العامة المفتي الأروسي ، قال : كنت مع جمع من عظماء العامة والمتنصِّبين المتعصِّبين منهم ، وكنّآ جالسين في مكان يكثر فيه عبور المسافرين والغرباء ، فمرَّ بنا رجل من أهل العجم ، وكان ممَّن لايملأ العيون لكونه وضيعاً ومن العوام ، فخاض طائفة من الجالسين في طعنه وإيذائه والاستهزاء به ، فقالوا : مالكم ـ أيَّها الأعاجم ، أيُّها الحمقاء! ـ تفعلون في كل سنة في شهر المحرَّم فعل المجانين والأطفال ، تضربون صدوركم ، وتحثون التراب على صدوركم ، وتجزعون ، وترفعون أصواتكم في الصيحة والضجَّة ، وتقولون : واحسناه واحسيناه ، ونحو ذلك؟
فقال : هذا الرجل : أتدرون سبب هذا وسره؟
فقالوا : لا.
فقال : هذا مما يجب فعله علينا ; لأنّا إن تركنا ذلك وبقينا على هذا الترك مدّة مديدة لكنتم تقولون : إن يزيد لم يقتل ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقرّة عينه ، ولم يسبِ ـ بنات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل إن قضيّة يوم الطفّ ليس لها أصل.
فقالوا : فلم ذا؟
قال : إنّا قد جرَّبناكم وشاهدنا أمثال ذلك منكم مراراً.
فقالوا : فكيف ذا؟
فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد جعل ابن عمِّه ووصيَّه وأميرالمؤمنين وسيِّد الوصيين إماماً وخليفة بأمر مؤكَّد من الله تعالى ، وكان ذلك بعد حجّة الوداع في مكان يسمَّى بخم ، وكان ذلك في محضر سبعين ألف رجل حاج في تلك السنة ، وقد وصل ذلك إليكم بطرق متكاثرة متظافرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ، مذكورة في كتبكم ، فلمَّا رأيتمونا أنَّا لا نفعل ـ خوفاً وتقيَّة منكم ـ يوم الغدير ، الذي هو أعظم الأعياد سلكتم جادّة الاعتساف ، وخالفتم أمر الله تعالى ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنكرتم قضيَّة الغدير من أصلها (١).
__________________
١ ـ وفي يوم الغدير يقول الكميت :
وَيَوْمَ
الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ |
|
أَبَانَ لَهُ
الْوِلاَيَةَ لَوْ أُطِيْعَا |
ولكنَّ الرِّجالَ
تَبَايعوها |
|
فكم لك مثلُها
خَطباً منيعا |
وَلَمْ أر مِثْلَ
ذاك اليومِ يوماً |
|
وَلَمْ أَرَ
مِثْلَهُ حقّاً أُضيعا |
وروي أن ابن الكميت رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في المنام ، فقال : أنشدني قصيدة أبيك! فلمَّا وصل إلى هذا بكى بكاء شديداً ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : صدق أبوك رحمة الله ، اي ـ والله ـ لم أر مثله حقّاً أضيعا.
الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : ١ / ٣١٠.
وفي كنز الفوائد للكراجكي : ١٥٤ قال هناد بن السري : رأيت أميرالمؤمنين عليهالسلام في المنام ، فقال لي : يا هناد! قلت : لبَّيك يا أميرالمؤمنين ، قال : أنشدني قول الكميت :
ويوم الدوح دوح
غدير خم |
|
أبان لنا الولاية
لو أطيعا |
ولكن الرجال
تبايعوها |
|
فلم أر مثلها
أمراً شنيعا |
قال : فأنشدته فقال : خذ إليك يا هناد ، فقلت : هات يا سيدي ، فقال :
ولم أر مثل ذاك
اليوم يوماً |
|
ولم أر مثله حقاً
أضيعا |
ونجدِّد في كل سنة إقامة التعزية ، وذكر مصائب سيِّد الشهداء عليهالسلام والنوح والجزع والبكاء عليه ، واللعن على قاتله ، وتسميتهم بأسمائهم لئلا تطمعوا في إنكار هذا الأمر البديهيِّ الضروريِّ ، الواصل شأنه إلى هذا المقام ..
قال : لمَّا سمعوا مقالته هذه ارتعدت فرائصهم ، وتغيَّرت ألوانهم ، واصفرَّت وجوههم ، وطأطأوا رؤوسهم إلى الأرض ، فارتطموا في الوحل.
