الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
برائة ، ومرد أبي بكر ، وإيراد علي عليهالسلام بعد نزول جبرئيل قائلا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الله تعالى : إنه لا يؤدّيها عنك إلاَّ أنت أو رجل منك ، فردَّ أبا بكر ، وأنفذ علياً عليهالسلام (١) وهي لفتة ذهن حديد ، ذات طابع مركَّز ، قد فسحت له درب النقد مسايرة لهذه النزعة المتأصِّلة فيه.
ومثال رابع : سئل هشام بن الحكم ـ وهو في مجلس مناظرة عند بني أمية ـ : كم عمرك يا غلام؟ فقال : إن عمري كعمر أسامة بن زيد الذي أمَّره النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على مشائخ الصحابة.
ومثال خامس : سأله سليمان بن حريز فقال : يا هشام بن الحكم! أخبرني عن قول علي لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، أكان صادقاً أم كاذباً؟ فقال هشام : وما الدليل على أنّه قاله؟ ثمَّ قال : وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (٢) وكقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (٣) وكقول يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (٤) (٥).
__________________
١ ـ فهرست ابن النديم البغدادي : ٢٢٤.
٢ ـ سورة الصافات ، الآية ٨٩.
٣ ـ سورة الأنبياء ، الآية : ٦٣.
٤ ـ سورة يوسف ، الآية : ٧٠.
٥ ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ١ / ٢٣٥.
المناظرة الثانية والعشرون
مناظرة
مؤمن الطاق مع بعض الحروريّة بمحضر أبي حنيفة
وسفيان الثوري في الخليفة بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال المرزباني الخراساني : وقيل : إن مؤمن الطاق رحمهالله دخل يوماً مسجد الكوفة وفيه جماعة من المرجئة (١) ، منهم : أبو حنيفة وسفيان ، ورجل من الحروريّة جيِّد المناظرة فيهم ، فلمَّا رآه أبو حنيفة قال للحروري : هذا رأس الشيعة وعالمها ، فهل لك في مناظرته؟
فقال : إذا شئت ، فنهضا والجماعة ، وأتوا إليه وهو قائم يصلّي ، فلم يزالوا حتّى فرغ ، فسلَّموا عليه ، ثمَّ قال له أبو حنيفة : قد أتينا للمناظرة.
فقال : أضللتم دينكم فأنتم تطلبونه ، ولولا ذلك لقلَّت مناظرتكم فيه ، ولا شتغلتم بالعمل ، وإنّما يعمل المتّقون ، وقليله ينفع ، وإنه لقليل ، قال الله : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (٢).
__________________
١ ـ فرقة من الفرق الإسلامية ، وهي أصناف أربعة. دائرة المعارف ٨ / ٧٢٣.
٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٢٧.
فقال الحروري : كلٌّ يدّعي الذي تدّعي ، لكن من إمامك؟
قال : من نصبه الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الغدير.
قال : ما اسمه؟
قال : بيَّنت.
قال : فهو أبو بكر.
قال : ذاك المردود يوم سورة براءة ، وصاحبي المؤدّي عن الله وعن رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أهل مكة.
قال : ذاك أبو بكر.
قال : دعوى أقم عليها بيِّنة.
قال : أنت المدّعي.
قال : كيف أكون أنا المدّعي وأنا المنكر لذلك؟! أنت تقول : هو ذاك ، وأنا أقول : هو رجل قد اجتمعت عليه الأمّة ، وإنّه صاحب يوم الغدير ، فكيف يكون الإجماع دعوى ، بل أنت المدّعي أنّه أبو بكر.
قال الحروري : دعنا من هذا.
قال : هذه واحدة لم تخرج منها ، والحقُّ بيدي حتى تقيم البيِّنة.
قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال بان بها من العالم بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، استحقَّ بها الإمامة.
قال : ما هي؟
قال : الصدّيق ، وصاحبه في الغار ، والمتولّي للصلاة ، وضجيعه في القبر.
قال : أخبرني عن هذه المناقب بان بها من جميع العالم؟
قال : نعم.
قال : فإنَّ هذه مثالب.
قال : بقولك؟
قال : بل بإقرارك.
قال : فهات إذن.
قال : حتى يحضر من يحكم بيننا.
قالت الجماعة : نحن الحكَّام إذا ظهر الحقُّ.
