مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

والاعتبار.

١ ـ غضب السيِّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ويذكره البخاري في صحيحه قائلا : ( فوجدت فاطمة عليها‌السلام على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلَّمه حتى توفِّيت ) (١) ، وأخذنا بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ( فاطمة سيِّدة نساء العالمين ) (٢).

فنستنتج بأن إمام زمان فاطمة عليها‌السلام هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الواجب الطاعة ، وهو الخليفة بعد رسول الأمَّة ، ألم يبادر إلى ذهنك ـ أيُّها المحاور ـ أين قبر فاطمة؟ فخذ الجواب من شاعر أهل البيت عليهم‌السلام الأزري :

فَلأَيِّ الأُمُورِ تُدْفَنُ لَيْلا

بَضْعَةُ الْمُصْطَفَى وَيُعْفَى ثَرَاهَا

فَمَضَتْ وَهيَ أَعْظَمُ الناسِ وَجْداً

في فَمِ الدهرِ غُصَّةٌ مِنْ جَوَاهَا

وَثَوَتْ لاَ يَرَى لَهَا النّاسُ مثوىً

أيُّ قُدّس يَضُمُّهُ مَثْوَاها (٣)

ثمَّ أُضيف لك ـ أيُّها الأخ ـ أنهم اغتصبوا حقَّ فاطمة عليها‌السلام ، واحتجُّوا عليها بحديث : النبيُّ لا يورِّث.

المحاور : عفواً سماحة السيِّد! : النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نحن معاشر الأنبياء لا نوِّرث ، فالوراثة هي العلم والحكمة.

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٥ / ٨٢ و ٨ / ٣ ، صحيح مسلم : ٥ / ١٥٤ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٦ / ٣٠٠ ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : ٥ / ٤٧٢ ح ٩٧٧٤ ، صحيح ابن حبان : ١١ / ١٥٣ ، تأريخ المدينة ، ابن شبة : ١ / ١٩٦.

٢ ـ السنن الكبرى ، النسائي : ٤ / ٢٥٢ ، ح ٧٠٧٨ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧ / ٥٢٧ ح ٥ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ١٣٤ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٠ / ٢٦٥ ، أسد الغابة ، ابن الأثير : ٤ / ١٦ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١٢ / ١١٠ ح ٣٤٢٣٣ ، فيض القدير ، المناوي : ٣ / ١٣٩ ، الدرّ المنثور ، السيوطي : ٢ / ٢٣ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٤٣.

٣ ـ الأزريّة ، الشيخ الأزري : ١٤٣.

٥٦١

السيِّد البدري : أولا : هذا الحديث هو رواية آحاد ، وتفرَّد به الخليفة أبو بكر ثمَّ قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستكثر من بعدي الكذَّابة ) (١) ( فاعرضوا كلامنا على القرآن ، فإن وافق القرآن فخذوا به ، وإن خالف القرآن فاضربوا به عرض الحائط ) (٢) فليكن رجوعنا إلى الميزان وهو القرآن ، لنرى هل هذا الحديث الذي استشهدت به يخالف القرآن أم يوافقه.

الزهراء عليها‌السلام تخاطب الخليفة أبابكر

فاسمع قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) (٣) ، فإن قلت لي : إن الميراث المطلوب في هذه الآية هو العلم والحكمة فاسمع قول الزهراء عليها‌السلام في خطبتها

__________________

١ ـ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيُّها الناس! قد كثرت عليَّ الكذَّابة.

راجع : الكافي ، الكليني : ١ / ٦٢ ح ١ ، تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : ١٩٣. صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢ ـ روى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في كتاب الاحتجاج : ٢ / ٢٤٦ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي ، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به.

وروى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في تفسير مجمع البيان ١ / ٣٩ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط.

وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة في الاستبصار : ١ / ١٩٠ ح ٩٦٦٨ : وقد روي عنهم عليهم‌السلام أنهم قالوا : إذا جاءكم عنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالفه فاطرحوه.

وروى العامّة أيضاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فهو منّي ، وما خالفه فليس منّي.

راجع : أحكام القرآن ، الجصاص : ١ / ٦٢٩ ، المحصول ، الرازي : ٤ / ٤٣٨.

٣ ـ سورة النمل ، الآية : ١٦.