ثمَّ قال : والله إن هذا كان في باب ذلك الرجل من ألطاف الله تعالى وإلهاماته بحسب المقام ; لأنه كان رجلا من عوام الناس ، غير مطّلع على اصطلاحات العلماء ، وكيفيّة معارضتهم ومباحثاتهم (١).
قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني المستبصر : والمحاولات التي يبثُّها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين عليهالسلام ما هي إلاَّ إحدى المحاولات لإسكات صوت الحقّ ، وإطفاء نور الله ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢).
ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ، ولقالوا لنا اليوم إن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي عليهالسلام ، ويكفي فخراً لمجالس الحسين عليهالسلام أنَّها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة ، وتلهب في النفس المؤمنة روح الجهاد ، ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين عليهالسلام ليسري مفعولها السحريُّ في الأرواح المؤمنة (٣).
__________________
١ ـ أسرار الشهادة ، الدربندي : ١ / ٧٥ ـ ٧٦.
٢ ـ سورة التوبة ، الآية : ٣٢.
٣ ـ بنور فاطمة اهتديت ، عبدالمنعم حسن السوداني : ٢٠٣.
المناظرة الثانية والأربعون
مناظرة
الشيخ الكاظمي مع الآلوسي
قال العلاّمة الميانجي رحمهالله : نقل السيِّد المحقِّق العلامة الحاج السيِّد مهدي الروحاني : أن في بغداد انعقدت حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة ، وحضرها العالم الكبير والمحقِّق التقيُّ الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي ، فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال : كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينيّة في المجالس فيستفيد منه الناس ، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعيَّة حتى يستفيد هؤلاء؟
قال الشيخ : باختياركم.
قال الآلوسي : فهل في الأصول أو الفروع؟
قال الشيخ : باختياركم.
قال : فإذن نبحث في الأصول ، ولكن في أيِّ أصل منها؟ فهل نجعلها مناظرة؟
قال الشيخ : باختياركم.
قال الآلوسي : لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين؟
قال الشيخ : للمدّعي أن يأتي بدليل ، فإنّا نسأل أهل السنة : لم اختاروا إمامة الشيخين؟
قال الآلوسي : لأنَّ النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نصبه للصلاة في أيام مرضه.
وهنا أخذ الشيخ يذكِّر الآلوسي بأن بعض الصحابة زعم أن النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه كان يهجر ( وذلك لما قال لهم صلىاللهعليهوآلهوسلم : آتوني بدواة وكتف ... ) (١).
سكت الآلوسي وبهت وتحير ، وبان على وجهه الانكسار والعيُّ ، وفهمه الحاضرون ، وانكسر أهل السنّة الموجودون في المجلس ، وسرَّ وفرح الشيعة ، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشيء ينسيه فقال : هلمّوا بالطعام ، فجاءوا بالطعام إليَّ وإليه ، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح ، وأخذ يأكل من الطعام.
فقال الألوسي : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أكل وحده فشريكه شيطان.
فقال الشيخ : صدق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فانكسر الآلوسي أيضاً ، وضحك الحاضرون.
وكان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع أمام كل من الحاضرين دجاجة ، فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه ، فقال : عرف الحقُّ أهله فتقدَّم ، فقال الشيخ : لا ، بل حفر الشيخ تحته فتهدَّم.
قال الأحمدي الميانجي رحمهالله : نقل السيِّد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاك فرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الأول من ١٤٠٦ هـ ق (٢).
__________________
١ ـ والمعنى الذي يريد أن يوصله الشيخ للآلوسي ولأمثاله من السنة : أنهم ماداموا يسلِّمون بصدور هذه المقالة بمحضر النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه وقد زعموا : أنّه يهجر وفي رواية قالوا : غلب عليه الوجع كما في صحيح البخاري وغيره ، ولم نر أحداً منهم ردَّ هذه المزاعم الكاذبة أو أنكر على قائلها ، فكيف يأخذون ويحتجّون ـ والحال هذه ـ ويدّعون أنه في مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم قدم أبا بكر للصلاة؟! فإن كان كلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حجّة في حال المرض فقوله : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حجّة أيضاً ، فلماذا غضّوا الطرف عن هذه الوصيَّة ، وأخذوا بما يروونه من أنّه في المرض قدَّم أبا بكر للصلاة؟ مع أن هذه الرواية غير ثابتة أيضاً وغير صحيحة. راجع : الجزء الثالث : ٢٦٠.
٢ ـ مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : ٣ / ٤٧٩ ـ ٤٨١.
