الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
ويبلِّغ رسالته قال : ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) (١) ، ولكنّي حين أمرني حبيبي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر الله عزَّوجلَّ حتى أبلِّغ أهل مكة المشركين سورة براءة ، وأنا قاتل كثير من رجالهم وأعيانهم! مع ذلك أسرعت غير مكترث ، وذهبت وحدي بلا خوف ولا وجل ، فوقفت في جمعهم رافعاً صوتي ، وتلوت الآيات من سورة براءة وهم يسمعون!!
قال صعصعة : أنت أفضل أم عيسى؟
قال عليهالسلام : أنا أفضل ; لأن مريم بنت عمران لمَّا أرادت أن تضع عيسى كانت في بيت المقدس ، جاءها النداء : يا مريم! اخرجي من البيت ، هاهنا محلُّ عبادة ، لا محلُّ ولادة ، فخرجت ( فَأَجَاءهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) (٢) ، ولكنَّ أمّي فاطمة بنت أسد لمَّا قرب مولدي جاءت إلى بيت الله الحرام ، والتجأت إلى الكعبة ، وسألت ربَّها أن يسهِّل عليها الولادة ، فانشقَّ لها جدار البيت الحرام ، وسمعت النداء : يا فاطمة! ادخلي ، فدخلت وردَّ الجدار على حاله ، فولدتني في حرم الله وبيته (٣).
وانتهى اللقاء ، وعشت في دوَّامة أكثر ، وأحدِّث نفسي : تابع البحث ، إياك والملل!!
اللقاء السادس : خبر منع عمر النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من كتابة الكتاب
هشام آل قطيط : لقد فاتنا ـ سماحة السيِّد البدري! ـ المناقشة في الحديث
__________________
١ ـ سورة القصص ، الآية : ٣٣.
٢ ـ سورة مريم ، الآية : ٢٣.
٣ ـ راجع : الأنوار النعمانية : ١ / ٢٧.
الشريف الذي يقول : عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر (١).
فهذا الحديث أفهم منه أن هناك عزيمة وتصميم من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للتوصية بالخليفة أبي بكر من بعده ، والذي يدلّني أكثر أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يريد أن يكتب كتاباً ، ويؤكِّد من خلال فعل الأمر الذي يبدأ به الحديث.
السيِّد البدري : ألم يكن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عازماً على أن يكتب كتاباً ومنعه الخليفة عمر بن الخطاب ، وقال : إن رسول الله غلبه الوجع ، وإنَّه هجر ، أي بمعنى يهذي ، والرسول المعصوم لا يمكن أن يهجر أو يهذي أيُّها الأستاذ ، وقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : قوموا عنّي ، لا ينبغي عند نبيٍّ تنازع (٢) ; لأنه لو أصرَّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على كتابة الكتاب لقالوا : إنه هجر؟
ثمَّ إن هذا الحديث وضع مقابل الحديث المشهور ، عندما أراد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكتب الكتاب ، حيث قال : أعطوني دواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعدي ـ ولمَّا واجهه القوم بتلك الكلمة القارصة والعبارة الجارحة ـ خاصّة وهو في آخر أيامه من الدنيا ـ رأى أن من الحكمة والمصلحة أن يعدل عن كتابته حفاظاً على الدين ، وقياماً بما أوجبه صلىاللهعليهوآلهوسلم من تقديمه الأهمَّ على
__________________
١ ـ قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : إن البكريّة وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو : ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان ، ثمَّ قال : يأبى الله تعالى والمسلمون إلاَّ أبا بكر ; فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المرويِّ عنه في مرضه : ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلُّون بعده ابداً ، فاختلفوا عنده ( شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١١ / ٤٩ ).
٢ ـ صحيح البخاري : ٤ / ٣١ ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : ٦ / ٥٧ ح ٩٩٩٢ ، مسند أبي يعلى الموصلي : ٤ / ٢٩٨ ح ٢٤٠٩ ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : ٢ / ٢٤٢ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٨ / ١٠١ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٥ / ٢٤٧.
المهمِّ.
وأنقل لك ما سجَّله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تأريخ بغداد ، مسنداً عن ابن عباس أنه قال ـ في حديث طويل جرى بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب ـ قال عمر في بعض ما أجاب به ابن عبّاس ما ملخَّصه : إني لمَّا علمت أن النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد في مرضه أن يكتب لعلي عليهالسلام بالخلافة ويعهد بها إليه ، فمنعته من ذلك ، لعلمي بأن العرب تنقض عليه لبغضها له (١).
