مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

الأمّة ، وعليه المعوِّل في شعب الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش (١) لفتح بلاد الشرك؟ وكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة إلى مكان يستخفي فيه ، ولمَّا رأينا النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوجِّهاً إلى الانجحار ، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد استبان لنا قصد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي بكر للغار للعلّة التي شرحناها ، وإنّما أبات علياً عليه‌السلام على فراشه لمَّا لم يكن يكترث به ، ولم يحفل به (٢) لاستثقاله ، ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.

قال سعد : فأوردت عليه أجوبة شتّى ، فما زال يعقب كل واحد منها بالنقض والردِّ عليَّ ، ثمَّ قال : يا سعد! ودونكها أخرى بمثلها تخطم (٣) أنوف الروافض ، ألستم تزعمون أن الصدّيق المبرَّأ من دنس الشكوك ، والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسرَّان النفاق ، واستدللتم بليلة العقبة؟ أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً؟

قال سعد : فاحتلت لدفع هذه المسألة عنّي خوفاً من الإلزام ، وحذراً من أنّي إن أقررت له بطوعهما للإسلام احتجَّ بأن بدء النفاق ونشأه في القلب لا يكون إلاَّ عند هبوب روائح القهر والغلبة ، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد إليه قلبه ، نحو قول الله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

__________________

١ ـ تسريب الجيوش : بعثها قطعة قطعة.

٢ ـ لم أكترث له أي ما أبالي ، وما حفله وما حفل به أي ما بالى به ولا اهتمَّ له.

٣ ـ خطمه : أي ضرب أنفه.

١٢١

وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) (١).

وإن قلت : أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن ; إذ لم تكن ثمَّة سيوف منتضاة (٢) كانت تريهما البأس.

قال سعد : فصدرت عنه مزورَّاً (٣) قد انتفخت أحشائي من الغضب ، وتقطَّع كبدي من الكرب ، وكنت قد اتخذت طوماراً ، وأثبتُّ فيه نيِّفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً ، على أن أسال عنها خبير أهل بلدي ; أحمد بن إسحاق ، صاحب مولانا أبي محمّد عليه‌السلام (٤) فارتحلت خلفه ، وقد كان خرج قاصداً نحو مولانا بسر من رأى ، فلحقته في بعض المنازل ، فلمَّا تصافحنا قال : بخير لحاقك بي ، قلت : الشوق ثمَّ العادة في الأسئلة.

قال : قد تكافينا على هذه الخطّة الواحدة ، فقد برَّح بي القرم (٥) إلى لقاء مولانا أبي محمّد عليه‌السلام وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ، ومشاكل في التنزيل فدونكها الصحبة المباركة ، فإنها تقف بك على ضفّة بحر لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، وهو إمامنا.

فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيِّدنا ، فاستأذنّا فخرج علينا الإذن بالدخول عليه ، وساق الحديث في عرض أسئلته على الإمام عليه‌السلام وجواباته له ، إلى أن قال : ثمَّ قال مولانا عليه‌السلام : يا سعد! وحين ادّعى خصمك أن رسول

__________________

١ ـ سورة المؤمن ، الآية : ٨٤.

٢ ـ انتضى السف : سلَّه.

٣ ـ الإزورار عن الشيء : العدول عنه.

٤ ـ يعني الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام.

٥ ـ المراد بها هنا : شدّة الشوق.

١٢٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمَّة إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد أمور التأويل ، والملقى إليه أزمَّة الأمّة ، وعليه المعوَّل في لمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر ، فكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ، وإنما أبات عليّاً عليه‌السلام على فراشه لمَّا لم يكن يكترث له ، ولم يحفل به لا ستثقاله إياه ، وعلمه أنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.

فهلا نقضت عليه دعواه بقولك : أليس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (١) ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم؟

فكان لا يجد بدّاً من قوله لك : بلى.

قلت : فكيف تقول حينئذ : أليس كما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ، ومن بعد عمر لعثمان ، ومن بعد عثمان لعلي عليه‌السلام؟

فكان أيضاً لا يجد بدّاً من قوله لك : نعم.

