مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

فالكلام عن علل الشرائع قديم عند علماء الشيعة ، فالشيخ الصدوق مثلا عنده كتاب « علل الشرائع » وهو من الكتب القديمة.

كما أنَّ السيِّد المدرّسي لم يبتدع شيئاً ، وإنّما قام بعمليّة جمع واستخراج القيم والحكم المبثوثة في القرآن والروايات ، وسوف أحضر لك كتاب التشريع الذي طبع منه إلى الآن أربع مجلَّدات (١) حتى تعرف الفرق بين الطرح السنّي وطرح السيِّد المدرسي ، فالفرق عميق بين الطرحين ، فالقياس يعتمد على استخراج علّة الحكم من نفس الحكم ، ثمَّ يقيس عليها الفروع التي تشابهها في العلّة.

أمَّا الطرح الآخر فهو يبنى على أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة تطرح مجموعة من الحكم والقيم ، وبعد استخلاصها بطرق قطعيَّة تورث اليقين والاطمئنان تكون هذه الحكم حاكمة على مجموعة من الأحكام التي ترجع إلى هذه الحكم بصورة مستقلّة (٢) ، وهذا الطرح لا يوجد له أثر في المدرسة السنّيّة ،

__________________

١ ـ طبع الآن الجزء الخامس والسادس والسابع والثامن من التشريع ( الشيخ معتصم ).

٢ ـ وليس هذا الاستنباط من نوع القياس الذي يرفضه مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، والسبب هو :

أولا : أن القياس منهج يختلف جذريّاً مع المنهج القرآني ، وقد ناقشنا ذلك في مناسبة سبقت ...

ثانياً : أن القياس في المصطلح التعرُّف على حكم النظير من خلال علّة مظنونة في نظيره ، بينما هنا نحن نريد استنباط حكم الفرع من الأصل ، وعلى هذا فإن أساس البصيرة القرآنيّة التي عرفناها بفضل أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام هو السعي لفهم الحكم العامة في الشريعة عبر التدبُّر في آيات الذكر ، والسلوك عبر المنهج الإلهيِّ الذي بشرَّ به الدين وسبق الحديث عنه ، وإذا تبصَّرنا هذا الحكم جيِّداً ، وعرفناه يقيناً فإننا نستنبط منها حكم المسألة الفرعيّة بلا تردُّد ، ويكون علمنا به علماً يقينياً ، أو على الأقل تطمئنُّ نفوسنا إليه ممّا يكفينا حجّة شرعيّة ، كما سنتحدَّث عنه في مناسبة أخرى.

وهكذا يرى هذا المنهج أنه لا يجوز الأخذ بالحكمة المظنونة ، ولكن يوصينا بضرورة البحث

٥٨١

هذا من جهة القياس.

أمَّا الأصول الأخرى مثل الاستحسان وسدّ الذرايع وفقه الصحابي وغيرها ، فإن إثبات حجّيّة هذه الأصول من البعد بمكان ، فالطرح الشيعيُّ في الأصول مغاير للطرح السنّيِّ إجمالا وتفصيلا.

الدكتور : إنّ هذه الأصول التي ذكرتها ليست العُمدة عند أهل السنة ، وإنّما عمدتهم هو القرآن والسنة والإجماع والقياس ، ثمَّ بعد ذلك الأصول الأخرى ، وفي هذه الأصول لا خلاف بين السنّة والشيعة ، فالخلاف ليس إجمالا ، وإنّما تفصيلا.

الشيخ معتصم : أمَّا القرآن والسنّة فنعم ، رغم أن الخلاف فيهما موجود ، فبأيِّ كيفية نتعامل مع القرآن؟ وكيف نفسّره ونستنبط منه الحكم الشرعي؟ والسنّة هل هي رواياتكم أم رواياتنا؟ وهل كلام أهل البيت عليهم‌السلام حجَّة أم قول الصحابي؟ فهذه الأسئلة تباعد بيننا وبينكم ، أمَّا بخصوص الإجماع فهو غير حجّة ، فقد ناقشت الكتب الأصوليّة الشيعيّة الإجماع ، وأثبتت عدم حجّيّته ، فالإجماع حجّة إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم ، أو عن دليل شرعيٍّ ، فالحجّيّة لا تكون لذات الإجماع ، وإنّما تكون لرأي المعصوم أو الدليل الشرعيِّ.

الدكتور : إنكار حجّيّة الإجماع أمر غريب ، فقد تعارف على حجّيّته قديماً وحديثاً ، وبنيت على أساسه كثير من الأبواب الفقهيّة ، بل حتى أن الشيعة

__________________

الجدّيِّ لمعرفة حكمة كل حكم شرعيٍّ من خلال التدبُّر في النصوص ( الآيات والروايات ) فنحن ندعو إلى الحصول على العلم بالحكمة الإلهيّة الموجودة في كل حكم شرعيٍّ ، ولا ندعو إلى العمل بالحكم المستنبطة بالقياس الظنّي ، والفرق بينهما هو الفرق بين العمل بالاستنباط العملي وبين العمل بالقياس الظنّي والله الموفق ... التشريع الإسلامي ، ج ١ ، ص ٥٢. ( الشيخ معتصم ).

