رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[١٦]

جواب سؤال وبيان حال

انقسام العلم إلى تصوّر وتصديق

إن قيل : إنّهم قالوا : ( العلم بشي‌ء هو حصول صورته في النفس ) (١) ، فلذا قيل : إنه يرادف التصوّر بالمعنى العامّ ، فهو من مقولة الكيف عند محقّقي أهل النظر (٢) ، أو الانفعال كما هو عند جماعة (٣). فحقيقته واحدة بالنوع ، فكيف ينقسم إلى تصوّر ، وإلى تصديق ، وهما نوعان مختلفا الحقيقة ؛ لاختلاف الجواب عن السؤال عنهما بـ ( ما هو ) مع أن وجداننا يحكم بعدم الفرق بين صورة ما يسمّى تصوّراً وما يسمّى تصديقاً عند النفس العالمة أو آلتها ، فكلاهما حصول صورة في المدركة (٤) ، فما وجه التقسيم؟

قلت : اعلم أن لفظ العلم عندهم يطلق بالاشتراك على معنيين :

أحدهما : العلم الإشراقيّ ، وهو إضافة ، وحالة الشراقيّة بها تنكشف حقيقة العلوم عند العالم بدون حصول صورة منه في المدرك ، أو في آلته كعلم المجرّد بنفسه ،

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٢٥.

(٢) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ١ : ٣٢٥.

(٣) جوامع الكلم ١ : ١٥١.

(٤) المدركة : من القوى الخمس الباطنة للنفس ، وهي قسمان : مدركة الصور ، وتسمّى حسّا مشتركاً ؛ لأنها تدرك خيالات المحسوسات الظاهرة بالتأدية. ومدركة المعاني ، وتسمّى وهماً ومتوهّمة. الإشارات والتنبيهات ٢ : ٣٣٢.

٤١

وبغيره ، وكعلمنا بأنفسنا. وهذا لا ينقسم إلى تصوّر وتصديق ؛ لأنّهما حصول صورة ، ولا صورة هنا.

الثاني : العلم بما غاب ، وهو المتجدّد المتوقّف حصوله على حضور حقيقة المعلوم أو مثاله أو صورته بين يدي المدرِك ، ومنه ما يتوقّف حصوله على حضور المدرَك بين يدي آلة المدرك حتّى الحسّيّة. وجميع المنطقيّات لا يتجاوز هذا القسم كما صرّح به العلّامة الشيرازي ، وهذا القسم ينقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام متباينة الحقائق بوجه وإن آلت إلى شي‌ء واحد بوجه :

أحدها : الصورة الذهنيّة المنطبعة في النفس ، ومتعلّقُهُ ذو الصورة الذي هو حقيقة المعلوم بحسب نفس جوهر الماهيّة.

الثاني : الانكشاف المصدريّ ، ومتعلّقه المنكشف من حيث هو منكشف.

وهذان النوعان لا يمكن انقسامهما أيضاً إلى تصوّر وتصديق ؛ لاتّحاد معناهما بالنسبة لكلّ منهما وتساويهما فيهما.

الثالث : الحالة الإدراكيّة للنفس العاقلة ، ومتعلقها الصورة الذهنيّة الانطباعيّة. فالصورة المنطبعة في النفس علم بالنسبة إلى سنخ جوهر حقيقة المعلوم ، ومعلوم بالنسبة إلى العلم المتعلّق بها وهو الحالة الإدراكيّة. وهذا هو المنقسم إلى تصوّر وإلى تصديق كما صرّح به في ( القبسات ) (١) ، وذلك أن النفس إذا تصوّرت وأدركت مفهومين ونسبة بينهما حصل لها حالة إدراكيّة للمتصوّرات الثلاثة ؛ فإن بقين معها على الحالة الاولى من بحت التصوّر فهو تصوّر ، وإن عرض لها ما يجعلها محتملة للتصديق والتكذيب في إيقاع تلك النسبة أو وقوعها أو انتزاعها بحيث تكون ملحوظة من تلك الحيثيّة فهي تصديق.

قال العلّامة الشيرازيّ : ( الأثر الذي هو حصول صورة الشي‌ء في العقل سواء اقترن به حكم أم لا يسمى تصوّراً ؛ إذ الحكم باعتبار حصوله في العقل من

__________________

(١) القبسات : ٣٨٧.

