مناظرات - ج ٤

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات - ج ٤

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (١).

فإذا صدر عمل حسن من إنسان فلا يدلُّ على أن ذلك الإنسان يكون حسناً إلى آخر عمره ، وأن عاقبة أمره تكون خيراً ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت عليهم‌السلام : اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.

٣ ـ ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسِّرون في تفسير قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (٢) ، قالوا : إنه تقرَّب إلى الله تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم ، وأصبح ببركة اسم الله سبحانه دعاؤه مستجاباً ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبني إسرائيل وأممٌ كثيرة في الوادي ، ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار في المخلَّدين في النيران ، ومن أحبَّ تفصيل قصّته فليراجع تفسير الفخر الرازي : ٤ / ٤٦٢ ، فإنه يروي ( قصته ) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل.

هشام آل قطيط : استأذنت بالخروج من الجلسة ، وما عدت أتحمَّل الحوار ، ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحقّ تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ، ووقفت ووصلت إلى الباب ، فركض سماحة السيِّد خلفي ، وقال : ألم أقل لك : اصبر ، اصبر يا أخي.

فقلت له : من فضلك تغيِّر محور النقاش سماحة السيِّد الجليل.

__________________

١ ـ سوره الحشر ، الآية : ١٦.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٧٥.

٥٢١

السيِّد البدري : أنا انتهيت من هذه القصص ، ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس ، ولا مناقشة في الأمثال؟ ولكن يا أخي! إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي يرتكز عليها موضوع الحوار ، وإني أشهد الله ـ يا أخي! ـ بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد ، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهداً لكلامي ، وأبيِّن المطلب والمراد والمقصود.

هشام آل قطيط : إذا كنت ـ سماحة السيد! ـ قد بيَّنت لي في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) وشرحت أن المقصود من أن الله سبحانه تعالى مع الكافر والمؤمن والمنافق فأين تذهب بهذا الدليل القاطع الذي يعدُّ منقبة وفضيلة عظيمة لسيِّدنا أبي بكر ، ألا وهو قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصدّيق ، وهذا شرف من الله ، ومقام عظيم قد كرَّمه به ، فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة؟

السيّد البدري : الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس لأبي بكر ، وبقرينة الجملة التالية في الآية : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) وقد صرَّح جميع المفسرين : أن المؤيَّد بجنود الله سبحانه هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هشام آل قطيط : ونحن نقول : إن المؤيَّد بالجنود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا شك بذلك ، ولكن أبا بكر كان مؤيَّداً مع النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصاحبته في الغار.

السيِّد البدري : إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ ، وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربيّة ، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية ، بينما الضمائر كلُّها جاءت مفردة ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول : إن الألطاف

٥٢٢

والعنايات الإلهيّة ـ كالنصرة والسكينة ـ شملت أبا بكر دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فينحصر القول بأنها شملت رسول الله دون صاحبه.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بحاجة إلى السكينة ; لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه ، ولكنَّ سيِّدنا أبا بكر كان بحاجة ماسّة إلى السكينة فأنزلها الله عليه.

السيِّد البدري : يا أخي! لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام؟ وبأيِّ دليل تقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحتاج إلى السكينة الإلهيّة؟! بينما الله سبحانه وتعالى يقول : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ) (١) وذلك في غزوة حنين ، ويقول الله تعالى في آية أخرى : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (٢) وذلك في فتح مكة المكرمة.

لاحظ ـ أيُّها الأستاذ الكريم ـ أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويذكر بعده المؤمنين ، فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهيّة لكان الله عزَّوجلَّ قد ذكره بعد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قال تعالى : فأنزل الله سكينته عليهما.

هذا وقد صرَّح كثير من كبار علمائكم بأن ضمير ( عليه ) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا إلى أبي بكر ، راجع كتاب : ( نقض العثمانيّة ) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، وهو أستاذ ابن أبي الحديد ، وقد كتب ذلك الكتاب القيِّم في ردِّ وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ.

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٢٦.

٢ ـ سوره الفتح ، الآية : ٢٦.

٥٢٣

وأزيدك أدلّة أخرى أيُّها الأستاذ المحاور ، إنا نجد في الآية الكريمة جملة تناقض قولك!