٥٦٢

المشهورة للخليفة أبي بكر : يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً!! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (١) ، وقال : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (٢) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (٣) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٤) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ، ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصَّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟! فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و ( لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (٥) ( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (٦). الخطبة (٧).

ألم يكفِك جواباً قول الزهراء عليها‌السلام؟

__________________

١ ـ سورة مريم ، الآية : ٥ ـ ٦.

٢ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٧٥.

٣ ـ سورة النساء ، الآية : ١١.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٨٠.

٥ ـ سورة الأنعام ، الآية : ٦٧.

٦ ـ سورة هود ، الآية : ٣٩.

٧ ـ بلاغات النساء ، ابن طيفور : ١٤ ، السقيفة وفدك ، الجوهري : ١٠١ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦ / ٢١٢ ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : ١٦٠ ـ ١٦١.

٥٦٣

المحاور : سماحة السيِّد! الكلام قويٌّ وبليغ ، ولكن أين دليل وسند هذه الخطبة؟

السيِّد البدري : راجع نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي : الجزء الرابع ، ص ١٩٣ ، وبلاغات النساء لابن أبي طيفور.

الإمام علي عليه‌السلام يذكر فدك في خطبته.

السيِّد البدري يتابع الحديث .. ينقل لنا كلاماً للإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة بمناسبة أرض فدك : ( .. فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا حزت من أرضها شبراً ، بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلَّته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله .. ) (١).

فهذا كلام الإمام علي عليه‌السلام ، يقول : ( ونعم الحكم الله ) ومعناه : أني سوف أطالبهم حقّي يوم الحساب .. يوم لا تظلم نفس شيئاً .. والحكم يومئذ لله.

الزهراء عليها‌السلام تشكو اهتضامها لأبيها

وأمَّآ سيِّدتنا فاطمة عليها‌السلام فقد قالت لأبي بكر وعمر : فإني أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني فما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ عليها‌السلام لأشكونَّكما إليه. الإمامة والسياسة لابن قتيبة (٢) عليك مراجعته.

وكما نقل بعض المؤرِّخين كانت في أواخر أيَّام حياتها تخرج إلى قبر أبيها

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٣ / ٧٠ ـ ٧١ ، كتاب رقم : ٤٥ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٠٨.

٢ ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : ١ / ٣١.

٥٦٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهناك تشكو اهتضامها وتقول : أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين ، وأصبحت الناس عنّا معرضين!! ثمَّ تأخذ تراب القبر فتشمُّه وتنشد :

مَاذَا علَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَد

أَنْ لاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَان غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّها

صبَّتْ عَلَى الأيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا (١)

فماتت مقهورة مظلومة ، في ربيع العمر وعنفوان الشباب ، وأوصت إلى علي عليه‌السلام أن يغسِّلها ويجهِّزها ليلا ، ويدفنها ليلا إذا هدأت الأصوات ونامت العيون ، وأوصت أن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها وآذاها (٢).

ولمَّا وضعها في لحدها وأهال عليها التراب هاج به الحزن فتوجَّه إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، إلى أن يقول عليه‌السلام : فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة! أمَّا حزني فسرمد ، وأمَّا ليلي فمسهَّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسلام عليكما سلام مودِّع ، لا قال ولا سئم .. (٣).

__________________

١ ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ١ / ٢٠٨ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ٢ / ١٣٤ ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ١٨١ ، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : ١٢ / ٣٣٧ ، المغني ، عبدالله بن قدامة : ٢ / ٤١١.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٣ / ١٣٧ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٣١ / ٦١٩ ح ٩٧ و ٤٣ / ١٨٢ ح ١٦.

٣ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليه‌السلام : ٢ / ١٨٢ ، رقم : ٢٠٢ ، الكافي ، الكليني : ١ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩ ح ٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٠ / ٢٦٥.

٥٦٥

المحاور : كفى .. كفى .. رحم الله والديك ، لقد مزَّقتني من الداخل ، حيث كانت دموعي تجري على تلك المظلوميَّة ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلذة كبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته ، وسيِّدة نساء العالمين ، وسيِّدة نساء أهل الجنة ، وأمّ الحسن والحسين ، وزوجة الإمام علي ( كرَّم الله وجهه ) بطل الإسلام ، تموت مظلومة ، لم تعش بعد والدها سوى بضعة أشهر ... تدفن ليلا ، يهضم حقّها ، وممَّن؟ من الخلفاء أبي بكر وعمر!!

