الشيخ عبد الله الحسن
المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٤
مباشرة لنبدأ بالحوار ، فودَّعت سماحة السيِّد ، وشكرته على رحابة صدره وتواضعه ، والقبول بكل ما أسأل ، يا إلهي! ما أعظم هذا الرجل!!
اللقاء الثالث : ( بداية البحث الفعلي والحوار )
حضرت بعد صلاة المغرب مباشرة وأنا أحضر أسئلتي للحوار الذي لا يرحم ، حيث فيه تقرير المصير والوصول إلى النهاية بعد بحث ونظر.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد البدري! إذا كنتم أهل الشيعة تعتقدون بأن علياً عليهالسلام هو الإمام بعد النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والخليفة دون غيره ، وأنَّه أحقُّ بها وأهلها ، فما الوجه في تقدُّم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ، وادّعائهم الإمامة دونه ، وإظهارهم أنهم أحقُّ بها منه؟
السيِّد البدري : إني عندما بدأت بالبحث كان أوَّل سؤال يخطر في ذهني هو هذا التساؤل ، ويسأله كل سنّيٍّ ، والإجابة عليه يا بني : إن ذلك ليس مما أعتقده أنا وأريد إقناعك به ، وإنما أراده الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجماعة المؤمنين أجمعين ، بحكم ما جاء من أدلّة ونصوص تثبت خلافة علي عليهالسلام في الأحاديث الصحيحة والمتواترة عند جميع المسلمين ، والآيات الكريمة المتّفق عليها من الفريقين السنّيِّ والشيعيِّ ، فمن الأدلّة القرآنيّة التي تثبت أحقّيّة علي عليهالسلام بالخلافة :
أولا : ( آية التبليغ ) وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).
__________________
١ ـ سورة المائدة ، الآية : ٦٧.
يأمر الله تعالى نبيَّه محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في واقعة غدير خم في تبليغ هذه الآية الكريمة ، وقد أجمع المفسِّرون من السنّة والشيعة على أنها نزلت في غدير خم ، في شأن علي عليهالسلام ، في تحقيق أمر الخلافة والإمامة ، وأنها نصٌّ من الله سبحانه وتعالى.
هشام آل قطيط : سماحة العلامة البدري! بعد ذكرك لهذه الأدلّة القيِّمة التي أثبتَّ من خلالها أحقّيّة علي عليهالسلام بالخلافة ، لكن لم أسمع الجواب على سؤالي بالتحديد ، وخاصّة أن الأكثريّة أجمعوا على خلافة أبي بكر.
السيِّد البدري : أنا ذكرت لك هذا الدليل من القرآن لكي تأخذه بالاعتبار ; لأن مصدرنا التشريعي الأوَّل هو القرآن ، والثاني هو السنة النبويّة ، والآن أعطيك الجواب ، وأبيِّن لك على أن رأي الأكثريَّة ليس بحجَّة ، ولو أنك ـ يا بني ـ وقفت قليلا على ما سجَّله التاريخ الصحيح لعلمت أن عليّاً عليهالسلام لم يقرَّهم على ذلك ، أو أنه رضي بذلك إلاَّ أن رضا أكثرهم لا يكون دليلا علميّاً على صوابهم وأن الحق في جانبهم ، كما صرَّحت بذلك الكثير من آيات الكتاب العزيز.
فعل الأكثرين لا يكون دليلا على الصواب ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (١) ، وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (٣) ، وقال تعالى : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (٤) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ
__________________
١ ـ سورة ص ، الآية : ٢٤.
٢ ـ سورة سبأ ، الآية : ١٧.
٣ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٠٢.
٤ ـ سورة الفرقان ، الآية : ٥٠.
لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (١) ، وقال تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، وقال تعالى : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (٣).