سؤال : قال تعالى في محكم كتابه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ ) (١) فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا ينهى صاحبه عن الحزن ، فالسؤال الذي أوجِّهه إليك أيُّها المحاور : هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية؟!

هشام آل قطيط : طبعاً حزن سيِّدنا أبي بكر كان طاعة لله فكيف يكون معصية؟ معاذ الله!

السيِّد البدري : ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الطاعة وقال له : لا تحزن؟ و ( لا ) هنا للنهي ، والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة ، فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه ، بل تكون في ذمِّه وقدحه! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهيَّة ; لأنهما تختصَّان بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وهم أولياء الله الذين لا يخشون أحداً إلاَّ الله سبحانه ، ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢).

ولمَّا وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من أذان صلاة المغرب ، وأجِّلت الجلسة بسبب تعب الطرفين ; لأن هناك تكملة لبحوث أخرى.

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٠.

٢ ـ سورة يونس ، الآية : ٦٢.

٥٢٤

اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعد أن ذكرت وبيَّنت ـ سماحة السيِّد! ـ موضوع آية : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وآية الغار ، لديَّ أدلّة جديدة ، ونصوص صريحة ، أثبت من خلالها أحقّيّة سيِّدنا أبي بكر بالخلافة من بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي :

أولا : مروا أبا بكر فليصلِّ بالمسلمين ( حديث رواه البخاري ) (١).

ثانياً : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ( حديث رواه البخاري ) (٢).

ثالثاً : عن عائشة قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اليوم الذي بدأ فيه فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى الله والمسلمون إلاَّ أبا بكر (٣).

حوار في النصوص المدعاة على أحقّيّة الخليفة أبي بكر بالخلافة

السيِّد البدري : أقول : لو سلَّمت لك جدلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه الذي توفِّي فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ماذا تقول لو قال قائل ممن لا يقول بقولك : ألم يقل جمهور الصحابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : هجر رسول

__________________

١ ـ سوف يأتي قريباً مع مصادره.

٢ ـ سوف يأتي قريباً أيضاً مع مصادره.

٣ ـ راجع مسند أحمد بن حنبل : ٦ / ١٤٤ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٨ / ١٥٣.

٥٢٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما أخرجه البخاري في صحيحه (١) عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمَّ بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، قال : اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! أراك خرجت عن موضوع الدليل والنصّ الذي طرحته.

السيّد البدري : يا أستاذ! تعلَّم الصبر والنفس الطويل في الحوار ، ولا تكن سريعاً ، مهلا! سأورد لك بعض المخالفات لأنتقل إلى تحليل هذا النصّ الذي أنت تحتجُّ به وتعتبره دليلا مقنعاً.

سؤال موجَّه لك : ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن النبي قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله؟ والرواية الأولى قال عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه هجر ; أي بمعنى يهذي (٢).

هشام آل قطيط : سيِّدنا عمر بن الخطاب الفاروق يقول لسيِّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه هجر؟ من أين لك هذا الحديث؟ ومن أين أتيت به أيها السيِّد؟ كلام غريب ( معاذ الله من ذلك ).

السيِّد البدري : لا تغضب يا أخي ، هدِّئ من روعك واصبر.

هشام آل قطيط : كيف أهدأ وأنت تتهجَّم على سيِّدنا عمر وتتّهمه هذا

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ٧ / ٩ ، ٥ / ١٣٧ ، ٢ / ١٣٢ ، ٤ / ٦٥ ـ ٦٦ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٦ ، ٥ / ٧٥ ، ١١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، بشرح النووي ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٩٥٥.

٢ ـ سرّ العالمين وكشف ما في الدارين ، أبو حامد الغزالي : ٢١.

٥٢٦

الاتّهام؟

السيِّد البدري : ما رأيك في صحيح البخاري يا أستاذ؟

هشام آل قطيط : صحيح البخاري أصدق صحيح عندنا بعد القرآن.

السيِّد البدري : راجع صحيح البخاري في أواخر ص ١١٨ الجزء الثاني في باب ( هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) وحتى أربط كل هذا الاستدلال لك يقول : عن ابن عباس قال : لمَّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده ، فقال عمر : إن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً لنا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا. قال عبيدالله : فكان ابن عباس يقول : الرزيّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١) ، وهذا مشهور برزيَّة يوم الخميس.

الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر

السيِّد البدري : أقول : إن الصحيح المتواتر بين الفريقين : السنّي والشيعيّ معاً أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخَّر الخليفة أبا بكر من تلك الصلاة ، وصرفه عن إمامة المسلمين ; لأنه خرج بعد سماعه بتقدُّم أبي بكر يتهادى بين علي والعبّاس ، مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض ، الأمر الذي لا يتحرَّك معه العاقل إلاَّ في حال

__________________

١ ـ صحيح البخاري ، الجزء الثاني ، باب ( يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) ص ١١٨.

٥٢٧

الاضطرار ، لتدارك ما يخاف بفوته حدوث أعظم فتنة ، فعزل النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر عمّا كان تولاَّه من تلك الصلاة كما نطقت به صحاحكم ، ويدلُّك على أن تقدُّمه للصلاة لم يكن بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء ، وإنما كان الأمر صادراً من ابنته السيّدة عائشة ، ولم تكن تلك الصلاة إلاَّ صلاة الصبح لا غيرها.

ويرشدك ويدلُّك على ذلك ـ يا أخي ـ ما أخرجه الحافظ الكبير الإمام مسلم في صحيحه (١).

وأنقل لك هذه الرواية عن عائشة : قالت : لمَّا ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت : يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لم يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنكن لأنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس! قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس.

ثمَّ ـ أخي الكريم ـ لماذا تحاول ربط مسألة الصلاة بمسألة الخلافة؟ لو فرضنا جدلا صحّة حديث عائشة أم المؤمنين ، وغضضنا النظر عن تلك الوجوه التي ناقشتها الآن ، ومع كل ذلك فإن الأمر بالصلاة خلفه لا يوجب للخليفة أبي بكر الإمامة العامة على المسلمين ; لعدة أسباب ، منها :

أولا : لقد اتّفق أئمّة السنة والحفّاظ عندكم على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلَّى

__________________

١ ـ صحيح مسلم ، ٢ / ٢٢ ـ ٢٣ باب ( استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ) كتاب الصلاة ، صحيح البخاري : ١ / ١٦٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ٦ / ٩٦ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٧٥ ح ٣٧٥٤.

٥٢٨

خلف عبد الرحمن بن عوف ، على ما نقله لنا ابن كثير في تأريخه (١) وهذا شيء لا يختلف فيه أحد ، فلم يوجب فضلا لعبد الرحمن بن عوف على النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يقتضي ذلك أن يكون إماماً واجب الطاعة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى غيره من أصحابه ، فكما أن صلاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف لم توجب له الإمامة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا على غيره من الناس ، فكذلك لم توجب صلاة أبي بكر بالمسلمين إمامته عليهم.

ثانياً : لا خلاف بين الفريقين : السنّي والشيعيّ في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استعمل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمُّهم في الصلاة مدّة إمارته عليهم في واقعة ذات السلاسل ، على ما نقله لنا ابن كثير في تاريخه (٢) ، فلم توجب صلاته فيهم (٣) إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم ، لا في الظاهر ، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال ، فكذلك الحال في صلاة أبي بكر فيهم ، لا توجب إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم.

ثالثاً : وهذا البخاري أصدق صحيح عندكم يحدِّثنا في صحيحه (٤) عن ابن عمر قال : لمَّا قدم المهاجرون الأوّلون العصبة ( موضع بقبا ) قبل مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً.

فكما أن إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأوّلين لم توجب له

__________________

١ ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : ٥ / ٢٢.

٢ ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : ٤ / ٢٧٣.

٣ ـ راجع في إمامة عمرو بن العاص في الخليفتين أبي بكر وعمر هذه المصادر : السيرة الحلبيّة ، الشافعي : ٣ / ١٩ ، تاريخ الخميس : ٢ / ٨٢ ، والدحلاني في ص ١١ من سيرته بهامش الجزء الثاني من السيرة الحلبية.

٤ ـ صحيح البخاري : ١ / ٨٩ ، باب ( إمامة العبد من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان ).

