مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

التحذير.

لقد فات على الدكتور أن التشيُّع بما هو جوهر الدين قد صمد عبر التأريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه ، واستعصى على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الآن ، وهو المذهب الوحيد الذي ظلَّ أمره في ازدياد ; لما يستبطن من حقّ ، ولتمسُّك أهله به ، ولقدرته على مواكبة العصر ، والوفاء بمتطلَّبات الزمن ، بينما اندثر غيره من المذاهب ، أو كاد ، حتى المذاهب الأربعة لم يعد التمسُّك بها إلاَّ تقليديّاً وشكليّاً ، ولم تعد قادرة على الوقوف أمام دعاوى التجديد الفقهيّ ، وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا وهناك ..

والذي لا يعرفه الدكتور أو يتجاهله هو أن الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام أسبق في دخوله إلى السودان من جميع الحركات السلفيَّة بما فيها حركة الإخوان ، وأن السودانيين قد عرفوا لأهل البيت عليهم‌السلام حقَّهم في ذات الوقت الذي عرفوا فيه الإسلام ، وأن البنية الاجتماعيَّة في السودان لا يهدِّدها انخراط الشباب في سلك التشيُّع لأهل البيت عليهم‌السلام ، الذين هم قوام الدين ، ونظام الأمّة ، ولكن ما يهدِّد المجتمع في دينه وحضارته هو انتماؤهم إلى تلك الجماعات الموتورة ، التي ورثت الحقد عن الخوارج وأهل الفتن وبني أمية وأئمَّة القشريين من لدن ابن تيمية إلى محمّد بن عبد الوهاب وأتباعه (١).

__________________

١ ـ المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : ٦٦٣ ـ ٦٦٦.

٤٢١

المناظرة الخامسة والسبعون

مناظرة

الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني قبل تشيُّعه

مع ابن عمِّه المتشيِّع في الإمامة ووجوب البحث عن الحقيقة

قال الأستاذ عبد المنعم حسن تحت عنوان ( حوار في بداية الطريق ) : كنت قلقاً جدّاً وأنا أحاول تجنُّب أيِّ حوار مع ابن عمِّي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسَّد في سلوكه أدباً وأخلاقاً ومنطقاً ، مما جعلني أفكِّر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة ، رغم قناعتي بأنَّ ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة ، أو ربَّما نزوة عابرة جعلته يتبنَّى هذه الأفكار الغريبه.

قلقي كان نابعاً من تخوُّفي لأن أتأثَّر بفكرته ، أو ربَّما أجد أنها تجبرني على الاعتراف بها ، وبالتالي أخالف ما عليه الناس ، وما وجدت عليه آبائي ، وسأكون شاذّاً في المجتمع ، وربَّما اتُّهمت بأني مارق من الدين كما اتّهم ، ولكني تجاوزت كل ذلك ، وقرَّرت أن أخوض معه حواراً ، لعلّني أجد منفذاً أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه ، خصوصاً وأني قرأت كتباً لا بأس بها ضدَّ الشيعة والتشيُّع ، ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله ، فبدأت معه الحوار.

٤٢٢

قلت له : الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيّاً ، فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغيِّر مذهبك غداً؟

قال : الآية الكريمة تقول : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (١) ، وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل ، وقد أفرغت وسعي ، وتوصَّلت إلى أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، والدليل على صحّته أن الأدلّة التي يسوقها أصحابه مما اتّفق عليه جميع المسلمين.

قلت : لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟

قال : أوّلا : من قال لك إنه لا يوجد غيري؟!

وثانياً : وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا على صحّة أو خطأ ما توصَّلت إليه ، إن المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحقّ ، ومن ثَمَّ اتّباعه ، ولا شأن لي بغيري ، لأن الله يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (٢).

قلت له : لو افترضنا صحّة مذهب الشيعة ذلك يعني أن ٩٠% من المسلمين على خطأ ; لأن كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنّة والجماعة ، فأين هذا التشيُّع من عامة الناس؟

قال : الشيعة ليست بهذه القلّة التي تتصوَّرها ، فهم يمثِّلون غالبيَّة في كثير من الدول ، ثمَّ إن الكثرة والقلّة ليست معياراً للحقّ ، بل القرآن كثيراً ما يذمُّ الكثرة ، يقول تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (٣) ، ويقول : ( وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية : ١١١.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٥.