قال : فالدليل على أنّها مثالب هو أن تدلَّ على من سمَّاه صدّيقاً.
قال : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال : فما العلّة والمعنى الذي سمِّي به ...؟
قال : لأنّه أوَّل المسلمين.
قال : هذا ما لم يقل به أحد ، على أنّه أوّل المسلمين ، إنّما الإجماع على أن أول المسلمين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وأوَّل من آمن ، فما تقولون أيُّها الحكام؟
قالوا : أجل ، هو كما ذكرت.
قال الحروري : قد زعمتم أنه ما أشرك بالله قط.
قال : ليس (١) اتّباعه للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في وقت من الأوقات ـ وإن لم يكن مشركاً ـ حدثاً يستحقُّ به الإسلام؟
قالت الجماعة : أجل.
فقال الحروري : أنا لا أقبل قول هؤلاء.
قال : فأنا أساعدك ، أمَّا ما ذكرت أنّه صدّيق : أليس زعمت أن الله
__________________
١ ـ الظاهر : أليس.
ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم سمَّياه صدّيقاً ، وأنّه ليس له في هذا الاسم مساوىء؟
قال : نعم.
قال للجماعة : اشهدوا عليه ، متى وجدنا في أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من اسمه صدّيق سقطت حجّته عنّا.
قالوا : نعم.
قال : هل تعلم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ما أقلَّت الغبراء ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (١)؟
قال القوم : واحدة ، خصمت يا حروريّ.
قال الحروري : أنا لا أعرف هذه الرواية ، فظلمه القوم.
قال : يا حروريُّ! فهل تعرف القرآن؟
قال : نعم.
قال : فيلزمك ما فيه من الحجّة؟
قال : نعم.
قال : فقد شارك صاحبك في هذا الاسم المؤمنون جميعاً ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) (٢).
قالت الجماعة : خصمت يا حروري.
قال : وأمَّا ما ذكرت من أنّه صاحبه في الغار فما رأيت الصاحب محموداً
__________________
١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ١٩٧ ، سنن الترمذي : ٥ / ٣٣٤ ح ٣٨٩٠ ، صحيح ابن حبان : ١٦ / ٧٦ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧ / ٥٢٦ ح ٣ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٤ / ٢٢٨ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٢١ / ٤١٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٨ / ٢٥٩.
٢ ـ سورة الحديد ، الآية : ١٩.
في القرآن ، قال الله تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) (١) ، وقال : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون ) (٢) ، وقال العالم لصاحبه ـ وهما في فضلهما ما هما ـ : ( إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ) (٣).
قال الحروري : ما هذا مثل ذاك.
قال : أجل ، إن ذاك نبيٌّ معصوم ، وذا حكيم عليم قد علَّمه الله علماً ، ولم يعرفه موسى عليهالسلام ثمَّ عرفه فأقرَّ له موسى ، واستيقن أنه ابن عمران ، ولكن لعلَّك صاحبك يستحقُّ المثل الأول ، وهو قوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ).
فقالت الجماعة : أعلنت ـ أبا جعفر ـ بما في نفسك.
قال : ما قلت بأساً ، إنّما ذكرت الصحبة فأحببت أن لا يحتجَّ بها للذي بيَّن الله في كتابه عن الصاحب.
قال الحروري : هذا صاحبه في الغار ، يلقى الأذى ويصبر على الخوف.
قال : هل كان صابراً ، وراجياً على ذلك ثواباً.
قال : نعم.
قال : أمَّا السكينة فقد نزلت على غيره ، وأمَّا الحزن فقد تعجَّله ، والأمر كما قال الله : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (٤) ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا ينهى عن طاعة ، وإنّما ينهى عن معصية ، فقد عصى الله في حزنه وهو مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واكتسب ذنباً ، فهذا مما ينبغي لصاحبك أن يستغفر الله منه ، ولو كان ثبت في
__________________
١ ـ سورة الكهف ، الآية : ٣٤.
٢ ـ سورة التكوير ، الآية : ٢٢.
٣ ـ سورة الكهف ، الآية : ٧٦.
٤ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٠.
كينونته في الغار لقد كان الله أبان له ذلك فيه ، إنما كانت السكينة للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بصريح القول ، وبقوله : ( وأيَّده ) فهل تقول بأنه شارك أيضاً؟
قال : نعم.