يا للهول ويا للعجب! فكانت أكبر نقاط الحوار تأثيراً في نفسي وفي كياني ، فتركت الجلسة ولم أستطع أن أكمل الحوار ، فاعتذرت من سماحة السيِّد وخرجت.

في المنزل

خرجت من منزل السيِّد البدري والوقت ما يقارب الساعة العاشرة ليلا ، ووصلت إلى البيت حيث كنت منهكاً ، فقالت لي زوجتي : يبدو عليك الأرق والتعب!

فقلت لها : وأيُّ تعب؟

فقالت لي : وجهك مقلوب ومتغيِّر .. عندما ذهبت وجهك كان أفضل.

فقلت لها : نعم صحيح .. إن مظلوميّة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد هدَّت كياني ، ولم أكن أعلم كل هذا العمر الذي قضيته في المطالعة وقراءة الكتب والجامعة بهذه المصيبة والفاجعة والمظلوميّة.

مراجعة صحيح البخاري للوصول إلى الحقيقة

تناولت من مكتبتي المتواضعة صحيح البخاري لأرى صدق كلام السيِّد

٥٦٦

البدري بأن فاطمة عليها‌السلام ماتت وهي غاضبة عليهم ، وفي رواية أخرى قال لي : ( ماتت وهي واجدة عليهم ) كما ذكر لي في صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، ج ٥ ، ص ٧٧ ، مطابع دار الشعب ، وصحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس ، ج ٤ ، ص ٤٢ ، دار الفكر.

والحديث في هذا مسند إلى عائشة ، وقد صرَّحت فيه أن الزهراء عليها‌السلام هجرت أبا بكر ، فلم تكلِّمه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ماتت فعندما وجدت الحديث ووقفت عليه متأمِّلا ، فصرت أحدِّث نفسي : لماذا علماؤنا علماء السنة لايصرِّحون لنا بالحقيقة؟!! هل الدين جاء لكتمان الحقائق أم للتصريح بها؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

اللقاء الأخير : ودخل النور إلى قلبي بمظلوميَّة فاطمة عليها‌السلام

بعد وقوفي على حادثة ومظلوميَّة الزهراء عليها‌السلام ، وتأمَّلتها في صحيح البخاري ، رجعت إلى منزل السيِّد البدري بعد ثلاث أيام لأشكره على ما قدَّم لي من كتب ، وأعطاني من وقته للبحث ، وقال لي : يا بنيَّ! اللّهمَّ اشهد أني قد بلَّغتك على مذهب الحقّ مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأقام عليَّ الحجّة بعد هذه اللقاءات ، وأصبحت هذه الحوارات أمانة في عنقك وحجَّة عليك ، فالويل ثمَّ الويل لمن بان له الحقُّ وكتمه ، فالويل ثمَّ الويل لمن تجلَّت له الحقيقة وسكت عنها ، ولم يدافع عنها ولم يدعُ لها.

وقال لي : يا بنيَّ! أنا كبرت وتعبت ، وأتعبني قلبي ، وغداً سأسافر إلى بيروت ، إلى الجامعة الأمريكيّة لأعمل عمليّة للقلب ، وفقرات الظهر.

وفعلا سافر السيِّد البدري ، وتمَّ الرفض من قبل الجامعة الأمريكيّة لإجراء

٥٦٧

أيِّ عمل جراحيٍّ له ، بسبب عدم تحمُّل القلب ، وصمَّم أن يعمل فقط عمل جراحي لظهره في مشفى صيدا ، وسافر بعدها إلى إيران.

وكان يقول لي : مسؤوليتك كبيرة أمام الله ، ومعرفتك الحق أمانة ، وأنت تسأل غداً عن هذه الأمانة.

فعاهدت السيِّد البدري على حفظ الأمانة ، ومتابعة البحث والطريق إن شاء الله تعالى ، وأسألك الدعاء سيِّدي ، فودَّعته وقبَّلت جبينه وخرجت.