٣ ـ سورة الزخرف ، الآية : ٧٨.

٤٢٣

شَاكِرِينَ ) (١) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٢) ، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا على أنهم على حقٍّ.

أمَّا التشيُّع كمنهج سماويٍّ فهو موجود ، بدليل أني شيعيٌّ ، وإذا وجِّه الإشكال إلى عدم انتشار التشيُّع فهذا يتوجَّه أيضاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوَّل دعوته وحتى وفاته ; إذ أن الإسلام لم يكن منتشراً ، ومع ذلك فهو الحقُّ المنزل من قبل الله تعالى.

قلت متعجِّباً : وهل تريدني أن أسلِّم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متديِّنين طريقهم غير الذي أمر به الله؟!

ابتسم قائلا : أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين ، فالله أعلم بهم ، ولكن أذكِّرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد ، يقول تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (٣).

شعرت بأن الحوار قد أخذ منحىً عاماً ، وأن حجّته بدت في هذا المجال قويَّة ومدعَّمة بآيات قرآنية ، فقرَّرت أن أناقش معه مفردات معتقده التي قرأت نقدها من الكتب ، وتركتها كورقة أخيرة في النهاية ; لأني على ثقة من أنه لا يستطيع الإجابة عليها ، ولقد أضفت إليها رأيي الخاص ، ولأغيِّر مجرى الحديث إلى حيث أريد قلت له : حسناً ، ماذا تقول الشيعة؟!

هنا اعتدل في جلسته وقال : الشيعة يقولون : إن هذا الدين الخاتم لا يجوز

__________________

١ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٧.

٢ ـ سورة سبأ ، الآية : ١٣.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية : ١٧٠.

٤٢٤

لنا أخذه إلاَّ عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، ويعتبرون أن هذا هو عين التمسُّك بسنَّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو المطلوب من كل إنسان.

قلت ساخراً : كلُّنا نتّبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أحد يرى أنه خلاف ما جاء به عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.

قال : الأمر ليس مجرَّد ادّعاء ، إنّما يجب إثبات ذلك بالدليل ، ونحن كشيعة نرى أن المسألة الأساسيّة التي ابتليت بها الأمّة هي مسألة الإمامة والقيادة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي اختصَّ بها عليٌّ عليه‌السلام كوصيٍّ وخليفة ، ومن بعده أئمَّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وواحدة من مستلزمات هذه الوصاية والإمامة الخلافة السياسيّة ، ومن أهل البيت فقط يصح أخذ الدين ، أمَّا ما أخذ من غيرهم فلا نقول إنه باطل مطلقاً ، ولكنّه حقٌّ مخلوط بباطل ، ونحن مأمورون بأخذ الحقِّ فقط دون غيره.

قلت : وما جدوائيَّة البحث حول قضيَّة مرَّت عليها قرون؟ وهل يفيدونا إذا ما كان عليٌّ عليه‌السلام هو الخليفة أم أبو بكر؟!

سكت قليلا ثمَّ قال : عندما ننظر ـ يا أخي ـ لكل مشكلة ، يجب البحث عن جذور تلك المشكلة حتى نحلِّلها ، وما عليه المسلمون اليوم من فرقة وشتات وضياع إنما هو ناتج عن ذلك اليوم الذي حجبت فيه الخلافة عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأعطيت لغيره بلا حقٍّ ، ومن هناك ابتدأ افتراق الأمّة ، والآن أنا أمامك أقول لك : إن الشيعة على حقٍّ ، وأنت ترى خلاف ذلك ، من هنا جاءت ضرورة البحث في الماضي لنعرف أين الأصل ، ومن الذي خالف.

هنا أخذتني العزّة ، وقرَّرت الهجوم عليه من كل جانب ، فانهلت عليه بالأسئلة مقاطعاً : إذن أنتم تشكِّكون في الصحابة؟!

أجاب بهدوء : نحن لسنا في مقام التشكيك في أحد ، ما نقوله أن كل من

٤٢٥

اتّبع الحق من الصحابة أو غيرهم على رؤوسنا ، نقدِّسهم ، نحترمهم ، وكل من خالف النهج السماويّ القويم فلن نسمح لأنفسنا أخذ معالم ديننا منه.