٥٨٢

يستدلّون بالإجماع في مسائل فقهيَّة ، فلماذا هذا التناقض؟!

الشيخ معتصم : أولا : إن بحثنا عن حجّيّة الإجماع كان في إطار الحجج القطعيّة الذاتيّة التي تولِّد حكماً واقعيّاً ، فعدم حجّيّة الإجماع بهذا المنظور من البديهيّات ; لأنه ليس كاشفاً عن الواقع (١) ، إلى أن قال : هذا بالإضافة إلى أن معظم المسائل التي استشهد الفقهاء فيها بالإجماع إنما بقصد تعضيد الفتوى ، لا من باب توليدها.

وعندما وصلنا إلى هذه النقطة اعتذر الدكتور لضيق وقته.

__________________

١ ـ فالإجماع بما هو إجماع ليس بحجة ، وإنما يكون حجة إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام فَبالنتيجة تكون الحجية لقول المعصوم عليه‌السلام ، وهذا أمر واضح لأنه قام عليه الدليل القطعي.

٥٨٣

المناظرة السابعة والثمانون

مناظرة

الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في

وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين عليه‌السلام

قال الشيخ معتصم السوداني تحت عنوان ( الوهّابيّة في أركان النقاش ) : دارت في الساحة الفكريّة في مدينة عطبره أحداث ساخنة ، بعد أن سيطر الطرح الشيعيُّ على مستوى المناظرات وأركان النقاش ، خاصة بين طلبة جامعة وادي النيل ، فكان حديث الساعة : الشيعة والتشيُّع حتى في الأماكن العامة ، هذا ممَّا أشعل نار الحقد الوهّابيّ ، فكثّفوا هجومهم على الشيعة في كل منابرهم ، وعندما علموا أن مصدر التشيّع في المدينة هو جامعة وادي النيل ، عملوا على حجز دار الطلاب ، وهي دار كبيرة تقام فيها نشاطات الطلاب الثقافيّة والسياسيّة ، لمدّة يومين وهما : الخميس والجمعة ، وكان برنامجهم يشتمل على معرض كتاب وملصقات وعرض فيديو ، كلُّها تعرِّض بالشيعة ، بالإضافة إلى محاضرة في اليوم الأول بعنوان : « وجاء دور المجوس » وكان المحاضر مستعاراً من مدينة أخرى وهي ( مدني ) جنوب الخرطوم ، وفي اليوم التالي كان ركن النقاش بعنوان : ( هذا أو الطوفان ) ويختلف ركن النقاش عن المحاضرة بأنّه يغلب عليه طابع النقاش

٥٨٤

والجدال والحدّيّة أكثر من المحاضرة.

وكان قصدهم من هذا الجهد هو تشديد الضربة على الشيعة ، حتى ينتهي وجودهم في المدينة ، أو على الأقل يحدثوا قطيعة بين الشيعة والمجتمع ، ولذلك عندما فشلوا في الردّ على الشيعة رفعوا شعارات الولاء والبراءة ، وأمروا الناس بمقاطعة الشيعة في كل أمور الحياة.

وعندما اكتشفنا نواياهم قرّرنا أن يكون ردّنا عليهم وعلى افتراءاتهم قويّاً ومحكماً ، وأن يكون أكثر علميّة ، ولا ننصاع لتهكُّماتهم ومهاتراتهم ، وخاصة أن الجوَّ الذي سوف يكون فيه الحوار هو جوٌّ مثقَّف وواعي بأهمّيّة البرهان والدليل.

وعندما جاء يوم الخميس زرنا الدار في الساعة الخامسة مساءً حتى نقف على آخر التطوُّرات ، فوجدنا أن الدار كلَّها معدّة لذلك ، فقد حشدوا فيها المعارض والملصقات ومكبّرات الصوت وكراسي ، ولحى طويلة تملأ الدار ، وقد كان الجوُّ مهيباً ، وهم ينظرون إلينا ويتهامزون ويتغازون ، ولكنّا كسرنا حاجز الهيبة ، وتجوّلنا في أجنحته ، نتصفّح عناوين الكتب ، ونقرأ شعاراتهم التي كتبت بخط عريض في كفر الشيعة وبعدهم عن الدين ، فهي تحكم في الواقع على جهالة الوهابيّة ، وبعدهم عن الإسلام الصحيح ، فكان الأصدقاء يضحكون على هذه العقول السخيفة التي سطَّرت هذه الكلمات ، وعندما حان وقت المغرب ذهبنا لنصلّي جماعة ، ثمَّ نأخذ احتياطاتنا اللازمة في تأمين أنفسنا من اعتداءاتهم ، وتوزيع برامج النقاش بيننا ، وكيفيَّة الانتشار ، واتّخاذ المناطق المهمّة في الجلوس وغيرها ، وبالفعل تمَّ ذلك ، واتخذت أنا أول مقعد في مقابل المتحدِّث الوهابي مباشرةً.

وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم وتقديم المتحدِّث ، شرع المحاضر في

٥٨٥

حديثه وكان يحتوي على الآتي :

اختلف المسلمون إلى مذاهب عديدة ، وهذا مصداق لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثني وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، وقيل : من هم يا رسول الله؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (١).

وهذا الحديث نصّ صريح على أن طريق النجاة هو الأخذ بمنهج السلف الصالح ، فهم الذين فهموا الدين ونقلوه ، وحفظوا القرآن وفسرّوه ، ولا يجوز أن نقدِّم رأينا على كلامهم ، بل نتمسّك بهم ، ونعضُّ على سنّتهم بالنواجذ.

إنّ الشيعة عندما أرادوا أن يطعنوا في الدين طعنوا في الصحابة ، والطعن في الناقل هو الطعن في المنقول ، فشكّكوا في عدالة الصحابة وجرحوهم ، مع أنّ الجرح والتعديل لا يجوز في حقّهم ; لأنّهم وثَّقهم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

__________________

١ ـ تذكرة الموضوعات ، الفتني : ١٥ ، كشف الخفاء ، العجلوني : ١ / ١٥٠ ، فتح القدير ، الشوكاني : ١ / ٣٧١.

٢ ـ وهذا ما يروِّج له كبار القوم أمثال : ابن الأثير وابن حجر والنووي وابن حزم ومن تبعهم على ذلك ، وقد تقدَّم قول ابن الأثير أنه قال في مقدِّمة كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة : ١ / ٣ : والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاَّ الجرح والتعديل ، فإنهم كلهم عدول لا يتطرَّق الجرح إليهم ; لأن الله عزَّوجلَّ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زكَّياهم وعدَّلاهم ...

وقال ابن حجر في الإصابة : ١ / ٢٢ : قال الإمام النووي : الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم ، بإجماع من يعتدُّ به ، وقال إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنّهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما استرسلت سائر الأعصار.

وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : ص ٦٤ مبوِّباً على عدالتهم : ما جاء في تعديل الله

٥٨٦

__________________

ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصحابة ، وأنّه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم : كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نصّ القرآن.

وقال ابن حزم في المحلّى : ٩ / ٣٦٢ : فالصحابة كلهم عدول ، فإذا ثبتت صحة صحبته فهو عدل مقطوع بعدالته ; لقول الله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ) الآية. سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

وأمَّا أبو حنيفة فله رأي في ذلك ، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ٤ / ٦٨ : روى أبو يوسف أنَّه قال أبو حنيفة : الصحابة كلُّهم عدول ما عدا رجالا ، ثمَّ عدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.

أقول : لو كان كل الصحابة عدولا كما يزعم هؤلاء ، وقد زكَّاهم الله تعالى لما رمى بعضهم بعضاً بالكذب والافتراء ، ولما قاتل بعضهم بعضاً ، ولما اعتدى بعضهم على بعض ، ولصدَّق بعضهم بعضاً ، هذا ولم تكن الصحابة في يوم ما يعتقدون في أنفسهم هذا الاعتقاد من النزاهة والطهارة ، كيف وحال الصحابة يشهد بعدم ذلك؟ فلو كانت الصحابة كلهم عدولا لما خفي عليهم هذا الأمر ، ولا حتجّوا بالآية الشريفة على هذه الدعوى ، ولاحتجَّ بعضهم على بعض دفاعاً عن نفسه بما زعمه هؤلاء من التزكية ، وهذا لم يحصل إطلاقاً ، والآية الشريفة ليست مطلقة كي تشمل جميع الصحابة فراجع سبب نزولها.

وأمَّا قول إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما استرسلت سائر الأعصار.

فهو أول الكلام ; فإنّا لا نسلِّم انحصار الشريعة بهم ومن طريقهم ، وذلك لوجود عترة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام الذين أمرنا بالتمسُّك بهم في حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرهما ، وثانياً : لو سلَّمنا توقُّفها فهي لا تتوقَّف على جميع الصحابة ، بل من ثبتت وثاقته وتزكيته.

قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة في البحار : ٢٨ / ٣٦ : اعلم أن أكثر العامة على أن الصحابة كلهم عدول ، وقيل : هم كغيرهم مطلقاً ، وقيل : هم كغيرهم إلى حين ظهور الفتن بين علي عليه‌السلام ومعاوية ، وأمَّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، وقالت المعتزلة : هم عدول إلاَّ من علم أنه قاتل علياً عليه‌السلام فإنه مردود ، وذهبت الإمامية إلى أنهم كسائر الناس من أن فيهم المنافق والفاسق والضال .. إلخ.

وقال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه الغدير : ١٠ / ٩٦ ، في حال أبي محجن الثقفي : وما

٥٨٧

إنّ فرقة الشيعة ابتكرتها اليهوديَّة ، ولذلك نجد أن مؤسّسها يهوديٌّ اسمه عبدالله بن سبأ ، وهو دخيل على الإسلام وما كان يقصد إلاَّ الفتنة ، فغلوا جماعته في عليٍّ عليه‌السلام وألّهوه حتى أحرقهم بالنار ، وهذا دليل كاف على أن علياً بريءٌ منهم.