قال : فهل أبان الله ذلك إذ كانت السكينة وكان المشارك فيها واحد ، كما أنزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في جماعة ، فخصَّت الرسول وعمَّتهم ، حيث قال : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فأبانها له كما أبانها لهؤلاء ، وإنما قال الله تعالى : ( وَأَيَّدَهُ ).
قال الحروري : قوموا ، قد أخرجه عن الإيمان.
قال : أنا لم أخرجه ، ولكنَّك أنت أخرجته.
قال : أنت تقول : أنا أخرجته؟
قال : يا حروري! أخرجته ، وهذا كتابنا ينطق.
قالت الجماعة : اثنين يا حروري.
قال أبو جعفر : وأمَّا الصلاة فلعمري إنكم تقولون : ما استتمَّها حتى خرج النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخرجه ، وتقدَّم فصلَّى بالناس ، فإن كان قدَّمه للصلاة وعددتم ذلك له فضلا ، فقد كان خروجه إلى الصلاة وإخراجه من المحراب له نقصاً ، ولعمري لقد كان فضلا لو كان هو الذي أمره بالصلاة وتركه على حاله ولم يخرجه منها.
قال الحروري : فلم يخرجه ، بل صلَّى بالناس.
قال : فهل كان النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أم أمامه؟
قال : بل أمامه ، ولكن كان هو المكبِّر خلفه.
__________________
١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٦.
قال : فمن كان إمام الناس في تلك الحال؟
قال : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إمام لأبي بكر وللناس جميعاً.
قال : فإنّما منزلة أبي بكر بمنزلة الصفِّ الأول على سائر الصفوف ، مع أن هذه دعوى لم تدعم ، ثمَّ ـ أيضاً ـ ما المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف؟
قال : يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس.
قال : لا تفعل تقع في صاحبك ، وتكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قالت الجماعة : وكيف ذلك؟
قال : لأن الله تعالى يقول : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (١) ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٢) ، نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته ، وأمره أن يرفع صوته فقد نهى عنه ، ووعد من غضَّ صوته مغفرة وأجراً عظيماً ، فهل تجيز لصاحبك فعل ذلك؟
قال الحروري : ليس هذا من ذاك ، إنّما أوقف أبا بكر ليسمع الناس التكبير.
قال : هذه حدود مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم معروفة الطول والعرض ، فهل نحتاج إلى مسمع ، وأيضاً فإن النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في حال ضعفه أقوى من قويِّهم في حال شبابه.
قالت الجماعة : هذه ثلاثة يا حروري.
قال : وأمَّا ما زعمت أنه ضجيعه في قبره فخبِّرني أين قبره؟
__________________
١ ـ سورة الحجرات ، الآية : ٢.
٢ ـ سورة الحجرات ، الآية : ٣.
قال : في بيته.
قال : لعلّه في بيت عمر.
قال : بل في بيته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال له : أوليس قد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (١) ، فهل استأذناه فأذن لهما؟ ثمَّ الخاص والعام يعلم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سدَّ أبوابهما في حال حياته حتى إن أحدهما قال : اترك لي كوَّة أو خوخة أنظر إليك منها ، قال : لا ، ولا مثل الإصبع (٢) ، فأخرجهما وسدَّ أبوابهما (٣) ، فأقم أنت البيِّنة على أنه أذن لهما.
قال الحروري : ذلك بفرض من الله.
قال له : بأيِّ وصيٍّ أو بأيِّ حجّة؟
__________________
١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٥٣.
٢ ـ راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢ / ٣٨ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٢ / ٢٢٨.