فقلت له : لا أريدك أن تناقشني في عموميَّات! من غير المعقول أن كل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر خالفوا قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! أتدري ماذا يعني ذلك؟ يعني أن نشكِّك في كل ديننا ، فكيف تجوِّزون لأنفسكم ذلك؟ وأرجو ألا تستعمل معي التقيَّة المعروفة عندكم.

أجاب : أولا : التقيَّة شرعيَّة من الكتاب والسنة ، ولها مجالها ، وهي ليست واجبة في كل الأحوال ، إنما لها ظروفها الخاصة ، وأنا لا أمثِّل كل الشيعة ، بإمكانك أن تطّلع على كتب الشيعة ، فلن تجد غير كلامي هذا.

أما بالنسبة للصحابة فالأمر لا يصل إلى مستوى التشكيك في الدين إلاَّ إذا كان الدين عندك ملخَّصاً في الصحابة.

قاطعته : إنهم هم الذين نقلوا لنا الدين.

قال : بحثنا الآن حول نقلهم ، وهذا أوَّل الكلام وبيت القصيد ، أنتم تجرحون الرجال في علم الجرح والتعديل ، وتبدأون عمليَّة معرفة أحوال الرجال من القرون المتأخِّرة بعد عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن الشيعة نبدأ ممن كان حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأن منهم من كان منافقاً ، وآخر كان لا يفقه شيئاً. وهكذا.

أضف إلى ذلك : من الذي قال : إن الجميع قد بايع أبا بكر؟ ارجع لكتب التاريخ ستجد أن أوَّل المعترضين كان علياً عليه‌السلام ، ومعه مجموعة من الصحابة.

قلت : لو كان الأمر كما تدّعون لنصر الله عليّاً وخذل أبا بكر ، وهذا دليل على أن الله اختار للأمّة أبا بكر.

قال : بقولك هذا تلغي فلسفة الابتلاء التي يمتحن الله بها العباد ، إن الله يبيِّن

٤٢٦

الطريق للناس فقط ، ثمَّ يدعهم ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، والله لا يجبر الناس ، وإلاَّ نكون من الذين يقولون بالجبر فنسقط الثواب والعقاب ، ونتيجة كلامك هذا أن أيَّ شخص يتحكَّم في رقابنا يجب أن نهتف له ، ونعتبره تأييداً من الله ، وهذا ما لا يعقل.

ورميت آخر سهم في جعبتي قائلا : إنكم تغالون في أهل البيت عليهم‌السلام ، وتقولون إنهم معصومون ، كما أنكم تبيحون زواج المتعة ، وتجمعون في الصلاة ، وتصلّون للحجر ، والأخير رأيته بعيني ، يعني لم أقرأه في كتاب فقط.

قال : أخي! هذه فروع بإمكاني أن أناقشها معك ، ولكن من المنهجيَّة أن تبحث أولا حول الأصل الذي يتبعه الفرع أوتوماتيكياً ، فأنت عندما تريد أن تدعو شخصاً غير مؤمن بالله إلى الإسلام لن تبدأ معه بكيفيَّة الوضوء والصلاة ، بل لابدَّ من إقناعه بوجود الله تعالى ، ثمَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ تفرِّع على ذلك.

فأطلب منك ـ أخي ـ أن تبحث بتجرُّد ، وسترى نور الحقيقة.

انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجِّب من هذه الثقة التي يملكها ، وفكَّرت في البحث ، ولكن ليس لكي أقتنع ، وإنما لأملك أدلّة أقوى أدحض بها حججه ، وبعد فترة قرَّرت ألا أدخل معه في نقاش حتى أكون بعيداً عن المشاكل ، وحتى لا أتأثَّر بهذه الأفكار الغريبة ، والتي أرى شخصاً عن قرب يتبنَّاها.

ثمَّ كانت البداية التي جعلتني أنطلق في البحث ... (١).

__________________

١ ـ بنور فاطمة اهتديت ، عبد المنعم حسن : ٥٥ ـ ٥٩.