وبعد ذلك وصلني نبأ وفاته في مدينة قم المقدسة بعد شهر ، فبكيت عليه بكاء شديداً ، وسافرت إلى مدينة قم حيث لم أحضر جنازته ، فزرته وقرأت الفاتحة على ضريحه المقدَّس ، وعاهدته بمواصلة البحث ، والسير في الدعوة إلى طريق أهل البيت عليهم‌السلام حتى ألقى ربّي وأنا في هذا الطريق إن شاء الله تعالى (١).

__________________

١ ـ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : ٦٥ ـ ١٣٨.

٥٦٨

المناظرة الخامسة والثمانون

مناظرة

الشيخ معتصم السوداني مع الأستاذ عبد المنعم

في أن كتب السنّة فيها دلائل على التشيُّع

وبداية تحوُّله وبحثه عن الحقيقة

يقول الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني : انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة ، فأصبحت ملازماً لها ، ولكنَّ المشكلة التي واجهتني هي : من أين أبدأ؟ وأيَّ شيء أقرأ؟

وبقيت على هذه الحال أنتقل من كتاب إلى آخر ، وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهمّاً في البحث والتنقيب ، وهو دراسة التاريخ وتتبُّع المذاهب الإسلاميّة لمعرفة الحقِّ من بينها ، وكان الفتح توفيقاً إلهيّاً لم يكن في حسباني عندما التقيت بقريبي عبد المنعم ـ وهو خريج كلية القانون ـ في منزل ابن عمّي في مدينة عطبرة ، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد من الإخوان المسلمين الذي كان ضيفاً في البيت ، فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان ، وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش ، وهو في الأمور الدينيّة ، فجلست بالقرب منهم أراقب تطوُّرات

٥٦٩

المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التامّ ، رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجُّمه ، ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفَّار زنادقة.

هنا انتهيت وأمعنت النظر ، ودار في ذهني استفهام حائر : من هم الشيعة؟ ولماذا هم كفَّار؟ وهل عبد المنعم شيعيٌّ؟ وما يقوله من غريب الحديث هل هو كلام الشيعة؟

وللإنصاف إن عبد المنعم أفحم خصمه في كلِّ مسألة طرحت في النقاش ، بالإضافة إلى لبقة منطقه وقوَّة حجَّته.

وبعد الانتهاء من الحوار وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم ، وسألته بكلِّ احترام : هل أنت شيعيٌّ؟ ومن هم الشيعة؟ ومن أين تعرَّفت عليهم؟

قال : مهلا .. مهلا ، سؤال بعد سؤال.

قلت له : عفواً ، وأنا ما زلت مذهولا ممَّا سمعته منك.

قال : هذا بحث طويل ، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب ، مع الأسف لم تكن النتيجة متوقَّعة.

فقاطعته : أيُّ نتيجة هذه؟

قال : ركام من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا ، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل : هل ما عندنا من دين هو مراد الله تعالى وهو الإسلام؟ وبعد البحث اتّضح أن الحقَّ كان مع أبعد الطرق تصوُّراً في نظري وهم الشيعة.

قلت له : لعلّك تعجَّلت .. أو اشتبهت.

فابتسم في وجهي قائلا : لماذا لا تبحث أنت بتأمُّل وصبر؟ وخاصة أن

٥٧٠

لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.

قلت متعجِّباً : مكتبتنا سنّيّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة؟

قال : من دلائل صدق التشيُّع أنه يستدلُّ على صحّته من كتب وروايات علماء السنة ، فإن فيها ما يظهر حقَّهم بأجلى الصور (١).

قلت : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة؟

قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة ، كلّها مرويَّة عن أهل البيت عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّهم لا يحتجُّون على أهل السنة بروايات مصادرهم ; لأنها غير ملزمة لهم ، فلابد أن يحتجُّوا عليهم بما يثقون به ; أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

سرَّني كلامه ، وزاد تفاعلي للبحث ، قلت له : إذن كيف أبدأ؟

قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي؟

قلت : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.