٣ ـ قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في الغدير : ٣ / ٢١٣ في أحاديث سدّ الأبواب إلاَّ باب علي عليهالسلام : إن مقتضى هذه الأحاديث أنّه لم يبق بعد قصة سدِّ الأبواب باب يفتح إلى المسجد سوى باب الرسول العظيم صلىاللهعليهوآلهوسلم وابن عمِّه ، وحديث خوخة أبي بكر يصرِّح بأنه كانت هناك أبواب شارعة ، وسيوافيك البعد الشاسع بين القصتين ، وما ذكروه من الجمع بحمل الباب في قصة أميرالمؤمنين عليهالسلام على الحقيقة ، وفي قصة أبي بكر بالتجوّز بإطلاقه على الخوخة ، وقولهم : ( كأنّهم لمَّا أمروا بسدِّ الأبواب سدُّوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدِّها ) تبرُّعىٌّ لا شاهد له ، بل يكذِّبه أن ذلك ما كان يتسنَّى لهم نصب عين النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد أمرهم بسدِّ الأبواب لئلاّ يدخلوا المسجد منها ، ولا يكون لهم ممرٌّ به ، فكيف يمكنهم إحداث ما هو بمنزلة الباب في الغاية المبغوضة للشارع ، ولذلك لم يترك لعمّيه : حمزة والعباس ممرّاً يدخلان منه وحدهما ويخرجان منه ، ولم يترك لمن أراد كوَّة يشرف بها على المسجد ، فالحكم الواحد لا يختلف باختلاف أسماء الموضوع مع وحدة الغاية ، وإرادة الخوخة من الباب لا تبيح المحظور ولا تغيِّر الموضوع.
قال : بما لا يدفع ، وهو ميراث ابنتيهما من البيت.
قال له : قد استحقّا ثمناً من بين تسع حشايا كنَّ لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد ظلمت صاحبك وهو يجحد فاطمة عليهاالسلام ميراثها ، وأنت تزعم أن ميراث النساء قد أوجبه لا بنتيهما ، وأسقط الكثير من ميراث فاطمة عليهاالسلام ، وإن أحببت أجبتك إلى ما ادّعيت من الميراث ، فنظرنا هل يصير لا بنتيهما على قدر الحصّة من الحصص التسع فعلنا.
فقال أبو حنيفة والثوري : قم ويلك! كم تزري عليهما وتلزمهما الحجّة؟ إذا كان هكذا من أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يورِّث ، وقد احتمل لك أبو جعفر الحجّة ، وطلبت المقاسمة ، والله ما يصير لهما قدر ذراعين في البيت.
فالتفت أبو جعفر إلى الجماعة ، وقال : قد أبصرتم وسمعتم ، مع أنّي لم أذكر أشياء أخر ادّخرتها ، ثمَّ التفت إلى الحروري وقال : إذا كنّا نعلم أن حرمة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ميِّت كحرمته وهو حيٌّ ، وقد أمر الله أن تغضَّ الأصوات عنده ، وأثاب فاعل ذلك ومعتمده ، فمن جعل لأبي بكر وعمر أن يضرب بالمعاول عنده ليدفنهما؟
فانقطع ، وكأنما أخرس لسانه ، فالتفت إليه الجماعة وقالوا : يا أبا جعفر! أنت الذي لا يقوم لك مناظر ، ولا تؤخذ عليك حجّة ، وقاموا وعليهم الخزية ، وسمَّوه من ذلك الوقت : شيطان الطاق ، رضي الله عنه ورحمه (١).
__________________
١ ـ مختصر أخبار شعراء الشيعة ، المرزباني الخراساني : ٩٠ ـ ٩٥.
المناظرة الثالثة والعشرون
مناظرة
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس
قال أحمد بن الصّديق المغربي : محمّد بن علي بن النعمان ، وهو الذي وقعت له مناظرة مع أبي حنيفة ; إذ قال له كالمنكر عليه : عمَّن رويت حديث ردِّ الشمس لعلي عليهالسلام؟
فقال : عمَّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل ، فأفحمه (١).
__________________
١ ـ فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : ١٤٤ ، لسان الميزان ، ابن حجر : ٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم : ١٠١٧.
المناظرة الرابعة والعشرون
مناظرة
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة
روى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن علي رفعه ، قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمّد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر! ما تقول في المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟
قال : نعم.
قال : فما منعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ، ويكتسبن عليك؟
فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالا ، وللناس أقدار ومراتب ، يرفعون أقدارهم ، ولكن ما تقول ـ يا أبا حنيفة ـ في النبيذ؟ أتزعم أنه حلال؟
قال : نعم.
قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك؟
فقال أبو حنيفة : واحدة بواحدة ، وسهمك أنفذ.
ثمَّ قال له : يا أبا جعفر! إن الآية التي في ( سَأَلَ سَائِلٌ ) تنطق بتحريم المتعة ، والرواية عن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد جاءت بنسخها.
فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة! إن سورة ( سَأَلَ سَائِلٌ ) مكّية ، وآية المتعة مدنيّة ، وروايتك شاذّة رديَّة.
فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث ـ أيضاً ـ تنطق بنسخ المتعة.
فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث.
قال أبو حنيفة : ممن أين قلت ذاك؟
فقال أبو جعفر : لو أن رجلا من المسلمين تزوَّج امرأة من أهل الكتاب ، ثمَّ توفِّي عنها ما تقول فيها؟
قال : لا ترث منه.
قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث ، ثمَّ افترقا (١).
وقيل : إنه دخل على أبي حنيفة يوماً ، فقال له أبو حنيفة : بلغني عنكم ـ معشر الشيعة ـ شيء.
فقال : فما هو؟
قال : بلغني أن الميِّت منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه.
فقال : مكذوب علينا يا نعمان ، ولكنّي بلغني عنكم ـ معشر المرجئة ـ أن الميِّت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعاً ، فصببتم فيه جرّة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة.
فقال أبو حنيفة : مكذوب علينا وعليكم (٢).
__________________
١ ـ الكافي ، الكليني : ٥ / ٤٥٠ ح ٨ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٤٧ / ٤١١ ـ ح ١٧.
٢ ـ اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : ٢ / ٤٣٠ ـ ٤٣١ ، ح ٣٣٢ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٤٧ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ح ١٠.
المناظرة الخامسة والعشرون
مناظرة
عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى
في وجوب اتّباع أمير المؤمنين عليهالسلام
عن عمرو بن أذينة ـ وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمّد صلوات الله عليه ـ أنّه قال : دخلت يوماً على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض ، فقلت : أردت ـ أصلحك الله ـ أن أسألك عن مسائل ، ـ وكنت حديث السنّ ـ فقال : سل ـ يا بن أخي ـ عمّا شئت.
قلت : أخبرني عنكم معاشر القضاة ، ترد عليكم القضيّة في المال والفرج والدم ، فتقضي أنت فيها برأيك ، ثمَّ ترد تلك القضيّة بعينها على قاضي مكة ، فيقضي فيها بخلاف قضيّتك ، ثمَّ ترد على قاضي البصرة ، وقاضي اليمن ، وقاضي المدينة ، فيقضون فيها بخلاف ذلك ، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم ، فتخبرونه باختلاف قضاياكم ، فيصوِّب رأي كلِّ واحد منكم ، وإلهكم واحد ، ونبيُّكم واحد ، ودينكم واحد ، أفأمركم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه؟ أم كنتم شركاء الله في حكمه فلكم أن تقولوا ، وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بكم في إتمامه؟ أم أنزله الله تامّاً فقصَّر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أدائه؟ أم ماذا تقولون؟
فقال : من أين أنت يا فتى؟
قلت : من أهل البصرة.
قال : من أيِّها؟
قلت : من عبد القيس.
قال : من أيِّهم؟
قلت : من بني أذينة.
قال : ما قرابتك من عبدالرحمن بن أذينة؟
قلت : هو جدّي.
فرحَّب بي وقرَّبني ، وقال : أَي فتى! لقد سألت فغلظت ، وانهمكت فتعوَّصت ، وسأخبرك إن شاء الله ، أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ماورد علينا من أمر القضايا ممَّا له في كتاب الله أصل أو في سنَّة نبيِّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة ، وأمَّا ما ورد علينا ممَّا ليس في كتاب الله ولا في سنَّة نبيِّه ، فإنا نأخذ فيه برأينا.
قلت : ما صنعت شيئاً ; لأن الله عزَّ وجلَّ يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (١) وقال فيه : ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء ) (٢) أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمر الله به ، وانتهى عمَّا نهى الله عنه ، أبقي لله شيء يعذّبه عليه إن لم يفعله ، أو يثيبه عليه إن فعله؟
قال : وكيف يثيبه على ما لم يأمره به ، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه؟
__________________
١ ـ سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.
٢ ـ سورة النحل ، الآية : ٨٩.