إنّ الشيعة دخيلة على السودان ، وهو شعب سنّي أصيل ، وهذا من مساوئ الحكومة الحاكمة ، فإنها فتحت المجال لهم ، وكان من المفترض أن تقف في وجوههم وتردَّ كيدهم.

ومن مساوئ الشيعة أيضاً أنهم يؤمنون بزواج المتعة ، وهو زواج جاهليٌّ

__________________

أدراك ما الثقفي؟! كان يدمن الخمر ، منهمكاً في الشراب ، حدَّه عمر في سبع مرَّات ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلا فهرب منه ، وهو صاحب الشعر الدائر السائر :

إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة

تروِّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنَّني بالفلاة فإني

أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقها

هذا أبو محجن فانظر ماذاترى ، وأنت بين أمرين : إمَّا أن تأخذ بكتاب الله وفيه قوله تعالى : ( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا ) وإمَّا أن تجنح إلى ما جاء به القوم من خرافة : الصحابة كلهم عدول ، لا يستوي الحسنة ولا السيئة ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، لا يستوي الخبيث والطيب ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) سورة السجدة ، الآية : ١٨.

وقال الأستاذ محمود أبو ريّة رحمه‌الله في كتابه أضواء على السنّة المحمديّة : ٣٥٣ : وإذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان ، فإن هناك كثيراً من المحقِّقين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة لجميع الصحابة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي : إنها أغلبيّة لا عامة ، وإنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو والهوى ، ويؤيِّدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلاَّ بشر ، يقع منهم ما يقع من غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، ويعزِّزون حكمهم بما وقع في عهده من المنافقين والكذَّابين ، وبما وقع بعده من الحروب والفتن والخصومات التي لا تزال آثارها إلى اليوم ، وستبقى إلى ما بعد هذا اليوم.

٥٨٨

أبطله الإسلام ، ولكنهم يدّعون أنّه لم يحرّمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن حرَّمه عمر بن الخطاب.

ولم يخرج كلامه من هذه النقاط ، وبعد أن ختم حديثه ، وزَّع جماعته قطعاً ورقيّةً حتى تكتب فيها الأسئلة ، ولكنّها طريقة غير مجدية في حقّنا ، فرفعت يدي ، وطلبت أن أسأل مباشرةً ، فوافق على ذلك.

وبعد أن أمسكت بلاقطة الصوت ، شكرته على إتاحته الفرصة لنا ، وقلت له : إنّ لي ملاحظات على كل كلامك ، ولكن أن أسألك وأنت تجيب فهذه مسألة غير منصفة ، فأخيّرك بين أمرين : إمّا تعقد معي مناظرة ، وإمّا أن تسمح لي بالكلام حتى أعقّب على كل المحاضرة ، فأيَّهما تختار؟ سكت مدّة من الزمن ، وقال : أسمح لك بخمس دقائق.

قلت : لا تكفي.

قال : عشر دقائق.

قلت : أيضاً لا تكفي ، وأنا أرى أن تكون مناظرة ، حتى لا تكون محدّدة بزمن ، ونحن مستعدُّون أن نجلس معك أسبوعاً كاملا ، ونطرح كل العقائد الشيعيّة من الألف إلى الياء.

قال : إن المناظرة لابدَّ أن تنسَّق مع جماعة أنصار السنّة المحمديَّة في الجامعة.

قلت : أنا أريدها معك أنت شخصيّاً ، فلا تحتاج إلى تنسيق.

قال : تكلَّم براحتك .. وكأنه هاربٌ من المناظرة.

وبعدما فسح لي المجال للتحدّث ، رأيت أنّه من الأنسب أن لا أعتمد على منهجيّة الردِّ وحسب ، وإنما أقوم بتوضيح عام لمفهوم التشيُّع ونشوئه التاريخي

٥٨٩

ومصادره ، بمثابة مقدّمة تأصيليّة.

فقلت : إنّ التشيُّع ليس وليد اللحظة ، ولا وليد حالة تأريخيّة معيَّنة كما يقول البعض : إنّ التشيّع نشأ بعد حرب الجمل ، أو كما يقال : التشيّع أصبح خطّاً في الأمّة الإسلاميّة بعد حادثة كربلاء الأليمة التي ولَّدت تيَّاراً عاطفيَّاً عنيفاً في نفوس المسلمين ، ممَّا جعلهم يتبنّون أهل البيت عليهم‌السلام باعتبارهم قيادةً للمسلمين ، وليس كما يقول المجحفون إنّ التشيُّع وليد الذهنيّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في شخصيَّة عبدالله بن سبأ.