٤٢٧

المناظرة السادسة والسبعون

مناظرة

الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني

مع بعض أصدقائه حول العصمة في حديث الثقلين

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : جرى حوار بيني وبين أحد الأصدقاء حول عصمة الإمام ، قال لي : أنتم مغالون تبالغون في حبِّ أهل البيت عليهم‌السلام حتى ادّعيتم أنهم معصومون ، ومفوَّضون بالتشريع ، ونحن لا نرى سوى عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : أولا : أهل السنة والجماعة لا يقولون بأن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم في كل شيء ، بل في أمر التبليغ فقط ، ولا ندري كيف يحدِّدون ويصنّفون الأمور الواردة عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيٌّ منها من الدين ، وأيٌّ من غيره ، وذلك بخلاف قول الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطلقة ، ولا فرق في ذلك بين أمور التشريع وغيرها.

أمَّا عصمة أهل البيت عليهم‌السلام فالآية واضحة في دلالتها ، يقول تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (١) الآية (٢).

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٢ ـ روى الحاكم النيسابوري ، عن أم سلمة قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ

٤٢٨

أضف إلى ذلك مجموعة الأحاديث التي نستشفُّ منها بوضوح دلائل العصمة ، وحسبك في ذلك حديث الثقلين (١) ، بعد أن ثبتت صحّته لدى جمهور المسلمين سنَّةً وشيعةً.

قال : هذا الحديث لا يدلُّ على العصمة ، فهو فقط يخبرنا بالرجوع لأهل البيت عليهم‌السلام.

قلت : بل الحديث أوضح من أن يبحث فيه عن العصمة ; إذ أن صحّة الحديث يؤكِّد عصمتهم ، وإليك البيان ، وسألته : ما قولك في القرآن؟

قال : ماذا تقصد؟!

قلت : هل يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟

قال : لا.

قلت : إن اقتران أهل البيت عليهم‌السلام بالكتاب ، والتصريح بعدم الافتراق عنه يدلُّ على عصمتهم ; إذ أن صدور أيِّ مخالفة للشريعة منهم سواء كان عمداً أم سهواً أم غفلة يعتبر افتراقاً عن القرآن ، لو قلنا بأنهم يفترقون عنه ولو للحظة فهذا تكذيب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم6 ، الذي أخبر عن الله عزَّوجلَّ بعدم وقوع الافتراق ، وتجويز الكذب على النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمِّداً مناف لعصمته حتى في مجال التبليغ ، وقد أكَّد على الحديث في أكثر من موضع.

__________________

أَهْلَ الْبَيْتِ ) قالت : فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ١٤٦.

١ ـ تقدَّم مع تخريجاته.

٤٢٩

أضف إلى ذلك أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتبر التمسُّك بهم عاصماً من الضلالة دائماً وأبداً ، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة لن التأبيديَّة ، فإذا كان هنالك مجال لضلالتهم ولو للحظة فكيف يكون التمسُّك بهم عاصماً؟!

هذا عن العصمة ، أمَّا ما قلته عن التفويض فلا أحد من الشيعة يقول به ، إنما هو قول أعداء الدين الذين حاولوا تشويه الصورة النقيَّة للتشيُّع ، وأنت إذا أردت أن تتعرَّف على معتقدات الشيعة فيجب عليك الاطّلاع عليها من كتبهم وأقوال علمائهم ، لا من كتب وأقوال المناوئين لهم ، الذين لا يتورَّعون عن الكذب والافتراء ، ومعروف عند الشيعة أن الأئمة يقولون بما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وها هو الإمام أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام يقول : علَّمني رسول الله ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب (١).

فهم لا يقولون بالتفويض ، بل أهل السنة والجماعة هم الذين فوَّضوا الصحابة في التشريع ، حتى أمضوا اجتهادات الصحابة الواضحة مقابل النصوص المؤكَّدة.

بعد هذا الحوار أخذ صاحبي يبحث له عن مخرج ، وبدأ يقفز بالحديث هنا وهناك ، ويحاول أن يجد ثغرة يصطادني بها ، وعندما لم يجد قال لي : يا أخي! أنا مفوِّض أمري إلى الله ، نحن أهل تسليم.

