رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

وربّما أوهم القيد إمكان الافتراق بعد الورود ، مع أنه قد ثبت بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً عدم إمكان افتراقهما.

والجواب من وجهين :

أحدهما : أنه إذا ثبت التلازم وامتنع الافتراق إلى تلك الغاية والرتبة وهي ورود الحوض ثبت أبداً ، لأنّ ذلك المقام هو غاية إمكان الافتراق بين المتلازمين بالإمكان العامّ ونهايته. ولا أعني بالإمكان العامّ معناه باصطلاح مشهور متأخّري أهل الميزان ، فإنّ إطلاق الإمكان على ذلك المعنى منظور فيه. فإذا تحقّق التلازم بينهما وانتفى الافتراق عنهما إلى تلك الحال تحقّق التلازم وانتفى الافتراق أبداً.

فما ثبت تلازمهما إلى تلك الغاية لا يمكن افتراقهما أبداً ؛ لأنه مقام ظهور اللازم الذاتي وملزومه بعنوان الوحدة وضرب من الاتّحاد.

الثاني : قد عرفت أنّهما قبل الورود بحكم مقام الرسالة العامّ أعني : مقام كتاب وإمام ، وقارئ وقرآن شيئان متعدّدان متمايزان ، الإشارة لأحدهما تغاير الإشارة للآخر في مقام الحسّ ، وأنّهما متلازمان لن يفترقا في حال بوجه أصلاً ، حيث إن ثبوت التلازم بين الشيئين وصدق إطلاقه عليهما يقتضي التعدّد والاثنينيّة. وبعد ورودهما عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله الحوض يظهر حكم وحدتهما واتّحادهما ، فهناك يصدق أن يقال : لا قرآن وإمام قارئ ، ولا اثنينيّة ، بل الكتاب حينئذٍ يظهر كونه صفة الموصوف ، وهو ذات العترة ، والعترة ذات صفتها الذاتيّة الكتاب ، أو قل : جسد عقله الكتاب.

فالوارد ذات صفة ذاتيّة ، هما شي‌ء واحد بضرب من الاتّحاد ، أو قل : عقل وجسد. فالوارد عليه الحوض هو العاقل. وحينئذٍ لا يتصوّر إمكان افتراق عاقل عن عقله بعد ورود الحوض.

على أنه قد ثبت بالبرهان المتضاعف المحكم عقلاً ونقلاً عدم إمكان افتراقهما بحال في مقام من مقامات الوجود. فإذن ثبت عدم إمكان افتراقهما في إقليم التعدّد ، وإلّا لانتفت عصمتهم وحجّيّتهم والبرهان بكلّ طريق أثبتهما ، فلأن لا يمكن

٤٤١

الافتراق بعد الوصول إلى مقام الوحدة والثبات أعني دار القرار بطريق أولى.

وممّا ذكرناه من الوجهين يعلم وجه تغيّي لعنة إبليس : بيوم الدين وما أشبه ذلك ؛ فإنّ إبليس : لعنه الله قبل العرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يوم الدين شخص ملعون ، فهنا ذات لها لعن ، أي ذات ملعونة. وبعد ثبوت اللعن له وتلازمهما إلى ذلك المقام لا يمكن انتفاؤه عنه أبداً. وما بالذات لا يزول ؛ لأنّه حينئذٍ يظهر ويتحقّق ويثبت أن حقيقته ذات صفتُها الذاتيّة اللعن ، بل حقيقتها في الحقيقة اللعنُ ، فتمتنع المزايلة بينهما ؛ لأنّها دار القرار. فلا ينفكّ حينئذٍ من أنه ملعون عليه لعنة الله أبداً.

وقس على هذا أمثاله ، وتلطّف لكلّ مقام بما يناسبه ، فإنّ هذا باب ينفتح منه أبواب ، والله الهادي للصواب.

خاتمة

قد دلّ هذا الحديث الشريف على عصمة العترة : عليهم‌السلام بمقتضى تلازمهم مع القرآن ، فإنّ من أمكن منه غفلة أو سهو فضلاً عن المعصية فإنّه مفارق للقرآن حال غفلته أو سهوه بالضرورة ؛ لأنّه حينئذٍ مع غير الحقّ ، ولا يكون القرآن مع غير الحقّ. فأمّا مفارقتهم في تلك الحال للقرآن ، وقد نفاه هذا النصّ الصريح وغيره ممّا استفاض نقلاً (١) وعقلاً ، أو كون القرآن حينئذٍ [ مع غير الحقّ ] وهو باطل بالضرورة. فإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يمكن أن يقع منهم غفلة أو سهو فضلاً عن المعصية.