٥٢٩

فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسالة المحمديَّة ، فكذلك إمامة أبي بكر للصلاة بالمسلمين لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

رابعاً : عتاب بن أسيد أحقُّ بالخلافة من الخليفة أبي بكر ، لماذا؟ لأنه الذي قدَّمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بالناس حين فتح رسول الله مكة ، والرسول مقيم في مكة ، وأبو بكر معه يصلّي خلف عتاب بن أسيد ، فقدَّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بالناس في المسجد الحرام من غير علّة ، ولا ضرورة دعته إلى ذلك.

وهذا بإجماع الأمّة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بالناس الظهر والعصر ، وعتاب بن أسيد يصلّي بالناس الثلاث صلوات بإجماع الأمّة ، وبإجماع الأمّة أن المسجد الحرام أفضل من مسجد المدينة ، ومكة أفضل من المدينة ، ويلزم في النظر أن من قدَّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواطن الأفضل من غير علّة أفضل ممن قدَّمه في مسجد هو دونه في الفضل مع ضرورة العلة ، فتأمَّل يا أخي.

تجويزكم للصلاة خلف البرّ والفاجر

السيِّد البدري : ثمَّ إنكم متّفقون على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرشدكم إلى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر (١) ، فإذا كانت الصلاة تجوز عندكم خلف كل فاسق وفاجر ، والاقتداء بكل ظالم وعاص ، بإجماع علماء السنة نصّاً وفتوى وعملا ، وكانت صلاة الخليفة أبي بكر بالمسلمين دليلا على خلافة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الأمّة ، كان ذلك دليلا أيضاً على إمامة هؤلاء جميعاً ، ولكان كلُّهم خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وكأن قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ

__________________

١ ـ سنن البيهقي : ٤ / ١٩ ، الفتح الكبير : ٢ / ١٩٠.

٥٣٠

النَّارُ ) (١) باطلا لا معنى له (٢).

حوار في حديث خوخة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعدما ذكرت الأدلّة الكثيرة حول صلاة الخليفة أبي بكر وإبطالها ، فما رأي سماحتكم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخّذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر (٣)؟ أليس هذا الحديث دليلا قاطعاً على خلافة سيدنا أبي بكر (٤).

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية : ١١٣.

٢ ـ قال الشيخ المظفر عليه الرحمة في دعوى تقديم أبي بكر في الصلاة : فليس فيها أيَّة إشارة إلى تعيينه للخلافة ، فضلا عن النصّ ; لأن الإمامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلاَّ لمن له الإمامة ، ولا سيّما على مذهب أهل السنّة ، وكان ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه ، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه .. ولا أعتقد بصحّة ما يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي قدَّمه للصلاة ، وأنه صلَّى أياماً ; لأن أبا بكر كان من جيش أسامة من غير شك ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التخلُّف عنه ، وشدَّد في الإسراع بإنفاذه ، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبيِّ له للصلاة مدّة مرضه؟

نعم ، الثابت أنه صلَّى صلاة واحدة .. يوم الإثنين ، يوم وفاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبل أن يتمَّها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان الأرض من الوجع ، فصلَّى بالناس صلاتهم ، وتأخَّر أبو بكر ، فإن عائشة هي التي روت أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتقديمه لا غيرها ، وأنها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضباً : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة ، وكان خروجه بهذه الحال إلى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الإثنين ، ولو أن النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قدَّمه للصلاة إشارة إلى خلافته ، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة ، وصلَّى بالناس صلاة المضطرين جالساً؟ ولا معنى لما يقال : إنّه صلَّى أبو بكر بصلاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصلَّى الناس بصلاة أبي بكر ، فمن هو الإمام إذن؟ إن كان أبا بكر فلم يكن قد صلَّى بصلاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان النبي فلم تكن الناس قد صلَّت بصلاة أبي بكر .. السقيفة ، الشيخ محمّد رضا المظفر : ٥٤.

٣ ـ صحيح البخاري : ٤ / ٢٥٤ ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ٣ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٤٣٤ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٧٠ ح ٣٧٤٠ ، صحيح مسلم : ٧ / ١٠٩ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٦ / ٢٤٦.

٤ ـ قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ١١ / ٤٩ : إن البكرية وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه

٥٣١

السيِّد البدري : إن هذا الحديث رواية آحاد ، هذا أوَّلا.

