رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[١١٤]

بهجة حوريّة ولذّة نوريّة : معنى الثيبوبة

في ( الصافي ) عن ( ثواب الأعمال ) (١) و ( المجمع ) (٢) عن الباقر عليه سلام الله أنه قال : « مَن قرأ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ (٣) كلّ غداة خميس زوّجه الله من الحور العين ثمانمائة عذراء ، وأربعة آلاف ثيّباً وكان مع محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤).

: فإن قيل : ظاهر الخبر أن في الحور العين ثيّبات ، وقد قال الله تعالى في وصفهن ( إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً ) (٥) ، فما الجمع؟

قلت : الجمع بطريقين :

أحدهما : أن معنى الأبكار في الآية هن اللواتي لم ينكحهن أحد قبلَ مَن خصّهن الله به وخصّه بهن ؛ بدليل قوله تعالى : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) (٦).

وذلك أعمّ من أن [ يكون ] (٧) على صفة الأبكار ، وهيئة البكارة المعروفة خلقةً. أو على صفة الثيّبات ، وهيئة الثيبوبة المعروفة خلقةً. ويكون معنى البكر في الحديث هي التي خلقت على هيئة خلقة البكارة المعروفة لكنّها بكر أبداً كلّما واقعها المؤمن عادت بكراً ؛ وذلك لأنّ البكارة فيها من لوازم فطرة وجودها وخلقتها الذاتيّة. والثيب

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١٤٨.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٥١١.

(٣) الإنسان : ١.

(٤) التفسير الصافي ٥ : ٢٦٦.

(٥) الواقعة : ٣٥ ـ ٣٧.

(٦) الرحمن : ٥٦.

(٧) في المخطوط : ( يكن ).

٣٦١

فيه : ما كانت على هيئة الثيبوبة بأصل فطرة وجودها وخلقتها ، فهي أبداً كذلك.

والنفس كما تشتهي نكاح البكر ومن هي على صفة البكارة المعروفة ، قد تشتهي نكاح الثيّب ومن هي على صفة الثيبوبة ، ولأهل الجنّة ما يشتهون. ومن شأن النفس شهوة التبدّل والتغيّر في جميع ملاذّها ، فإنّه أشهى لها من الدوام على صنف واحد. وقد فطرت على ذلك باختيارها ، وطبعت على الحركة إلّا إنّها لا تشتهي إلّا ما في قوّتها ولها القدرة على نيله وإبرازه من القوّة إلى الفعل. وهذا يجده كلّ ذي ذوق في نفسه وغيره ، فارتفع التنافي.

الثاني : أن معنى البكر في الخبر هي الّتي لا مثل لها ، بل هي صنف مستقلّ مخترع بلا مثال سبق ، فهي المخترعة لمستحقّها من غير أن يسبق لها مثل. ومعنى الثيّب فيه : من كان لها نظير ، وقد سبقها أو لحقها مثل لها وإن كان الجميع منشآت ، ومعنى الآية كما سبق ، فلا منافاة ، والله العالم.

٣٦٢

[١١٥]

كشف التباس وتأسيس

أساس : بيان أوّل وقت نافلة الليل

في ( الفقيه ) : سأل عمر بن حنظلة : أبا عبد الله عليه‌السلام : فقال له : زوال الشمس نعرفه بالنهار ، فكيف لنا بالليل؟ فقال عليه‌السلام : « لليل زوال كزوال الشمس » قال : فبأيّ شي‌ء نعرفه؟ قال : « بالنجوم إذا انحدرت » (١).

أقول : هذا الخبر مجمل ، فإنّه عليه‌السلام لم يبيّن فيه انحدارها من أيّ شي‌ء. ولكن الظاهر أن المراد بمعونة العرف والإطلاق انحدارها عن دائرة نصف النهار ، وهي الدائرة القاسمة لدائرة الأُفق قسمين [ متساويين (٢) ] ، مقاطعة لها على نقطتي الجنوب والشمال ، حيث إن النجم يسمّى صاعداً من حين طلوعه ، حتّى يبلغ تلك الدائرة ، ثمّ يأخذ في الانحدار فيسمّى بعد تجاوزها إلى جهة المغيب منحدراً.

وهذا يختلف باختلاف الآفاق ؛ لاختلاف دائرة [ نصف (٣) ] النهار باختلاف الليل ، للقطع بكرويّة الأرض بالبراهين المتضاعفة (٤) نقلاً وعقلاً ورصداً وحسّاً ، ومع هذا لم يبيّن في الخبر انحدار أيّ النجوم. ومن المقطوع به كما يشهد به الحسّ أنه لا تخلو دقيقة من دقائق الملوين (٥) من انحدار نجم عن تلك الدائرة. فاحتجنا إلى بيان

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤٦.

(٢) في المخطوط : ( متساوين ).

(٣) في المخطوط : ( النصف ).

(٤) انظر الأنوار النعمانية ١ : ٣٣٤ ـ ٣٣٩.

(٥) الملوان : الليل والنهار. لسان العرب ١٣ : ١٩٠ ملا.

٣٦٣

النجوم التي يعرف بانحدارها انتصاف الليل وأوّل وقت نافلة الليل.