إن الناظر إلى التشيُّع بروح موضوعيَّة ، يرى أنه ضارب جذوره في عمق الرسالة المحمديَّة ، فهو كمفهوم واضح من خلال النصّ القرآني ، والأحاديث النبويّة ، فإنّه لا يتجاوز أن يكون نظرة عميقة في سنن الله سبحانه وتعالى ، التي نستخلص منها ضرورة اصطفاء أئمّة وقادة ربانيين ، يتكفَّلون بقيادة البشريّة إلى نور الهداية ، فالضرورة العقليّة تحتّم وجود إمام من قبل الله ليقود هذه الأمة ، وتؤيِّد هذه الضرورة العقليّة النصوص الشرعيّة التي نجدها ظاهره في تنصيب الأئمة واصطفاء القادة ، فما من مجتمع بشريٍّ مرَّ على تأريخ الإنسانية إلاّ وكان فيه قيادة إلهيَّة تمثِّل حجّة الله على العباد ، فقد أرسل الله مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض الروايات ، ولكل نبيٍّ وصيّ يحفظ خطَّ الرسالة من بعد النبيِّ.

وما لاقته الأمّة الإسلاميَّة من تمذهب وفرقة ما كان إلاَّ لفقدان المرجعيَّة الواحدة ، المصطفاة من قبل الله ، وممّا ثبت بالضرورة أنّ فترة وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان المسلمون كياناً واحداً ; لوجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ، وكذلك إذا فرضنا وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليوم لكانت الأمّة الإسلاميّة جسداً واحداً ، فيتّضح

٥٩٠

بذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمثّل صمّام أمان لهذه الأمّة ، فمجرَّد ما انفلت صمَّام الأمان انفلت الوضع من بعده ، فماذا كان يمثّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

كان يمثّل المرجعيّة المعصومة والقيادة الواحدة ، فيثبت من ذلك أنّ الطريق الوحيد لعصمة الأمّة هو وجود قيادة إلهيَّة معصومة ، وهذا ما تتبنّاه الشّيعة ، ومن هنا كان من الضروريِّ أن ينصب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إماماً لقيادة المسلمين ، والذي ينكر التنصيب ـ بمعنى أنّ الله لم يعيِّن إماماً ـ يكون بذلك نسب سبب الضلالة إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذا هو مفهوم الإمامة ، ولا أتصوَّر أنّ أحداً من المسلمين ينكر الإمامة كضرورة ومفهوم ، ولكنّ الخلاف كل الخلاف في مصاديق الإمامة الخارجيَّة ، فإنّ الشيعة تعتقد أنّ الإمامة جارية في ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، ولم يكن هذا مجرّد افتراض جادت به قريحة الشيعة ، وإنما هو نص قرآني وحديث نبوي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء في الحاكم : أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة : أنّه سيِّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين (١) ، وحديث جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذٌ بضبع علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يقول : هذا إمام البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله (٢) ،

__________________

١ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣ / ١٣٧ ـ ١٣٨ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، المناقب ، الخوارزمي : ٣٢٨ ح ٣٤٠ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٣٠٢ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ١ / ٦٩ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ١ / ٧٨ و ٩ / ١٢١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩ / ١٦٩ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٤ / ١٥٣.

٢ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣ / ١٢٩ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ٣ / ١٨١ ، رقم : ١٢٠٣ و ٤ / ٤٤١ ، رقم : ٢٢٣١ ، فتح الملك العلي ، المغربي : ٥٧ ،

٥٩١

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مرحباً بسيِّد الموحِّدين ، وإمام المتقين ، وعن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأئمة من ولدي ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، هم العروة الوثقى ، والوسيلة إلى الله جلَّ وعلا (١) ، ومئات الأحاديث.

فما ذنب الشيعة بعد ذلك إذا والوا علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأخذوا دينهم منه ، فهو المسار الطبيعي للرسالة ، ولو لاه لم يعرف للدين معنى.

ولذلك نجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد كثيراً على ضرورة الإمامة ، وإمامة عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالذات ، وهذا هو التشيُّع ، فهل لكم معنى آخر للتشيُّع حتى تنسبوه إلى عبدالله بن سبأ؟! بل كلمة الشيعة نفسها لم تكن مصطلحاً غريباً على الأمّة الإسلاميّة ، فقد عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تثبيت هذا المصطلح وتأصيله في ذهنيَّة الأمّة الإسلاميّة ، كما جاء في حديث جابر قال : كنّا عند النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليٌّ عليه‌السلام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي نفسي بيده ، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » فأنزل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (٢) ، وكما جاء عن ابن عباس قال : لمَّا أنزل الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيَّين ، ويأتي عدوُّك

__________________

المناقب ، الخوارزمي : ١٧٧ ح ٢١٥ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٢٢٦ و ٣٨٣ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ٦٠٢ ح ٣٢٩٠٩ ، فيض القدير ، المناوي : ٤ / ٤٦٩ ح ٥٥٩١.

١ ـ ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ٢ / ٣١٨ ح ٩١٨.

٢ ـ سورة البيِّنة ، الآية : ٧.

٥٩٢

غضاباً مقمحين (١).