ثمَّ كنت تقول له : فكان الواجب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرجهم جميعاً ( على الترتيب ) إلى الغار ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ، ولا يستخفَّ

__________________

١ ـ صحيح ابن حبان : ١٥ / ٣٩٢ ، الثقات ، ابن حبان : ٢ / ٣٠٤ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١ / ٨٩ ح ١٣٦ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٨ / ٦١.

١٢٣

بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إيَّاهم ، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم.

ولمَّا قال : أخبرني عن الصدِّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً؟ لم لم تقل له : بل أسلما طمعاً ، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمَّا كانوا يجدون في التوراة ، وفي سائر الكتب المتقدِّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن عواقب أمره ، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً يسلَّط على العرب كما كان بختنصَّر سلِّط على بني إسرائيل ، ولا بدَّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بختنصَّر ببني إسرائيل .. الخ (١).

__________________

١ ـ كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ٤٥٤ ـ ٤٦٣ ح ٢١ ، دلائل الإمامة ، الطبري ( الشيعي ) : ٥١٥.

١٢٤

المناظرة الثامنة والعشرون

مناظرة

الشيخ المفيد رحمه‌الله مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير (١)

قال القاضي في المجالس نقلا عن مصابيح القلوب : بينما القاضي عبد الجبّار ذات يوم في مجلسه في بغداد ـ ومجلسه مملوء من علماء الفريقين ـ إذ حضر الشيخ وجلس في صفِّ النعال ، ثمَّ قال للقاضي : إن لي سؤالا ، فإن أجزت بحضور هؤلاء الأئمة.

فقال له القاضي : سل.

فقال : ما تقول في هذا الخبر الذي ترويه طائفة من الشيعة : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (٢) ، أهو مسلَّم صحيح عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير؟

__________________

١ ـ قد تقدَّمت في الجزء الثالث : ٣٠١ ، المناظرة الحادية والخمسون ، مناظرة الشيخ المفيد مع الرمّاني ، وهي شبيهة بهذه المناظرة ، وهذه أكمل منها.

٢ ـ وهذا الحديث قاله المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير ، وهو يعدُّ من المتواترات جدّاً ، فقد روته جلُّ كتب الحديث والسنن والتأريخ عند جمهور المسلمين ، ونذكر منها على سبيل المثال : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ١٤ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٨٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٥ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٩٧ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ١٠٩ ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : ١١ / ٢٢٥ ، المصنّف ، ابن

١٢٥

فقال : نعم خبر صحيح.

فقال الشيخ : ما المراد بلفظ المولى في الخبر؟

فقال : هو بمعنى أولى.

فقال الشيخ : فما هذا الخلاف والخصومة بين الشيعة والسنّة؟

فقال الشيخ : أيُّها الأخ! هذه رواية ، وخلافة أبي بكر دراية ، والعادل لا يعادل الرواية بالدراية.

فقال الشيخ : ما تقول في قول النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّ عليه‌السلام : حربك حربي ، وسلمك سلمي؟ (١)

قال القاضي : الحديث صحيح.

فقال : ما تقول في أصحاب الجمل؟

فقال القاضي : أيُّها الأخ! إنهم تابوا.

فقال الشيخ : أيُّها القاضي! الحرب دراية ، والتوبة رواية ، وأنت قرَّرت في حديث الغدير أن الرواية لا تعارض الدراية.

فبهت الشيخ القاضي ، ولم يحر جواباً ، ووضع رأسه ساعة ، ثمَّ رفع رأسه وقال : من أنت؟

فقال : خادمك محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي.

فقام القاضي من مقامه ، وأخذ بيد الشيخ وأجلسه في مسنده ، وقال : أنت

__________________

أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٤٩٥ ح ٩ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ٤٥ ، صحيح ابن حبان : ١٥ / ٣٧٦ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٤ / ١٧ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٧ / ١٧.

١ ـ المناقب ، الخوارزمي : ١٢٩ ح ١٤٣ ، مناقب أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، الكوفي : ١ / ٢٥٠ ح ١٦٧ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٩٧ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٢٠٠.

١٢٦

المفيد حقّاً! فتغيَّرت وجوه علماء المجلس.