قال : من هذه ابدأ ، ثمَّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التأريخ ، فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتّباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

١ ـ وهذه الشهادة من الأستاذ عبد المنعم شهادة حقٍّ ، وقد سمعناها كثيراً ، وإليك كلام بعض المستبصرين الفضلاء ، وهو السيد حسين الرجاء ، إذ يقول عن الشيعة الإماميّة : لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخصّ وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخص صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة ، وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنّة من كتبهم ، ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيع. راجع كتاب المتحوِّلون ، هشام آل قطيط : ٣٦٧.

٥٧١

وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلَّد والصفحة ، توقَّفت حائراً أسمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل ، ممَّا جعلني أشكُّ في كتب السنّة ، ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشكَّ بقوله : سجِّل هذه الأحاديث عندك ، ثمَّ ابحثها في المكتبة ، ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله.

في الجامعة :

بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي في مكتبة جامعتنا تأكَّد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام ، ممَّا جعلني أعيش في حالة من الصدمة ، لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل.

فعرضتها على زملائي في الكلّيّة حتى يشاركوني في هذه الأزمة ، فتفاعل البعض ، ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنّني صمَّمت على مواصلة البحث ولو كلَّفني ذلك كل عمري ، وعندما جاء يوم الخميس انطلقت لعبد المنعم ، فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء ، وقال : يجب عليك ألا تتعجَّل ، وأن تواصل البحث بكل وعي.

ثمَّ بدأنا في بحوث أخرى لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة طلب منّي عدّة أمور أبحثها ، وهكذا دواليك إلى مدّة من الزمن ، وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغيَّر من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتدُّ معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت ـ مثلا ـ عندما أراجع بعض المصادر وأتأكَّد من وجودها أقول له : إن هذه الأحاديث غير موجودة ، ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك سوى الشعور بالانهزام وحبِّ الانتصار.

وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن

٥٧٢

أتوقَّعها ، وكنت في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي.

إلى أن يقول الشيخ معتصم : وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى اتّضح لي الحقُّ وانكشف الباطل ; لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة ، وبراهين ساطعة بأحقّيّة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وازدادت قوَّتي في النقاش والبحث حتى كشف الله نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيعي (١).

__________________

١ ـ المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : ٢٧٤ ـ ٢٧٩.

٥٧٣

المناظرة السادسة والثمانون

مناظرة

الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود

في علم الأصول عند الشيعة

الجلسة الأولى

قال الشيخ معتصم السوداني : الدكتور عمر مسعود من البارزين في الساحة السودانيّة ، وخاصة في ولاية نهر النيل في شمال السودان ، وهو يحمل مجموعة من الشهادات في الاقتصاد ، وعلوم الحديث ، ومقارنة الأديان ، بالإضافة إلى تتلمذه على يد مجموعة من المشايخ وعلماء الطرق الصوفيّة ، كما أنّه يمتاز باطّلاعه الواسع في شتّى المجالات ، فله مكتبة ضخمة تحتوي على ( ١١ ألف كتاب ) ، وهو يعمل الآن محاضراً في جامعة وادي النيل في كلّيّات متعدِّدة ، مثل : كلية الدراسات الإسلاميّة ، وكلية التربية ، وكلية التجارة ، فهو مدير لقسم التجارة بهذه الكلية.

هذا الدكتور تربطني به علاقة شخصيَّة ، علاوة على أنَّه أستأذي ثلاث سنوات تقريباً ، ودارت بيني وبينه مجموعة من الجلسات والحوارات الإيجابيّة الهادفة ، في شتّى المجالات التأريخيّة والأصوليّة والعقائديّة ، أسفرت عن

٥٧٤

احترام الطرفين ، وتقدير وجهات النظر.

وأحبُّ أن أسجِّل هنا بعض هذه الجلسات حتى تعمَّ الفائدة ، لم أتمكَّن من إلحاقها في الكتاب ، ممَّا دفعني أن أقوم بكتابة هذا الكتيِّب حتى يكون مكمِّلا للحقيقة الضائعة ، وأسال الله أن يوفِّقني في تحرّي الدقّة ونقل الواقع كما هو.

بعد أن دخلت الحرم الجامعي رأيت الدكتور يلقي محاضرة لطلاب قسم التجارة ، وما إن رآني حتى خرج واستقبلني بحفاوة ، ثمَّ طلب منّي أن أحضر إلى مكتبه بعد المحاضرة.