وبالضرورة أن هذه الأُمّة لم يثبت لأحد منها هذا التلازم مع القرآن غير العترة المطهّرة : بنصّ الكتاب (٢). وله مؤيّدات كثيرة تدلّ على عصمتهم صريحاً كحديث

__________________

(١) انظر عمدة عيون صحاح الأخبار : ٦٨ ـ ٧٦ / الفصل : ١١ ، بحار الأنوار ٢٣ : ١٠٦ ـ ١٤٧.

(٢) في قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) ، المائدة : ٣ ، وقوله عزّ من قائل ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) ، المائدة : ٦٧. انظر : مناقب أمير المؤمنين ( ابن المغازلي ) : ١٨ ـ ١٩ / ٢٤ ، تأويل الآيات الظاهرة : ١٥١ ـ ١٥٢ ، ١٦١ ـ ١٦٥.

٤٤٢

« عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ : يدور معه حيثما دار » (١) ، وحديث الطائر (٢) ، وحديث « أهل بيتي كسفينة نوح » (٣) ، وحديث : « من كنت مولاه فعلي : مولاه »(٤).

وآية التطهير (٥) ، وغير ذلك من الكتاب والسنّة ممّا أوضحنا دلالته في كتابنا ( نعمة المنّان في إثبات صاحب الزمان ) (٦) ، وغيره ، وبالله الاعتصام.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ٣ : ٧٧ ، وفيه : « لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة » بعد قوله : « والحق مع عليّ : ».

(٢) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٢٤٢ ـ ٢٥٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ / ٤٦٥٠ ، ٤٦٥١ ، كنز العمّال ١٣ : ١٦٦ / ٣٦٥٠٥ ، و ١٣ : ١٦٧ / ٣٦٥٠٧.

(٣) عمدة عيون صحاح الأخبار ٣٥٨ ـ ٣٦٠ ، المعجم الكبير ٣ : ٤٥ / ٣٦٢٦ ، و ١٢ : ٢٧ / ١٢٣٨٨ ، كنز العمّال ١٢ : ٩٥ / ٥١ ـ ٣٤١ ، الصواعق المحرقة : ١٥٢ ، ١٨٦.

(٤) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٩٢ ـ ١١٦ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٦ / ٤٦٠١.

(٥) الأحزاب : ٣٣ ، وانظر عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣١ ـ ٤٦ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٥٨ ـ ١٥٩ / ٤٧٠٥ ـ ٤٧٠٧.

(٦) كتاب يقع في مجلّد كبير. انظر الذريعة ٢٤ : ٢٣٤ / ١٢٠٨.

٤٤٣
٤٤٤

[١٣٥]

تنزيه فيه توحيد

وتحميد : « الأوّل بلا أوّل كان قبله »

قال زين العابدين سلام الله عليه : « الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده » (١). ومعنى هذه الكلمة عبارتان :

أحدهما : أنه عزّ اسمه أوّل كلّ شي‌ء وآخر كلّ شي‌ء ، أي مبدأ كلّ شي‌ء ومنتهى كلّ شي‌ء ، لا يسبقه شي‌ء ، ولا يلحقه شي‌ء ، محيط بكلّ شي‌ء بأوّليّة [ التي ] هي عين آخريّته.

الثانية : أن مستكنّ الكونين وفاعلهما يعود إلى الله عزّ اسمه وحده ، والمضاف إليه القبليّة للأوّل ، والبعديّة للآخر ، فلا فصل بينه وبين شي‌ء من خلقه ، ولا شي‌ء أقرب إليه إلّا بالعلم والعمل. أو قل : المضاف إليه القبليّة والبعديّة ، للأوّل الآخر ، والآخر الآخر ، أو للأوّل الأوّل ، والآخر الأوّل.