وهذا القول ـ يا أستاذ ـ يرشدك إلى أنهم كانوا يعلمون مسبقاً بالنصِّ على علي عليهالسلام ، ولكنّهم يرون أن مصلحة الأمّة ، وانتقاض العرب ، وعدم رغبتهم في اجتماع النبوّة والإمامة في أهل بيت النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المحاورة بين عمر وابن عباس تكشف عن لثام الحقيقة
السيِّد البدري يتابع الحديث قائلا : هذه المحاورة تكشف لك ـ يا أخي ـ عن المؤامرة التي حصلت من الخليفة عمر بن الخطاب عمَّا كان يريده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من كتابة الكتاب ، كما وردت في تأريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، فاسمع أيها المحاور ...
قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدريني.
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٢ / ٢١.
فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة ، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت.
فقلت : يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلَّمت.
قال : تكلَّم ، قلت : أمَّا قولك يا أميرالمؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت ، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوَّة والخلافة ، فإن الله عزَّوجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (١).
فقال عمر : هيهات والله يا ابن عباس ، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرَّك عليها فتزيل منزلتك مني (٢).
ولهذا يقول عمر بن الخطاب : لقد كان ـ أي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ يربع في أمره ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربِّ هذه البنيَّة! لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتفضت عليه العرب في أقطارها ، فعلم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنني علمت ما في نفسه فأمسك (٣).
هشام آل قطيط : بعد كلِّ ما طرحناه من تساؤلات ومناقشات وردود من
__________________
١ ـ سورة محمّد ، الآية : ٩.
٢ ـ تاريخ الطبري : ٣ / ٢٨٩ ، السقيفة وفدك ، الجوهري : ١٣١ ، الكامل ، ابن الأثير : ٣ / ٦٢ في حوادث سنة ٢٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٢ / ٥٣.
٣ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٢ / ٢١.
قبل سماحتكم ، إلى أين تريد أن توصلني؟
السيِّد البدري : يا أخي! نحن لسنا بحاجة ، إن تشيعت أم لم تتشيَّع لدينا أكثر من ٣٠٠ مليون شيعي في العالم ، ولكن الواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك بالأدلّة والبراهين أين هو الحق ، فالمسلم الواثق من عقيدته لا يهاب الحوار ، ولا تخيفه المناقشات ، لماذا الخوف من الحوار؟ فأعطيك مثالا : أنا السيِّد علي البدري ، من سكَّان بغداد ( الكرَّادة الشرقية ) ، نشأت في بيئة سنّية ، ودرجت كما درج أهلي ( الدين عندنا عادة وليس عبادة ).
وبعد أن أنهيت دراساتي الشرعيَّة من جامعة بغداد ، وذهبت إلى الأزهر لإكمال الدراسات العليا ، فبدأت من هناك أجري مقارنات بين العقيدة السنّيّة والعقيدة الشيعيّة ، فتوصَّلت بعد بحوث مجهدة ومعاناة طويلة إلى أن اخترت مذهب أهل البيت عليهمالسلام ، أو مذهب الإمام جعفر الصادق عليهالسلام ، أو ما يسمُّونه اليوم بالشيعة ، أو المذهب الشيعيّ ، فأعلنت عن تشيُّعي ، وكنت وكيل زعيم الطائفة الشيعيّة السيِّد أبو القاسم الخوئي في مصر ، وحتى أصبحت داعية التشيُّع في كلِّ أقطار العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ.
وأنا أتكلَّم من منطق الواثق من نفسه ، حيث إني درست واطّلعت على كتب الفريقين : السنّيّ والشيعيّ ، حتى توصَّلت إلى حفظ صحيح البخاري وأرقام الصفحات المهمّة بالحوار والاحتجاج ، وغيره من الصحاح وكتب التاريخ.
كل ممنوع مرغوب
أحكي لك هذه القصَّة : عندما كنت صغيراً في العشرينات كان أحد أساتذني يحذِّرني من قراءة كتب الشيعة.
فقلت له : يا أستاذ! ما دمتم تحذِّرونا من كتب الشيعة أسألك هذا السؤال : هذه الكتب المخيفة إمَّا أنها تحتوي على الحقيقة أو على الباطل ، فإن كانت الأولى فلماذا تحذِّرون من اتّباع الحقيقة؟ وإمَّا على الباطل فلماذا لا تردُّون عليها ـ يا أستاذ ـ وتبيِّنوا لنا الشبهات التي فيها حتى لا نقع في الشبهات؟
فضحك الأستاذ ، وقال لي : كان والدي يحذِّرني منها.