وبعد المحاضرة ذهبت إليه ، وبعد السلام والسؤال عن الأخبار.

قال الدكتور : أين كنت خلال هذه الفترة؟

الشيخ معتصم : في سوريا عند مقام السيِّدة زينب عليها‌السلام.

الدكتور : ماذا كنت تفعل؟

الشيخ معتصم : أدرس في الحوزة العلميّة.

الدكتور : وماذا تدرس؟

الشيخ معتصم : فقه ، أصول ، منطق ، عقائد ، نحو ، وغيرها ، فالحوزة هي عبارة عن مقدِّمة للطالب حتى يجتهد في استنباط الأحكام الشرعيَّة ، فباب الفقه عند الشيعة ما زال حيويّاً ومتحرِّكاً ، وهم يعتمدون في ذلك على أصول منضبطة ومحكمة.

الدكتور : إن أهل السنّة أول من ابتدع علم الأصول ، وتجربتهم أنضج وأكمل ، أمَّا تاريخ علم الأصول عند الشيعة فهو حديث مقارنة بالأصول عند السنّة.

الشيخ معتصم : هذا اشتباه.

٥٧٥

أولا : إن الأصول هي عبارة عن قواعد وكلّيّات يستنبط منها المجتهد الجزئيَّات ، وهذه الكلّيّات واضحة في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ، فالإمام الرضا عليه‌السلام كان يقول : علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع (١) ، هذا من ناحية البعد التاريخيِّ ، أمَّا إذا قصدت بلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، والكتابة في هذه المباحث ، فإن السنّة يختلفون تماماً عن الشيعة ، ولا وجه هناك للمقارنة ، فمصادر التشريع عند السنّة انقطعت بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك الحاجة التأريخيَّة ألحَّت لتكوين علم أصول يتكفَّل باستخراج الأحكام الشرعيّة ، فالأصول السنّيّة مقارنة مع هذه الحاجة الحتميّة جاءت متأخِّرة جداً ، أمَّا الشيعة فهم ينظرون إلى أهل البيت عليهم‌السلام باعتبارهم أنهم الامتداد الطبيعيُّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكلامهم حجّة ، فلا توجد هناك حاجة لاستنباط الأحكام الشرعيّة مع وجود الأئمّة المصطفين من قبل الله سبحانه وتعالى ، وبعد مضيِّ أحد عشر إماماً وغياب الحجّة المهديِّ عليه‌السلام تولَّدت الحاجة لبلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، فالنظرة لابد أن تكون نسبيَّة.

الدكتور : إنّ علم الأصول عند السنّة يمتاز بأنه أكثر مرونة من الأصول عند الشيعة ، فإنّها جامدة ، يصعب على الإنسان أن يستنبط حكماً من خلالها ، فالأصول عند السنّة أبوابها كثيرة ومتعدِّدة ; من قرآن وسنّة وإجماع وقياس وغيرها ، تساعد المجتهد على تتبُّع الحوادث في أيِّ زمن ، واستنباط الحكم الشرعيِّ لأيِّ موضع.

الشيخ معتصم : هذا الكلام لا يمكن أن يقبل ، أمَّا أنها جامدة فهذا ادّعاء لا

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : ٢٧ / ٦٢ ح ٥٢ عن السرائر.

٥٧٦

يمكن أن يصدِّقه الواقع ، فالفقه الشيعيُّ الذي يرتكز على هذه الأصول التي تسمِّيها جامدة في غاية الدقّة ; لتتبُّعه للحوادث المتغيِّرة ، وتوضيح الحكم الشرعيِّ فيها ، كما أن الموسوعات الفقهيَّة الاستدلاليّة عند الشيعة تفوق بكثير ـ من غير مقارنة ـ الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة عند السنّة ، هذا أولا.

أمَّا ثانياً ، فالأصول التي ذكرتها هي مشتركة بين الشيعة والسنّة ، وإذا كان هنا مرونة لأصول السنّة فهي راجعة للقياس ، والقياس عندنا لا يعوَّل عليه في استنباط أحكام الشريعة.