وبالجملة ، فمعناها أن أوّليّته عزّ اسمه وآخريّته لا تشبههما أوّليّة ولا آخريّة ، [ وليس قبل أوّليته أوّلية ولا بعدها أوّلية ، وليس بعد آخريّته آخريّة ولا قبلها آخريّة (٢) ] ؛ إذ ليس معه جلّ شأنه شي‌ء ، لا إيجاباً ولا سلباً ، ولا وجوداً ولا عدماً ، حتّى تلي أوّليتهُ أوّليةً ، [ أو تعقّب (٣) ] آخريتَه آخريةٌ ، بل أوّليته عين آخريته ، وآخريته عين

__________________

(١) الصحيفة السجّاديّة : ٣٣.

(٢) في المخطوط : ( بعد أوليته بعد ).

(٣) في المخطوط : ( ولا ).

٤٤٥

[ أوّليّته (١) ] ، فهو عزّ اسمه أوّل بما هو آخر ، وآخر بما هو أوّل ، لا تحيط بأوّليّته وآخريّته العقول ، ولا تمثّلها الأوهام بالحدود والفصول. فهو عليه سلام الله نزّه بارئه عزّ اسمه وجلّ عن الشبه والنظير حتّى في أوّليّته وآخريّته ، بل هي أوّليّة تفرد بها ، وآخريّة تفرّد بها ، لا تشبههما أوّليّة ولا آخريّة ، فأوّليّته لا شي‌ء يسبقها ، ولا أوّليّة تلحقها حتّى تضاف إليها وتشبهها ، وآخريّته لا شي‌ء بعدها ، ولا آخريّة بعدها تلحقها حتّى تضاف إليها وتشبهها.

سبحان من لا تختلف عليه الصفات ، ولا تختلف عليه الحالات ، ولا تغيّره الدهور ، ولا تلحقه الإضافات ، ولا ينظمه حدّ ولا عدّ ، توحّد بالتوحيد في توحّده.

وقال الشارح السيّد نعمة الله : ( المراد نفي الأوليّة الإضافيّة والآخريّة الإضافيّة ). وما قرّرناه أعمّ منه وأشمل ، فتأمّل ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( اضربته ).

٤٤٦

[١٣٦]

شهاب ثاقب لرجم شيطان كاذب

استدلال الكتابي بالاستصحاب على بقاء نبوّة

موسى وعيسى : عليهما وعلى نبيّنا وآله : وعليهما‌السلام

مسألة : رأيت منقولاً بخطّ بعض الثقات من مبحث الاستصحاب من قوانين الميرزا أبي القاسم : ما صورته : ( وينبغي التنبيه لأُمور :

الأوّل : أن الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابليّة الامتداد وملاحظة العلّيّة ، فلا بدّ من التأمّل في أنه كلّيّ أو جزئيّ ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أوّلاً مفهوماً كلّيّاً مردّداً بين أُمور ، وقد يكون جزئيّاً حقيقيّا معيّناً ؛ وبذلك يتفاوت الحال ؛ إذ قد يختلف أفراد الكلّ في قابليّة الامتداد ومقداره ، [ فالاستصحاب (١) ] حينئذٍ ينصرف إلى أقلّها استعداداً للامتداد ) (٢).

أقول : قوله : ( ينصرف ) إلى آخره ، ينبغي أن يقيد بما إذا كان حكم الموضوع بعنوان الكلّيّة بأفراده ؛ لأنه يختلّ حكم الكلّي بل يرتفع من أصله بخروج فرد. أمّا لو كان حكم الموضوع بعنوان الإطلاق فإنّه لا صارف عن صرفه لأطولها استعداداً للامتداد. هذا كلّه مع عدم ظهور العلّيّة ، وإلّا فإنّه معها يدور مدارها ، كما هو ظاهر.

ثمّ قال أبو القاسم : ( هاهنا لطيفة ، هي أن بعض الفضلاء (٣) من أصحابنا ذكر أن

__________________

(١) من المصدر ، وفي المخطوط : ( الاستصحاب ).

(٢) قوانين الأُصول : ٢٩٩ ( حجري ).

(٣) في هامش ( القوانين ) أنه السيّد محمّد مهدي الطباطبائي.

٤٤٧

أحداً من أهل الكتاب تمسّك بأنّ المسلمين قائلون بنبوّة نبيّنا وحقّيّته ، فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان دينه (١). وذكر أنه أجابه : إنّا لا نسلّم ولا نقرّ بنبوّة نبيّ لا يقول بنبوّة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهو حاصل ما ذكره الرضا عليه‌السلام : في جواب الجاثليق (٢).