والذي وقفت عليه في كلام جملة من الفقهاء أن المراد بها في الخبر : النجوم التي تطلع وقت غروب الشمس. وهذا أيضاً مجمل وإن كان أقلّ إجمالاً من لفظ الخبر ؛ إذ ليس كلّ نجم يطلع وقت الغروب ينحدر عن تلك الدائرة نصفَ الليل ؛ لمخالفته الحسّ والبرهان ، ولأنه يلزمه تساوي قوسي طلوع نجم هو على ما قرب من القطب الشمالي وطلوع نجم هو على ما قرب من القطب الجنوبي من المدارات في الآفاق المائلة إذا طلعا دفعة أو مطلقاً ، والبرهان والحسّ والوجدان تردّه.

والحقّ أن المراد بالنجوم المشار في الخبر إلى أنه يعرف زوال الليل وانتصافه بانحدارها عن تلك الدائرة في كلّ أُفق ووقت هي خصوص رقيب منزلة الشمس من المنازل الثمانية والعشرين ، وذلك يكون في كلّ ثلاث عشرة ليلة لمنزلة منها هي مدّة حلول الشمس في منزلتها إلّا الهنعة في المشهور ، فإنّ لها أربع عشرة ليلة ، ورقيب منزلة الشمس هي الخامسة عشرة ، عشر منها على جهة التوالي أبداً.

هذا إجمالاً ، وتفصيلاً ما ذكره بعض أهل هذه الصناعة حيث قال : مهما طلع برجٌ أو منزلة غاب رقيبه ، ومهما اعتدل برج أو منزلة فرقيبه الوتد تحت القدم ، ورقيب البرج سابعه ، ورقيب المنزلة خامس عشرها ؛ فرقيب الحمل الميزان ، ورقيب الثور العقرب. وقد جمعها بعض المتقدّمين حيث قال :

أرى الكبش بالميزان يقسم لحمه

وبين بنات الثور عقربُ يعقرُ

وفي منكب الجوزاء قوس معلّق

وإن ظهر السرطان فالجدي ينفرُ

أرى الليث نحو الماء يرسل دلوه

وفي قبضة العذراء حوت ميسّرُ

وممن أحسن في جمع رقائب المنازل الشيخ عبد الله بن أبي بكر بن عفيف المكّيّ : في قوله :

( يا ناطحاً غفر الله الكريم له

من نثر ذبح الكرى في الوجنتين دما

٣٦٤

قد أضمر البطن فاستولى الزباد على

ما تحته واستفاد الطرف بلعهما

وللثرى كلل الدمع المصون له

من جهة السعد في الداجي إذا انقسما

تدبّر القلب آيات الزبور وفي

تلك الزوايا خبايا أغلت القيما

ما هقعة الشول تغني المستبدّ بها

شيئاً إذا انصرف المقدام منهزما

أيضاً ولا هنع الأنعام ساكرة

إذا عوى صاحب التأخير وانفحما

وكم ذرعنا بأخفاف المطي بلداً

وأعللنا سماك الحوت إن نجما (١)

ومهما كان النطح طالعاً كان الغفر غارباً والنثرة وتداً ، والذابح متوسّطاً على الرأس.

أو كان الغفر طالعاً فالنطح غارباً ، والنثرة متوسّطاً والذابح وتداً.

أو كان النثرة طالعاً فالذابح غارباً ، والنطح متوسّطاً والغفر وتداً.

أو كان الذابح طالعاً فالنثرة غارباً ، والغفر متوسّطاً والنطح وتداً.

وقس على هذا ) ، انتهى.

وقد بان بهذا أن المراد من نصف الليل الذي هو أوّل وقت النافلة : نصف الليل باعتبار ما بين الغروب إلى الطلوع ، فزواله المشار إليه في الخبر هو بهذا الاعتبار لا ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ؛ فإنّ ذلك ليس له ضابط كلّيّ يعرف به لأكثر المكلّفين بنافلة الليل ، بل لا يعرفه إلّا أفراد من أفاضل علماء الفلك بآلاتهم وقوانينهم ، فلا يدخل تحت هذا الخبر المشير إلى قاعدة يعرفها أكثر المخاطبين بصلاة الليل.

وأيضاً فالاحتياط اعتبار أوّل وقت نافلة الليل نصف الليل باعتبار ما بين الغروب والطلوع لحصول اليقين فيه وارتفاع الشّك ، دون اعتبار نصف الليل بالنسبة إلى زمان ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ؛ لسبقه على الأوّل وعدم انضباطهِ إلّا لأفراد مخصوصين.

__________________

(١) كذا في المخطوط ، وهو مختلّ الوزن.

٣٦٥

ويؤيّد الأوّل جميع ما دلّ من الشرعيّات على أن الليل من الغروب إلى الطلوع ، والنهار من الطلوع إلى الغروب. وهي كثيرة جدّاً لا يسع المقام نقلها.

ومنها : الأخبار المستفيضة المُؤيَّدة بإجماع [ الفلكيّين (١) ] والمقوّمين على أن النهار والليل ما ذكرناه الدالّة نصوصها المستفيضة على أن نصف النهار هو الحدّ الذي إذا بلغته الشمس كان القدر الماضي من طلوعها يساوي الباقي إلى غروبها ، وهو المعبّر عنه بدائرة نصف النهار. وقد استفاضت الأخبار بتسمية ذلك : نصف النّهار (٢) ، والزّوال (٣) ، والظّهر (٤) ، وكلّها بمعنى ، والعرف العامّ والخاصّ يحكم به ، بل الضّرورة حاكمة بأنّ نصف النهار هُوَ وسط ما بين الطلوع والغروب ، بل بتسمية ما بينهما نهاراً فإنّه المتبادر إلى عامّة الأفهام من الخواصّ والعوامّ.