وكل هذه الآيات تدلُّ على أن الحقَّ لا يكون دائماً بجانب الكثرة ، وإنما يكون غالباً بجانب القلّة ، ولو أنك تدبَّرت ـ يا أخي ـ لوجدت على مرّ التاريخ أن الأغلبيّة عصاة ، والمخلص المطيع منهم قليل ، والأكثر منهم جهَّال ، والعلماء منهم قليلون ، وأهل المروءة والشجاعة فيهم أقلّ ، وأهل الفضائل والمناقب أفراد ، وأن المدار في معرفة الحقّ والوقوف عليه يعتمد على الدليل والبرهان.
أميرالمؤمنين علي عليهالسلام له أسوة بسبعة من الأنبياء ، وأمَّا ترك علي عليهالسلام جهاد المتقدِّمين بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله عليهالسلام فيما تضافر عنه نقله ، وحكاه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، وغيره من مؤرِّخيكم ، حيث يقول : لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله تعالى على أولياء الأمر ، أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم ، أو سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها .. (٤).
وأنت ترى ـ يا أخي ـ أن قول علي عليهالسلام هذا صريح كل الصراحة في أنه عليهالسلام إنما ترك جهاد وقتال الخلفاء الثلاثة لعدم وجود الناصر ، وجاهد الناكثين أيام
__________________
١ ـ سورة يونس ، الآية ٦٢.
٢ ـ سورة النحل ، الآية : ٨٣.
٣ ـ سورة الأنبياء ، الآية : ٢٤.
٤ ـ نهج البلاغة ، خطب أميرالمؤمنين عليهالسلام : ١ / ٣٦ ـ ٣٧ ، خطبة رقم : ٣ ، علل الشرائع ، الصدوق : ١ / ١٥١ ح ١٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ٢٠٢.
حرب الجمل ، والقاسطين أيام معاوية ، والمارقين ( أي الخوارج ) لوجود الأنصار معه ، ولأنه في قتاله المتقدِّمين عليه ذهاب الدين بأصوله وفروعه ; لأن الناس جديدو عهد بالإسلام كما لا يخفى عليك ، وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث.
ولقد قال علي عليهالسلام في جواب من قال : لم لم ينازع علي الخلفاء الثلاثة كما نازع طلحة والزبير ومعاوية؟ إليك قوله عليهالسلام : إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة :
الأوَّل : نوح عليهالسلام ، قال الله تعالى مخبراً عنه في سورة القمر : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (١) ، فإن قلت لي : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي كذلك فعلي عليهالسلام أعذر.
الثاني : إبراهيم الخليل عليهالسلام ، حيث حكى الله تعالى عنه قوله في سورة مريم : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (٢) ، فإن قلت لي : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت لي : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ عليهالسلام أعذر.
الثالث : ابن خالة إبراهيم ، نبي الله تعالى لوط عليهالسلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى في سورة هود عليهالسلام : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (٣) ، فإن قلت لي : كان له بهم قوَّة فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ عليهالسلام أعذر.
الرابع : نبي الله يوسف عليهالسلام ، فقد أخبرنا الله تعالى عنه في قوله في سورة
__________________
١ ـ سوره القمر ، الآية : ١٠.
٢ ـ سورة مريم ، الآية : ٤٨.
٣ ـ سورة هود ، الآية : ٨١.
يوسف : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (١) ، فإن قلت لي : إنه دعي إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنه دعي إلى ما يسخط الله فاختار السجن فعلي عليهالسلام أعذر.
الخامس : نبي الله هارون بن عمران عليهالسلام ، إذ يقول على ما أخبرنا الله تعالى عنه في قوله : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (٢) فإن قلت لي : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنهم استضعفوه ، وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.
السادس : كليم الله موسى بن عمران عليهالسلام ، إذ يقول على ما ذكره الله تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٣) ، فإن قلت لي : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : فرَّ منهم خوفاً فعلي عليهالسلام أعذر.
السابع : سيدنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت لي : إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنهم أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي عليهالسلام أعذر (٤).
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! من المعلوم لدى جميع الطوائف الإسلاميَّة وغير الإسلاميّة أن علياً عليهالسلام أشجع الناس ، وتدّعون أنتم الشيعة أن
__________________
١ ـ سورة يوسف ، الآية : ٢٢.