فلمَّا أبصر القاضي ذلك منهم قال : أيُّها الفضلاء! إن هذا الرجل ألزمني ، وأنا عجزت عن جوابه ، فإن كان أحد منكم عنده جواب عمّا ذكر فليذكر ، ليقوم الرجل ويرجع مكانه الأول.

فلمَّا انفصل المجلس شاعت القصّة ، واتّصلت بعضد الدولة ، فأرسل إلى الشيخ فأحضره ، وسأله عمّا جرى فحكى له ذلك ، فخلع عليه خلعة سنيّة ، وأخذ له بفرس محلَّى بالزينة ، وأمر له بوظيفة تجري عليه (١).

__________________

١ ـ خاتمة المستدرك ، الميرزا النوري : ٣ / ٢٣٦ ، مستدرك سفينة البحار ، النمازي : ٨ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

١٢٧

المناظرة التاسعة والعشرون

مناظرة

الشيخ المفيد مع شيخ من المعتزلة

في المأثور عن الأئمة عليهم‌السلام وخلاف العامة لهم

قال الشريف المرتضى ( رضي الله عنه ) : ومن حكايات الشيخ ـ أيَّده الله ـ قال : حضرت مجمعاً لقوم من الرؤساء ، وكان فيهم شيخ من أهل الري ، معتزليّ ، يعظِّمونه لمحل سلفه ، وتعلُّقه بالدولة ، فسئلت عن شيء من الفقه ، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة عليهم‌السلام.

فقال ذلك الشيخ : هذه الفتيا تخالف الإجماع.

فقلت له : عافاك الله ، من تعني بالإجماع؟

فقال : الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار.

فقلت : هذا ـ أيضاً ـ مجمل من القول ، فهل تدخل آل محمّد عليهم‌السلام في جملة هؤلاء الفقهاء ، أم تخرجهم من الإجماع؟

فقال : بل أجعلهم في صدر الفقهاء ، ولو صحَّ عنهم ما تروونه لما خالفناه.

فقلت له : هذا مذهب لا أعرفه لك ، ولا لمن أو مأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء ; لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أميرالمؤمنين علي بن أبي

١٢٨

طالب عليه‌السلام ـ وهو سيِّد أهل البيت عليهم‌السلام ـ في كثير ممَّا قد صحَّ عنه من الأحكام ، فكيف تستوحشون من خلاف ذرّيّته ، وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال؟

فقال : معاذ الله! ما نذهب إلى هذا ، ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء ، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.

فقلت له : لم أحكِ إلاَّ ما أقيم عليه البرهان ، ولا ذكرت إلاَّ معروفاً لا يمكن أحداً من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار ، لكنك أنت تريد أن تتجمَّل بضدّ مذهبك على هؤلاء الرؤساء.

ثمَّ أقبلت على القوم ، فقلت : لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمّته وفقهائه وسادته أن أميرالمؤمنين عليه‌السلام قد يجوز عليه الخطأ في شيء يصيب فيه عمرو بن العاص ، زيادة على ما حكيت عنه من المقال!

فاستعظم القوم ذلك ، وأظهروا البراءة من معتقده ، وأنكره هو ، وزاد في الإنكار.

فقلت له : أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن علياً عليه‌السلام لم يكن معصوماً كعصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال : بلى.

قلت : فلم لا يجوز عليه الخطأ في شيء من الأحكام؟ فسكت.

ثمَّ قلت له : أليس عندكم أن أميرالمؤمنين عليه‌السلام قد كان يجتهد رأيه في كثير من الأحكام ، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد؟

قال : بلى.

١٢٩

قلت له : فما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أميرالمؤمنين عليه‌السلام من جهة الاجتهاد ، مع ارتفاع العصمة عنه ، وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟

فقال : ليس يمنع من ذلك مانع.

قلت له : فقد أقررت بما أنكرت الآن ، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ ما انعقد عليه الإجماع؟ قال : بلى.