وذلك كلّه يقضي بأنّ حقيقة النهار ذلك ، وحقيقة الليل ما يقابله ، وهو ما بين الغروب إلى الطلوع ؛ فإنّك لا تشكّ ألّا معنى لهما عند إطلاق تساوي الملوين ، وزيادة الليل ساعة مثلاً على آن النهار. وبالعكس أن المراد منهما ذلك من الضروريات التي تتبادر إلى الأفهام.

وبهذا ومثله يعلم أن الليل والنهار حقيقة في ذلك وإن كنّا لا ندفع أن الشارع أطلق الليل على ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ، والنهار على ما بين طلوع الفجر إلى الغروب في موارد كثيرة كنهار الصائم ، والبير (٥) ، وليل الزوجة وغير ذلك. ولكنّه أيضاً أطلق الليل على ما بين الغروب إلى الطلوع ، والنهار على ما بين الطلوع إلى الغروب في موارد أكثر.

وقد بيّنّا أن هذا هو الحقيقة اللغويّة والعرفيّة عموماً وخصوصاً ، ولم نعلم في ذلك

__________________

(١) في المخطوط : ( الفلكين ).

(٢) الكافي ٤ : ١٢١ / ١ ، تهذيب الأحكام ٤ : ١٨٧ / ٥٢٤ ، وسائل الشيعة ١٠ : ١٧ ، أبواب وجوب الصوم ونيته ، ب ٤ ، ح ٧.

(٣) تهذيب الأحكام ٤ : ١٨٧ / ٥٢٧ ، وسائل الشيعة ١٠ : ١٧ ـ ١٨ ، أبواب وجوب الصوم ونيته ، ب ٤ ، ح ٨.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ / ١٦.

(٥) كذا في المخطوط.

٣٦٦

حقيقة شرعيّة. والأصل عدم النقل ، فإذا ورد من الشارع إطلاق الليل من غير قرينة تعيّن أحد المعنيين منه ، ووجب حمله على الحقيقة اللغويّة والعرفيّة ؛ للتبادر وأصالة عدم التجوّز.

وفي المبحوث عنه لم نقف على دليل من الشارع أنه أراد بحكمه أن أوّل وقت نافلة الليل بعد الانتصاف غير المعنى العرفيّ اللغويّ ؛ فيجب حمل إطلاقات الأخبار وفتاوى العصابة عليه ؛ فإنّها دليل على إرادة العرفيّ مع موافقته للّغة ، فيجب حمله عليه.

وأيضاً فحمله عليه أحوط ؛ لحصول اليقين به أنه وقت نافلة الليل دون الثاني ؛ لسبقه عليه بكثير.

وأيضاً فالمتبادر من الأخبار والفتوى أن المراد من نصف الليل الذي هو آخر وقت العشاء هو نصف ما بين الغروب والطلوع ، وهو الذي يدخل بعده وقت نافلة الليل بلا فصل ، مع أن الأصل يقتضي بقاء وقت الأداء حتّى يثبت خروجه.

ولا ينافيه أن آخر وقت نافلة الليل طلوع الفجر الثاني كما هو واضح ، ولا ينافيه أيضاً أن السحر قبيل الصبح كما عبّر به أكثر أهل اللغة (١) ، أو أنه السدس الأخير من الليل كما عبّر به النظام (٢) : في تفسيره ، والزمخشري (٣) : في ( الكشاف ) ، والطبرسيّ : في ( جامع الجوامع ) ، واختاره السيد مهدي :

أمّا على الأوّل فظاهر ؛ لعدم التلازم بين كون السحر قبيل الصبح وبين كون آخر الليل الطلوع.

وأمّا على الثاني فلجواز التجوّز بإطلاق الليل على ما بين الغروب إلى طلوع الفجر ، لشيوع استعمال هذا المجاز.

ولعلّ وجه العلاقة ووجه استعمال الشارع لهما بالمعنيين أن الساعة الفجريّة لمّا

__________________

(١) انظر لسان العرب ٦ : ١٩٠ سحر.

(٢) تفسير غرائب القرآن ٦ : ٢٢١.

(٣) الكشاف ٤ : ٤٣٨.

٣٦٧

كانت كالبرزخ المركّب من محض ضياء الشمس ومحض ضياء الليل والبرزخيّات فيصحّ إطلاق اسم كلّ من طرفيها عليها وإفرادها باسم ؛ ولهذا سمّاها الشارع تارة ليلاً ، وتارة نهاراً (١) وتارة قال : « إنها ساعة ليست من ساعات الليل ، ولا من ساعات النهار » (٢).

وهذا شأن جميع البرزخيات وإن كان حقيقة النهار زمن طلوع الشمس ، والليل زمان غروبها ، ولا ثالث بينهما بالضرورة ، وإلى ذلك أشار قوله تعالى : ( فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) (٣).

ولا شكّ أن آية النهار الشمس ، فيختصّ النهار بزمان ظهورها ، ويقابله الليل.

ولعلّك إذا تأمّلت الآيات والأخبار وكلام أهل اللغة (٤) والفلكيّين والمنجّمين وأصحاب الأرصاد والتقاويم ظهر لك أن هذا هو الحقيقة فيهما لغة وشرعاً وعرفاً ، والمعنى الآخر مجاز فيهما لم يرد استعماله إلّا مردفاً بالقرينة.