وثانياً : إن هذا الحديث معارض بحديث أقوى منه سنداً ، وتنقله أحاديثكم ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل ، فإن كلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان ( حديث شريف ) (١) ، فكيف برسول الأمّة وإمامها ينهانا عن القول بكلمة ( لو ) ويقول لنا إنها تفتح عمل الشيطان ، وهو يبدأ بها؟! هل يعقل هذا الأمر بأن هذا الحديث يصدر من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فتأمَّل.

ثالثاً : إن هذا الحديث موضوع لدينا ، ووضع مقابل حديث المؤاخاة المشهور والمتواتر ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (٢).

رابعاً : الشطر الثاني من الحديث ( لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ) وضع مقابل الحديث المشهور والمتواتر ( سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب علي ) (٣) فوضع أصحاب الأقلام المأجورة كلمة ( خوخة ) بدل ( باب )

__________________

الأحاديث نحو ( لو كنت متخذاً خليلا ... ) فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، ونحو سد الأبواب ، فإنه كان لعلي عليه‌السلام فقلبته البكرية إلى أبي بكر.

١ ـ سنن ابن ماجة : ٥ / ٣١ ح ٧٩ ، صحيح مسلم : ٨ / ٥٦ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ١٠ / ٨٩ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٦ / ١٥٩ ح ١٠٤٧٥.

٢ ـ تقدَّمت تخريجاته.

٣ ـ فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ١٣ ـ ١٤ ، صحيح مسلم : ٧ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، سنن الترمذي : ٥ / ٣٠٢ ح ٣٨٠٨ و ٣٠٤ ح ٣٨١٣ ، المستدرك ، الحاكم : ٢ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، و ٣ / ١٠٨ ـ ١٠٩ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وص ١٣٣ أيضاً ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٩ / ٤٠ ، المصنّف ، عبد الرزاق : ٥ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦ ح ٩٧٤٥ ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة ، كما أن هذا الحديث يعدُّ من المتواترات.

٥٣٢

للتغيير والتحريف.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك خوخة مفتوحة لسيِّدنا أبي بكر ، ومعنى كلمة الخوخة أي ( الباب الصغير ).

السيِّد البدري : لو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد إكرامه لفتح له باباً كبير ، لماذا باب صغير؟ وحتى أثبت لك بالأدلّة والبراهين القاطعة بأن هذا الحديث وضع مقابل حديث ( سدُّوا كل الأبواب إلاَّ باب علي ) فتفضَّل يا أخي :

أوّلا : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسدِّ أبواب الصحابة من المسجد تنزيهاً له عن الجنب والجنابة ، ولكنَّه أبقى باب علي عليه‌السلام ، وأباح له عن الله تعالى أن يجنب في المسجد ، كما كان هذا مباحاً لهارون ، فدلَّنا على ذلك عموم المشابهة كما كان هذا مباحا لهارون عليه‌السلام.

الحديث : قال ابن عباس حبر الأمّة : وسدَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبواب المسجد غير باب عليٍّ ، فكان يدخل المسجد جنباً ، وهو طريقه ليس له طريق غيره (١).

الحديث : كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب عليٍّ ، فتكلَّم الناس في ذلك ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فإني أمرت بسدِّ هذه الأبواب إلاَّ باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإنّي والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتبعته (٢).

__________________

١ ـ المستدرك ، الحاكم : ٣ / ١٣٤ ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ١١٢ ـ ١١٣ ح ٨٤٠٩ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١٢ / ٧٨ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٩٩ ـ ١٠٢ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : ٨٧ ـ ٨٨.

٢ ـ السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ١١٨ ح ٨٤٢٣ ، فتح الباري ، ابن حجر : ٧ / ١٢ ـ ١٣ ، فيض القدير ، المناوي : ١ / ١٢٠.

٥٣٣

وأخرج الطبراني في الكبير ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام يومئذ فقال : ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ، ولا أنا تركته ، ولكن الله أخرجكم وتركه ، إنما أنا عبد مأمور ، ما أمرت به فعلت ، إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يوحى إليَّ (١).

يا عليُّ! لا يحلُّ لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك (٢).