قلت : وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب الله أثر ، ولا في سنَّة نبيِّه صلىاللهعليهوآلهوسلم خبر؟
قال : أخبرك ـ يابن أخي ـ حديثاً حدَّثَنَاه بعض أصحابنا ، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب ، أنه قضى قضيَّة بين رجلين ، فقال له أدنى القوم إليه مجلساً : أصبت يا أميرالمؤمنين ، فعلاه عمر بالدرّة وقال : ثكلتك أمُّك ، والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ، إنما هو رأي اجتهدته ، فلا تزكّونا في وجوهنا.
قلت : أفلا أحدِّثك حديثاً؟
قال : وما هو؟
قلت : أخبرني أبي ، عن أبي القاسم العبدي ، عن أبان ، عن علي بن أبي طالب عليهالسلام أنه قال : القضاة ثلاثة ، هالكان وناج ، فأمَّا الهالكان فجائر جار متعمِّداً ، ومجتهد أخطأ ، والناجي من عمل بما أمر الله به .. فهذا نقض حديثك يا عمّ.
قال : أجل والله يابن أخي ، فتقول أنت : إن كل شيء في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟
قلت : الله قال ذلك ، وما من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي إلاّ وهو في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله ، ولقد أخبرنا الله فيه بما لا نحتاج إليه ، فكيف بما نحتاج إليه؟!
قال : كيف قلت؟
قلت : قوله : ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) (١).
قال : فعند من يوجد علم ذلك؟
__________________
١ ـ سورة الكهف ، الآية : ٤٢.
قلت : عند من عرفت.
قال : وددت لو أني عرفته ، فأغسل قدميه وآخذ عنه وأتعلَّم منه.
قلت : أناشدك الله ، هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئاً أعطاه ، وإذا سكت عنه ابتدأه؟
قال : نعم ، ذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
قلت : فهل علمت أن علياً سأل أحداً بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن حلال أو حرام؟
قال : لا.
قلت : هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه؟
قال : نعم.
قلت : فذلك عنده.
قال : فقد مضى ، فأين لنا به؟
قلت : تسأل في ولده ، فإن ذلك العلم عندهم.
قال : وكيف لي بهم؟
قلت : أرأيت قوماً كانوا بمفازة من الأرض ومعهم أدلاّء ، فوثبوا علهيم فقتلوا بعضهم ، وجافوا بعضهم (١) ، فهرب واستتر من بقي لخوفهم ، فلم يجدوا من يدلّهم ، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا ، ما تقول فيهم؟
قال : إلى النار ، واصفرَّ وجهه ، وكانت في يده سفرجلة ، فضرب بها الأرض فتهشَّمت ، وضرب بين يديه وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (٢).
__________________
١ ـ جافوا : أخافوا.
٢ ـ دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : ١ / ٩٢ ـ ٩٥.
المناظرة السادسة والعشرون
مناظرة
شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين عليهالسلام
دخل شريك على المهدي ، فقال له : ما ينبغي أن تقلَّد الحكم بين المسلمين؟
قال : ولم؟
قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة.
قال : أمَّا قولك : « بخلافك على الجماعة » فعن الجماعة أخذت ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني؟!
وأمَّا قولك : « وقولك بالإمامة » فما أعرف إلاَّ كتاب الله وسنَّة رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأمَّا قولك : مثلك ما يقلَّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه.
قال : ما تقول في علي بن أبي طالب؟
قال : ما قال جدّك العباس وعبدالله.
قال : وما قالا فيه؟
قال : فأمَّا العباس ، فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمَّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله.
وأمَّا عبدالله ، فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متَّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أول من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين الله ، وفقهه في أحكام الله.
فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاَّ قليل حتى عزل شريك (١).
__________________
١ ـ تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ٩ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.
المناظرة السابعة والعشرون
مناظرة
سعد بن عبدالله القمي مع بعض النواصب
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد الله القمي قال : كنت امرءاً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفاً باستظهار ما يصحُّ لي من حقائقها ، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصِّباً لمذهب الإماميّة ، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيباً للفرق ذوي الخلاف ، كاشفاً عن مثالب أئمَّتهم ، هتّاكاً لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشِّد النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدماً.
فقال ذات يوم ـ وأنا أناظره ـ : تبّاً لك ولأصحابك يا سعد ، إنكم ـ معاشر الرافضة ـ تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما ، وتجحدون من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولايتهما وإمامتهما ، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته ، أما علمتم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد لأمر التأويل ، والملقى إليه أزمّة