هذا ، ولو قلنا : إن أوّل نافلة الليل بعد انتصافه باعتبار ما بين الغروب إلى الفجر لم يكن له ضابط يعرف على حال ، وظاهر كلّ من قال : إن نصف الليل يعرف بانحدار النجوم الطالعة وقت الغروب أراد (٥) ما حقّقناه.

وممّا يدلّ عليه أيضاً الأخبار (٦) المقدّرة لمسافة القصر ، وتعليلها بأنه شغل يومه ؛ إذ لا ريب أن المراد من اليوم يوم المسافر ، وأنه من الطلوع إلى الغروب والليل يقابله ؛ لعدم الواسطة ، والله العالم بحقيقة أحكامه.

وكان الجعفي : قد صرّح بذلك كما نقل عنه في ( الذكرى ) قال الشهيد رحمه‌الله : فيها بعد

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ١٧ / ١ ، بحار الأنوار ٨٠ : ١٠٧ ـ ١٠٨ / ٥.

(٢) تفسير القمّيّ ١ : ١٢٦ ، بحار الأنوار ٨٠ : ١٠٧ / ٤.

(٣) الإسراء : ١٢.

(٤) انظر لسان العرب ١٤ : ٣٠٣ نهر ، وقد أورد كون أوله طلوع الفجر وطلوع الشمس.

(٥) في المخطوط : ( أراده ).

(٦) تهذيب الأحكام ٣ : ٢٠٩ / ٥٠٣ ، الإستبصار ١ : ٢٥٥ / ٧٩٩ ، وسائل الشيعة ٨ : ٤٥٥ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١ ، ح ١٦.

٣٦٨

أن ذكر الحديث المبحوث عنه : ( والظاهر أنه عنى به انحدار النجوم الطوالع عند غروب الشمس.

والجعفي : اعتمد على منازل القمر الثمانية والعشرين المشهورة ، فإنّه قال : إنّها مقسومة على ثلاثمائة وأربعة وستّين يوماً لكلّ منزلة ثلاثة عشر يوماً .. ثمّ ينتقل إلى ما بعدها وهكذا. فإذا جعل القطب الشماليّ بين الكتفين نظر ما على الرأس وبين العينين من المنازل ، فيعدّ منها إلى منزله الفجر ، ثمّ يؤخذ لكلّ منزلة نصف سبع.

قال : والقمر يغرب في ليلة الهلال على نصف سبع من الليل ، ثمّ يتزايد كذلك إلى ليلة أربع عشرة ، ثمّ يتأخّر ليلة خمس عشرة نصف سبع ، وعلى هذا إلى آخره.

قال : وهذا تقريب ) (١) ، انتهى.

قلت : هذا وإن كان تقريباً لا يضبط غالباً لما يعرض للقمر من البطء والإسراع بسبب ما يعرض له من الإقامة والاستقامة والرجوع ؛ لأنّ له حامل تدوير. لكن غرضنا أنه صريح في أن المراد من الليل في هذا المقام هو ما بين الغروب إلى الطلوع ، فتدبّر والله العالم.

وممّن مال إلى ما حقّقناه من أن المراد بنصف الليل هنا : نصف ما بين الغروب والطلوع السيّد الأعظم السيّد مهدي الطباطبائي : على ما تقتنصه عبارة الإيرواني : في مختصر كتابه ( الإصلاح ) ، حيث نقل أن بعضهم صرّح بذلك ولم يردّه ولم ينقل فيه خلافاً. وممّن جزم بذلك إمام المحقّقين في زمانه محمّد أكمل بن محمّد تقي القاشاني : في ( شرح المفاتيح ) ، من غير نقل خلاف السيد عليّ : في ( شرح النافع ) ، بعد أن ادّعى الإجماع على أن أوّل نافلة الليل بعد انتصافه قال : ( والمتبادر من الليل في النصّ والفتوى هو ما بين غيبوبة الشمس إلى طلوع الفجر ، وقيل : إلى طلوع الشمس. وهو أحوط وأنسب بتوزيع الصلوات اليوميّة على أوقاتها ) (٢) ، انتهى.

قلت : التبادر ممنوع كما عرفت ، وكيف يكون هو المتبادر مع أن الآخر أنسب

__________________

(١) ذكرى الشيعة ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٢) الشرح الصغير ١ : ٨٥.

٣٦٩

وأحوط؟ وممّا يدلّ على ما قلناه أنّ الضرورة وإجماع البشر والنصوص (١) المستفيضة على أنّ آخر النهار غروب الشمس وأنّه أوّل الليل ، فبحكم المقابلة آخر الليل طلوعها ، وأنّه أوّل النهار ؛ إذ مقتضى أنّ آخر النهار غروب الشمس وأنّه أوّل الليل أنّ النهار عبارة عن طلوع الشمس ، والليل عبارة عن غيبتها. وأيضاً المتبادر من إطلاقات عبارات الأصحاب في اشتراطهم في وجوب القصر على من قصد أربعة فراسخ أنه يشترط فيه الرجوع ليوم أو ليلته [ على ] ما ذكرناه ، فتأمّلها.

وفي صحيح زرارة : عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنه قال في حديث طويل : « دلوك الشمس زوالها ، وفي ما بين دلوكها إلى غسق الليل أربع صلوات ».