وعن سعد بن أبي وقاص ، والبرّاء بن عازب ، وابن عباس ، وابن عمر وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قالوا كلُّهم : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد فقال : إن الله تعالى أوحى إلى نبيِّه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنت وهارون ، وإن الله أوحى إليَّ أن ابنِ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنا وأخي علي (٣)

حديث المنزلة ومنازل هارون من موسى عليه‌السلام

السيِّد البدري : وحتى أثبت لك بأن حديث الخلّة وضع مقابل حديث المنزلة ، حتى تكون على بصيرة من أمرك أيُّها الأستاذ الباحث عن الحقيقة ، فالواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك الحقائق لتنقذ نفسك من الصراع الذي تعيشه ، والتناقض والحيرة ، فهذا الإمام البخاري يحدِّثنا في صحيحه (٤) في مناقب علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذاك الإمام مسلم في صحيحه يحدِّثنا عن

__________________

١ ـ المعجم الكبير ، الطبراني : ١٢ / ١١٤ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ١١٥ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ٦٠٠ ح ٣٢٨٨٧.

٢ ـ سنن الترمذي : ٥ / ٣٠٣ ح ٣٨١١ ، السنن الكبرى ، البيهقي : ٧ / ٦٦ ، فتح الملك العلي ، المغربي : ٤٦ ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ١٤٠ ، تهذيب الكمال ، المزي : ٢٦ / ٢٥٢ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ١٣ / ٢٧٢ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : ٧٧.

٣ ـ المناقب ، ابن المغازلي : ٢٥٢ ح ٣٠١ ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ١ / ٢٥٨ ح ٦.

٤ ـ صحيح البخاري : ٤ / ٢٠٨ و ٥ / ١٢٩ ، التأريخ الكبير ، البخاري : ١ / ١١٥ ، رقم : ٣٣٣.

٥٣٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي عليه‌السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (١).

وفي القرآن العربي المبين يقول الله تعالى في سورة طه : آية ٢٥ وما بعدها ، حكاية عن كليمه موسى عليه‌السلام : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) إلى قوله تعالى : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) وأنت تعلم ـ يا أخي المحاور ـ أن منازل هارون عليه‌السلام من موسى عليه‌السلام كثيرة ومتعدِّدة ، وسأورد لك بعض المقارنات بين هارون ومنزلته من موسى لتعلم أن علياً هو الخليفة الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الأوَّل : إن هارون عليه‌السلام كان وزيراً لموسى عليه‌السلام ، فكذلك علي عليه‌السلام وزير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : إن هارون عليه‌السلام كان شريكاً لموسى عليه‌السلام في أمره ، فكذلك علي عليه‌السلام شريك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمره على الخلافة والإمامة ، إلاّ النبوَّة ، والمستثناة من عموم المنازل في الحديث الشريف.

الثالث : إن هارون عليه‌السلام كان ثاني موسى عليه‌السلام في قومه ، فكذلك علي عليه‌السلام ثاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمته.

الرابع : إن هارون عليه‌السلام كان أخاً لموسى عليه‌السلام ، فكذلك علي عليه‌السلام كان أخاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدليل حديث المؤاخاة المتواتر نقله في كتب السنة والشيعة ، وعدم استثناء النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديثه إلاَّ النبوة ، وقد أخرج ذلك أحد علمائكم ـ

__________________

١ ـ صحيح مسلم : ٧ / ١٢٠ ـ ١٢١.

٥٣٥

أحمد بن حنبل في مسنده ـ عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس في حديث : بضع عشرة فضيلة كانت لعلي عليه‌السلام لم تكن لغيره من الصحابة (١).

الخامس : إن هارون عليه‌السلام كان أفضل قوم موسى عليه‌السلام عند الله تعالى وعند نبيِّه موسى عليه‌السلام ، فكذلك علي عليه‌السلام أفضل أمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الله تعالى وعند رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

السادس : إن هارون عليه‌السلام كان هو القائم مقام موسى عليه‌السلام في غيبته مطلقاً ، فكذلك علي عليه‌السلام هو الذىِّ يقوم مقام النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غيبته مطلقاً ، وقد جاء التنصيص عليه جليّاً واضحاً ، لا يرتاب فيه اثنان من أهل الإيمان ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ينبغي أن أذهب إلاَّ وأنت خليفتي (٢).