وغير هذه الروايات الواضحة في تحديد مسار الأمَّة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذلك نجد أنّ لهذه الروايات مصاديق وترجمة خارجيَّة من مجموعة من الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد ، حتى أصبح لفظ الشيعة لقباً لهم. ذكر أبو حاتم في كتابه الزينة : إنّ أوّل اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو الشيعة ، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان الفارسي (٢).

هذا بالإضافة لوجود كثير من الآيات والأحاديث التي توجب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام خاصّة ، وأخذ الدين عنهم ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣).

من الضروريِّ أن لا يكون الله طهّرهم من الذنوب عبثاً ، وإنّما تطهيرهم مقدِّمة لاتّباعهم وأخذ الدين منهم ، كما جاء في الحديث : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (٤).

وهذا يدلُّ على أن البعد عن الضلالة لا يتحقّق إلاَّ باتّباعهم وأخذ الدين

__________________

١ ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ٢ / ٤٦٠ ـ ٤٦١ ح ١١٢٦ ، النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ٤ / ١٠٦ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٦ / ٣٧٩ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٩٢ ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ٢ / ٤٥٢ ح ٢٥٤ ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ٢٤٦ ، الآية الحادية عشرة.

٢ ـ ذكره في باب الألفاظ المتداولة بين أهل العلم.

٣ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٤ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٥٩٣

منهم ، حتى السلف الصالح لا يسمّى صالحاً إلاَّ إذا أخذ دينه عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فبأيِّ حجّة بعد ذلك تقول : إن أخذ الدين لابد أن يكون عن طريق السلف؟ وأيَّ سلف تقصد؟ هل الذين لم يتفقوا في أبسط الأحكام الفقهيّة كاختلافهم في قطع يد السارق ، فهل تقطع من أصل الأصابع كما قال بعض الصحابة أو من الكفّ ، أو من المرفق ، أو من الكتف كما قال آخرون (١)؟

فمن الضروريِّ أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلَّغ حكماً واحداً لا أحكاماً متعدّدةً ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة هم الذين أخطأوا ، فكيف نعتمد على قولهم ، وندين الله تعالى باتّباعهم؟

فإذن ليس كما ذهبت أنّ الطريق هو متابعة كل السلف الذين اقتتلوا ، وكفَّروا بعضهم ، وإنّما يؤخذ الدين عن شريحة خاصة كفل الله عصمتهم من الاختلاف ، وهم أهل البيت عليهم‌السلام الذين تواترت الروايات في حقِّهم ، ووجوب اتباعهم.

أسألك بالله إن كنت صادقاً فيما تقول ، أن تثبت لي دليلا واحداً يقتضي بوجوب اتباع السلف؟! واستدلالك ببعض الآيات كقوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) (٢) فإنها لا يمكن أن تحمل على مطلق السلف ، وإنّما هي عامّة ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، ولا توجد قرائن تخصّصها إلاَّ ما جاء في حقِّ أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا يمكن أن تحملها على مطلق السلف كما ثبت من وقوع الاختلاف بينهم.

__________________

١ ـ راجع : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، وتفسير الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) سورة المائدة ، الآية : ٣٨.

٢ ـ سورة النساء ، الآية : ١١٥.

٥٩٤

ولا نقبل استدلالك بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (١) فإنّها لا تتجاوز أن تكون مدحاً ، وإن تنازلنا وسلّمنا بظهورها فيما تدّعي فإن الظهور لا يقابل النصوص الواضحة القاطعة بوجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام.

ونحن ندري أنّ مشكلتكم ليست الأدلّة والبراهين الواضحة في وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنكم لم تكونوا سلفيين بمحض إرادتكم ، وإنَّما هذا ما ورثتموه من التاريخ الجائر للحكمين الأموي والعباسي ، الذي عمل جهده حتى يورث الأمَّة تيَّاراً يواجه أهل البيت عليهم‌السلام ، وإلاّ ما كرّرت أنت نفس مالاكه علماؤك الأقدمون ، الذين صنعتهم السلطات الجائرة ، ليشوِّهوا صورة التشيُّع.

بالله عليك ، هل هناك عاقل له قليل اطّلاع بالمذهب الشيعيِّ يكون صادقاً مع نفسه إذا نسبه إلى عبدالله بن سبأ؟ نعم قد يكون الجاهل معذوراً ، ولكن ما عذر من يكرّر الجهل ويتبنّاه من غير دراية وتحقيق ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، فكيف تتحدَّثون عن الشيعة وكأنهم مخلوق غريب لا ارتباط لهم بالإنسانيّة ، ويعيشون في كوكب غير كوكبنا؟

عزيزي! إنّ الوسائل قد تغيَّرت ، فاتركوا ما ورثتموه عن سلفكم ، ابحثوا عن وسائل جديدة في الردِّ على الشيعة ، فزمنهم غير زمنكم ، فقد تعدَّدت وسائل المعارف ، فهذه الكتب الشيعيّة متوفِّرة في كل مكان فاطّلعوا على براهينهم ، وهذه البلاد الشيعيّة زوروها ، وقفوا على أحوالهم.