٢ ـ سورة الأعراف ، الآية : ١٥٠.
٣ ـ سورة الشعراء ، الآية : ٢١.
٤ ـ هذا الاحتجاج الذي ساقه السيِّد البدري مأخوذ من احتجاج علي بن ميثم في مناظرته مع بعضهم ، وهي المناظرة السابعة والثلاثون ، وقد تقدَّمت في الجزء الثالث ص ١٩١.
عليّاً معصوم ليّاً معصوم ، فلو لم تكن خلافة أبي بكر حقّة لنازعه في ذلك ، وترك المنازعة ـ سماحة السيد ـ مخلٌّ بالعصمة ، وأنتم الشيعة توجبونها في الإمام ، وتعتبرونها شرطاً في الصحّة.
السيِّد البدري : أولا : إن ترك علي عليهالسلام منازعة أبي بكر بالحرب والقتال لا يكون مخّلا بعصمته ولا بأشجعيّته ، ولا يدلُّ على صحَّة ما قام به أقوامهم ، وبطلانه واضح لا يشكُّ فيه من له عقل أو شيء من الدين.
ثانياً : كان في توقُّف الإمام علي عليهالسلام عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة ، وفوائد جليلة ، حصرت المدارك والأفهام عن الوصول إليها ، منها : أنه لو قاتلهم لتولَّد الشك من النائين عن المدينة وغيرها من البلدان الإسلاميّة بنبَّوة النبِّي محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك لعلمهم بأن القتل والقتال لا يقع إلاَّ على طلب الملك والزعامة الدنيويّة ، لا على النبوَّة والإمامة والخلافة ، فيوجب ذلك وقوع الشك في صحّة نبوَّة سيِّدنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا سيّما وهم جديدو عهد بالإسلام ، خاصّة إذا لاحظت وجود من يتربَّص الدوائر بالإسلام من المنافقين ، ويريد الوقيعة فيه ، فهل تجد حينئذ فساداً أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين ، وتلبيسهم ذلك الأمر على البله المغفلين؟!
ومنها : أن ترك قتالهم يومئذ كان سبباً لأن يكثر فيهم التشيُّع ، وفي التابعين إلى يومنا هذا.
والدليل على ذلك يا أخي ، انظر إلى ( ميزان الذهبي ) عند ترجمته لأبان بن تغلب من جزئه الأول ، فإنكم ترونه يقول : فهذا كثير ـ يعني التشيُّع ـ في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة من
الآثار النبوّيّة ; وهذه مفسدة بيِّنة (١).
هشام آل قطيط مقاطعاً السيّد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (٢) أين نذهب بمفاد هذه الآية؟
السيِّد البدري : على كيفك ـ ( رويداً ) ـ على كيفك يا أخي ، أنتهي من إثبات الأدلّة ، وأبيِّن لك توجيه ومفاد الآية الكريمة.
ومنها : ذهاب السنن الدالّة على إمامة الإمام علي عليهالسلام ، إن هو قاتلهم وقتلهم يختفي الحقّ ملتبساً ، لا يعرف أين هو ، ولذلك ترونه قد رضي عليهالسلام بالهدنة عندما رفع أهل الشام المصاحف في صفّين ، فانخدع بذلك جمٌّ غفير من أهل العراق ، فكان عليهالسلام بإمكانه أن يقلب الصفَّ على الصفِّ ، لكنَّه عليهالسلام آثر ذلك لأنه أهون الضررين ; لعلمه عليهالسلام برجوع الكثير منهم إلى الحقِّ بعد خروجهم عليه ، فمثل هذه النتائج القيِّمة والغايات الحسنة أوجب ترك قتالهم وأوجب مهادنتهم.