قال الفاضل فأجابني بأنّ عيسى بن مريم : عليها‌السلام المعهود الذي لا يخفى على أحدٍ حاله وشخصه أو موسى بن عمران : عليه‌السلام الذي لا يشتبه حاله على أحد من المسلمين ولا أهل الكتاب جاء بدين الله وأرسله الله نبيّاً ، وهذا القدر مسلّم عند الكلّ. فنقول : دين هذا الرجل المعهود ورسالته باقيان بحكم الاستصحاب ، فعليكم إبطالَه. فأفحم الفاضل المذكور ) (٣).

قلت : إذا تأمّلت جواب الرضا عليه‌السلام : للجاثليق : وجدت هذا غير مبطل له ، وإلّا لما كان حجّة الإمام عليه‌السلام تامةً بالغة فنقول : إن عيسى : عليه‌السلام أو موسى : عليه‌السلام وهو الشخص المعلوم الذي جاء برسالة الله ، وهو الشخص المعهود المعروف بين المسلمين وأهل الكتاب ، إن سلّم الكتابيّ أنه جاء بالبشارة برسالة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب : وهو الشخص المعهود بين الخلائق ، وأخذ العهد على أُمّته بالإقرار به واتّباعه كما هو الواقع ، فرسالته حقّ ونحن نقرّ به ، وإلّا أنكرنا رسالته. فكلّ موسى أو عيسى لم يبشّر بذلك فهو ليس برسول ، لكن موسى أو عيسى : عليهما‌السلام وهو الشخص المعهود المعروف قد بشّر بذلك ، وأخذ العهد على أُمّته به ، فقد لاح من هذا أن الاحتجاج بالاستصحاب لا يبطل تلك الحجّة ، بل لا تحقّق له معها.

ثمّ قال أبو القاسم : ( فقلت في إبطال الاستصحاب بعد فرض تسليم جواز التمسّك به في أصول الدين : إن موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّناً حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلّا النبوّة في الجملة ، وهو كلّيّ قابل للنبوّة إلى الأبد ، بأن يقول الله تعالى : أنت نبيّ وصاحب دين إلى يوم القيامة ، وللنبوّة الممتدّة

__________________

(١) أي دين الكتابيّ.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ : ١٥٧.

(٣) قوانين الأُصول : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ( حجريّ ).

٤٤٨

إلى زمان محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأن يقول له : أنت نبيّ ودينك باقٍ إلى زمان محمّد : صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولأن يقول أنت نبيّ بدون أحد القيدين فعلى المخالف أن يثبت ؛ إمّا التصريح بالامتداد إلى الأبد ، وأنّى له بإثباته؟ والمفروض أن الكلام أيضاً ليس فيه ، وإمّا الإطلاق وهو أيضاً في معنى القيد ، ولا بدّ من إثباته.

ومن الواضح أن مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو النبوّة المطلقة لا مطلق النبوّة ؛ إذ الكلّيّ لا يمكن استصحابه إلّا بما يمكن من أقلّ أفراده امتداداً أو استعداداً ، فبذلك بطل تمسّك أهل الكتاب ؛ إذ على فرض التسليم والتنزّل والمماشاة معهم نقول : إن القدر الذي ثبت لنا من نبوّتهما هو القدر المشترك بين أحد المقيّدات الثلاثة ، فمع إمكان كونها النبوة الممتدّة إلى زمان محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف يجري الاستصحاب إلى آخر الأبد ) (١).

أقول : لا يخفى ضعف هذا التقرير ، فإنّ أهل الكتابين لا يدّعي أحد منهم استمرار نبوّة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام إلى الأبد ، فلا كلام معهم فيه ، وإنّما ادّعى عرفة اليهود ارتفاع النسخ والاحتجاج ليس عليه ، وإنّما الاحتجاج بالاستصحاب على فرض أن رسالة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام ثابتة على الإطلاق ؛ لأنه القدر المتيقّن بعد ارتفاع البرهان على تعيين أحد الثلاثة بخصوصه ، ولأنه القدر المسلّم بين المسلمين وأهل الكتاب ، فادّعى جريان الاستدلال بالاستصحاب فيه.

ونحن نقول : لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب في هذا المقام.

أمّا أوّلاً ؛ فلأنه ظنّيّ الدلالة ، فلا يصحّ التمسّك به في الأُصول ؛ لأنّ دليل مسائله لا بدّ أن يكون برهاناً عقليّاً فلا بدّ من كونه يقينيّاً.