قلت : التسليم لا يكون إلاَّ للحقِّ ، أمَّا التفويض لله فلا يلغي إرادتك ويجمِّد عقلك ، إذا كنت تصبو إلى الحقيقة واصل بحثك عنها ، ثمَّ فوِّض الأمر إلى الله

__________________

١ ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٣٨٥ ، ينابيع المودة ، القندوزي : ١ / ٢٣١ ح ٧١ ، نظم درر السمطين ، الزرندي : ١١٣.

٤٣٠

يهديك إلى الصراط المستقيم ، أمَّا أن تكون لا تدري أعلى حقٍّ أنت أم على غيره ، ثمَّ تفوِّض الأمر ، هذا تبرير لا يقبل شرعاً ولا عقلا ... وتركته وذهبت (١).

وقال الأستاذ عبد المنعم قبل هذه المناظرة في كتابه : وحديث العترة يثبت فيما يثبت عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ; لأن الذي لا يفارق القرآن ولا يفترق عنه يعني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل القرآن تماماً ، ولو كان هنالك ثمَّة احتمال ـ ولو ضئيل جدّاً ـ بافتراق أهل البيت عليهم‌السلام عن القرآن لما أكَّد لنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلامه أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، وبهذا المعنى نفهم آية التطهير التي نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢).

ولقد أجمعت مصادر التفسير والحديث على نزول هذه الآية في خمسة : النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، كما جاء في صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل البيت عليهم‌السلام (٣).

والآية ناطقة بعصمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ممّا يؤهِّلهم دون غيرهم للقيام بدور الإمامة ، لحفظ الشريعة الإسلاميَّة ، وممارسة دور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القياديّ في الأمّة ، والذي لا يتأتَّى إلاَّ لمعصوم مصطفى من السماء ، وهذا ما لخَّصته آية التطهير ، والتي صدِّرت بأداة الحصر ( إنَّما ) وهي من أقوى أدوات الحصر ، وفيها

__________________

١ ـ بنور فاطمة عليها‌السلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : ١٤٢ ـ ١٤٤.

٢ ـ سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

٣ ـ راجع : صحيح مسلم : ٧ / ١٣٠ ، سنن الترمذي : ٥٠ / ٣١ ح ٣٢٥٩ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٣١ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٢ / ١٤٩ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : ٧ / ٥٠١ ، ح ٣٩ ـ ٤١ ، صحيح ابن حبان : ١٥ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣ ، المستدرك ، الحاكم : ٣ / ١٣٣ و ١٤٧ و ١٤٨ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ٣ / ٥٤ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٧ / ٩١.

٤٣١

إذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم‌السلام ، والرجس يعني مطلق الذنوب والآثام والأدناس ، والقيام بالتطهير بإرادة الله تعالى .. كل ذلك مؤدّاه عصمة أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن أوضح الواضحات التي لا تقبل الجدل عندنا في السودان أن أصحاب الكساء ـ أو أصحاب العباء ـ هم الخمسة الذين نزلت فيهم آية التطهير كما تواتر في الأحاديث (١).

__________________

١ ـ بنور فاطمة عليها‌السلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : ١٤١ ـ ١٤٢.

٤٣٢

المناظرة السابعة والسبعون

مناظرة

الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة

في التوحيد والتوسُّل وصفات الله تعالى

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني في حواره مع البعض ، وسبب تأليفه كتابه القيِّم ( بنور فاطمة عليها‌السلام اهتديت ) تحت عنوان ( لماذا هذا الكتاب ) : ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد أصدقائي لزيارته ، فأخذنا الحديث إلى حيث الشيعة والتشيُّع ، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع ... وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شابٌّ في مقتبل العمر ... ألقى علينا تحيَّة الإسلام ، ثمَّ جلس وبدأ يستمع ، ونحن نواصل الحوار ، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة ، ثمَّ تدخَّل في النقاش بقوله : يبدو أن بعض الفرق الضالّة أثَّرت عليك يا أخي! وأخذ يتفنَّن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة على كل الطوائف الإسلاميَّة عدا الوهابيّة ، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابيٌّ ، وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلى ركبتيه من القصر ... قبل أن يتمَّ كلامه ارتفع أذان المغرب ، توقّفنا عن النقاش حتى نصلِّي ثمَّ نعود بعد الصلاة.

٤٣٣

بعد الصلاة بادرني قائلا : من أيِّ الفرق أنت؟! يبدو أنك من جماعة الشيعة؟!