ومنها : أن ترك علي عليهالسلام قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدُّمهم عليه ، ولا يقتضي سقوط حقِّه في الخلافة بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإلاَّ لزم أن يكون النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بتركه قتال المشركين عام الحديبية ، ومحو اسمه من النبوّة معزولا عن النبوَّة ، وراضياً بما ارتكبه المشركون ، وكان يومئذ أربعمائة وألف رجل ـ على ما أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة الحديبية ـ على قتالهم ، فإذا صحَّ لديكم هذا ، وقلتم بسقوط حقِّ النبوَّة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صحَّ لكم ذاك ، وهذا معلوم البطلان ، وذاك منه باطل ، نعم إنما قبل صلىاللهعليهوآلهوسلم ورضي به صلىاللهعليهوآلهوسلم لحكم وغايات
__________________
١ ـ ميزان الاعتدال ، الذهبي : ١ / ٥ ، رقم : ٢ ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ١ / ٥٩.
٢ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.
جليلة ، غابت عن ذهن الكثيرين ، ولم يهتدوا لها.
ومنها : كراهته صلىاللهعليهوآلهوسلم للقتل والقتال وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا ، وليس في محو لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها ; لثبوتها بآياتها البيّنات ومعجزاتها النيِّرات.
مقارنات بين محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين ما اتّبعه علي عليهالسلام
علم سيِّدنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.
محافظته على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم ; لعلمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه سيدخل مكة المكرمة مع أصحابه في العام القادم من غير سلاح وقتال.
إنه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسَّر له فتحها بتلك السهولة ، بل تنكَّر منه القوم ، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفاً من صولته صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهم بغتة وهم لا يشعرون.
إنه صلىاللهعليهوآلهوسلم سنَّ بذلك دستوراً جميلا ، ومنهاجاً عالياً لمن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ، ويقول القرآن في سورة الأنفال : ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (١) ، لذا ترون عليّاً عليهالسلام ترك قتلهم وقتالهم مقتدياً بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومتّبعاً له في شرعه ومنهاجه ، فلم يقاتل دافعيه عن حقِّه لمقاصد سامية ، أعظمها ـ كما ذكرت ـ حفظ الدين بأصوله وفروعه وقوانينه
__________________
١ ـ سورة الأنفال ، الآية : ٦١.
وآثاره ، الأمر الذي كان يدعوه كثيراً إلى أن يقدِّم نفسه الزكيَّة قرباناً في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره ، فضلا عن حقّه وتراثه.
وجملة القول : كانت رعايته عليهالسلام لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقّه ، وكان ضياع حقِّه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله ، وما فعله عليهالسلام هو الواجب عقلا وشرعاً ; إذ أن مراعاة الأهمّ ـ وهو احتفاظه بالأمّة ، وحياطته على الملّة ـ وتقديمه على المهمّ ـ وهو احتفاظه بحقّه ـ عند التعارض من الواجب الضروريِّ في الدين الإسلاميِّ ، وميله للسلم والموادعة كان هو الأفضل في الصواب.
هشام آل قطيط : سماحة السيد! أدلّتك مقنعة وقويّة ، ولكن أين نذهب بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (١).
السيِّد البدري : لماذا أنت متمسِّك بهذه الآية؟ اتركني أنتهي من الأدلّة وأردُّ عليك إن شاء الله تعالى ، اصبر ، اصبر يا أخي .. ألم تسمع بكتاب نهج البلاغة للإمام علي عليهالسلام ، إذ قال في خطبته المشهورة بالشقشقيّة :
أما والله لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى مضى الأوَّل لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن
__________________
١ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.
الخطاب بعده ... (١).
ونقل ابن أبي الحديد أيضاً في شرح نهج البلاغة في ٣٠٨ تحت عنوان ( خطبته عند مسيره للبصرة ) قال : روى الكلبي أنّه لمَّا أراد عليٌّ عليهالسلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد الله وصلَّى على رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إن الله لمَّا قبض نبيَّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلُّ خلف (٢).