إلى أن قال عليه‌السلام : « وغسق الليل انتصافه ».

إلى أن قال : « وقال تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) (٢) ، فطرفاه المغرب والغداة » (٣) الخبر.

وقد قابل أوّلاً بين الزوال والغسق ، ومقتضاها قسمةُ نقطةِ الغسقِ الليلَ على وفق قسمةِ نقطةِ الدلوكِ النهار.

ونصّ ثانياً على أنّ طرفي النهار وقت صلاة المغرب ووقت صلاة الغداة. ولا ريب في خروج وقت المغرب عن النهار ، قيل : [ منه (٤) ] خروج الطرف المقابل ؛ إذ لا يحدّ شي‌ء بطرف داخل وطرف خارج بالضرورة. ولا ينافيه ما في آخر هذا الخبر من الحكم بأنّ الغداة من صلاة النهار ؛ لما عرفت من حال البرازخ ؛ فهو مجاز ، وإلّا لتناقض أوّل الخبر وآخره ، وهو محال.

وممّا يدلّ على المطلوب صريحاً ما رواه الصدوق : في ( الفقيه ) عن أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٧٢ ـ ١٨٣ ، أبواب المواقيت ، ب ١٦.

(٢) هود : ١١٤.

(٣) الكافي ٣ : ٢٧١ / ١ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٢٤١ / ٩٥٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٠ ـ ١١ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٢ ، ح ١ ، باختلاف فيها.

(٤) في المخطوط : ( مه ).

٣٧٠

أنه قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يصلّي بالنهار شيئاً حتّى تزول الشمس » (١).

ويؤيّده ما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه قال : « صلاة النهار عجماء » (٢).

وَما في ( نهج البلاغة ) من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : لمّا سئل كم بين المشرق والمغرب؟ فقال : « مسير يوم للشمس » (٣).

وجميع (٤) الأخبار الناصّة على أن الصائم إن خرج قبل نصف النهار أفطر ، وإن سافر بعده أتمّ يومه (٥) وهي كثيرة وعليها عمل المشهور.

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : لأبي حنيفة : « إنّ الشمس تقطع ما بين المشرق إلى المغرب في يوم أو أقلّ » (٦).

والأخبار به كثيرة ، ولنا في المسألة رسالة مفردة (٧).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤٦ / ٦٧٨ ، وسائل الشيعة ٤ : ٦١ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ١٤ ، ح ٦.

(٢) بحار الأنوار ٥٦ : ١٤.

(٣) نهج البلاغة : ٧١٨ / الحكمة : ٢٩٤ ، وفيه : « مسيرة ».

(٤) معطوف على الاسم الموصول ( ما ) من قوله : ( ويؤيّده ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ).

(٥) وسائل الشيعة ١٠ : ١٨٥ ـ ١٨٩ ، أبواب من يصح منه الصوم ، ب ٥.

(٦) الاحتجاج ٢ : ٢٧٢ / ٢٣٩.

(٧) هي رسالة تحديد أوّل النهار المطبوعة ضمن الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

٣٧١
٣٧٢

[١١٦]

ماء معين ودرّ ثمين

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً )

قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) (١) ، القمّيّ بسنده عن الرضا عليه‌السلام : أنه قال لمّا سئل عن هذه مَاؤُكُم : أبوابكم ، والأئمّة أبواب الله ، ( فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) يعني : يأتيكم بعلم الإمام (٢).

وفي ( البحار ) من غيبة الشيخ (٣) : بسنده إلى علي بن جعفر : أنه سأل أخاه موسى عليه‌السلام : عن تأويل هذه الآية ، فقال : « إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون؟ » (٤).

وفيه من ( تأويل الآيات الظاهرة ) (٥) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في هذه الآية أنّه قال : « إن غاب إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد؟ » (٦).

ومثله في ( الكافي ) (٧) عن الكاظم عليه‌السلام.

وفي ( الإكمال ) عن الباقر عليه‌السلام : أنه سئل عن تأويلها فقال : « إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون؟ » (٨).

__________________

(١) الملك : ٣٠.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٩٧.

(٣) الغيبة : ١٦٠ / ١١٧.

(٤) بحار الأنوار ٢٤ : ١٠٠ / ٢.

(٥) تأويل الآيات الظاهرة : ٦٨٣ ، وفيه : « إن فقدتم إمامكم ».

(٦) بحار الأنوار : ٢٤ : ١٠٠ ـ ١٠١ / ٣.

(٧) الكافي ١ : ٣٤٠ / ١٤ ، وفيه : « إن غاب عنكم .. ».

(٨) كمال الدين ٢ : ٣٦٠ / ٣.

٣٧٣

وعنه عليه‌السلام أنه قال : « نزلت في الإمام القائم عليه‌السلام : يقول : إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو ، فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض وحلال الله وحرامه؟ ».

ثمّ قال : « والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجي‌ء تأويلها » (١).

أقول وبالله المستعان ـ : لا ريب في أن الإمام عليه‌السلام يطلق عليه لفظ ( الماء ) ، وهو كثير في الأخبار ؛ لأنه الماء الذي حمّله الله علمه ، وهو أول الكائنات ، ولأنه مادّة حياة جميع الخلق ؛ فإنّ حياة الأرواح به ، والأجساد بها ؛ فهو روح الأرواح وعلّة النجاح. فإمام كلّ قوم ماؤهم أي مفيض علمهم ، وعلّة علمهم ، وعلمهم حياتهم ، فحياة كلّ شخص بقدر علمه شدّةً وضعفاً ، بل هي علمه. فعلم كلّ مخلوق وجوده ، فوجوده حياته. فظهر بهذا صحّة تسمية إمامنا ماءَنا ، وتسمية علمنا المفاض منه ماءنا ، فإنّ علمنا من فاضل علمه بلا تنافٍ.