وأما ثانياً ؛ فلأنّ الاستصحاب على ثلاثة أقسام :

أحدها : استصحاب نفي الحكم الشرعيّ إيجاباً أو تحريماً ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وهذا ليس ما عناه واستدلّ به الكتابي على بقاء التكليف بشريعة

__________________

(١) قوانين الأُصول : ٣٠٠ ( حجري ).

٤٤٩

موسى : وعيسى : عليهما‌السلام إلى وقت الاحتجاج قطعاً.

الثاني : استصحاب حكم ثبت لموضوع في زمن أوّل إلى زمن ثانٍ مع طريان وصف على الموضوع أو ارتفاع وصف ثابت له وقت ثبوت الحكم في ثاني الأزمان ، يوجب طريان ذلك الوصف أو ارتفاعُه الشكّ في بقاء ذلك الحكم وثبوته للموضوع. والظاهر أن هذا لم يعنه الكتابيّ أيضاً ، فإن عناه قلنا : زال من مقتضيات الطبائع والأزمان في زمن الخطاب ما ثبت في زمن بعثة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام في وقت الخطاب ، وثبت فيه ما انتفى في وقت بعثة أحدهما ممّا لا يخفى على الحكيم بل الذكي المتأمّل.

ومعه يحصل الشكّ في بقاء الحكم باستمرار التكليف بشرع موسى : أو عيسى : فيبطل الاستدلال بالاستصحاب ؛ لأنّ هذا في الحقيقة في مثل المقام يرجع إلى اختلاف الموضوع ، ومعه لا يصحّ الاستدلال بالاستصحاب.

الثالث : استصحاب حكم ثبت لموضوع معيّن بيقين ، ولم يطرأ على الموضوع في الزمن الثاني ، فما يوجب الشكّ في بقاء الحكم الثابت بيقين في الزمن الأوّل واستمراره إلى الزمن الثاني فيه. والظاهر أن هذا هو مناط استدلال الكتابيّ ؛ إذ لا يتمّ له الاستدلال بالاستصحاب في الظاهر على المعنيين في الأوّلين.

فنقول : لا يتمّ الاستدلال بالاستصحاب على معنى من الثلاثة الأقسام ؛ أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الأخيران فنحن نشرط في صحّة الاحتجاج بالاستصحاب اتّحاد الموضوع الذي ثبت له الحكم في الزمن الأوّل بيقين ، وألّا يطرأ عليه في الزمن الثاني ما يوجب الشكّ في بقائه ، أو ما يحصل به يقين ارتفاعه ولو بحسب الظنّ الغالب لرجحان الدليل الرافع له.

فإذا كان هذا هكذا فنحن نمنع اتّحاد الموضوع أوّلاً ، ونقول : حدث ما يوجب الشكّ في بقاء التكليف بشرع موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام إلى زمن الاحتجاج ، وأدنى ذلك يقين اختلاف الطبائع البشرية ومقتضيات حركات الأفلاك والأزمان ، ولا يكلّف الله

٤٥٠

نفساً إلّا وسعها أي بما في وسعها قبوله بكمال الاختيار وكذلك جاءنا هذا النبيّ الكريم : صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوى الرسالة العامّة ، وأقام البراهين وأظهر المعجزات الدالّة على صدق دعواه بيقين ، وهي ثابتة بالتواتر على الإجمال.

وناهيك بالقرآن العظيم الذي عجز البلغاء عن أن يأتوا بمثل آية منه ، وغير ذلك ممّا يوجب يقين صدق دعواه.

ولا أقلّ من آية توجب الشكّ في بقاء التكليف بشرع موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام إلى زمان محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ثمّ نقول أيضاً : لا يخلو إمّا أن يكون موضوع التكليف ببعثة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام حين قال أحدهما : إنّي رسول الله وأظهر المعجزات الدالّة على صدق دعواه ، شخصاً جزئيّاً أو أشخاصاً محصورة ، فلا ريب في قصره على ذلك ما أمكن تكليفه به ، وإن كان كلّيّاً من حيث هو كلّيّ في محصورة أو عامّة باعتبار تحقّقها بالأفراد فيرجع الحكم إلى الأفراد ، كان الحكم مصروفاً لقدر زمن أقلّها زمناً ، وإن تعلّق بالحقيقة الكلّيّة عمّ الحكم أزمان تلك الحقيقة ، وإن كان الحكم مطلقاً أي تعلّق به الحكم بعنوان الإطلاق ، لا بخصوص جزئيّة ولا كلّيّة ، عمّ الحكم أيضاً ؛ إذ لا يظهر صارف عن صرفه لأطولها استعداداً للامتداد.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه على الكتابيّ أن يبيّن أن موضوع التكليف برسالة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام من أي الأقسام بالدليل ، وحيث لا دليل على تعيين قسم منها لا يتمّ الاستدلال له على دعواه بالاستصحاب.