ولعليٍّ عليهالسلام في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر ، بعثه مع مالك الأشتر رحمهالله ، جاء فيه : أمَّا بعد ، فإن الله سبحانه بعث محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمَّا مضى صلىاللهعليهوآلهوسلم تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أهل بيته ، ولا أنه نحوَّه عنّي من بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فما راعني إلاَّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي
__________________
١ ـ نهج البلاغة ; خطب أميرالمؤمنين عليهالسلام : ١ / ٣٠ ـ ٣٢ ، رقم : ٣ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ١٥١ ، الإرشاد ، المفيد : ١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، الأمالي ، الطوسي : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ح ٥٤ ، علل الشرائع ، الصدوق : ١٥٠ ـ ١٥١ ح ١٢ ، معاني الأخبار ، الصدوق : ٣٦٠ ـ ٣٦١ ح ١ ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : ٢ / ٤٨.
٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ٣٠٨ ، بحار الأنوار ، المجلسي : ٣٢ / ٦٢.
متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، وكما ينسطع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه (١).
ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة تحت عنوان ( خطبة الإمام علي عليهالسلام بعد قتل محمّد بن أبي بكر ) قال : روى إبراهيم ـ صاحب كتاب الغارات ـ عن رجاله ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه قال : خطب علي عليهالسلام بعد فتح مصر ، وقتل محمّد بن أبي بكر ، فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر ، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب وخرج بالنتيجة قائلا :
فصرفوا الولاية إلى عثمان ، وأخرجوني منها ، ثمَّ قالوا : هلمَّ فبايع وإلاَّ جاهدناك ، فبايعت مستكرهاً ، وصبرت محتسباً ، فقال قائلهم : يا بن أبي طالب! إنك على هذا الأمر لحريص ، فقلت : أنتم أحرص منّي وأبعد ، أيُّنا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي وحقّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به ، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه ، وتحولون بيني وبينه؟ فبهتوا ، والله لا يهدي القوم الظالمين (٢).
ولا أطيل عليك بعدِّ هذه الأدلّة من كلمات الإمام عليهالسلام وخطبه المشهورة التي تبيِّن مظلوميَّته وسكوته عن حقّه وقعوده.
هشام آل قطيط : هل الخطبة الشقشقيّة للإمام علي عليهالسلام أم من إنشاء وأقوال الشريف الرضي الذي جمع نهج البلاغة؟ وقد ثبت في التأريخ أنه لم يكن ناقماً على خلافة الخلفاء الراشدين قبله ، بل كان راضياً منهم ، ومن آمن لهم.
__________________
١ ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي عليهالسلام : ٣ / ١١٨ ـ ١١٩ ، رقم الكتاب : ٦٢ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١٧ / ١٥١.
٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ٦ / ٩٦ ، الغارات ، الثقفي : ١ / ٣٠٨.
سماحة السيد! إعطني دليلا على أن نهج البلاغة من أقوال الإمام علي عليهالسلام وكرَّم الله وجهه ، وإلاَّ هذه الأقوال والخطب مردودة.
السيِّد البدري : الشارحون لنهج البلاغة من علمائكم يا أستاذ ، ابن أبي الحديد المعتزلي لم يكن شيعيّاً ، هذا أوّلا.
ثانياً : الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية له شرح على نهج البلاغة ، ويثبت أنه من أقوال الإمام علي عليهالسلام.
ثالثاً : الشيخ محمّد الخضري من أعلام السنة ، وله كتاب بعنوان ، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ، صفحة : ٢٧ ، وقد صرَّح أن الخطبة الشقشقيّة من بيان الإمام علي عليهالسلام ، وهناك أكثر من أربعين عالماً من الفريقين السني والشيعي قد صرَّحوا بأن الخطبة الشقشقيّة من كلام الإمام علي عليهالسلام ; لأنها على نسق خطبه الأخرى في النهج.
وقد نقل لنا ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة الشقشقيَّة عن ابن الخشاب قال : أنّى للرضيِّ ولغير الرضيِّ هذا النفس وهذا الأسلوب ، قد وقفنا على رسائل الرضيِّ وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور.
الخطبة الشقشقيّة موجودة قبل ولادة الرضي ، وقد ذكر ابن الخشاب وغيره أنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب منتشرة قبل أن يولد الشريف الرضيّ ، وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب ـ نقيب الطالبيين ، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة ، عن الشيخ عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال : في كتب صنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، أعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
ثمَّ قال ابن أبي الحديد : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة.
ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبه ـ أحد متكلِّمي الإماميّة ـ المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلاميذ الشيخ أبي القاسم البلخي رحمهالله ومات في ذلك العصر قبل أن يولد الشريف الرضي (١).
وجدتها أيضاً بخط الوزير ابن فرات ، كان قد كتبها قبل ميلاد الرضي بستين سنة.
وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقِّق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة : إنّي وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبه ، وهو متوفَّى قبل أن يولد الشريف الرضي.
اللقاء الرابع : في قضايا الخلاف وما يتعلَّق بالصحابة
كان اللقاء الرابع محدَّداً من قبل السيِّد لتكملة الحوار والمناظرة في قضايا الخلاف ، ومعرفة الحقيقة ، حيث كنت ألحُّ على السيِّد بالنقاش.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! أريد جواباً منكم لقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (٢) ، أليس الخلفاء ممن تحدَّثت الآن عنهم من الذين كانوا أشدّاء على الكفار ، وكانوا مع رسول
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.
٢ ـ سورة الفتح ، الآية : ٢٩.
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فهذا توجيه الآية الكريمة ومفادها ، فما هو جوابكم؟ وما تقولون في أن الخلفاء : أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وزعماء من كان معه ، وإذا كان كذلك فهم أحقُّ الناس بما دلَّت عليه الآية من وصف المؤمنين ، والمدح لهم والثناء عليهم ، وذلك يمنع الحكم عليهم بالانحراف والخطأ.
السيِّد البدري : أقول : أولا ـ يا أستاذ ـ إن الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة ، وأبي عبيدة عامر ابن الجرّاح ، وأبي الدرداء ، وسعد ، وسعيد ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية ، ومالك بن نويرة ، وأبي معيط ، ويزيد ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن سلول ، وغيرهم من الناس ; لأن هؤلاء كلهم كانوا مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا خصوص الخلفاء الثلاثة فقط الذين ذكرتهم يا أستاذ ; لأن الآية الكريمة جاءت على صيغة الإطلاق العمومي لكل من كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) لم تحدِّد أو تخصِّص الآية فقط الخلفاء الثلاثة.
وذلك فإن كل ما أوجب دخول الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في القرآن وثنائه ، فهو يقتضي بوجوب دخول كل من ذكرنا في الآية ; لأن هؤلاء كلهم من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكانوا جميعاً من الذين معه ، وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والنصرة للإسلام ما لم يكن شيء منه للخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، فكيف يتسنَّى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء وحدهم؟
وبماذا ياترى اختصَّ الخلفاء الثلاثة بما خرج عنه أولئك ، والجميع بمستوى واحد ، وفي ميزان واحد؟ وهل تجد لذلك ـ يا أخي ـ وجهاً إلاَّ
التخصيص بلا مخصِّص ، والترجيح بلا مرجِّح ، الباطلين عقلا؟!
فإن قلت لي : إن الآية تريد كل من كان مع النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الزمان أو المكان ، أو بظاهر الإسلام فقد صرت إلى أمر كبير ، وهو مدح الكافرين والمنافقين الذين ( معه ) صلىاللهعليهوآلهوسلم في المكان ، وكانوا يتظاهرون له صلىاللهعليهوآلهوسلم بالإسلام ، ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن.
هشام آل قطيط مقاطعاً السيد : نحن لا نريد أن ننتقص الصحابة ، ولكن أقبل الدليل من القرآن أو من السنة.
السيِّد البدري : فهاك نماذج من مخالفات الصحابة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من القرآن والسنة.
نماذج من مخالفات الصحابة للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
منها : أنهم أنكروا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صلح الحديبيّة ، وتكلَّموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (١).
منها : أنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أمِّ المؤمنين عائشه لمَّا تأخَّرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (٢) حتى نزل فيهم قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ ) (٣) (٤).
__________________
١ ـ صحيح البخاري : ٢ / ٩٧٤ ح ٢٥٨١ و ٢٥٨٢ ، باب الشروط في الجهاد.