٤٢

التصوّرات أيضاً. وخصوصيّة كونه حكماً وهو ما يلحق الإدراك لحوقاً يجعله محتملاً للتصديق والتكذيب يسمّى تصديقاً. فالتصوّر : هو حصول صورة الشي‌ء في العقل مع قطع النظر عن الحكم.

لست أقول : مع التجرّد عن الحكم ؛ لأنّ ذلك ينافي كونه شرطاً أو شطراً ) (١) ، انتهى.

وهذا التفصيل يدفع إشكالات كثيرة ، ولم أرَ من تعرّض له ولا لهذا السؤال ، والله العالم.

__________________

(١) رسالة التصوّر والتصديق ، ضمن ( رسالتان في التصوّر والتصديق ) : ٥٨ ـ ٥٩ ، بتفاوت.

٤٣
٤٤

[١٧]

تأويل آية وكشف رواية : موسى : والخضر عليهما‌السلام

روي أن الخضر عليه‌السلام : حمل علماً لم يُطق موسى عليه‌السلام : حمله ، وحمل موسى عليه‌السلام : علماً لم يطق الخضر عليه‌السلام : حمله (١). ويحتمل أن معناه أن كلّا كُلّف بتكليف لا يحتمله [ الآخر ولا يناسبه (٢) ].

فموسى عليه‌السلام : كُلّف بالعمل بحكم التنزيل ؛ لأنه المناسب لرعيّته ، ولم يطق الخضر عليه‌السلام : التكليف بحمل أثقال الرسالة التي شأنها العمل بالتنزيل والظاهر ، فهو بحسبها رعيّة لموسى عليه‌السلام : ومكلّف بالعمل بشريعته حتّى تنسخ.

والخضر عليه‌السلام : كلّف بإظهار العمل بالتأويل والباطن في جزئيّات مخصوصة ، ولم يكلّف موسى عليه‌السلام : بالعمل بها بنفسه ، بل بواسطة العبد الصالح ؛ مراعاة لمصلحة العموم ، وللنظام الجمليّ ، فلم يطق موسى عليه‌السلام : العمل بها بنفسه لأجل ذلك.

وهذا لا ينافي كون موسى عليه‌السلام : أفضل وأعلم من الخضر عليه‌السلام : مطلقاً ، والخضر عليه‌السلام : من رعيّته مطلقاً ، فالرسول : يُلقي الوحي للملك في مقام ويتلقّاه منه في مقام ، وهو أفضل وأعلم من الملك في كلّ مقام. فعمل الخضر عليه‌السلام : بإلقاء موسى عليه‌السلام : له في مقام ، وتلقّاه في مقام. ومن جملة إسرارها دفع دعوى الربوبيّة فيه ، والحكمة الإلهية اقتضت حصر إظهار ذلك العمل في تلك المواد الخاصّة في ذلك الطريق.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٥٦ / ٤١ ، تفسير القمّيّ ٢ : ٣٧.

(٢) في المخطوط : ( ولا يناسب الآخر ).

٤٥

أمّا قوله تعالى : ( وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ ) (١) فيمكن حمل النسيان على الترك ، أي ما حملني على ترك اصطياد الحوت بعد ما حيّ إلّا طلب ظهور علم تضمحلّ به حجّة الشيطان ، فكأنّ الشيطان حمله على ترك الحوت فنسبه إليه ؛ لأنه لا سبب لذلك في الحقيقة سواه ، والله العالم.

__________________

(١) الكهف : ٦٣.

٤٦

[١٨]

كنز مذخور وبيان مشهور اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وسلم

مسألة : هل يعود من صلاة المصلّي على محمّد وآله وسلامِه عليهم ودعائِه لهم نفع عليهم صلى الله عليهم وسلم أم يختصّ نفعه بالمصلّي والمسلّم والداعي؟

الجواب ومن الله الهداية بهم إلى الصواب أن هذه المسألة من الخلافيّات ، فالأكثر بل قيل : إنه المشهور (١) على أنه يختصّ النفع بالداعي والمصلّي والمسلّم ولا يعود من دعائه وصلاته وسلامه على محمّد : صلى‌الله‌عليه‌وآله نفع.