ثالثاً : إن الشيعة ليسوا بحاجة لإعمال القياس ، وذلك لكثرة النصِّ الفقهيِّ ، المرويِّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، فالوسائل للحرِّ العاملي يتكوَّن من عشرين مجلداً (١) كلُّه أحاديث فقهية ، وكتاب مستدرك الوسائل ثمانية عشر مجلَّداً في نفس الإطار للميرزا النورىِّ ، فليس هناك من داع لهذه الظنّيّات التي اعتمد عليها السنّة لقلّة النص الدينيِّ من روايات وأحاديث في جانب الفقه.

الدكتور : هذا كلام سطحيٌّ ، إنّ الأصول لم تكن بداعي قلّة النصِّ الدينيِّ كما زعمت ، وما هذه الأصول إلاَّ بمثابة تعليل لهذه النصوص ، فالقياس مثلا لم يكن خارجاً عن إطار النص ، وإنّما هو الطريق الذي من خلاله ينزل النصُّ للحوادث المتغيِّرة ; لأنّ لكل حكم علة ، بعد اكتشاف هذه العلّة تكون بمثابة قاعدة تنطبق على حوادث متعدِّدة ، وهذا هو علم الأصول بعينه.

الشيخ معتصم : هذا الكلام بصورته العامّة يبدو وجيهاً ، ولكن عندما نفصل المسألة ، وندقِّق أكثر يظهر لنا ضعفه ، وذلك أن القياس كما تفضَّلت هو إرجاع

__________________

١ ـ طُبعت محقَّقة في ٣٠ مجلَّداً برعاية مؤسَّسة آل البيت عليهم‌السلام في قم المقدَّسة.

٥٧٧

الفرع إلى الأصل إذا اشتركت العلّة بين الأصل والفرع ، وكما هو واضح أن الحكم يدور مدار العلّة وجوداً وعدماً ، ولكن الإشكال كيف تكشف علّة الحكم؟

فإذا كانت العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع نفسه ، فمثلا يقول : إنّ الخمر حرام لأنه مُسكر ، فيمكن أن أقيس النبيذ على الخمر إذا كان النبيذ مسكراً ، فأقول : الخمر حرام لأنه مسكر ، والنبيذ مسكر ، إذن النبيذ حرام ، هذا لا إشكال فيه ، رغم أن هذا نفسه لا يسمّى قياساً ; بمعنى أننا لم نقس حكم النبيذ على حكم الخمر ، وإنما اكتشفنا حكم النبيذ من النص مباشرةً ، أي أنّ الخمر والنّبيذ كلاهما يرجعان إلى نصّ واحد ، وهو أنّ كل مسكر حرام.

أمَّا إذا لم تكن العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع فكيف لنا معرفتها؟ فكل ما نتوقَّعه لا يخرج عن إطار الظنّيّة ، ولعل الشارع لم يرتِّب الحكم على هذه العلّة التي اكتشفناها ، وإنما لعلّة أخرى باطنيّة ، مثلا : في حكم الصيام في السفر يقول الشارع : ( وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ ) (١) ، فالظاهر من هذه الآية هو عدم الصيام في حالة السفر ، فيقول مجتهد : إن العلّة من عدم الصيام في السفر هو الإرهاق والتعب ، وخاصة أنّ السفر في القديم كان عبر الدوابِّ ، والآن اختلف الوضع ، وأصبح السفر مريحاً ، فارتفعت العلّة التي تمنع الصيام في السفر ، فيرتفع معها الحكم ، وعلى هذا الاجتهاد كثير من المسلمين يصومون في حالة السفر ، فهذه مخالفة للنصِّ ، من الذي يقول : إنّ العلة هي التّعب؟ هل الشارع نصَّ على ذلك؟! وإن لم ينصَّ فتكون هذه العلّة ظنّيّة ، لا يعوَّل عليها في استخراج الحكم ، وإنما الآية في مقام التشريع ; فكما أنّ الله شرَّع الصيام في شهر

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.

٥٧٨

رمضان كذلك هو الذي منعه في السفر ، فلا تعارض بين الحكمين ، كما لا تلازم بينهما ، فهذا القياس مرفوض بحكم الشرع والعقل.