فقلت له : يا أستاذ! وإلى متى نبقى على هذا الخوف والتحذير؟
فكان الأستاذ من خلال تحذيره لي ، تولَّد عندي نزعة شديدة لقراءة هذه الكتب ، ووصلت بحمد الله تعالى إلى ما وصلت ، فأشجِّعك ـ يا أخي ـ قربة إلى الله ، وأنا رجل مريض ، وأصبحت في آخر العمر ، ولا أعرف أكمل هذه السنة أم لا ، فتابع البحث والسؤال يا بنيَّ ; لأن عمدة العلم في السؤال ، ووفَّقك الله.
وانتهت هذه الجلسة بسبب مرض السيِّد البدري.
اللقاء السابع : المناقشة في بيعة أبي بكر وحديث الثقلين
ذهبت في تمام الساعة العاشرة صباحاً إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري ، فطرقت الباب ، ففوجئت بحرمه الموقَّرة تبلغني نبأ مرضه الشديد ، وقالت : حصل معه ألم في القلب ، وهو في مشفى المجتهد ، في قسم العناية القلبيّة المشددة.
فنزلت على الدرج بسرعة هائلة ، وقطعت الشارع ركضاً ، وأقلَّتني سيَّارة إلى مشفى المجتهد ، فدخلت إلى المشفى ، وأدعو له طول الطريق بطول العمر ; لأنه الإنسان الوحيد الذي وجدت فيه الصدق في القول والإخلاص في العمل ، رجل شيبة في الثمانينات ، ويحاور ويسافر ، ويحمل أكداس من الكتب بيده
الشريفة لينير الدرب أمام الشباب ، وسألت البوَّاب الذي يقف على باب قسم العناية القلبيّة المشدَّدة فأدخلني ، فسرت في الممرّ ، فسألت إحدى الممرِّضات عن غرفة السيِّد علي البدري ، فقالت لي : الشيخ الشيبة؟ قلت لها : نعم ، قالت : هو في الغرفة الثالثة.
فدخلت وقبَّلت جبينه ، وقال لي : يا بنيَّ! لقد أتيت ، فقلت له : نعم ، فقال لي : أطلب من الله أن يطيل بعمري فقط ولو سنة حتى أوضح لك كل الشبهات التي في ذهنك ، فقلت له : عمرك طويل إن شاء الله تعالى يا سماحة السيِّد.
السيِّد : هل تريد منّي أيَّ خدمة؟ قال لي : اجلس هنا ، هذا السرير فارغ ، فجلست ، ورفع رأسه عن الوسادة.
حوار في مشفى المجتهد لمدة نصف ساعة!!
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد الجليل! أستطيع أن أتكلَّم معك وأسألك؟
السيِّد البدري : اسأل يا أخي! ما دام فيَّ عرق ينبض سأردُّ عليك ، ويساعدني الإمام علي والزهراء عليهماالسلام ، والحجّة القائم الإمام المهدي عجَّل الله فرجه الشريف.
هشام آل قطيط : ألم يكن هناك إجماع وشورى على خلافة سيِّدنا أبي بكر بعد النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
السيِّد البدري : أرجو أن تبيِّن لي أدلّتك على صحة الإجماع والشورى.
هشام آل قطيط : أولا : إجماع الأمّة على خلافته.
ثانياً : كبر سنّه وشيخوخته ، والأمّة لا تقبل أن يكون الخليفة من هو أصغر سنّاً مثل الإمام علي ( كرَّم الله وجهه ) وأنتم لو أنصفتم ـ سماحة السيِّد ـ لأعطيتم
الحقَّ للمسلمين ، فلا يجوز عقلا أن يتقدَّم في هذا الأمر العظيم شابٌّ حدث السن مع وجود شيوخ قومه وكبراء أهله ، وإن تأخَّر سيِّدنا علي ( كرَّم الله وجهه ) لا يكون نقصاً له بل كمالا له ، وإن أفضليته على أقرانه ثابتة ولا ننكرها.
ثمَّ إنني أسمع حديثاً دائماً يردِّده علماؤنا السنّة ; قول سيِّدنا عمر : لا تجتمع النبوَّة والملك في أهل بيت واحد.
هذه أسباب تقدُّم أبي بكر وتأخُّر عليٍّ عليهالسلام في أمر الخلافة ( ولا تجتمع أمّتي على ضلال أو على خطأ ).
السيِّد البدري : إن أدلَّتك ـ يا أخي ـ تضحك الثكلى ، وإن مثلك كمثل الذي يغمض عينيه فيصبح كالأعمى ، فلا يرى الشمس الطالعة في الضحى ، وينكر ضوء النهار إذا تجلَّى ، فافتح عينيك ، وانظر إلى منار الهدى ، واسلك طريق الحقّ ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تغرّنّك الدنيا ، وإن الآخرة خير وأبقى.