قلت : تهمة لا أنكرها ، وشرف لا أدّعيه ، فما كان منه إلاَّ أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته.

قلت له ـ وقد تجمَّع بعض أقارب صديقي حولنا ـ : إذا كان لديك إشكال تفضَّل بطرحه بأدب ، ولنجعله مناظرة مصغَّرة أو حواراً ـ وهو سلاحهم الذي يهدِّدون به الآخرين اغتراراً منهم بقوَّة مقدرتهم على الاحتجاج ـ.

وافق المغرور ، فقلت له : من أين نبدأ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به ، وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين؟

فوافق أيضاً ، وبدأ الحوار والجميع يستمع ، قلت : ما تقولون في الله خالق الكون وصفاته؟

قال : نحن نقول : لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، ولا تجوز عبادة غيره.

قلت : وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك؟

قال : الجميع يقول بذلك ، ولكن تطبيقهم خلاف قولهم ; إذ أنهم في الواقع مشركون ; لأنهم يتوسَّلون بالأموات ، ويخضعون لغير الله ، ويشركون به في طلب الحاجات ، والخضوع لغير الله ، وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالى.

قلت : حسناً ، طالما الجميع يقول بأن الله واحد أحد فرد صمد ، ولا يجوز عبادة غيره بأيِّ حال من الأحوال فهذا جَيّد ، ويخرج الجميع من دائرة الشرك ، إلاَّإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أنهم يعبدون غير الله ، أو يشركون بعبادته أحداً ،

٤٣٤

حينها يكونون مشركين.

أمَّا ما يفعلونه من أفعال مثل التوسُّل وتعظيم الأولياء واحترامهم فهذا ليس من الشرك في شيء ; لأن العبادة تعني الخضوع والتذلُّل لمن نعتقد أنه إله مستقلّ في فعله لا يحتاج إلى غيره ، أمَّا مجرَّد الخضوع والتذلُّل والاحترام فلا يعتبر عبادة ، وقد أمرنا به القرآن ; كالتذلُّل للوالدين والمؤمنين ، بل إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام ، بناء على ذلك لا يكون احترام الأولياء وزيارة قبورهم والتوسُّل بهم وتعظيمهم شركاً بالله ; لأنهم لا يرون أن هؤلاء آلهة مستقلّون عن الله ، بل هم عباد أكرمهم الله بفضله ، فعطاؤهم من الله ، وليس لهم قدرة ذاتيّة مستقلّة.

قال : ولماذا لا يسألون الله مباشرة؟ هل هناك مانع وهو القائل : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (١)؟

قلت : أيضاً قال تعالى : ( وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (٢) ، ثمَّ إنك عندما تمرض لماذا تذهب إلى الدكتور؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (٣)؟ أليس من أسمائه الشافي؟

قال : هذه ضرورة في الحياة.

قلت : أيضاً تلك سنّة ، وسبب به تبتغى الحاجات ، والتفتُّ إلى الحاضرين وقلت : هل تجدون في كلامي هذا خطأ؟

فأقرُّوا بما قلت ، وزاد أحدهم ـ وكان صوفيّاً ـ : هذه الأشياء موجودة من

__________________

١ ـ سورة غافر ، الآية : ٦٠.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية : ٣٥.

٣ ـ سورة الشعراء ، الآية : ٨٠.

٤٣٥

زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسار عليها الصحابة والتابعون ، وكل المسلمين إلى أن جاء ابن تيميّة وتلميذه محمّد بن عبد الوهاب ببدعهم الجديدة هذه.

قال الوهابي : إنكم تتحدَّثون بلا علم ، والوقت ضيِّق الآن ، فلنأخذ من الموضوع شيئاً نتناقش حوله ، وفي وقت آخر أكون مستعدّاً لنتحاور أكثر من ذلك.

قلت : عندي سؤال أخير حول التوحيد : ماذا تقولون في صفات الله؟

قال : نحن لا نقول ، إنما نصفه بما وصف به نفسه في القرآن.

قلت : وبماذا وصف نفسه؟ هل قال بأنه جسم يتحرَّك؟ أو أن له يداً وساقاً وعينين؟

قال : نحن نقول بما جاء في القرآن ، لقد قال تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) ، وكثير من الآيات الأخرى التي تصف الله لنا ، فنقول : إن لله يداً بلا كيف.