ثمّ إن قال : إن موضوع التكليف برسالة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام شخص معيّن أو أشخاص معيّنة محصورة كان مقصوراً عليهم ، ففناؤهم وانقطاعهم يبطل احتجاجه بالاستصحاب.

وإن قال : إنه كلّيّ باعتبار تعلّقه بالأفراد ، أجبنا :

أوّلاً بمنع تكليف المعدوم وصحّة خطابه حتّى يقوم دليل على عموم إرادة تكليف

٤٥١

جميع من سيوجد من أفراد الطبيعة من خارج. ولا دليل له على أن هذا لا يصحّح خطاب المعدوم.

وبالجملة ، نمنع اتّحاد الموضوع فيبطل الاستدلال.

وثانياً بمنع تعلّق ذلك التكليف بكلّيّ النوع كذلك ، ولا يتمّ احتجاجه به إلّا بعد إثبات ذلك بالدليل ، ولا دليل.

وهذا وإن كان في الحقيقة آئلاً إلى منع اتّحاد الموضوع إلّا إنه بطريق خاصّ.

وإن قال : إن موضوع التكليف بشريعة موسى : أو عيسى : عليهما‌السلام هو الحقيقة النوعيّة من حيث هي ؛ فإن أراد أنه باعتبار تعلّقها بالأفراد ، فالجواب ما تقّدم من طلب الدليل على ذلك ومنع اتّحاد الموضوع. وإن أراد تعلّقه بها في نفسها ، من حيث هي كلّيّة لا بذلك الاعتبار أعني تعلّقها بالأفراد فذلك محال ؛ لأنه يؤدّي إلى تكليف ما لا تحقّق له في الخارج ، بل لا تحقّق له إلّا في الذهن بالتكاليف الخارجة ، واستحالته ظاهرة.

هذا ، ولنا أن نمنع عموم بعثتهما لجميع الموجود من أفراد الحقيقة حين بعثتهما بالذات.

وإن قال : الموضوع مطلق غير متعيّن في قسم من هذه الأقسام بطل استدلاله بالاستصحاب ؛ إذ لا يتمّ إلّا بعد إقامة الدليل على إرادة قسم معيّن منها ، ولا دليل ، مع أنه في الواقع غير خارج من الأقسام المذكورة. وقد أبطلنا الاستدلال على ذلك بكلّ قسم منها.

وأيضاً إن كان دعوى الكتابي أن موسى : عليه‌السلام أو عيسى : عليه‌السلام المعهود المعروف متّصف في نفسه بأنه رسول الله ، وأن وصف الرسالة ثابت له ، فنحن نسلّم ذلك ونؤمن به ونوجب اعتقاده على كلّ مكلّف ، لكن اتّصافه بذلك لا يستلزم تعدية تكليف من دعاه للعمل بشريعته لمّا بعثه الله إلى من لم يدعه.

وأيضاً إن صحّ للنصرانيّ الاستدلال بالاستصحاب على بقاء التكليف بشريعة

٤٥٢

عيسى : عليه‌السلام إلى زمن الاحتجاج صحّ لليهوديّ الاستدلال به على بقاء التكليف بشريعة موسى عليه‌السلام : إلى زمن الاحتجاج ، وهكذا بالنسبة لإبراهيم ونوح وآدم : عليهما‌السلام ، بل جريان شريعة كلّ رسول في ذرّيّة قومه.

فإذن لا يتحقّق التكليف إلّا بشريعة آدم عليه‌السلام : فقط ، وما يجيب به النصرانيّ اليهوديّ نجيب به في رفع التكليف بما سوى شريعة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأيضاً الاستصحاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى ، وقد ثبتت رسالة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالأدلّة القاطعة.