الدكتور : إنّ البحث عن الحكم القطعيِّ من الصعوبة بمكان ، ولو كانت الشريعة تطالبنا بالحكم القطعيِّ لكل واقعة لأصبح الأمر عسيراً ، كما أنّ هذه العلل التي تسمِّيها ظنّيّة هي الطريق الوحيد ، مع أني لا أقول ظنّيّة.

الشيخ معتصم : عفواً أستاذي! إنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون الشريعة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل أحكامها قطعيَّة وواقعيّة ، والآن تكون أحكامها ظنّيّة ، إلاَّ إذا كنت تعتقد أن أحكام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً ظنّيّة.

وإنما المسألة محلولة داخل الشريعة نفسها ، فالأحكام حسب التقسيم الأصوليّ الشيعيّ أحكام واقعيّة وأحكام ظاهريّة ، فالحكم الواقعيُّ هو الذي يستنبط من دليل قطعيٍّ من القرآن والسنّة والعقل ، والدليل القطعيُّ هو الكاشف عن حكم الواقعة.

أمَّا إذا طرأت علينا حادثة لم نجد لها حكماً في القرآن والسنّة والعقل فهناك أصول ليست أدلّة واقعيّة ، فبالتالي تكون أحكامها ظاهريَّة ، أمَّا حجّيّة هذه الأصول فهي حجج مجعولة ; بمعنى أنّ الشارع جعل لنا هذه الأصول حجّة ، فالحجّة نابعة من نفس هذا الطريق ، وليست ناظرة للحكم بما هو واقعيٌّ أو غير ذلك ، فالاستصحاب مثلا لا يكشف الواقع ، ولكن عندما قال الشارع : لا ينقض اليقين السابق الشك اللاحق ، فيكون بذلك جعل لنا الشارع حجّيّة الاستصحاب رغم أنه لا يكشف الواقع.

وكل هذا يدلُّ على مرونة الشريعة وتساهلها ، كما يدلُّ على أن الشارع

٥٧٩

جعل لنا طرقاً نلجأ إليها عندما يتعسَّر الدليل الواقعيُّ.

أمَّا إذا كنت تقصد أن اكتشاف العلل وتوضيحها يجعل الفقه أكثر مرونة وتطوُّراً ، فإن هنالك نظريات شيعيّة عميقة في هذا الجانب ، تنطلق من مفهوم أن الدين ثابت ومتغيِّر ، وقد فصلَّ آية الله محمّد تقي المدرّسي في كتابه التشريع الإسلامي هذا الأمر ، وهو يبني نظريَّته على أن كل النصوص (١) الدينيّة تبيِّن الحكم مع الحكمة ، فيتتبَّع الفقيه هذه الحكم من خلال نصوص القرآن والسنة ، فتشكِّل هذه الحكم مجموعة قواعد كلّيّة يمكن للفقيه أن يرجع إليها الحوادث الجزئيَّة.

الدكتور : ما أنكرته في أول حديثك أقررت به في هذا الكلام ، فهذه النظريّة التي ذكرتها مؤخَّراً تدلُّ على أن الأصول الشيعيَّة جامدة ، ممَّا دفع المدرِّسي أن ينتهج هذا النهج ، الذي هو أقرب إلى الطرح السنّيِّ ، كما أن المدرِّسي من العلماء المعاصرين ، فتجربته ما زالت حديثة ، لا تحسب ضمن تاريخ المدرسة الأصوليّة الشيعيّة ، بخلاف الأصول عند أهل السنّة ، الذين هم أول من طرق هذا الباب الذي اكتشفه المدرسي مؤخَّراً ، ولعلّه استفاد من الطرح السنّيِّ.

الشيخ معتصم : إن كلامي غير متناقض ، فإنه يصبُّ في نفس المنحى ، ويؤكِّد أن الأصول الشيعيّة متطوِّرة ، فإن كل فترة زمنيّة لها من الظروف والدواعي التي تحتِّم على الأصول انتهاج نهج جديد ، وهو بالطبع لا يخالف القديم ، وإنما الطرح وبلورة النظريّة وتنقيح الأفكار عادةً ما يضيفان نوعاً من الحداثة ، وإلاَّ

__________________

١ ـ النصوص وليست الأحكام ، والفرق كبير. ( الشيخ معتصم ).

٥٨٠