وأرجو منك أن تقرأ كتب الشيعة بدقّة ، وتعمِّق الفكر في أدلّتنا وبراهيننا ، أقول هذا لأني فتَّشت أسواق القاهرة والحجاز والخليج والأردن ، وأسواق الشام وأندونيسيا وتنزانيا وبومباي ، وغيرها من البلاد الإسلاميّة التي غالب سكَّانها أهل السنة ، أو حكَّامها من أهل السنّة والجماعة ، فما وجدت كتب الشيعة في مكتباتها ، فكأنكم ـ مع الأسف ـ آليتم أن لا تطالعوا كتب الشيعة ، فلا أدري هل حكمتم عليها بأنها كتب ضلال فحرَّمتم قراءتها؟!!
وإنّي دخلت بيوت كثير من إخواننا أهل السنّة ، علماء وغير علماء ، وخاصة الذين يهوون مطالعة الكتب ، ويملكون مكتبات شخصيّة في بيوتهم ، فوجدت فيها كتب مختلفة حتى كتب غير المسلمين من الشرقيّين والغربيّين ، ولم أجد كتاباً واحداً من كتب الشيعة!!
بينما نحن في بلادنا نطبع كتب السنّة وننشرها ، وندعو أهل العلم والمثَّقفين من شبابنا لمطالعتها ، فهذه مدينة النجف الأشرف ، وكربلاء المقدَّسة في العراق ، وهذه مدينة مشهد ، ومدينة قم المقدسة ، وكذلك شيراز وطهران وإصفهان ، التي فيها حوزاتنا العلميّة ومراجعنا العظام ، ولا أجد مكتبة واحدة من مكتباتنا العامّة والخاصّة تخلو من صحاحكم وكتبكم ومسانيدكم وتواريخكم وتفاسيركم ، لا لحاجة منّا إليها ; لأن مدرسة أهل البيت عليهمالسلام غنيّة ، والأخبار المرويَّة عن العترة الطاهرة تناولت جميع جوانب الحياة ، وكل ما يحتاجه الإنسان في أمر الدين والدنيا.
وعلاوة على ذلك ألفت نظرك إلى مسألة مهمّة جدّاً ، خذها بعين الاعتبار يا أخي ، أعطني دليلا واحداً أن هناك عالم شيعي انتقل من التشيُّع إلى التسنُّن ، لا يوجد .. أتحدَّاك ، بينما العشرات والمئات من علماء السنة ومثقَّفيهم انتقلوا من التسنُّن إلى التشيُّع .. لماذا؟!! فكِّر في ذلك وأنصف.
لا إجماع على خلافة أبي بكر ..
ويتابع سماحة السيِّد إجابته قائلا : أيُّها الأخ! لو فكَّرت قليلا وأنصفت ، ثمَّ نظرت نظرة الباحث المدقِّق المتأمِّل بأحداث السقيفة وما نجم منها لأذعنت أن خلافة أبي بكر ما كانت بموافقة أهل الحلِّ والعقد ، ولم يحصل الإجماع عليها ، ولو أنك تدبَّرت قول عمر بن الخطاب في صحيح البخاري ـ أصدق صحيح عندكم ـ ما قاله بعد هذا الإجماع والبيعة في السقيفة قوله : إنّما كانت بيعة أبي بكر
فلتة ، وتمَّت ، ولكن الله وقى شرَّها (١) ، إلى أن قال : من بايع منكم رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا ، إلى قوله : إلاَّ أن الأنصار خالفوا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي عليهالسلام والزبير ومن معهما.
وأزيدك أدلّة أخرى يا أستاذ ، فالإجماع الذي تزعمه نفاه كثير من علمائكم ، منهم : صاحب كتاب ( المواقف ) ، والفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، وابن أبي الحديد ، والطبري ، والبخاري ، ومسلم بن الحجاج ، وغيرهم.
وقد ذكر العسقلاني ، والبلاذري في تأريخه ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وغير هؤلاء أيضاً ، ذكروا : أن سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وجماعة من قريش ما بايعوا أبا بكر ، وثمانية عشر من كبار الصحابة رفضوا أيضاً أن يبايعوه ، وهم شيعة علي بن أبي طالب عليهالسلام وأنصاره ، ذكروا أسماءهم كمايلي :
١ ـ سلمان الفارسي ٣ ـ المقداد بن الأسود الكندي. ٥ ـ عمار بن ياسر. ٧ ـ بريدة الأسلمي. ٩ ـ أبو الهيثم بن التيهان. |
|
٢ ـ أبو ذر الغفاري. ٤ ـ أُبي بن كعب. ٦ ـ خالد بن سعيد بن العاص. ٨ ـ خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين. ١٠ ـ سهل بن حنيف. |
__________________
١ ـ صحيح البخاري : ٨ / ٢٦ ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ٣٨ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٨ / ٦١٥ ـ ٦١٦ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٥٨ ، كتاب الثقات ، ابن حبان : ٢ / ١٥٦ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩ / ٣١ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٦ / ٥.