ثمّ قال أبو القاسم رحمه‌الله : ( ثمّ إنّك بعد ما بيّنا لك لا أظنّك رادّاً علينا أمر الاستصحاب في الحكم الشرعيّ بما ذكرنا في هذا المقام بأن تقول : يمكن أن يرد الاستصحاب فيها بمثل ذلك فيقال : إن الأحكام الواردة في الشرع إنّما يسلّم جريان الاستصحاب فيها إن ثبت كونها مطلقات لم تكن مقيّدة إلى وقت خاصّ واختفى علينا ، أو ممتدّة إلى آخر الأبد. والذي يجوز إجراء الاستصحاب فيه هو الأوّل ؛ وذلك لأنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت في الشرع له حدّ [ ليست بآنية ولا (١) ] محدودة إلى حدّ معيّن ، وأن الشارع [ يكتفي في (٢) ] ما ورد عنه مطلقاً في استمراره. ويظهر من الخارج أنه [ أراد (٣) ] منه الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي.

فإن قلت : هذا مردود عليك في حكاية النبوّة.

قلنا : ليس كذلك ؛ لأنّ الغالب في النبوّات هو التحديد ، بل إنّما الذي ثبت علينا ونسلّمه من الامتداد القابل لأن نمتدّه إلى الأبد هو نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنا لا نحتاج في إثباته إلى التمسّك بالاستصحاب حتّى يتمسّك الخصم بأن نبوّته أيضاً مردّدة بين الأُمور الثلاثة. بل نحن متمسّكون بما نقطع به من النصوص والإجماع.

__________________

(١) من المصدر ، وفي المخطوط : ( غير ).

(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( يكفي ).

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( راد ).

٤٥٣

نعم ، لو كنّا تمسّكنا بالاستصحاب في الدوام ، لاستظهر علينا الخصم بما نبّهناه عليه ) (١).

أقول : ورود ما ردّ به الاستصحاب في أمر النبوّة بعد تسليم جريانه في الأُصول وارد عليه في التمسّك به في الشرعيات قطعاً ، وحكم التتبّع والاستقراء بأن الغالب في الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت له حدّ في الشرع بعدم المحدوديّة غير دافع له :

أمّا أوّلاً ، فلجواز كون الفرد المتنازع فيه منها من غير الغالب.

وأما ثانياً ، فلأن ما أثبت الاستقراء والتتبع عدم تحديده بحدّ معيّن خارجٌ عن موضوع الاستدلال بالاستصحاب ، وكذلك القول في استفادة الاستمرار فيما ورد عن الشارع مطلقاً في كفاية الإطلاق في الحكم باستمرار الحكم. وكذا ما يظهر من الخارج أنه أراد من الإطلاق الاستمرار ؛ فإنه بعد تسليم ذلك واستفادته من تتبّع أكثر الموارد واستقرائها يخرج بالمسألة عن محلّ الاستدلال بالاستصحاب ؛ للغناء عنه حينئذٍ بما هو أقوى منه ، وليس البحث إلّا فيما لم يثبت استمراره بدليل غير الاستصحاب من المطلقات.

وردّه عليه في حكاية النبوّة لا يخلّصه منه دعوى أغلبيّة تحديد النبوات ، كما هو ظاهر. وليس البحث مع الكتابي في استصحاب نبوّة نبيّنا بعد ثبوتها ، فليس هو متمسّكاً في نفي استمرارها بالترديد الذي ذكره ، والمعصوم من عصمه الله.

ثمّ قال أبو القاسم :

( فإن قيل : قولكم بالنّسخ يعيّن الإطلاق ، ويبطل التحديد ؛ لان إخفاء المدة و [ عدم (٢) ] بيان الأمر مأخوذ في ماهيّة النسخ ، وهو بعينه مورد الاستصحاب.

قلنا : ما سمعت من مخاصمتنا مع اليهود في تصحيح النسخ وإبطال قولهم في بطلانه ، إنّما هو من باب [ المماشاة (٣) ] معهم في عدم تسليمهم [ التحديد (٤) ] وإبطال

__________________

(١) قوانين الأُصول : ٣٠٠ ( حجري ).

(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( عدوم ).

(٣) في المخطوط : ( المماشات ).

(٤) من المصدر ، وفي المخطوط : ( تحديد ).