٢ ـ صحيح البخاري : ٤ / ١٥١٧ ح ٣٩١٠ ، باب حديث الإفك.
٣ ـ سوره النور ، الآية : ١١.
٤ ـ جاء في تفسير القمي عليه الرحمة : ٢ / ٩٩ في تفسير هذه الآية الشريفة : فإن العامة رووا أنها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة.
منها : أنهم تجرَّؤوا على النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي ( المنافق ) حتى جذبوه من ردائه وهو واقف للصلاة عليه (١).
منها : أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ، ومعها من يضرب الدفّ ، ويستعمل ما حرمه الإسلام ، فتركوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قائماً على المنبر ، وانفضُّوا عنه إلى اللهو واللعب رغبة فيه ، وزهداً في استماع مواعظه ، وما يتلو عليهم من آيات القرآن الكريم ، حتى أنزل الله تعالى فيهم : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٢).
ومنها : أنهم قد تشاتموا مرَّة على عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتضاربوا بالنعال بحضرته ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (٣).
وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأخذوا السلاح واصطفّوا للقتال ـ كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (٤) ، مع علمهم بقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) على ما حكاه البخاري في صحيحه (٥) ، وعلمهم بما أوجبه الله تعالى عليهم من التأدُّب بحضرته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
__________________
١ ـ صحيح البخاري : ٥ / ٢١٨٤ ح ٥٤٦٠ ، باب لبس القميص.
٢ ـ سورة الحجر ، الآية : ١١.
٣ ـ صحيح البخاري : ٢ / ٩٥٨ ح ٤٨ ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
٤ ـ راجع : صحيح البخاري : ٢ / ١٠٧.
٥ ـ صحيح البخاري : ٢ / ٩٥٨ ح ٤٨ ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (١).
وهناك مخالفات كثيرة وقعوا فيها مما يضيق المجال لذكرها الآن.
هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! لماذا لم تذكر فضيلة الخليفة أبي بكر عندما كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الغار لتحقيق معنى الآية؟ ولماذا تنكرون ذلك أنتم الشيعة؟ ألم يكن له شرف الهجرة مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذه من أكبر الفضائل للخليفة الأول؟ ألم تنزل عليه السكينة في الآية؟ لماذا تغفل هذه الأمور ولم تناقشها؟ ألم يكن تعصُّباً ودفاعاً عن الشيعة؟
السيِّد البدري : إن ما ذكره الطبري في تأريخه : إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فجاء عند علي بن أبي طالب عليهالسلام وسأله عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة ، فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فرآه في الطريق ، فأخذه النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم معه ، فالنبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد ، لا كما تقول.
وقال بعض المحقِّقين : إن أبا بكر بعدما التقى بالنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الطريق اقتضت الحكمة النبويَّة أن يأخذه معه ولا يفارقه ; لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة ، وكان المفروض أن يكون سرّاً ، كما نوَّه به الشيخ أبو القاسم ابن الصبَّاغ ، وهو من كبار علمائكم ، قال في كتابه ( النور والبرهان ) : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر عليّاً فنام على فراشه ، وخشي من أبي بكر أن يدلَّهم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار.
__________________
١ ـ سوره الحجرات ، الآية : ٢.
السيِّد البدري : أسألك ـ يا أستاذ ـ أن تبيِّن لي محلَّ الشاهد من الآية الكريمة ، وتوضح الفضيلة التي سجَّلتها الآية لأبي بكر!
هشام آل قطيط : الآية تبدأ من قوله تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) ، محلُّ الشاهد ظاهر ، والفضيلة أظهر ، وهي :
أوّلا : صحبة النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ; فإن الله تعالى يعبِّر عن الصدّيق بصاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثانياً : جمله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ).