١١ ـ عثمان بن حنيف. ١٣ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري. ١٥ ـ سعد بن عبادة. ١٧ ـ عبد الله بن عبّاس. |
|
١٢ ـ أبو أيوب الأنصاري. ١٤ ـ حذيفة بن اليمان. ١٦ ـ قيس بن سعد. ١٨ ـ زيد بن أرقم. |
وذكر اليعقوبي في تأريخه فقال : تخلَّف قوم من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد ، وسلمان ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب (١).
أقول : ألم يكن هؤلاء من صفوة أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن المقرَّبين إليه والمكرَّمين لديه؟! فلماذا لم يشاورهم؟ فإن لم يكن هؤلاء الأخيار من أهل الحلِّ والعقد ، ومن ذوي البصيرة والرأي في المشورة والاختيار ، فمن يكون إذن؟!! وإذا لم يعبأ برأي أولئك الذين كانوا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يشاورهم الأمور ويعتمد عليهم ، فبرأي من يعبأ؟ ورأي من يكون ميزاناً ومعياراً لإبرام الأمور المهمّة ، وحسم قضايا الأمة؟!
مخالفة أهل البيت عليهمالسلام لخلافة أبي بكر
ويتابع السيِّد البدري استدلاله قائلا : أوَّل من خالف أبا بكر هم أهل البيت عليهمالسلام ، وهم بإجماع الأمة أفضل الصحابة ، وهم في الصفّ الأول والمتقدِّمين
__________________
١ ـ تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٢٤.
على أهل الحلّ والعقد ، وإن إجماع أهل البيت عليهمالسلام حجّة لازمة على الأمّة ، بدليل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً (١).
هشام آل قطيط : عفواً ، عفواً سماحة السيِّد! أنت ذكرت : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لماذا لم تذكر حديث : كتاب الله وسنّة نبيِّه؟ من أين أتيت بحديث : عترتي أهل بيتي؟
السيِّد البدري : أعطني دليلا على صحّة ما قلت أيُّها الأستاذ.
هشام آل قطيط : وقفت محتاراً عن عدم الدليل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، إن شاء الله في جلسة أخرى سأحضر الدليل.
السيِّد البدري : لا تعذِّب نفسك يا أخي ، راجع : مسند أحمد بن حنبل ، الجزء الثالث : ص ١٧ ، وأخرجه أيضاً في نفس المصدر عن أبي سعيد الخدري ص ٢٦ ، وص ٥٩ عن أبي سعيد الخدري حديثاً آخر ، وأخرج في الجزء الرابع ص ٢٦٧ عن زيد بن أرقم حديثاً آخر ، وفي صحيح مسلم ذكره في الجزء الثاني ص ٢٣٨.
وأمَّا حديث : كتاب الله وسنَّة نبيِّه ، رواه الإمام مالك في موطَّئه ، الجزء الثاني : ص ٨٩٩ ، ط دار إحياء التراث العربي ، تحقيق الدكتور محمّد فؤاد عبد الباقي المصري. وصيغة الحديث على الشكل التالي : حدَّثنا مالك أنه بلغه : ما إن تمسَّكتم بأمرين : كتاب الله وسنّة نبيِّه.
فهذا الحديث عند علماء الجرح والتعديل عندكم والحفَّاظ حديث مرسل
__________________
١ ـ تقدَّمت تخريجاته.
ولا يؤخذ به ، فاشتهر عندكم ( وكم من شهير ليس له أصل ) والصحاح الحاكمة بوجوب التمسُّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متظافرة ، وقد صدع بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مواقف له شتّى : تارة يوم غدير خمّ ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرَّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : أيُّها الناس! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلِّف فيكم كتاب الله عزَّوجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد علي عليهالسلام فرفعها ، فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض .. الحديث (١).
ثمَّ قال : أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين ، وكتاب ( إحياء الميت في فضائل أهل البيت عليهمالسلام ) للشيخ جلال الدين السيوطي.
وانتهى الحوار في مشفى المجتهد بدمشق.
اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة
ذهبت إلى منزل السيِّد البدري صباحاً ، وهنَّأته بالسلامة بعد خروجه من المشفى ، وقال لي : الآن عندي موعد مع جماعة من لبنان ، وبعد صلاة المغرب تفضَّل ـ يا أخي ـ لنكمل البحث والحوار.