وأمّا تأويل غوره بغيبته فظاهر ؛ إذ لا يمكن عدمه بحال ؛ فالحجّة مع الخلق ، وقبل الخلق ، وبعد الخلق ، فأقصى ما يقال في معنى غوره : غيبته عن الحواسّ والأبصار ، لا عن العقول والبصائر. ومن الظاهر أن تأويلها بذلك لم يقع إلى زمن الرضا سلام الله عليه : وإنّما وقع بعد مضيّ أبي محمّد سلام الله عليه : نسأل الله الفرج برحمته ، وأن يجعلنا ممّن سقاهم ربّهم شراباً طهوراً بعفوه وكرمه ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) كمال الدين : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ / ٣.

٣٧٤

[١١٧]

لطائف فقهيّة وبراهين جليّة

وحلّ إشكال ودفع إعضال : مسألة الاستظهار

اعلم أنه أُورد على القول باستحباب الاستظهار لذات العادة ، مع عبور دمها العادة ، وعلى القول بوجوبه مع عدم تعيين حدّ شخصيّ لأيّام الاستظهار أيضاً ، إشكال مشهور هو أنه يلزمه أرجحيّة ترك العبادة على العبادة ، وكون ما هو مفروضٌ منها ندباً ومباحاً لجواز تركه حينئذٍ لا إلى بدل ، أو كون الغسل علّة لوجوب المباح أو المندوب ، والكلّ غير معهود في أُصول الشريعة.

والجواب ومن الله الهداية ـ : اعلم أنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة والإجماع الذي لا ريب فيه أن أقلّ الحيض ثلاثة وأكثره عشرة فما بينهما (١) ، فإذا كانت ذات عادة أقلّ من أكثره قد تجاوز دمها في شهر عن عادتها ، كان الزائد مشكوكاً فيه ؛ هل هو حيض أم استحاضة ؛ لاحتمال كلّ منهما فيه إلى تمام العشرة. أمّا ما بعد العشرة فلا شبهة ولا ريب في أنه ليس بحيض ؛ للإجماع نصّاً وفتوى على أن أكثر الحيض عشرة لا تزيد ولا لحظة ، وأقلّه ثلاثة لا تنقص ولا لحظة. فحكمة الحكيم اقتضت أن الدم الطبيعيّ وهو الحيض لا يزيد على العشرة ، ولا ينقص عن الثلاثة.

وأما أيّام العادة فلا شبهة أيضاً في أنّها حيض ؛ للإجماع على ذلك نصّاً وفتوى ولأنّ الشارع جعل العادة دليلاً شرعيّاً على الحيض ؛ ولذا تتحيّض صاحبتها بمجرّد رؤية

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٧ ، أبواب الحيض ، ب ٩.

٣٧٥

الدم فيها ، وقدمت على التمييز والصفة ، وأمر بالرجوع إليها في عدّة موارد عند الاشتباه ، جعلها فيها دليلاً على الحيض (١) ، فهي تدلّ على أن ذات العادة طبيعتها في حيضها ذلك.

وبقي الاشتباه فيما زاد عن العادة إلى تمام العشرة ، لإمكان كلّ منهما فيه ، فكلّ جزء من ذلك الزمان يحتمل أن يكون دمه هو الطبيعيّ وهو الحيض وأن يكون دمَ الاستحاضة وهي المرض العارض وقد تعارض فيه الدليلان بلا مرجّح. فالإجماع على أن كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض يرجّح كونه حيضاً.

ويؤيّده قضاء الوجدان باختلاف العادة في الحيض باختلاف المزاج بالسنّ وغيره.

ويؤيّده أيضاً أن آخر لحظة من العادة دمها حيض بلا شبهة ، فمن البعيد جدّاً أن تكون اللحظة الّتي تليها بلا فصل استحاضة. وهكذا تتوالى اللحظات متصاعدة إلى تمام العشرة. بل قطع بعض الأفاضل بأنّ اللحظة الثانية بل ما هو أكثر من لحظة ولحظتين وَثلاث حيض ، بل ظاهره نسبة القطع بذلك إلى الفقهاء.

ويدلّ أيضاً على كونه حيضاً استصحابُ حيض العادة فيما زاد عنها إلى تمام العشرة ، حتّى يثبت الناقل عنه.

ويدلّ عليه أيضاً الأخبارُ الكثيرة الآمرة لها حينئذٍ بالاستظهار ، حتّى قال جماعة (٢) بوجوبه عملاً بظاهر الأمر ؛ إذ لا معنى للاستظهار إلّا الحكم بكون الدم حيضاً ؛ لما يلزمها في مدّته من أحكام الحيض.

ويدلّ عليه أيضاً أصالة عدم حدوث المرض ، وهو دم الاستحاضة ، ويدلّ على كونه حينئذٍ دم الاستحاضة كون العادة دليلاً شرعيّاً على أن ما زاد عنها ليس بحيض عند الاشتباه في موارد كثيرة معلومة عند الفقيه ، بل عادة الأهل والأقران جعلها الشارع دليلاً على عادة الأمثال ، وعلى أن ما زاد عنها ليس بحيض عند الاشتباه. وقدّمت العادة على الصفة والتمييز كما مرّ ، فلا شبهة في أن العادة دليل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ٢٨١ ، أبواب الحيض ، ب ٥.