ويدلّ عليه من الاعتبار أنه لو عاد من صلاة المصلّي عليهم نفع عليهم بسببها ، فحصل لهم من القرب والكمال ما لم يكن ، كما هو شأن دعاء بعضنا لبعض ، ودعاء أهل البيت : لنا ، لزم أن يكون المصلّي منّا عليهم واسطة لهم ، وشفيعاً إلى الله في إيصال فيضه وجوده لهم ، فينقلب المتبوع تابعاً ، والفرع أصلاً ، والمفضول بحقيقته من كلّ وجه فاضلاً من وجه.

ويؤدّي إلى أن محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس هو الواسطة الكلّيّة والشفيع المطلق من كلّ وجه ، وإلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس غنيّاً عن جميع رعيّته من كلّ وجه في كلّ شي‌ء ، وليس هو أكملهم وأفضلهم في كلّ شي‌ء من كلّ وجه ، فليس جميع من دونه مفتقراً إليه من كلّ وجه في كلّ كمال.

__________________

(١) الأنوار النعمانية ١ : ١٣٧.

٤٧

والكلّ باطل بالبرهان المتضاعف المحكم عقلاً ونقلاً ، بل بديهي البطلان عند أهل العيان.

ومن الأخبار ما رواه في ( الكافي ) عن صفوان بن يحيى : عن الرضا : عليه سلام الله أنه قال : « أليس تقول : صلّى الله على محمّد : وآل محمّد؟ » قلت : بلى. قال : « ارحم محمّداً : وآل محمّد؟ ».

قال (١) : « بلى ، وقد صلّى عليه ورحمه ، وإنّما صلاتنا عليه رحمة لنا وقُربة » (٢).

وما في الجامعة الكبيرة : « وجعل صلاتنا عليكم وما خصّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا ، وطهارةً لأنفسنا ، وتزكيةً لنا ، وكفّارةً لذنوبنا » (٣).

ومثل عموم ما دلّ على حاجة كلّ رعيّة لإمامهم في كلّ شي‌ء وغناه عنهم في كلّ شي‌ء (٤) ، فهو شفيعهم إلى الله في كلّ جود ووجود ، ومحمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : شفيع الكلّ في الكلّ.

وقيل : إنه كما يحصل بذلك نفع للمصلّي والمسلّم عليهم والداعي لهم ، يحصل به نفع لهم أيضاً ، ويستمدّون به من جود الله تعالى الذي لا يتناهى ، ولا ينقطع أبداً. واختاره السيّد نعمة الله الجزائري : في ( شرح السجّاديّة ) ، وفي كشكوله (٥) أيضاً ، وعزا القول الأوّل في الشرح إلى طائفة ، وفي ( الكشكول ) (٦) نسبه إلى الشهيد : ونقل عبارته ثمّ ردها بوجوه ، منها : أن الأخبار دالّة على خلافه.

ومنها : أن ما قاله غير معهود من غيره من الأصحاب ، وإنّما قال بعض أهل الحديث : ( إنه من أقوال العامّة ) فكأنّه أراد بالطائفة في عبارة الشرح هو مع القائل به من العامّة.

ويدلّ عليه من الأخبار كلّ ما دلّ على الأمر بالصلاة والسلام عليهم والدعاء لهم

__________________

(١) في المخطوط بعده : ( قلت ) ، وما أثبتناه موافقٌ للمصدر ولعلّ فيه سقطاً كما أُشير له في الهامش : ١ من المصدر.

(٢) الكافي ٢ : ٦٥٣ ـ ٦٥٤ / ٤.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٩٨.

(٤) بحار الأنوار ٢٣ : ٥٠ / ١٠٠.

(٥) الأنوار النعمانية ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٦) الأنوار النعمانية ١ : ١٣٧ ـ ١٤٠.

٤٨

بطلب الوسيلة والدرجة الرفيعة ، وقرب المنزل من الله ، وتقبل الشفاعة ، وغير ذلك ممّا في كتب الدعوات (١).

ومثل ما دلّ على الأمر بإهداء ثواب أعمال العاملين لهم. ومثل ما رواه ابن طاوس : في ( جمال الأسبوع ) (٢) من استحباب ركعات في كلّ يوم من الأسبوع تهدي ثوابها لواحد من أهل البيت عليهم‌السلام : ، الى غير ذلك. وهو كثير ، مثل « من سنّ سنّة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » (٣).

ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أعينونا بورع واجتهاد » (٤).