قلت له : أفليس هذا يسوِّغكم الخلاف على أميرالمؤمنين عليه‌السلام في كثير من أحكامه التي لم يقع عليها الإجماع؟

وبعد ، فليست لي حاجة إلى هذا التعسّف ، ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا الاستدلال ; لأنه لا أحد من الفقهاء إلاَّ وقد خالف أميرالمؤمنين عليه‌السلام في بعض أحكامه ، ورغب عنها إلى غيرها ، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم به من الحلال والحرام ، وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أميرالمؤمنين عليه‌السلام في الميراث والمكاتب ، ويذهب إلى قول زيد فيهما!

ويروي عنه عليه‌السلام أنه كان لا يرى الوضوء من مسّ الذكر ، ويقول هو : إن الوضوء منه واجب ، وإن علياً عليه‌السلام خالف الحكم فيه بضرب من الرأي!

وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال : لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلِّب ، صلَّى عليٌّ عليه‌السلام بالناس وعثمان محصور ، فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلِّب على أمر الأمّة صلاة الناس خلف علي عليه‌السلام في زمن حصر عثمان ، فصرح بأن علياً كان متغلِّباً ، ولا خلاف أن المتغلِّب على أمر الأمَّة فاسق ضالّ ، وقال : لا بأس بالصلاة خلف الخوارج ، لأنهم متأوِّلون ، وإن كانوا فاسقين.

فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه ، يزعم معه أنه لو صحَّ له عن

١٣٠

أميرالمؤمنين عليه‌السلام شيء أو عن ذرّيّته لدان به! لو لا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.

وليس في فقهاء الأمصار ـ سوى الشافعي ـ إلاَّ وقد شارك الشافعي في الطعن على أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، وتزييف كثير من قوله ، والردّ عليه في أحكامه ، حتى إنهم يصرِّحون بأن الذي يذكره أميرالمؤمنين عليه‌السلام في الأحكام معتبر ، فإن أسنده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلوه منه على ظاهر العدالة ، كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كما يقبلون من حمَّال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسنداً إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فأمَّا ما قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام من غير إسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان موقوفاً على سيرهم ونظرهم واجتهادهم ، فإن وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر ، لا من حيث حكمه به وقوله ، وإن عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردّوه عليه وعلى من اتّبعه فيه ، فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله عليه‌السلام ، وهذا مالا يذهب إليه من وجد في صدره جزأً من مودّته عليه‌السلام ، وحقّه الواجب له ، وتعظيمه الذي فرضه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لا يذهب إلى هذا القول إلاَّ من ردَّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار (١).

__________________

١ ـ روى الخطيب البغدادي عن أبي ثابت مولى أبي ذر ، قال : دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً ، وقالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة. ( تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ١٤ / ٣٢٢ ، رقم : ٧٦٤٣ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٤٤٩ ).

وعن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق معه.

١٣١

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعلي بابها (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي أقضاكم (٢) ، وقول أميرالمؤمنين عليه‌السلام : ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على صدري وقال : اللهم اهد قلبه ، وثبِّت لسانه ، فما شككت في قضاء بين اثنين (٣).

فلمَّا ورد عليه هذا الكلام تحيَّر ، وقال : هذه شناعات على الفقهاء ، والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم.

فقال له بعض الحاضرين : نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال وكل دائن به.

وقال له آخر : إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادّعيت أولا من ضدّ هذه الحكاية ، ونحن نعيذك بالله أن تذهب إلى هذا القول! فإن كل شيء تظنّه حجّة عليه فهو كالحجّة في إبطال نبوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسكت مستحيياً ممّا جرى ، وتفرَّق الجمع (٤).

__________________

( مناقب أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، الكوفي : ١ / ٤٢٢ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٧ / ٢٣٥ ).

وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٢ / ٢٩٧ ، عن تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ـ وقد أيَّدهم ـ قالوا جميعاً : قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور حيثما دار.

وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري : ١ / ٩٨ ، قال : وأتى محمّد ابن أبي بكر ، فدخل على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : علي مع الحق ، والحق مع علي؟ ثمَّ خرجت تقاتلينه بدم عثمان ... إلخ.

وروى ابن عساكر في تأريخ مدينة دمشق : ٤٢ / ٤٤٩ ، بالإسناد عن أم سلمة قالت : والله إن علياً على الحق قبل اليوم وبعد اليوم ، عهداً معهوداً وقضاء مقضياً وراجع ـ أيضاً ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٨ / ٧٢ ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : ١ / ١٧٣.

١ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٢ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٣ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٤ ـ الفصول المختارة ، المفيد : ١٣٢ ـ ١٣٥ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ١٠ / ٤٤٣ ـ ٤٤٥ ح ١٥.

١٣٢

المناظرة الثلاثون

مناظرة

الشيخ المفيد رحمه‌الله مع بعض المعتزلة في فقه أهل البيت عليهم‌السلام

قال الشيخ أدام الله عزَّه : قال لي يوماً بعض المعتزلة : لو كان ما تدّعونه من هذا الفقه الذي تضيفونه إلى جعفر بن محمّد وأبيه وابنه عليهم‌السلام حقاً ، وأنتم صادقون في الحكاية عنهم ، لوجب أن يقع لنا ـ معشر مخالفيكم ـ العلم الضروريّ بصحّة ذلك حتى لا نشكَّ فيه ، كما وقع لكم صحّة الحكاية عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية أصحابهم عنهم ، فلمّا لم نعلم صحّة ما تدّعونه ، مع سماعنا لأخباركم وطول مجالستنا لكم دلَّ على أنكم متخرِّصون في ذلك!

وبعد فما بال كل من عددنا من فقهاء الأمصار قد استفاض عنهم القول في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم ، وأنتم أئمّتكم أعظم قدراً من هؤلاء ، وأجلُّ خطراً ، لاسيما مع ما تعتقدون فيهم : من العصمة ، وعلوّ المنزلة ، والفضل على جميع البريّة ، والبينونة من الخلق بالمعجزة ، وما اختصّوا به من خلافة الرسول عليه وآله السلام ، وفرض الطاعة على الجنّ والإنس؟ وإن هذا لشيء عجيب!

١٣٣

قال الشيخ أدام الله عزَّه : فقلت له : إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدّاً ، غير أني أقلبه عليك ، فلا يمكنك الانفصال منه إلاَّ بإخراج من ذكرت من جملة أهل العلم ، ونفي المعرفة عنهم ، وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من أصحاب الفتيا ، والعلم الضروريّ حاصل لكل من سمع الأخبار بضدّ ذلك وخلافه ، وأنهم عليهم‌السلام كانوا من أجلّة أهل الفتيا.

وذلك : أننا وإن كنا كاذبين على قولك ، فلابدّ لهؤلاء القوم عليهم‌السلام من مقال في الفتيا يتضمَّن بعض ما حكيناه عنهم ، فما بالنا معشر الشيعة ، بل ما بالكم ـ معشر الناصبة ـ لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة ، كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار؟

فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهباً بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار ـ مع تديُّننا بكذبك في ذلك ـ لم نجد فرقاً بيننا وبينك إذا ادّعينا أننا نعلم صحّة ما نحكيه عنهم بالاضطرار ، وأنك وأصحابك تعلمون ذلك ، ولكنكم تكابرون العيان ، وهذا مالا فصل فيه.

فقال : إنما لم نعلم مذهبهم باضطرار لأنّه مبثوث في مذاهب الفقهاء إذا كانوا عليهم‌السلام يختارون ما اختاروا من قول الصحابة والتابعين ، فتفرَّق مجموع أخبارهم في مذاهب الفقهاء.

فقلت له : فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن عددت ; لأن هؤلاء تخيَّروا من أقوال الصحابة والتابعين ، فكان يجب أن لا نعلم مذاهبهم باضطرار ، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال فإنّا نعتمد عليه في جوابك ، فنقول : إننا إنما تعرَّينا من علم الاضطرار بمذاهبهم عليهم‌السلام لأن الفقهاء تقسَّموا مذاهبهم المنصوصة عندنا ، فدانوا بها على سبيل الاختيار ; لأن قولهم

١٣٤

متفرِّق في مقال الفقهاء ، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار.