(٢) النهاية ( الطوسيّ ) : ٢٤ ، وهو المنقول عن المرتضى في مصباحه. انظر المدارك ١ : ٣٣٣.

٣٧٦

شرعيّ على أن ما زاد عنها ليس بحيض ، وما وقع فيها من أقلّ الحيض حيض.

ويدلّ عليه أيضاً أصالة شغل الذمّة بالعبادة ، خرجت أيام العادة بدليل ، فيقين البراءة لا يحصل فيما زاد عن العادة إلى تمام العشرة إلّا بكون دمه استحاضة.

ويدلّ عليه أيضاً الأخبار الدالّة بإطلاقها أو نصّها على أن ما بعد العادة استحاضة مطلقاً (١) ، والأخبار الآمرة لها حينئذٍ بالتعبّد من غير تعرّض لذكر الاستظهار (٢) ، فقد تعارض الدليلان فيما زاد عن العادة إلى العشرة بلا مرجّح لأحدهما مع تقاومهما. والذي حقّقه المحقّقون في الأُصول ، واقتضته رحمة الحكيم من رفع الحيرة وعدم التكليف بالمحال وبالعمل بالنقيضين أنه إذا تعارض الدليلان ، أو اختلف المجتهدان ، أو تساوت الأمارتان في القبلة مع تساويهما و [ تقاومهما (٣) ] وعدم وجدان المرجّح وحضور وقت العمل ، وتضيّقه [ فإنّ (٤) ] المكلّف مخيّر في الأخذ بأيّهما شاء (٥).

وهذا جارٍ في أشباه ما ذكرناه ، فإذا اختار المكلّف العمل بأحدهما حينئذٍ لزمه حكمه ولوازم حكمه ؛ فعلاً وتركاً ، وأجراً وإثماً ، ووجوباً وتحريماً حتّى يظهر الناقل عنه توسعة من الرحيم الحكيم وإن كان استمرار الاشتباه وعدم ظهور المرجّح مع استفراغ الوسع في الطلب بسلوك التي شرعت له في الطلب مع إمكانه ، وسعة الوقت منظور فيه ، وليس هذا محل بيانه.

فمن عبر دمها عادتها فهي من هذا القبيل إلى تمام العشرة فخيّرت بين التكليفين ؛ فمتى اختارت الاستظهار أي أخذت بأدلّة كون دمها حيضاً حينئذٍ ، لزمها الجلوس وجميع أحكام الحيض ، فإنّ ذلك معنى الاستظهار ، ومتى اختارت العمل بدليل كون دمها استحاضة لزمها غسل الحيض وجميع أحكام الاستحاضة فعلاً وتركاً. ومعنى ذلك أنّها اختارت حينئذٍ العمل بدليل كون دمها استحاضة ، فلا ريب

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ١٧٢ / ٤٩١ ، وسائل الشيعة ٢ : ٣٠٣ ، أبواب الحيض ، ب ١٣ ، ح ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢ : ٣٤٣ ، أبواب الحيض ، ب ٣٩.

(٣) في المخطوط : ( تعادمهما ).

(٤) في المخطوط : ( ان ).

(٥) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

٣٧٧

في وجوب العبادة عليها حينئذٍ ، فارتفع الإشكال ، وشفى الله الداء العضال ، وظهر عدم لزوم علّيّة غسلها لوجوب ما كان مندوباً أو مباحاً كما تخيّل.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه لا يمكن استمرار اشتباه دم ما زاد على العادة ، لما يلزم من ارتفاع التكليفين أو أحدهما أو التكليف بالنقيضين ، وللقطع بأنّ أكثر الحيض عشرة ، فجعل الشارع بحكمته برهان تعيين أحدهما وإظهار ما هو الواقع منهما في ذلك الحال في نفس الأمر هو الانقطاع على العشرة والعبور عنها ؛ فإن انقطع عليها ترجّح دليل الحيض وانكشف أن ما زاد على العادة حيض ، وإن عبرها ترجّح دليل الاستحاضة وانكشف أن ذلك الدم استحاضة ، ليظهر بذلك ما في نفس الأمر منهما.

فهذا ملجأ وميزان عدل ، ويؤيّد أنه مع عبور العشرة استحاضة إن اللحظة التي تلي العشرة بعدها بلا فصلٍ استحاضة بالإجماع ، فبعيدٌ كون اللحظة التي [ تسبقها ] (١) من العشرة قبلها بلا فصل حيضاً لبعد تغيّر المزاج وحدوث المرض بين ذينك اللحظتين جدّاً. بل قَطَع بعض الأفاضل بأنّهما استحاضة ، بل نقل القطع به عن الفقهاء. وهذا واضح في المشهور بين الفقهاء ؛ لحكمهم بأنه مع العبور استحاضة كلّه ، بل الظاهر أن ذلك إجماع. فهكذا اللحظات المتوالية متنازلاً حتّى تصل إلى أيّام العادة.