ومثل ما دلّ على أن أعمال العباد تعرض عليهم كلّ يوم ، فيسرّهم صالحها ويسوؤهم قبيحها (٥). إلى غير ذلك ، فإنّه كلّه بظاهره يدلّ على وصول نفع لهم بذلك كما لا يخفى.

ومن الاعتبار أن الدعاء لهم بذلك إمّا أن يكون مجاباً فيستلزم أن يحصل لهم به نفع ، أو غير مجاب فلا أثر له حتّى للدّاعي ، ولا كلام لنا فيه.

وأيضاً صلاتنا وسلامنا عليهم ودعاؤنا لهم بعلوّ الدرجات وأفضل الكمالات طاعة وحسنة ، وكلّ حسنة فمن الله ، وهم معلّموها وسبيلها ، فهم باب الله الذي لا يؤتى إلّا منه ، ومنهم بدْء كلّ كمال وجمال ، وإليهم معاده ، فبسبيل معرفتهم عرف الله ، وبعبادتهم عبد الله ، فكأنّ جميع الصالحات أعمالهم.

وأيضاً كما أن جميع الوجودات من فاضل صفات وجودهم ، وكلّ حسنة من فاضل حسناتهم ، فقد ورد أن الله حمّلهم ذنوب شيعتهم فغفرها لهم (٦) ؛ لأنّهم ذواتهم من فاضل ذواتهم ، وحسناتهم من فاضل أعمالهم.

__________________

(١) انظر : وسائل الشيعة ٧ : ٩٢ ـ ١٠٣ ، أبواب الدعاء ، ب ٣٦ ، ٣٧.

(٢) جمال الأُسبوع : ٢٩.

(٣) الكافي ٥ : ٩ ـ ١٠ / ١ ، وسائل الشيعة ١٥ : ٢٤ ـ ٢٥ ، أبواب جهاد العدو ، ب ٥ ، ح ١.

(٤) نهج البلاغة : ٥٧٣ / الكتاب : ٤٥ ، وفيه : « أعينوني ».

(٥) بصائر الدرجات : ٤٢٤.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٢١ ، بحار الأنوار ١٧ : ٨٩ / ١٩.

٤٩

فإذن لهم قسط من ثواب العاملين ؛ لأنّهم عللهم ، وأعمالهم علل حسنات العاملين ، فهم عناصر [ الأبرار (١) ] ، الذات للذات والصفة للصفة ، فلهم القسط الأكمل من ثواب العاملين ، بل ثوابُ المحسنين فاضلُ ثوابهم على حسنة المحسنين. ففي الحقيقة جميع الحسنات حسناتهم ؛ لأنّها منهم بدأت وإليهم تعود بقدر رتبتها.

وأيضاً دعاؤنا لهم يلزمه الدعاء على أعدائهم بذهاب دولتهم وتطهير الأرض منهم ، فيؤدّي إلى طلب إظهار دولتهم ، فهو دعاء لنا ولهم ؛ لما فيه من سعادتنا بإظهار كلمة الحقّ ومحو الباطل. فلا بعد أن يزيدهم الله من فضله على حبّنا لهم ، وعلمنا وعملنا اللذين بهدايتهم ونورهم ، فكلّ ما في الوجود من كمال وجمال وجلال فهو لمعة من أنوارهم ، وأثرٌ من آثارهم ، بل الكلّ حكايتهم ذاتاً وصفة ، فهم المعنى والمسمّى ، وما سواهم الاسم والعبارة. فظهر أنه لا منافاة بين هذا وبين ما ذكر من الاعتبار في القول الأوّل ؛ لأنّا نسلّم أنه لا يصل لهم نفع بشفاعة الداعي ووساطته لهم ، بل على ما قرّرناه ، فلا منافاة.

وأمّا الجامعة فنقول بمقتضاها ، وليس فيها ما ينافي ما قرّرناه في القول الثاني. ثمّ نقول : إن صلاة المصلّي عليهم ، ودعاء الداعي لهم ، من حيث هو عمله وحسنته يختصّ نفعه به ؛ لأنه [ عمله لا عملهم (٢) ] ، ولأنّ كلّ ما يدعو به لهم من الكمالات وعوالي الدرجات فهو قد حصل لهم ، فطلبه لهم تحصيل حاصل.