__________________
١ ـ مناقب أهل البيت عليهمالسلام ، الشيرواني : ١٧٤ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ١٢٤ ح ٥٦ و ٢ / ٤٠٣ ح ٥٤ ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : ١٢٤ ط المحمدية بمصر و ٧٥ ط الميمنية.
اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة عليهماالسلام
وبعد صلاة المغرب حضرت لإكمال البحث والحوار.
مناقشة الأدلّة وتفنيدها
السيِّد البدري : أمَّا دليلك كبر سنّ الخليفة أبي بكر ، فقدَّموه لأنه أكبر سنّاً من علي بن أبي طالب عليهالسلام ، صحيح أن أصحاب السقيفة استدلُّوا بهذا الدليل لإقناع الإمام علي عليهالسلام ليبايع أبا بكر (١) ، ولكنه دليل ضعيف ، وكلام سخيف ، فلو كان كبر السنّ ملحوظاً في المنصوب للخلافة فقد كان في المسلمين والصحابة من هو أكبر سنّاً من أبي بكر ، حتى إن والده أبا قحافة كان حيّاً في ذلك اليوم ، فلم أخَّروه وقدَّموا ابنه؟!!
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيّد! إن الملاحظ عندنا والمعروف هو كبر السنّ والسابقة في الإسلام ، وقد كان سيِّدنا أبو بكر محنَّكاً في الأمور ، ومحبوباً عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بينما سيِّدنا علي ( كرَّم الله وجهه ) كان حدث السنّ ، وغير محنَّك في مجرَّبات الأمور.
السيِّد البدري : إذا كان كذلك ـ يا أستاذ ـ فلماذا قدَّم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً عليهالسلام في كثير من الأمور والقضايا؟!
__________________
١ ـ قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ / ٢٩ : قال أبو عبيدة بن الجرَّاح لعليٍّ كرَّم الله وجهه : يا بن عمّ! إنك حديث السنّ ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاَّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالا واستطلاعاً ، فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت بهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ، ونسبك وصهرك.
أولا : أروي لك هذه النكتة التي وردت في شرح ابن أبي الحديد ، قال : قيل لأبي قحافة والد الخليفة أبي بكر يوم ولي الأمر ابنه : قد ولي ابنك الخلافة ، فقرأ : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ) (١) ، ثمَّ قال : لم ولَّوه؟ قالوا : لسنِّه! قال : أنا أسنُّ منه!! (٢).
ثانياً : في غزوة تبوك ، حينما عزم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخرج مع المسلمين إلى تبوك ، وكان يخشى تحرُّك المنافقين في المدينة وتخريبهم خلَّف عليّاً عليهالسلام ليدير أمور المدينة المنوَّرة ، دينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، وقال له : أنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (٣).
ثالثاً : تبليغ آيات من سورة براءة لأهل مكة حين كانوا مشركين ، فقد عيَّن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا بكر لهذه المهمّة وأرسله إلى مكة ، وقطع مسافة نحوها ، ولكنَّ الله عزَّوجلَّ أمر النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يعزل أبا بكر ويعيِّن عليّاً عليهالسلام لتبليغ الرسالة ، ففعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأرسل عليّاً عليهالسلام ، فأخذ الرسالة من أبي بكر ، فرجع إلى المدينة ، وذهب علي عليهالسلام إلى مكة ، فوقف في الملأ العام من قريش ، ورفع صوته بتلاوة الآيات من سورة براءة ، وأدَّى تبليغ الرسالة ، ونفَّذ الأمر ، ورجع إلى المدينة (٤).
__________________
١ ـ سورة آل عمران ، الآية : ٢٦.
٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ٢٢٢.
٣ ـ الإرشاد ، المفيد : ١ / ١٥٦ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٢١ / ٢٠٨ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٣١ ، كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : ٥٥١ ح ١١٨٨ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١٢ / ٧٨ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ١٢٦ ـ ١٢٧ ح ١٤٠ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ١٠٢ ، الإصابة ، ابن حجر : ٤ / ٤٦٧ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٧ / ٣٧٤ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ٦٠٦ ح ٣٢٩٣١.
٤ ـ قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ٦ / ٤٥ و ١٢ / ٤٦ : روى الزبير بن بكار في كتاب
رابعاً : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعثه إلى اليمن ليهدي أهلها إلى الإسلام ، ويبلغهم الدين ، ويقضي بين المتخاصمين ، وقد أدَّى هذا الأمر على أحسن وجه.