وكان بإمكاني أن لا أردّ على ما ذكرت ; لأنه لا يرقى إلى مستوى الفكر والنقاش ، ولكن تنازلا أعقّب على ما ذكرته في حديثك.

__________________

١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.

٥٩٥

أولا : إنّ نسبة الشيعة إلى عبدالله بن سبأ ، يرجع إلى ما رواه الطبري ، وهو أول راوي لذلك ، أمَّا بقية المؤرِّخين فإنهم أخذوا منه ، وروى الطبري ذلك عن سيف بن عمر ، وسيف معروف قدره عند علماء الجرح والتعديل (١) ، فإنه رجل كاذب ومدلِّس ، ولا يؤخذ برواياته ، وللمزيد ارجع إلى كتاب عبدالله بن سبأ وأساطير أخرى للعلامة السيد مرتضى العسكري.

ثانياً : حتى لو سلّمنا بهذه الروايات فإنها لا تقول بأن عبدالله بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فكل ما فيها أنّ هذا الرجل ادّعى أنّ لكل نبيٍّ وصيّاً ، وأنّ وصيَّ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عليٌّ عليه‌السلام ، وهذا ليس من مبتكرات عبدالله بن سبأ ، وإنما صرَّح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، فإذا كان قول الشيعة مطابقاً لقول ابن سبأ ، فما هو وجه الملازمة بين هذا وبين أن يكون هو مؤسّس الشيعة؟ فما هو وجه الشبه حتى تربط بين الأمرين؟ ولعمري إنها لسخافة في الرأي.

أمَّا تأليه عليٍّ عليه‌السلام وأنّ عليّاً عليه‌السلام أحرق أتباعه بالنار ، فإن الشيعة لا تؤمن بذلك ، وإنما نعتقد أن عليّاً عليه‌السلام عبدٌ صالح من عباد الله الصالحين ، اختاره الله لحمل رسالته من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

١ ـ قال يحيى بن معين ـ ت ٢٣٣ هـ ـ : ضعيف الحديث ، فلسٌ خير منه ، وقال أبو داوود ـ ت ٢٧٥ هـ ـ : ليس بشيء كذّاب ، وقال النسائيي صاحب الصحيح ـ ت ٣٠٣ هـ ـ : ضعيف ومتروك الحديث ، ليس بثقة ولا مأمون ، وقال ابن حاتم ـ ت ٣٢٧ هـ ـ : متروك الحديث ، وقال ابن عدي ـ ت ٣٦٥ ـ : يروي الموضوعات اُتهم بالزندقة ، وقال : قالوا : كان يضع الحديث ، وقال الحاكم ـ ت٤٠٥ هـ ـ : متروك ، وقد اتهم بالزندقة ، وهاهُ الخطيب البغدادي ، ونقل ابن عبد البرّ عن ابن حيان أنه قال فيه : سيف متروك ، وإنّما ذكرنا حديثه للمعرفة ، ولم يعقِّب ابن عبد البرِّ عليه ، وقال الفيروز آبادي : صاحب توالف ، وذكره مع غيره وقال عنهم : ضعفاء ، وقال ابن حجر بعد إيراد حديث ورد في سنده اسمه : فيه ضعفاء أشدُّهم سيف ، وقال صفي الدين : ضعَّفوه ، وروى له الترمذي فرد حديث.

٥٩٦

ثالثاً : ما كانت هذه الفرية إلاَّ حلقة من مسلسل الوضع على الشيعة ، كما قال طه حسين : ( ابن سبأ شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ، ولا وجود له في الخارج ) وتستهدف هذه المحاولة تشويه عقائد الشيعة التي تنبع من القرآن والسنة ، مثل الوصيَّة والعصمة ، فلم يجد أعداؤهم طريقاً إلاَّ ربط هذه العقائد بجذر يهوديٍّ ، يكون بطلها شخصاً خياليّاً اسمه عبدالله ابن سبأ ، فيلقى اللوم بذلك عليه وعلى الذين أخذوا منه ، وهذا بالإضافة إلى تعديل صورة الصحابة وتنزيههم عن اللوم والعتاب ، بما جرى بينهم من فرقة واختلاف انتهت بقتل عثمان ، وحرب الجمل التي تعتبر أكبر فاجعة بعد حادثة السقيفة ، حيث راح ضحيَّتها آلاف من الصحابة ، وما هذه القصة المفتعلة عن ابن سبأ إلاَّ تغطية على تلك الفترة الزمنيّة الحرجة ، فألقوا مسؤوليَّة ما حدث على هذه الشخصيّة الوهميّة وأسدلوا الستار ، ومن غير ذلك يكون الصحابة أنفسهم مسؤولين عمَّا حدث ، من انشقاق الأمَّة ، وتفرّقهم إلى مذاهب ومعتقدات شتى ، ولكن هيهات يتسنَّى لهذا الدخيل أن يعبث حتى غيَّر تاريخ الإسلام العقائدي ، والصحابة شهود على ذلك!! فإذا لم يكن الصحابة قادرين على قيادة الأمّة إلى برِّ الأمان في حياتهم ، فكيف يقودون الأمَّة بعد وفاتهم ، فالذي فشل في حياته كيف ينجح بعد مماته؟!