ولو لم يكن حاصلاً لهم على أعلى درجة لزم ما مرّ في القول الأوّل من لزوم وجود واسطة لهم في حصول كمال وشفيع لهم ، فينقلب الرائس من كلّ وجه والأفضل من كلّ وجه مفضولاً ومرؤوساً بحال ، إلى غير ذلك من المفاسد المستحيلة ، ومن حيث إنّهم السبيل إليه بدءاً وعوداً ، والهداةُ إليه والأدلّاء عليه ، وهو من فاضل حسناتهم كما عرفت ، فلهم به النصيب الأوفى.

فظهر وجه الحصر في حديث ( الكافي ) بأن يراد اختصاص نفعه بنا من حيث هو

__________________

(١) في المخطوط : ( الابر ).

(٢) في المخطوط : ( علمه لا علمهم ).

٥٠

عملنا ، ونفيه عنهم على وجه شفاعة المصلّي عليهم ، وكونه السبب والواسطة لهم في تحصيل مضمونه لهم ، فلا منافاة فيه للقول الثاني ولا منافاة بين القولين ، فكلاهما صحيح ، بل لا اختلاف في الحقيقة بينهما ، والله العالم.

تنبيه

هل هذا التقرير مختصّ بمحمّد : وآله صلّى الله عليه وعليهم أم يجري في سائر المعصومين؟

الظاهر أن هذا يجري بالنسبة إلى كلّ إمام ورعيّته البتّة ، ولا يجري بالنسبة إلى دعاء الأفضل من المعصومين لمن دونه ؛ لصحّة توسّط الأفضل لمن دونه وشفاعته له. أمّا العكس ودعاء هذه الأُمّة لمن دون محمّد : وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من المعصومين فيحتمل الوجهين أيضاً ، ولا منافاة في توسّط مثل الكليم بيننا وبين نبيّنا ، بل يدلّ على وقوعه مثل : حديث المعراج (١) الدالّ على شفاعة موسى عليه‌السلام : لنا عند نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله العالم.

__________________

(١) بحار الأنوار ١٨ : ٢٣٥.

٥١
٥٢

[١٩]

بيان إجمال وكشف

مقال : الله المنّان بالإحسان

لا ريب أن المنّان من أسمائه تعالى ، فلا ريب أنه صفة كمال ، وقد جاء في الدعاء « إنْ أعْطَيْتَ لَمْ تُشِبْ عَطَاءَكَ بِمَنّ » (١).

وأيضاً ، لا ريب أن المنّ من الممكن صفة ذمّ ، فهنا سؤالان.

الأوّل : ما الجمع بين نفي المنّ عن عطائه وبين وصفه بالمنّان؟

الثاني : ما الوجه في كون المنّان صفة مدح في الواجب ، وصفة ذمّ في الممكن؟

والجواب عن الأوّل : أن المنّان الموصوف به الواجب عزّ اسمه معناه الجواد المظهر جوده الدالّ عليه خلقه بلا شوب نكد ولا كدر ، ولا نفع يصل إليه من المنعم عليهم ، ولا مكافأة لهم على إحسان منهم ، بل تفضّل بحت بلا شوب أداء ولا إنقاص. والمنفيّ عن عطائه هو العطاء المشوب ببعض ذلك ، كما هو معنى المنّ بالنسبة إلى الممكن ، فإذا كان للمنّ معنيان متباينان (٢) صحّ الإثبات والنفي إذا لم يتواردا على موضوع واحد.

والجواب عن الثاني : أن حقيقة المنّة وأجلى أفرادها تذكير المنعَم عليه بما انْعِمَ به عليه ؛ ليدوم علمه بالمُنْعِم والنعمة ، فيرى له وجوب الشكر ، ويرى له الطول والعلوّ عليه ، والقاهريّة له ، ويرى نفسه في ذلّ المقهوريّة والافتقار له.

__________________

(١) الصحيفة السجاديّة الكاملة : ١٩١.

(٢) في المخطوط : ( متبائنات ).

٥٣

فتذكير الله للعبد نعمه عليه ظاهرةً وباطنةً ، وإظهار أنوارها في أُفق قلبه ، يؤدّي [ بالعبد (١) ] إلى دوام معرفته ببارئه ، وشدة فاقته إليه على الدوام ، ومعرفته بنفسه وربّه وكمالاته اللائقة به ، وإلى أن جميع المحامد لا يستحقّها أحد سواه ، وأن جميع النعم منه خالصة لا يشوبه نقص ، بل محض رحمته ، وذلك يُعِدّ العبدَ إلى قبول الفيض بعد الفيض ، وإلى المزيد من فضل الله الذي لا ينقطع ، ولشروق أنوار المحبّة والمعرفة في أُفق قلبه ، ولفعليّة العبوديّة.