هشام آل قطيط : وما جوابكم ـ سماحة السيِّد ـ عن قول سيِّدنا عمر بأن النبوَّة والحكم لا تجتمعان في أهل بيت واحد؟
السيِّد البدري : أيُّها الأستاذ! قول عمر باطل ، وزيفه واضح ، بدليل قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (١).
فهذا الكلام إن كان ينسب إلى عمر فهو دليل على عدم إحاطته بالآيات القرآنيّة ومفاهيمها ، وإن كان عمر يرويه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو حديث مجعول ;لأنه مخالف لكتاب الله العظيم.
ثمَّ ـ أيُّها الأخ المحاور ـ إن خلافة النبوَّة عندنا كخلافة هارون لأخيه موسى بن عمران ، حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه : ( وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) (٢) ، فإن يكن عندكم أنه يحقُّ للمسلم أن ينفي
____________
( الموفقيات ) عن عبدالله بن عباس ، قال : إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكَّة من سكك المدينة ، إذ قال لي : يا ابن عباس! ما أرى صاحبك إلاَّ مظلوماً! فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها ، فقلت : يا أميرالمؤمنين! فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ومضى يهمهم ساعة ، ثمَّ وقف فلحقته ، فقال : يا ابن عباس! ما أظنُّ منعهم عنه إلاَّ أنه استصغره قومه! فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولى! فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك! فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه.
وروي أيضاً : في السقيفة وفدك ، الجوهري : ٧٢ ، والرياض النضرة ، الطبري : ٢ / ١٧٣.
١ ـ سورة النساء ، الآية : ٥٤.
٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢.
خلافة هارون لموسى ، فإنه يحقُّ له أيضاً عزل علي عليهالسلام من خلافة خاتم النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فكما أن النبوَّة والخلافة اجتمعتا في أهل بيت عمران والد موسى وهارون كما ينصُّ القرآن فيه ، كذلك اجتمعتا للنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلي عليهالسلام في بيت عبد المطلب بالنصوص الكثيرة.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن الكلام والنقاش حول هذه المواضيع لا يزيد المسلمين إلاَّ تنافراً وحقداً وابتعاداً ، كيفما كان الأمر فنحن ما كنّا في ذلك اليوم ، ولم نحضر السقيفة حتى نلمس الأمر ، ونتحسَّس الأحداث ، فأقول لك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) (١) ، فنحن لا نحاسب عنهم إن أخطأوا.
السيِّد البدري : هذا جواب من لا يملك الحجّة والدليل الشرعيّ ، فيقول : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) يجب على كل مسلم أن يتبع الحق ، لا أنه يستسلم للأمر الواقع فكم من ضلال وباطل قائم في الدنيا ، فهل يجوز للمسلم أن يتبعه ويتقبَّله ثمَّ يقول : إنه أمر واقع ، وليس لنا إلاَّ أن نستسلم للأمر الواقع؟! فالإسلام دين تحقيق لا دين تقليد ، قال سبحانه وتعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٢) ، فهل قول عمر أحسن أم قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! فهل يجوز للمسلم أن يترك هذه النصوص الجليَّة والأحاديث النبويَّة المرويَّة عن صحاحكم وتواريخكم؟
هشام آل قطيط : لقد كرَّرت الكلام بأن عليّاً كرَّم الله وجهه وبني هاشم وكثير من الصحابة لم يرضوا بخلافة أبي بكر ولم يبايعوه ، ونحن نرى التواريخ
__________________
١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٣٤.
٢ ـ سورة الزمر ، الآية : ١٧ ـ ١٨.
كلها اتّفقت على أن سيِّدنا عليّاً وبني هاشم وجميع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بايعوا أبا بكر.
السيِّد البدري : نعم بايعوا ، ولكن أسألك كيف تمَّت هذه البيعة؟ أما قرأت في كتب التأريخ والحديث أن عليّاً عليهالسلام وبني هاشم وكثيراً من كبار الصحابة ما بايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر بالتهديد والجبر ، إذ جردوا السيف على رأس الإمام علي عليهالسلام ، وهدَّدوه بالقتل إن لم يبايع!
هشام آل قطيط : إني أعجب من سماحتك أيُّها السيِّد ، كيف تتفوَّه بهذا الكلام؟! ما هو إلاَّ من أساطير عوام الشيعة وجهلتهم ، وقد أكَّد المؤرِّخون أن سيِّدنا عليّاً ( كرَّم الله وجهه ) بايع أبا بكر في لحظة استلامه للخلافة طوعاً ورغبة ، وأعلن موافقته لخلافة سيِّدنا أبي بكر.