فقال : فهب أن الأمر كما وصفت ، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار؟

فقلت له : ليس شيء مما تومئ إليه إلاَّ وقد قاله صحابيّ أو تابعي ، وإن اتّفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن ، فلمَا قدَّمنا مما رضيته من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار ، مع أنك تقول ـ لا محالة ـ بأن قولهم عليهم‌السلام في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها ، وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان ، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار؟ وليس هو مما تحدَّثته مذاهب الفقهاء ، ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد ، فبأيِّ شيء تعلَّقت في ذلك تعلَّقنا به في إسقاط سؤالك ، والله الموفّق للصواب.

فلم يأت بشيء تجب حكايته ، والحمد لله.

قال السيِّد رضي الله عنه ، مؤلِّف الفصول المختارة : وقلت للشيخ عقيب هذه الحكاية لي : إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا : إن جعفر بن محمّد ، وأباه محمّد بن علي ، وابنه موسى بن جعفر عليهم‌السلام لم يكونوا من أهل الفتيا ، لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح؟

قال : يقال لهم : هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة ، وجوَّزناها لكم ، أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمّيٍّ وعدوٍّ لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ووليٍّ له : أن أميرالمؤمنين عليه‌السلام كان من أهل الفتيا؟

فلابد من أن يقولوا : بلى.

فيقال لهم : فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من فقهاء الأمصار ، بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن

١٣٥

الخطاب؟

إن قالوا : إنكم تعلمون ذلك باضطرار.

قلنا لهم : وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه ، أو ما نحكيه نحن مما يوافق حكايتنا عن ذرّيّته عليهم‌السلام؟

فإن قالوا : هو ما نحكيه دونكم.

قلنا لهم : ونحن ـ على أصلكم ـ في إنكار ذلك مكابرون.

وإن قالوا : نعم.

قلنا لهم : بل العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصّة ، وأنتم في إنكار ذلك مكابرون ، وهذا ما لا فصل فيه.

وهو أيضاً يسقط اعتلالهم في عدم العلم الضروريّ بمذاهب الذرّيّة لما ذكروه من تقسيم الفقهاء لها ; لأن أميرالمؤمنين عليه‌السلام قد سبق الفقهاء الذين أشاروا إليهم ، وكان مذهب علي عليه‌السلام متفرِّداً.

فإن اعتلّوا بأنه كان منقسماً في قول الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك ; لروايتهم عنه الخلاف ، مع أنه يجب أن لا يعرف مذهب عمر وابن مسعود ، لأنهما كانا منقسمين في مذاهب الصحابة ، وهذا فاسد من القول بيِّن الاضمحلال.

قال الشيخ أدام الله عزَّه : وهذا كلام صحيح ، ويؤيِّده علمنا بمذاهب المختارين من المعتزلة والزيدية والخوارج ، مع انبثاثها في أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.

وقال الشيخ أدام الله حراسته : وقد ذكرت الجواب عمَّا تقدم من السؤال في هذا الباب ، في كتابي المعروف بتقرير الأحكام ، ووجوده هناك يغني عن تكراره هاهنا ، إذ هو في موضعه مستقصى عن البيان (١).

__________________

١ ـ الفصول المختارة ، المفيد : ٢٠١ ـ ٢٠٤ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ١٠ / ٤٤٦ ـ ٤٤٨ ح ١٦.

١٣٦

المناظرة الحادية والثلاثون

مناظرة

الشيخ المفيد مع أبي علي بن شاذان

في حديث الأنبياء يورِّثون أم لا

قال السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك في البحث عن أن الأنبياء عليهم‌السلام يورِّثون أم لا؟ : قال الباجي : أخبرني القاضي أبو جعفر السماني أن أبا علي بن شاذان ـ وكان من أهل العلم بهذا الشأن إلاَّ أنه لم يكن قرأ عربيّة ـ فناظر يوماً في هذه المسألة أبا عبدالله بن المعلِّم ـ وكان إمام الإماميّة ، وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربيَّة ـ فاستدل ابن شاذان على أن الأنبياء لا يورِّثون بحديث : إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث ، ما تركناه صدقة (١).

فقال له ابن المعلِّم : أمَّا ما ذكرت من هذا الحديث فإنّما هو صدقة نصب على الحال ، فيقتضي ذلك : أن ما تركه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه الصدقة لا يورث عنه ، ونحن لا نمنع هذا ، وإنّما نمنع ذلك فيما تركه على غير هذا الوجه .. (٢).