ثالثاً : نزول السكينة من عند الله سبحانه وتعالى على سيِّدنا أبي بكر. ومجموعها تثبت أفضليّة سيِّدنا الصدّيق وأحقّيّته بالخلافة ، وأنت صرَّحت ـ أيُّها السيِّد ـ لا أحد ينكر أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ، ومن شيوخ المسلمين ، وأنه زوَّج ابنته من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
السيِّد البدري : ولكن كل هذه الأمور لا تدلّ على أحقّيتّه بالخلافة ، وكذلك كل ما ذكرت من شواهد ودلائل من الآية الكريمة لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر ، بل لقائل أن يقول : إن صحبة الأخيار والأبرار لا تكون دليلا على البرّ والخير ، فكم من كفار كانوا في صحبة بعض المؤمنين والأنبياء وخاصة في الأسفار.
الصحبة ليست فضيلة ، فإنّا نقرأ في سورة يوسف الصدّيق عليهالسلام أنه قال : ( يَا
__________________
١ ـ سورة التوبة ، الآية : ٤٠.
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (١).
لقد اتّفق المفسِّرون أن صاحبي يوسف الصدَّيق عليهالسلام هما ساقي الملك وطبَّاخه ، وكانا كافرين ، ودخلا معه السجن ، ولبثا خمس سنين في صحبة النبيِّ يوسف الصديق عليهالسلام ، ولم يؤمنا بالله ، حتى أنهما خرجا من السجن كافرين ، فهل صحبة هذين الكافرين لنبيِّ الله يوسف عليهالسلام تعدُّ منقبة وفضيلة لهما؟!
ثانياً : ونقرأ في سورة الكهف : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (٢).
ذكر المفسِّرون أن المؤمن ـ كان اسمه : يهودا ـ قال لصاحبه ـ واسمه براطوس ـ وكان كافراً ، وقد نقل المفسِّرون منهم الفخر الرازي ـ محاورات هذين الصاحبين ، ولا مجال لنفيها.
سؤال : فهل تعدُّ صحبة براطوس ليهودا فضيلة أو شرفاً يقدِّمه على أقرانه؟! أو هل تكون دليلا على إيمان براطوس ، مع تصريح الآية : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب )؟! فالمصاحبة وحدها لا تدلُّ على فضيلة وشرف يميِّز صاحبها ويقدِّمه على الآخرين.
وأمَّا استدلالك على أفضليّة أبي بكر بالجملة المحكية عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد ; لأن الله تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب ، بل يكون مع غير المؤمنين أيضاً ; لقوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ
__________________
١ ـ سورة يوسف ، الآية : ٣٩.
٢ ـ سورة الكهف ، الآية : ٢.
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ... ) (١) ، فبحكم هذه الآية الكريمة فإن الله عزَّوجلَّ يكون مع المؤمن والكافر والمنافق.
هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! المقصود ( إن الله شاء ) أي أن الله مع الذين يعملون لطاعته وعبادته ، والألطاف والعناية ، أي تشملنا ، هذا هو المراد ، وإلاَّ في الحقيقة والواقع الله سبحانه وتعالى مع الجميع ، ويعلم ما في قلوب الجميع ، وإلاَّ هذا الاستدلال الذي أتيت به غير مقنع.
حقائق لا بد من توضيحها وكشفها
السيِّد البدري : أقول لك : لا مناقشة في الأمثال ; لأن الأمثال تضرب ولا تقاس ، أعطيك أمثلة على ذلك.
١ ـ إبليس ، فإنه عبد الله تعالى عبادة قلَّ نظيرها من الملائكة ، وقد شملته الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة ، ولكن لما تمرَّد عن أمر خالقه واتّبع هواه واغتر خاطبه الله تعالى قائلا : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (٢).
٢ ـ وبرصيصا في بني إسرائيل ، كان مجدّاً في عبادة الله سبحانه وتعالى حتى أصبح مع المقرَّبين ، وكانت دعوته مستجابة ، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة ، فترك عبادة ربِّ العالمين ، وسجد لإبليس اللعين ، وأمسى من الخاسرين ، فقال الله تعالى فيه : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلاِْنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
__________________
١ ـ سورة المجادلة ، الآية : ٧.
٢ ـ سورة الحجر ، الآية : ٢٤ ـ ٢٥.