فظهر أن تذكير الله للعبد بنِعَمه عليه إظهار لأشعّة نور رحمة وجوده في مشكاة قلبه ، فهي أيضاً نعمة اخرى بها يحصل للعبد بَرد اليقين ، وفتق ريق النفس ، وفعليّة العقل وطمأنينة العبوديّة. بل تصوّر النعمة ، وقول : ( الحمد لله ) نعمة يجب شكرها ؛ لما يلزمها من مزيد التفضيل وانشراح الصدر وأُنس القرب ، فالمنّة من الله جود محض ، وكمال بحت.

وأمّا المنّة من العبد فلا بدّ أن تشتمل نوع نقص كأن يرى نفسه منعماً ، وإنّما هي نعمة من الله عليه ، وعلى من أنعم عليه ، أو يرى في نفسه كبراً واستصغاراً لمن أنعم عليه ، ورفعة له ، وضعة للمنعَم عليه ، أو ينسب المنعَم عليه لعدم المروءة.

وبالجملة ، ينظر نفسه ويرى لها فضلاً وعلوّاً ، وينسى من أنعم عليه ، وأن إنعامَهُ وما أنعم به نعمةٌ من الله عليه ، ولا بدّ من استلزام ذلك نوع استنقاص وإهانة وذلّ لمن يمنّ عليه ويذكّره فقره لمن هو مثله.

وأيضاً إذا منّ عبد على عبد بما أولاه وذكّره به ؛ فإن كان لا يستشعر حينئذٍ أن ما أولاه نعمة من الله عليه ، وأن صرْف ما استخلفه فيه مولاه فيما يحبّ نعمة من مولاه أيضاً فهو جاهل محض أو أحمق أو جاحد لنعمة الله ، وهذا كلّه قبيح بالضرورة.

وإن كان مع تصوّر النعمة بذلك من الله عليه وأنّها نعمة يجب شكرها ، فالمنّ منه حينئذٍ محال ؛ إذ لا يرى نفسه منعِماً بحال ، بل منعَماً عليه على كلّ حال ، فإنّ المانّ

__________________

(١) في المخطوط : ( العبد ).

٥٤

المتطوّلَ بعطائه الذي يرى نفسه منعِماً كافرٌ بنعمة الله ، كاذب في دعواه ، جاهل بمقام نفسه ، غير عارف بربّه.

وبهذا ظهر حسن المنّ من الواجب ، وقبحه من الممكن ، وأن المنّان صفة كمال ، والمنّ المنفي عن عطائه هو ما استلزم النقص وإهانة المنعَم عليه وتكدير النعمة.

وبهذا ظهر أن مَن نعمته نعمةُ الله ، وإفضالُه مِنَ الله ، كمحمّدٍ : وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يكون تذكيره بفضله وإحسانه نقصاً في شأنه ؛ لأنه يد الله المبسوطة بالرحمة ولسانه المعبّر عنه ، و [ وجهه (١) ] الذي لا يؤتى إلّا منه ، لا ينطق عن الهوى بوجه ، فجميع أقواله وأفعاله رحمة من الله لخلقه ، فمنّه منّ الله ، فهو نعمة من الله خالصة لا يشوبها نقص بوجه ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( وجه ).

٥٥
٥٦

[٢٠]

كشف حال وبيان

مقال : « يا قَيّوم فلا يفوت شيئاً علمه »

ورد في دعاء إدريس عليه‌السلام : « يا قيوم فلا يفوت شيئاً علمه ولا يؤوده » (١).

هكذا بنصب « شي‌ء » ورفع « علم ». فتتبّعنا جملة من كتب الدعوات ، فوجدناها هكذا ، وكان الظاهر رفع شي‌ء ، ونصب « علم » ؛ إذ الظاهر أن المقصود أن علمه تعالى أحاط بكلّ شي‌ء فلا يشذّ منه شي‌ء ولا يخرج عنه. والعبارة الصريحة في هذا ما قلناه أنه الظّاهر.