__________________

١ ـ قال الشهرستاني في الملل والنحل : ١ / ٣١ فيما وقع من الخلاف بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخلاف السادس : في أمر فدك والتوارث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوى فاطمة عليها‌السلام وراثة تارة ، وتمليكاً أخرى ، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة.

٢ ـ تنوير الحوالك : ٧١٥ ، مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : ١ / ٤٢.

١٣٧

المناظرة الثانية والثلاثون

مناظرة

الشريف المرتضى مع علماء الجمهور في الإمامة

قال ابن أبي جمهور الأحسائي عليه الرحمة : وقد اتّفق للمرتضى عليه الرحمة مع علماء الجمهور في الإمامة ، فأوردوا عليه أخباراً موضوعة في فضائل الشيخين ، فقال : هي مكذوبة بها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقالوا : لا يقدر ولا يتجَّرى أحد على الكذب عليه.

فأجابهم بأنه روي عنه هذا الحديث ـ أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستكثر عليَّ الكذّابة ) (١) ـ فهذا الحديث إمّا مكذوب عليه أو هو صحيح عنه ، ويلزم المطلوب على كلا التقديرين ، فأفحموا به عن الجواب (٢).

__________________

١ ـ الكافي ، الكليني : ١ / ٦٢ ح ١ ، تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : ١٩٣.

٢ ـ عوالي اللئالي ، ابن أبي جمهور الأحسائي : ١ / ١٨٧.

١٣٨

المناظرة الثالثة والثلاثون

مناظرة

إسماعيل بن علي الفقيه مع بعض الحنابلة

قال ابن أبي الحديد : حدَّثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي ، المعروف بابن عالية ، من ساكني قطفتا (١) ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، وأحد الشهود المعدَّلين بها ، قال : كنت حاضراً الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي ، الفقيه المعروف بغلام ابن المنى ، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدَّم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ، ويشتغل بشيء في علم المنطق ، وكان حلو العبارة ، وقد رأيته أنا ، وحضرت عنده ، وسمعت كلامه ، وتوفِّي سنة عشر وستمائة.

قال ابن عالية : ونحن عنده نتحدَّث ، إذ دخل شخص من الحنابلة ، قد كان له دين على بعض أهل الكوفة ، فانحدر إليه يطالبه به ، واتّفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة ، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، ويجتمع بمشهد أميرالمؤمنين عليه‌السلام من الخلائق جموع عظيمة ،

__________________

١ ـ قطفتا ـ بالفتح ثمَّ الضمِّ ، والفاء ساكنة ، وتاء مثنّاة ، والقصر ـ محلّة كبيرة ذات أسواق ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، بينها وبين دجلة أقلّ من ميل. مراصد الاطلاع ، البجاوي : ٣ / ١١٠٧.

١٣٩

تتجاوز حدَّ الإحصاء.

قال ابن عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص : ما فعلت؟ ما رأيت؟ هل وصل مالك إليك؟ هل بقي لك منه بقيّة عند غريمك؟ وذلك يجاوبه ، حتى قال له : يا سيِّدي! لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ، وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب عليه‌السلام من الفضائح والأقوال الشنيعة ، وسبِّ الصحابة جهاراً بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة!

فقال إسماعيل : أيُّ ذنب لهم؟ والله ما جرَّأهم على ذلك ، ولا فتح لهم هذا الباب إلاَّ صاحب ذلك القبر!

فقال ذلك الشخص : ومن صاحب القبر؟

قال : عليُّ بن أبي طالب!

قال : يا سيِّدي! هو الذي سنَّ لهم ذلك ، وعلَّمهم إيّاه ، وطرقهم إليه؟!

قال : نعم والله.

قال : يا سيدي! فإن كان محقّاً فمالنا أن نتولّى فلاناً وفلاناً؟! وإن كان مبطلا فمالنا نتولاّه؟! ينبغي أن نبرأ إمَّا منه أو منهما.

قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعاً ، فلبس نعليه ، وقال : لعن الله إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن وانصرفنا (١).

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٩ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

١٤٠