وعندما كنت أتحدَّث كان بعض الوهابيّة يصيحون : الزمن ، الزمن ، ولكن المحاضر صامت وكأنّ على رأسه الطير ، ولم يتفوّه بكلمة واحدة ، وشعرت بأنه يطلب المزيد ، ولذلك ما إن وضعت لاقطة الصوت وقلت : لنا عودة ، قال : أسألك سؤالا ، هل عندك دليل على ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام وخلافته؟

قلت : من القرآن والسنة ، والعقل ، والتاريخ ، فأيّها تحبُّ؟

٥٩٧

قال : من القرآن.

فحمدت الله في سرّي على هذه الفرصة الجديدة ، وقلت : إنّ الآيات كثيرة في ذلك ، وسوف أذكر لك بعضها مع التوضيح :

أولا : قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١).

هذه الآية تطرح نفس ما قلناه ، وتؤكِّد أولا : ضرورة الولاية في الدين ،

وثانياً : استمراريّة ولاية الله ، وهي السلطة والحاكميّة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ من بعده الذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون.

أمَّا ولاية الله فهي ثابتة بالذات ، وأمَّا ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين آمنوا فهي بالتبع ، فولاية الله في الأرض وحكومته لا تتمُّ إلاَّ باصطفاء بشر أعطاهم الله القدرة التي تؤهّلهم على أن يكونوا امتداداً لحكومة الله في الأرض ، فلا يحقُّ للإنسان ، مطلق الإنسان ، أن يتصرَّف في إدارة البلاد والعباد من غير إذن الله ; لأنّ الله هو الحاكم ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (٢) ولا تتمُّ حكومته في الأرض إلاّ إذا اصطفى الله حاكماً من عباده ، ولذلك جاءت هذه الآية القرآنيّة صريحة في هذا المجال ، فأثبتت أولا : ولاية الله ، ثمَّ أجرت هذه الولاية على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ صرَّحت أن الولاية من بعد الرسول تكون مستمرَّة في الذين آمنوا وآتوا الزكاة في حال الركوع.

فدلالة هذه الآية على ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام تكون واضحة إذا

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥٥.

٢ ـ سورة الأنعام ، الآية : ٥٧.

٥٩٨

اتضح أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، والحمد لله إنّ هذا المعنى ثابت ; لما تواتر من الأخبار في نزول هذه الآية بخصوص علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأذكر لكم هنا ما جاء عن أبي ذر الغفاري في رواية طويلة أخرجها عنه الحاكم الحسكاني ( ج ١ ص ١٧٧ ط. بيروت ) بسنده.

قال أبو ذر الغفاري : أيُّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرٍّ الغفاري ، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلاَّ فصمَّتا ، ورأيته بهاتين وإلاَّ فعميتا ، وهو يقول : عليٌّ قائد البررة ، قاتل الكفرة ، منصور من نصره ، ومخذول من خذله ، أما إني صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحدٌ شيئاً ، وكان علي عليه‌السلام راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمَّا فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) (٢) ، اللهم وأنا محمّد نبيُّك وصفيُّك ، اللهم فاشرح صدري ، ويسرّ لي أمري ، وجعل لي وزيراً

__________________

١ ـ سورة طه ، الآية : ٢٥ ـ ٣٢.

٢ ـ سورة القصص ، الآية : ٣٥.

٥٩٩

من أهلي ، عليّاً أخي ، اشدد به أزري.

قال : فوالله ما استتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام حتى نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام من عند الله ، وقال : يا محمّد! هنيئاً ما وهب لك في أخيك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما ذاك يا جبرئيل؟ قال : أمر الله أمّتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل عليك ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) ... إلى آخر الآية (١).

فيكون معنى الآية بعد ذلك : إنما وليُّكم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام. ولا يستشكل أحد ، كيف خاطب الله الفرد بصيغة الجمع؟ لأنه أمر جائز في لغة العرب ، وهو ضرب من ضروب التعظيم ، والشواهد على ذلك كثيرة ، كقوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) (٢). فالقائل هو حيي بن أخطب ، وقوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) (٣) ، وهذه الآية نزلت في رجل من المنافقين ، إما في الجلاس بن سويد ، أو نبتل بن الحرث ، أو عتاب بن قشيرة (٤).

ولا يستشكل أيضاً بأنّ معنى الوليّ هو المحبُّ والناصر ، وإنما هو الأولى بالتصرُّف ، والذي يدلُّ على ذلك هو أن الله تعالى نفى أن يكون لنا وليٌّ غيره وغير رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) بلفظة ( إِنَّمَا ) ، ولو كان المقصود الموالاة في الدين ما خصّ بها

__________________

١ ـ شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ ح ٢٣٥ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ٨٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية : ١٨١.

٣ ـ سورة التوبة ، الآية : ٦١.

٤ ـ تفسير الطبري : ٨ / ١٩٨.

٦٠٠