السيِّد البدري : ألم تقرأ كتب الصحاح والتاريخ أيُّها المحاور ، إرجع إلى صحيح البخاري : ٣ ـ ٣٧ باب غزوة خيبر لترى ما ترى .. راجع صحيح مسلم : ٥ ـ ١٥٤ باب قول النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا نورث ، وراجع كتاب الإمامة والسياسة : ص ١٤ ، وراجع مروج الذهب للمسعودي : ١ ـ ٤١٤ ، وابن أعثم الكوفي في الفتوح ، والحميدي في الجمع بين الصحيحين ، كل هؤلاء أخرجوا أن عليّاً عليهالسلام وبني هاشم لم يبايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر.
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة عن الصحيحين ، عن الزهري ، عن عائشة : فهجرته ـ يعني أبا بكر ـ فاطمة ولم تكلِّمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليٌّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وفي الخبر : فمكثت فاطمة عليهاالسلام ستة أشهر ثمَّ توفِّيت ، فقال رجل للزهري : فلم يبايعه عليٌّ ستة أشهر؟! قال : ولا
أحد من بني هاشم ، حتى بايعه علي (١).
وذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ص ١٣ (٢) ، تحت عنوان : ( كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ) قال : وإن أبا بكر تفقَّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ( كرَّم الله وجهه ) فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليٍّ ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده! لتخرجن أو لأحرقها على من فيها! فقيل له : يا أبا حفص! إن فيها فاطمة! فقال : وإن ... وبعد عدّة أسطر في نفس المصدر السابق له ، يقول : فدقُّوا الباب ، فلمَّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ فلمَّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين.
وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّاً ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أبايع فمه؟! قالوا : إذن والله الذي لا إله إلاَّ هو! نضرب عنقك! قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أمَّا عبد الله فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلَّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟! فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.
فلحق عليٌّ بقبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يصيح ويبكي وينادي : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (٣) (٤).
__________________
١ ـ راجع أيضاً : السنن الكبرى ، البيهقي : ٦ / ٣٠٠ ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : ٥ / ٤٧٢ ح ٩٧٧٤ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٨ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٧ / ٣٧٩ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ٤٦.
٢ ـ وفي الطبعة الأولى : ص ٣٠ وفي طبعة مؤسَّسة الحلبي : ص ١٩.
٣ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٥٠.
٤ ـ قال قطب الدين اليونيني : وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه : أن العزّ الضرير ـ وكان العز
واعلم ـ أيُّها الأخ المحاور ـ أن مسؤوليتك خطيرة تجاه الجهلة والعوام ; لأنهم يأخذون منكم أنتم المثقَّفون ـ وأيضاً العلماء ـ ولقد قيل : إذا فسد العالِم فسد العالَم ، أنتم الشباب الواعي المثقَّف يجب عليكم أن تقرؤوا صحاحكم وتاريخكم ، ولا تتّبعون أسلافكم المتعصِّبين وأتباعهم ، فلِم تصدِّقون كل ما تسمعونه عن الشيعة المظلومين عبر التاريخ؟ بينما كل الأخبار التي تتحدَّث بها الشيعة هي من كتبكم ، فراجع واقرأ بعين الإنصاف ; لأنك مسؤول غداً أمام الله عن هذه الأدلّة ، ولا تقل إن أبي وجدّي كانوا كذا ... الدين ليس بالوراثة ، والدين ليس عادات وتقاليد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، فالدين علم ، وفكر ، ومنطق ، واحتجاج ، وبيِّنة.
حتى لو اصطدمت مع والدك ، حتى لو اصطدمت مع أستاذك ، أو مع شيخك الذي تصلّي خلفه ، أو اختلفت فعليك اتّباع البيِّنة والحجَّة والبرهان ، والله الموفِّق إلى سبيل الرشاد.
وثائق تاريخيَّة
لقد نقل لنا المحدِّثون والمؤرِّخون هذه الحوادث الأليمة في التاريخ ، وإليك ـ أيُّها المحاور ـ بعض الوثائق التاريخية التي تكون عندكم محلَّ الوثوق
__________________
يصرِّح بتفضيل علي عليهالسلام على الثلاثة الخلفاء ـ حدَّثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي ، وهناك جماعة من العلماء منهم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام ، فجرى البحث في الإمامة ، ومن الخليفة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فقال بعض الحاضرين : قد روي أن علي بن أبي طالب عليهالسلام بايع لأبي بكر مكرهاً ، وأن أبا عبيدة بن الجراح قال له : بايع وإلاَّ قتلت ، فالتفت علي عليهالسلام إلى قبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ). ( ذيل مرآة الزمان ، قطب الدين اليونيني ، المجلّد الأول : ج ٢ ص ١٦٩ ).