المناظرة الثالثة والأربعون
مناظرة
الشيخ كاشف الغطاء مع أحمد أمين المصري
قال الشيخ الأحمدي الميانجي رحمهالله : سافرنا إلى الأهواز للقاء العلماء العظام فيها ، ونزلنا على السيِّد الجليل العالم الفاضل السيِّد محمّد علي الجزائري الشوشتري ، إمام الجمعة في الأهواز ، دامت إفاضاته ، كنت يوم الخميس ١٥ / ١٠ / ١٣٦٢ هـ. ش ، الموافق لـ ١ / ٤ / ١٤٠٤ هـ ق حبيس البيت ، جالساً أطالع في مكتبة السيِّد الجزائري دامت إفاضاته العالية ، فإذا بكتاب جنّة المأوى للعلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمهالله ، المطبوع في تبريز بتحقيق العلاّمة الشهيد السيِّد محمّد علي القاضي الطباطبائي رحمهالله ، وفي مقدَّمته بقلم المحقِّق الشهيد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هذه الحكاية نقلا عن مجلة العرفان في المجلَّد ٢١ ج ٣ / ٣٠٨ : عند مجيء البعثة المصريّة المؤلَّفة من الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وإخوانه إلى النجف الأشرف ، ليلة ٢١ شهر رمضان من عام ١٣٤٩ هـ. ق ، وزيارته للإمام المترجم له ـ يعني المرحوم كاشف الغطاء ـ في داره ، ومشاهدة مكتبة الإمام في مدرسته العلميّة ، فكان لملاقاتهم له أثر بالغ في نفوسهم.
وإليك ما دار بينهم من المناظرات والمسألة لتقف على المواهب العالية كيف يخصُّ الله تعالى بعض عباده بها؟
قال سماحته لأحمد أمين : من العسير أن يلمَّ بما حول النجف وأوضاعها ـ وهي تلك المدينة العلميّة المهمّة ـ شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدّة ثلاثة أشهر متجوِّلا في بلدانها ، باحثا ومنقِّباً ، ثمَّ فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً إلاَّ قليلا ضمَّنته أبياتاً أتذكَّر منها :
تبزغ شمس العلى ولكن |
|
من أفقها ذلك البزوغ |
ومثلما تنبغ البرايا |
|
كذا لبلدانها نبوغ |
أكل شيء يروج فيها |
|
اللهو وألزهو والنزوغ |
فضحكوا من كلمة النزوغ.
قال الأستاذ أحمد أمين مخاطباً الشيخ : قلتم هذا قبل عشرين سنة؟
قال : نعم ، وقبل أن ينبغ طه حسين ، ويبزغ سلامة موسى ، ويبزغ فجر الإسلام ، وقد ضمَّنته ـ مخطاباً أحمد أمين ـ من التلفيقات عن مذهب الشيعة مالا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتّباعه (١).
__________________
١ ـ قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم الغدير : ٣ / ٣١٠ : فجر الإسلام ، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، هذه الكتب ألفَّها الأستاذ أحمد أمين المصري لغاية هو أدرى بها ، ونحن أيضاً لا يفوتنا عرفانها ، وهذه الأسماء الفخمة لا تغرُّ الباحث النابه مهما وقف على ما في طيِّها من التافهات والمخازي ، فهي كاسمه ( الأمين ) لا تطابق المسمَّى ، وأيم الله إنه لو كان أميناً لكان يتحفَّظ على ناموس العلم والدين والكتاب والسنّة ، وكفِّ القلم عن تسويد تلك الصحائف السوداء .. ولم يطمس الحقائق ، ولم يظهرها للناس بغير صورها الحقيقيّة المبهجة ، ولم يحرِّف الكلم عن مواضعها ، ولم
قال أحمد أمين : ولكنه ذنب الشيعة أنفسهم ; إذ لم يتصدّوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه.
الشيخ : هذا كسابقه ... فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من أيِّ كتب ، وأيِّ مذهب آخر ، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها ، هذا فضلا عمّا يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها.
أحمد أمين : حسناً ، سنجهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني .. إلخ (١).
__________________
يقذف أمّة كبيرة بنسب مفتعلة ، ولم يتقوَّل عليهم بما يدنِّس ذيل قدسهم. كما أن تآليفه هذه لو كانت إسلامية ـ كما توهمها أسماؤها ـ لما كانت مشحونة بالضلال والإفك وقول الزور ، ولما بعدت عن أدب الإسلام.