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٣١ ، السنن الكبرى ، النسائي : ٥ / ١١٣ ، خصائص أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، النسائي : ٦٢ ، وقال محقِّق الكتاب في الهامش : في نسخة : فضائل ليست لأحد غيره ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ٩٩ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٧ / ٣٧٤ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٨٧.

وروى الموفق الخوارزمي بالإسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه بإسناده عن ابن عباس : وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره ( المناقب ، الموفق الخوارزمي : ١٢٥ ح ١٤٠ ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ٣ / ١٣٢ ).

وفي رواية النعمان المغربي : عن عمرو بن ميمون ، عبدالله بن عبّاس : وقعوا في رجل قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر خلال ، كل خلّة منها خير من الدنيا وما فيها ، وقعوا في علي أميرالمؤمنين.

( شرح الأخبار ، القاضي النعمان المغربي : ٢ / ٢٠٩ ح ٥٤١ ).

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٣١ ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم : ٥٥١ ، خصائص أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، النسائي : ٦٤ ، المعجم الكبير ، الطبراني : ١٢ / ٧٨ ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : ١٢٧ ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ٤٢ / ١٠٢ ، الإصابة ، ابن حجر : ٤ / ٤٦٧ ، البداية والنهاية ، ابن كثير : ٧ / ٣٧٤ ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : ٨٧ ، كنز العمال ، المتقى الهندي : ١١ / ٦٠٦ ح ٣٢٩٣١ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ٩ / ١٢٠ ، ينابيع المودة ، القندوزي : ١ / ١١٢.

٥٣٦

السابع : إن هارون عليه‌السلام كان أعلم قوم موسى عليه‌السلام فكذلك علي عليه‌السلام أعلم أمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد صرَّح النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال : أعلم أمّتي من بعدي علي بن أبي طالب (١).

الثامن : إن هارون عليه‌السلام كان واجب الطاعة على يوشع بن نون وصيِّ موسى عليه‌السلام وغيره من أمّته ، فكذلك علي عليه‌السلام واجب الطاعة على الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من أمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

التاسع : إن هارون عليه‌السلام كان أحبَّ الناس إلى الله تعالى وإلى كليمه موسى عليه‌السلام ، فكذلك عليٌّ أحبُّ الناس إلى الله تعالى وإلى رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

العاشر : إن الله تعالى قد شدَّ أزر نبيِّه موسى عليه‌السلام بأخيه هارون عليه‌السلام ، فكذلك شدَّ أزر نبيِّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخيه علي عليه‌السلام.

الحادي عشر : إن هارون عليه‌السلام كان معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان ، فكذلك علي عليه‌السلام يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! هل لديك أدلّة أخرى في عليٍّ كرَّم الله وجهه ، وفي إثبات أحقّيّته بالخلافه؟ زدني من فضلك.

السيِّد البدري : وما أزيدك؟ ما هذا الذي ذكرته إلاَّ غيض من فيض من

__________________

١ ـ روى الموفق الخوارزمي بالإسناد عن سلمان ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

راجع : المناقب ، الموفق الخوارزمي : ٨٢ ، فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : ٧٠ عن مسند الفردوس ، ينابيع المودة ، القندوزي : ٢ / ٧٠ ح ٦ و ٢٣٩ ح ٦٦٩ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ١١ / ٦١٤ ح ٣٢٩٧٧.

٥٣٧

فضائل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، إذا قلت لك إن عليّاً جامع لفضائل الأنبياء هل تقنع؟

هشام آل قطيط : إذا كان هناك أدلّة وبراهين تقنعني لماذا لا أقنع؟ الإمام علي عليه‌السلام جامع فضائل الأنبياء.

السيِّد البدري : وقد شهد بذلك سيِّد الرسل ، وخاتم النبيين محمّد ، الصادق الأمين عليه‌السلام ، كما جاء في مناقب الخوارزمي : ص ٤٩ ـ ٢٤٥ والرياض النضرة : ٢ ـ ٢١٧ ، وذخائر العقبى : ٩٣ ، وغيرها أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض الاختلافات اللفظيّة : ( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب ).