قلت : إن قولك هذا يستلزم التجسيم ، والله ليس بجسم ، وهو ليس كمخلوقاته ، ثمَّ ما هو الفرق بينكم وبين مشركي مكة؟ أولئك نحتوا أصنامهم بأيديهم وعبدوها ، وأنتم نحتم أصناماً بعقولكم ، وظلَّت في أذهانكم تعبدونها ، لقد جعلتم لله يداً وساقاً وعينين ومساحة يتحرَّك فيها ( مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ) (٢) ، وبكلمة : إن الآيات التي ذكرتها مجازيّة ، وترمز لمعان أخرى.

قال : نحن لا نؤمن بالمجازات والتأويلات في القرآن؟

__________________

١ ـ سوره الفتح ، الآية : ١٠.

٢ ـ سورة نوح ، الآية : ١٣.

٤٣٦

قلت : ما رأيك فيمن يكون في الدنيا أعمى؟ هل يبعث كذلك أعمى؟

قال : لا!

قلت : كيف وقد قال تعالى : ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) (١) ، وأنتم تقولون : لا مجاز في القرآن ، ثمَّ إنه بناء على كلامك إن يد الله ستهلك ، وساقه ، وكل شيء مما زعمتموه ـ والعياذ بالله ـ عدا وجهه ، ألم يقل البارئ جلَّ وعلا : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (٢) ، و ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ ) (٣).

قال : هذه الأشياء لا ربط بينها وبين ما نقوله.

قلت : كلام الله وحدة واحدة لا تتجزَّأ ، وإذا استدللتم به على صحَّة قولكم يحقُّ لي أن أنطلق منه لتفنيد هذا القول ، وأنتم تستدلّون على مجي الله مع الملائكة صفّاً يوم القيامة ، كما فهمتم من القرآن.

قال : ذلك ما قاله الله تعالى في القرآن.

قلت : المشكلة تكمن في فهمك للقرآن ، إن في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات ، فلا تتّبع المتشابهات فتزيغ ، وإلاَّ أين كان الله حتى يأتي؟

قال : هذه أمور لا يجب أن تسأل عنها.

قلت : دعك من هذا ، ألا تقولون إن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل ليستجيب الدعاء؟

قال : نعم ، ذلك ما جاءنا عبر الصحابة والتابعين من أحاديث.

__________________

١ ـ سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.

٢ ـ سورة القصص ، الآية : ٨٨.

٣ ـ سورة الرحمن ، الآية : ٢٦.

٤٣٧

قلت : إذن أين هو الله الآن؟!

قال : فوق السماوات.

قلت : وكيف يعلم بنا ونحن في الأرض.

قال : بعلمه.

قلت : إذن الذات الإلهيَّة شيء ، وعلمه شيء آخر.

قال : لا أفهم ماذا تقصد!

قلت : إنك قلت إن الله في السماء ، وبعلمه يعلم بنا ونحن في الأرض ، إذن الله شيء ، وعلمه شيء آخر.

سكت متحيِّراً ... واصلت حديثي : أو تدري ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني الشرك الذي تصفون به الآخرين ; لأن الفصل بين الذات الإلهيَّة والعلم واحد من اثنين ، إمَّا أن العلم صفة حادثة فأصبح الله عالماً بعد أن كان جاهلا ، وإمَّا أنها صفة قديمة وهي ليست الذات كما تدّعون فيعني الشرك ; لأنكم جعلتم مع الله قديماً ، أو يأخذنا قولكم هذا إلى أن الله مركَّب ، والتركيب علامة النقص ، والله غنيٌّ كامل ، سبحانه وتعالى عمَّا يصفه الجاهلون.