وبما أوضحناه ظهر دليل الفقهاء على وجوب قضاء عبادة أيّام الاستظهار مع العبور بلا شبهة ؛ لأنّ ذلك جعله الشارع دليلاً على أن ما زاد على العادة استحاضة فتجب فيها العبادة ، وقد فاتت ؛ فيجب قضاؤها بالدليل العامّ من وجوب قضاء الفوائت من العبادات ممّا دلّ الدليل على وجوب قضائه.

فلا وجه لاستشكال بعض المتأخّرين في ذلك ، وليس الدليل منحصراً في الدليل الجزئيّ بالضرورة ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( تليها ).

٣٧٨

[١١٨]

لطيفة فقهيّة : الأصل في الشهر التمام

لو أن رجلاً أفطر شهر رمضان فنسي هل كان ذلك الشهر تامّاً أو ناقصاً ، ما يلزمه؟

أقول : الذي يظهر من الدليل أنه يلزمه قضاء ثلاثين يوماً ؛ لأنّ به يقين خلوّ العهدة ، حيث إن ذمّته مشغولة بقضاء شهر ، ولا يحصل يقين براءة ذمّته ممّا اشتغلت به إلّا بقضاء ثلاثين يوماً ، ولأنّ الأصل في الشهر التمام ، فإنّا إذا كنّا في شهر رمضان مثلاً بيقين ، فالأصل بقاؤه واستصحابه حتّى يأتي ناقل قطعيّ يرفع اليقين السابق ، وليس إلّا إكمال ثلاثين أو ثبوت رؤية هلال شوّال.

وبعبارة أُخرى : إذا تحقّق المحاق واختفاء القمر بيقين ، فالأصل بقاؤه وعدم رؤيته ، فيستصحب حتّى يحصل الناقل عنه ، وليس إلّا ما ذكرناه.

فإذا لم يثبت رؤية شوّال في ذلك الشهر بيقين ، بقيت الذمّة مشغولة بثلاثين ؛ ولهذا وجب صوم يوم الثلاثين من شهر رمضان إلّا أن تثبت رؤية هلال شوّال. فلو لم يكن التمام هو الأصل لما وجب صومه حتّى تثبت الرؤية لهلال شوّال ؛ لعدم يقين التكليف بصومه لولا ذلك الأصل. وهذا أعني وجوب صوم يوم الثلاثين ما لم تثبت رؤية هلال شوّال قد أطبقت عليه الأُمّة في كلّ زمان واتّفقت عليه أخبار السنّة الغرّاء (١) بلا معارض مع استفاضة مضمونها بل تواتره.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦١ ـ ٢٧٥ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٥.

٣٧٩

وأيضاً لا ينبغي الريب في أن من نذر صوم شهر على الإطلاق ، وابتدأ من أثناء شهر هلاليّ وجب صوم ثلاثين ؛ لأنّ به يقين براءة الذمّة ، وكذا لو ابتدأ من أوّل هلاليّ وفرّق صومه. وهو الأحوط أيضاً إن لم يكن متعيّناً فيما لو ابتدأ من أوّل هلاليّ ووالى.

ولو لا ذلك الأصل لما وجب هذا ، ولأنّ الفرقة أيضاً متّفقة مجمعة في كلّ عصر على أنه إذا غمّ الشهران أو الشهر أو الثلاثة حسبت تامّة كلّها ، بل الأكثر على أنه لو غمّ الحول حسبت شهوره كلّها تامّة ، وإن كان لا يخلو من إشكال.

ويؤيّده أيضاً ما ورد عنهم سلام الله عليهم أن المتردّد في بلد يقصر إلى شهر (١).

وورد أنه يقصر إلى ثلاثين يوماً (٢).

و [ المجمل (٣) ] يحمل على المبيّن ، فدلّ على أنّهم عليهم‌السلام أرادوا بالشهر ثلاثين. فهذا يؤيّد أن الأصل في الشهر التمام إن لم تدلّ عليه. بل لعلّه يشعر بأنّ الثلاثين حقيقة عرفيّة فيه إن لم نقل شرعيّة ، فتأمّله.

ويؤيّد ما قلناه أيضاً إن لم يَدلّ عليه الأخبارُ الكثيرةُ الناصّة على أن شهر رمضان لا ينقص أبداً (٤).

ولا يضرّ اختصاص دلالتها بشهر رمضان وإن كان لها تأويلٌ بحسب المعقول. ولعلّه إشارة إلى أن رتبة الوجوب لا يمكن أن يدخلها نقص بوجه ما أصلاً ، بل هو فرض مستحيل ذاتيّ. ورتبة الإمكان لا يمكن أن تتمّ أبداً ؛ لافتقارها بهويّتها في تحقّق وجودها ولوازمه إلى إمداد علّتها ، فحقيقتها الفقر لذلك. وهذا نقص إضافيّ بالنسبة لعلّتها ، وإلّا فهو أشرف الكمال الإمكانيّ.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٢١٩ / ٥٤٦ ، الإستبصار ١ : ٢٣٧ / ٨٤٧ ، وسائل الشيعة ٨ : ٥٠٠ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٥ ، ح ٩.

(٢) تهذيب الأحكام ٣ : ٢١٩ / ٥٤٨ ، الإستبصار ١ : ٢٣٨ / ٨٤٩ ، وسائل الشيعة ٨ : ٥٠١ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٥ ، ح ١٢.

(٣) في المخطوط : ( المحل ).

(٤) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٨ ـ ٢٧٤ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٥ ، ح ٢٤ ـ ٣٧.

٣٨٠