ونقل لنا ابن الصبّاغ المالكي في كتابه ( الفصول المهمة ) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في عزمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

وفي الرياض النضرة : ٢ ـ ٢٠٢ قال : أخرج الملا عمر بن خضر في سيرته : قيل : يا رسول الله! وكيف يستطيع علي عليه‌السلام أن يحمل لواء الحمد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وكيف لا يستطيع ذلك وقد أعطي خصالا شتّى ; صبراً كصبري ، وحسناً كحسن يوسف ، وقوّة كقوّة جبريل عليه‌السلام؟!

وروى السيِّد مير علي الهمداني في كتابه ( مودّة القربى ) المودة الثامنة ، قال : عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته ، وإلى ميكائيل في رتبته ، وإلى جبرائيل في جلالته ، وإلى آدم في علمه ، وإلى نوح في خشيته ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى

٥٣٨

يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في عبادته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمّد في حسبه وخلقه ، فلينظر إلى عليٍّ ، فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمعها الله فيه ، ولم يجمعها في أحد غيره (١).

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيد! أنت هنا وصلت بي إلى مقايسة عليٍّ ـ كرَّم الله وجهه ـ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذا مشكل منكم؟

السيِّد البدري : اسمع ـ يا أخي ـ لأروي لك ما نقله بعض من المؤرِّخين ، إذا الأدلّة لم تقنع فناقشني وحاورني.

مقايسة علي عليه‌السلام بالأنبياء عليهم‌السلام

لقد حدَّثنا المؤرِّخون والمحدِّثون أنه عليه‌السلام في آخر يوم من حياته الكريمة ، حينما كان على فراش الموت والشهادة حضر عنده جماعة من أصحابه لعيادته ، وكان ممَّن حضر صعصعة بن صوحان ، وهو من كبار الشيعة في الكوفة ، وكان خطيباً بارعاً ، ومتكلِّماً لامعاً ، وهو من الرواة الثقات حتى عند أصحاب الصحاح الستة عندكم وأصحاب المسانيد ، فإنّهم يروون عنه ما ينقله عن الإمام علي عليه‌السلام ، وقد ترجم له كثير من أعلامكم مثل : ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن قتيبة في المعارف ، وغيرهم ، فكتبوا أنه كان عالماً صادقاً ، وملتزماً بالدين ، ومن خاصة أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، في ذلك اليوم سأل صعصعة الإمام عليّاً عليه‌السلام قائلا : يا أميرالمؤمنين!

__________________

١ ـ ينابيع المودة ، القندوزي : ٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ح ٨٧٤.

٥٣٩

أخبرني أنت أفضل أم آدم عليه‌السلام؟

فقال الإمام عليه‌السلام : يا صعصعة! تزكية المرء نفسه قبيح ، ولو لا قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (١) ما أجبت ، يا صعصعة! أنا أفضل من آدم ; لأن الله تعالى أباح لآدم كلَّ الطيِّبات المتوفِّرة في الجنة ، ونهاه عن أكل الحنطة فحسب ، ولكنَّه عصى ربَّه وأكل منها! وأنا لم يمنعني ربّي من الطيِّبات ، وما نهاني عن أكل الحنطة ، فأعرضت عنها رغبة وطوعاً.

فقال صعصعة : أنت أفضل أم نوح؟

فقال عليه‌السلام : أنا أفضل من نوح ; لأنه تحمَّل ما تحمَّل من قومه ، ولمَّا رأى منهم العناد دعا عليهم ، وما صبر على أذاهم ، فقال : ( رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (٢) ، ولكنّي بعد حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمَّلت أذى قومي وعنادهم ، فظلموني كثيراً ، فصبرت وما دعوت عليهم (٣).

فقال صعصعة : أنت أفضل أم إبراهيم؟

فقال عليه‌السلام : أنا أفضل ، لأن إبراهيم قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٤) ، ولكنّي قلت وأقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.

قال صعصعة : أنت أفضل أم موسى؟

قال عليه‌السلام : أنا أفضل من موسى ; لأن الله تعالى لمَّا أمره أن يذهب إلى فرعون

__________________

١ ـ سورة الضحى ، الآية : ١١.

٢ ـ سورة نوح ، الآية : ٢٦.

٣ ـ راجع : نهج البلاغة ـ الخطبة الشقشقية حيث يصف عليه‌السلام فيها جانباً من الوضع الذي قاساه فصبر.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية : ٢٦٠.

٥٤٠