عندما وصلت إلى هذا الموضع من الكلام قال أحد الحاضرين : إذا كانوا يقولون بذلك فالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم براء ، ثمَّ التفت إليَّ قائلا : ما تقول أنت حول هذا الموضوع؟ ومن أين لك بذلك؟

بيَّنت لهم أن ما أقوله هو كلام أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو كلام واضح تقبله الفطرة ، ولا يرفضه صاحب العقل السليم ، ويؤكِّد عليه القرآن ، وأتيتهم ببعض خطب الأئمَّة حول التوحيد ، منها خطبة الإمام علي عليه‌السلام ، يقول : أوَّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده

٤٣٨

الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنَّاه ومن ثنَّاه فقد جزَّأه ، ومن جزَّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدَّه ، ومن حدَّه فقد عدَّه ، ومن قال : فيم فقد ضمَّنه ، ومن قال : علام فقد أخلى منه ... (١).

ثمَّ شرحت لهم مقصود الخطبة ، قال بعض الحاضرين : والله إنه كلام بليغ سلس ومحكم.

ثمَّ اتفقت كلمتهم حول هذا الشابِّ المسكين أنه مخطئ في اعتقاده ، ويجب عليه مراجعة حساباته حتى لا يذهب إلى نار جهنم.

ثمَّ دار النقاش حول الرسالة والرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي يدّعون أنهم أولى الناس به ، وقد ثبت لي أنهم أبعد ما يكون عن نبيِّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن معرفته ، فكيف يكونون أولى الناس به؟

وبالحوار انقطعت حجّته ، وأصبح محلَّ تهكُّم الآخرين ، وقبل أن نختم الحوار سألني محاولا استفزازي : شيخنا! ما رأيكم في الصحابة الذين نعتبرهم نحن من أولياء الله الصالحين؟

فقلت له : يا شيخ! أول الدين معرفته ، وأنت لم تعرف الله فكيف تعرف أولياءه؟! وتواعدنا لمواصلة الحوار يوماً آخر.

وفي ذلك اليوم جاء بوجه آخر ، ويبدو أنه أخذ جرعة قويَّة من مشايخه ، وابتدأ هذه المرَّة بالشتم والسبِّ أمام جمع من الحاضرين ، وطالبهم بعدم

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، خطب أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام : ١ / ١٥ ـ ١٦.

٤٣٩

الجلوس معي ، ولا أبالغ إذا قلت إنه ظلَّ ما يقارب الساعتين يسبُّ ويشتم ويصرخ ، ويلوِّح بيده مهدِّداً ومتوعِّداً بقتلي جهاداً في سبيل الله ، ولا أدري من أين تعلَّم الجهاد ، وهو عمليّاً محرَّم عندهم ، خصوصاً ضدَّ الطواغيت ، ولعلّه لم يكن ملتفتاً إلى أن دم الحسين عليه‌السلام ما زال يغلي في عروق الشيعة.

مع ذلك ـ ويعلم الله ـ فإنني لم أردَّ عليه ; لأنني على بصيرة من ديني ، وتعلَّمت من سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف أنه صبر على أذى كفار قريش ، وكيف أمروا صبيانهم بملاحقته وإيذائه ، وطلبوا من الناس ألا يستمعوا إليه ، وهكذا التاريخ يعيد نفسه.

لأجل ذلك ـ عزيزي القارئ ـ أقدِّم كتابي هذا ، إنه الحق يصرخ لنصرته ، لقد رأيت في عيون الذين حضروا حواري هذا التلهُّف لمعرفة الحقيقة ، وما زلت أراها في عيون كل الأحرار ، الذين يدفعون ثمن التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق.

وعندما يشعر الإنسان قبل ذلك بلذَّة الانتصار على النفس الأمَّارة بالسوء ، ويبصر نور الحقّ شعلة برَّاقة أمام ناظريه ... يتمنَّى أن يشاركه الآخرون هذا النور ، فيبيِّن لهم طريق ذلك ... وهذا الكتاب ما هو إلاَّ إثارة لدفائن العقول ، وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة ، التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء والأجداد ، وسندان سياسة التجهيل التي مارسها العلماء في حقّ الأبرياء ، مثل هذا الشابّ الذي أجريت معه الحوار ، إن هنالك الكثير ما يزال على فطرته يريد الحقَّ ، ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسَّك بما اعتقده من باطل ، وأصبح جزء من كيانه يدافع عنه بتعصُّب ، مانعاً الحقيقة أن تتسرَّب إلى عقله.

لقد منَّ الله عليَّ بالهداية بفضله ، وأدخلني برحمته إلى حيث نور الحقّ ،

٤٤٠