والجواب من وجوه :

أحدها : ما قاله مولانا الشيخ مبارك بن عليّ : ، وهو أن من الأفعال ما يصحّ إسناده إلى كلّ من فاعله ومفعوله لتكافئهما في النسبة إليه ؛ لكونه إضافياً مثل قوله تعالى : ( فَتَلَقّى آدَمُ : مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) (٢) فقد قرئ برفع ( آدم ) ونصب ( كلمات ) ، وبالعكس.

وقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٣) ، فقد قرئ بالوجهين.

وعنوان هذا صحّة العكس ، وإقامة صيغة التفاعل والمفاعلة مقام الفعل المذكور

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٥٤٤ ، بحار الأنوار ٩٢ : ١٦٨ ، و ٩٥ : ٩٨ / ٢.

(٢) البقرة : ٣٧.

(٣) البقرة : ١٢٤.

٥٧

مع بقاء المعنى بحاله كـ ( لقيتُ زيداً ولاقيته وتلاقينا ) ، فلعلّ الدعاء المسئول عنه من هذا القبيل.

[ بقي (١) ] السؤال عن النكتة في نسبة الفوت المنفي إلى علمه في العبارة دون الشي‌ء. ولعلّه التنبيه فيها على أنه الفاعل المطلق ، وما سواه قابل مقهور بالذات فلا يحمل نسبة الفوت إلى الأشياء في العبارة ، بل المشيئة والمقدرة لله حتّى في الأُمور الإضافيّة ، فلو عكس لأوهم العكس. على أن مصحّح العكس إنّما هو كونه في مقام النفي ، وتقديم الشي‌ء. [ و ] لعلّ النكتة في الاهتمام بيان انقهار الأشياء تحت علمه ، فإنّ قاهريّته أظهر ، والله العالم.

الثاني : أن يكون هذا من قبيل : ( خرق الثوبُ المسمارَ ) ، و: ( كسر الزجاجُ الحجرَ ) (٢).

الثالث : أن يكون « علمه » مضافاً إلى مفعوله ، وهذا على ثلاثة أوجه :

أحدها : لا يفوت شيئاً أن يعلم خالقه.

الثاني : لا يفوت شيئاً أن يدلّ على خالقه ، فكلّ الممكنات دالّة عليه وشاهدة بوحدانيّته.

الثالث : لا يفوت شيئاً الدليل على خالقه.

والفرق بينه وبين الأوّل أن الأوّل من دليل ( الأنفس )، وهذا من دليل ( الآفاق ).

الرابع : أن يكون معناه : لا يفوت شيئاً علمه. أي لا ينقطع إمداده الخلق والرزق والحياة والموت ؛ لعدم استغناء المعلول عن علّته بحال ، وعدم انقطاع الأمداد منه للموجود بالوجود والإيجاد ولوازمه الذاتية. فسبحان من لا يحويه مكان ولا شي‌ء ، ولا يخلو منه مكان ولا شي‌ء ، العليم بما خلق ، القائم على كلّ نفس بما كسبت ،

__________________

(١) في المخطوط : ( لفي ).

(٢) وهي قاعدة نصب الفاعل ورفع المفعول به عند أمن اللبس ، غير أنه ليس خاضعاً للقياس بل يقتصر فيه على السماع. انظر شرح ابن عقيل ٢ : ١٤٧.

٥٨

وهو على كلّ شي‌ء وكيل.

ثمّ انظر إلى تفريعه : « فلا يفوت شيئاً علمه » على قوله : « يا قيّوم » ، فإنّ القيّوم مَن قامت الأشياء كلّها بعلمه ، فيه قوام كلّ شي‌ء وجوداً وبقاءً وشيئيّةً وثبوتاً واستمراراً ودواماً ، خلقاً ورزقاً وحياةً وعلماً. فحقيقة ما سواه تقويم القيّوم له بعلمه وإمداده له من جوده ورحمته ، فهو الغنيّ بذاته عمّن سواه ، وجميع ما سواه مفتقر إليه بذاته في تنشئته وبقائه في مراتب وجوده.

هكذا شأن الصنعة وصانعها الحقيقيّ ، فبعلمه قامت الأشياء وتقوّمت ، أحاط بكلّ شي‌ء قدرةً وعلماً ، فبعلمه وقدرته أمسك العرش وما حوى ، فهو القيّوم بذاته. فظهر وجه التفريع وبان ما قرّرناه ، والله العالم بكلّ شي‌ء.

٥٩
٦٠