وقال في موضع آخر : ٣ / ٣٣٨ : وواجب رجال الدعاية والنشر في الحكومات الإسلاميّة عرض كل تأليف مذهبيٍّ حول أيِّ فرقة من فرق الإسلام إلى أصولها ومبادئها الصحيحة المؤلَّفة بيد رجالها ومشايخها ، والمنع عما يضادُّها ويخالفها .. وعليهم قطع جذور الفساد قبل أن يؤجِّج المفسد نار الشحناء في الملأ ، ثمَّ يعتذر بعدم الاطّلاع وقلّة المصادر عنده ، كما فعل أحمد أمين بعد نشر كتابه فجر الإسلام في ملأ من قومه ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ولا عذر لأيِّ أحد في القعود عن واجبه الديني الاجتماعي ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سوره آل عمران ، الآية : ١٠٤.
١ ـ مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : ٣ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.
المناظرة الرابعة والأربعون
مناظرة
العلاّمة الشيخ الأميني رحمهالله مع الأستاذ حسين الأعظمي
وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد
في الحديث عن أميرالمؤمنين عليهالسلام بما وصفه الوحي الإلهيّ
قال الشيخ رضا الأميني : لقاء بين علمين ، في حديث لشيخنا الوالد ـ طاب ثراه ـ قال : وقفت في ( جريدة الساعة ) البغداديّة الصادرة في شهر محرَّم (١) على قصيدة عصماء للأستاذ حسين علي الأعظمي ، وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد ، في رثاء الإمام الحسين عليهالسلام ، وأشار في التعليق على بعض أبياتها إلى أن له مؤلَّفاً في حياة الإمام أميرالمؤمنين عليهالسلام.
فأحببت أن أقف عن كثب على تأليفه ، وأسبر طريقته في ذلك ، وإن وجدت لديه نظماً في واقعة ( الغدير ) جعلته ضمن شعراء القرن الرابع عشر الهجري.
__________________
١ ـ جاء في الهامش : لم يحضرني التاريخ بصورة دقيقة ، وأكثر ظنّي أنه كان بين أعوام ٦٥ ـ ١٣٦٧ هجريّة.
فقصدت داره ، وكانت على مقربة من إحدى سفارات الدول الغربيّة ، فطرقت الباب فخرج إليَّ خادمه ، فسألته عن الأستاذ فأجاب : نعم ، هو موجود في الدار ، فطلبت مواجهته فخرج إليَّ الأستاذ ، وما إن رآني أخذ يفكِّر في السرِّ الذي دعاني إلى زيارته ، لم قصد هذا العالم الشيعيُّ زيارتي؟ أهو بحاجة للتوسُّط في قبول أبنائه في الجامعة؟ أم للتوسُّط في توظيف أحد منسوبيه في إحدى الدوائر؟ فبدأته بالسلام وقلت : أنا أخ لك في الدين ، فإن كنت في شك من إسلامك فأنا قبل كل شيء أعترف بإسلامك وإيمانك ، لما سبرته في قصيدتك العصماء في رثاء سيِّدنا السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين عليهالسلام من نزعة دينيّة ، وإن كنت في شك من إسلامي فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسله بالهدى ودين الحقّ.
فخرج الأستاذ إلى خارج الدار ، ومدَّ يده للمصافحة ، عند ذلك بسطت له ذراعي واحتضنته ، فتبادلنا القبلات ، وسار بي إلى الغرفة الخاصة باستقبال زائريه ، عند ذلك افتتحت الحديث بالكلام حول قصيدته ، وتطرَّقت إلى ما أشار إليه في التعليق على بعض أبياتها ، وأن له مؤلَّفاً حول الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وأني قصدته من النجف الأشرف لأشكره على قصيدته ورؤية مؤلَّفه.
خلال بحثنا فيما عرضته عليه دخل الغرفة بكل أدب أشباله الثلاثة ، وكانوا من ذوي الثقافة العالية ، عليهم سيماء العلم والأدب ، وبعد المصافحة وتبادل عبارات الترحيب ، اغتنم الأستاذ الأعظمي الفرصة وأراد أن يستخبر ميزان ثقافتي وعلمي ، وما أتحلَّى به من العلوم الإسلاميَّة ، فقال : شيخنا! ما رأيكم حول كتاب ( عبقريَّة الإمام علي عليهالسلام ) تأليف الأستاذ المصري عباس محمود العقَّاد؟ ولم يكن مضى على عرض كتابه في الأسواق التجاريَّة سوى أشهر عديدة ، وقد لاقى إقبالا كبيراً بين الشباب العربي والإسلامي.