٤٥٤

قولهم لقبح النسخ. وإلا فالتحقيق أن موسى وعيسى : عليهما‌السلام أخبرا بنبوّة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : و [ كتاباهما ناطقان (١) ] به ، لا أن نبوّتهما مطلقة ونحن نبطلها بالنّسخ. فلمّا كان اليهود منكرين لنطق كتابهم ونبيّهم بذلك ، وزعموا دوام دينهم ، وإطلاق النبوّة ، وتمسّكوا بالاستصحاب من باب [ المماشاة (٢) ] معنا ، وتمسّكوا ببطلان النسخ ، بناء عليه أيضاً ، فنحن نخاصمهم على هذا الفرض في تصحيح النّسخ ، وهذا لا يضرّ ما رددنا عليهم في تمسّكهم بالاستصحاب.

فإن قيل : أحكام شرع عيسى عليه‌السلام : مثلاً مطلقات ، والنسخ يتعلّق بالأحكام.

قلنا : إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة عيسى عليه‌السلام : برسول بعده اسمُه أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينفعهم ، لاستلزامه وجوب قبول رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد قبولها لا معنى لاستصحاب أحكامهم كما لا يخفى ، فافهم ذلك واغتنم ) (٣). هذا آخر ما رأيته منقولاً من عبارة ( القوانين ).

وأقول : ثبوت الإطلاق بالنسخ إن حقّق محلّ دعوى الاستصحاب مدفوع جريانه فيه بما ذكرناه من منع اتّحاد الموضوع وبعدم جريان شي‌ء من أقسام الاستصحاب في الاستدلال على المسألة. وفيه غنى عن التسليم ، والردّ بإخبار موسى وعيسى عليهما‌السلام : ؛ لأن ذلك بعد التسليم لا يقلع الشبهة ، لمنع الخصم من بشارتهما به.

وأيضاً الظاهر أن النصارى مُقِرّون بأن نبوّة عيسى عليه‌السلام : ليست مطلقة ، بل مغيّاة برسالة رسول [ الله ] أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكذلك أحبار اليهود مقرّون يتغيّى رسالة موسى عليه‌السلام : وعدم إطلاقها إلّا المحرفين (٤) منهم.

وبما ذكرناه يندفع احتجاج المحرّفين منهم بالاستصحاب ، وبإبطال دعواهم ( قبح النسخ ) يبطل احتجاجهم به على انتفاء نبوّة عيسى عليه‌السلام : ومحمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : والاحتجاج لثبوت نبوّة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : بثبوت ظهور المعجزات مع دعواه الرسالة وإخبار موسى

__________________

(١) في المخطوط : ( كتابهما ناطق ).

(٢) في المخطوط : ( المماشات ).

(٣) قوانين الأُصول : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ( حجري ).

(٤) في المخطوط : ( المحرفون ).

٤٥٥

وعيسى عليهما‌السلام : بنبوته ، وتغيّيهما له بما تحقّق فيه دون من سواه من الأوصاف والسجايا طريقان آخران خارجان عن محلّ مسألتنا ، والله العالم.

٤٥٦

[١٣٧]

إخراج كنز : « وهي لنا خاصّة »

مسألة : روى الكلينيّ : بإسناده عن أبي الجارود : قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام : يقول وذكر هذه الآية ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) (١) ـ : « رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أحد الوالدين ». فقال عبد الله بن عجلان : من الآخر؟ قال : « علي عليه‌السلام ونساؤه علينا حرام ، وهي لنا خاصّة » (٢).

فما معنى : « وهي لنا خاصّة »؟

والجواب ، وبالله المستعان من وجوه :

أحدها : إرجاع ضمير « وهي » لتحريم نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعده على جميع البشر أي ذلك من خواصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دون غيره من بني آدم : فيحتمل حينئذٍ رجوعُ « لنا » [ إلى ] هذه الأُمّة عامّة أي اختصّوا بتحريم نساء نبيّهم بعده دون الأُمم ولأهل البيت خاصة أي أنا أهل بيت اختُصصنا بهذا الشرف ، بأن حرّم الله نساء نبيّنا وأبينا ومن نحن خلفاؤه دون أهل بيوتات الأنبياء وشرف محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : شرفهم ، فكان في معنى وهي لأبينا دون البشر طرّاً.

الثاني : أن يرجع المبتدأ (٣) لتحريم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضمير « لنام » لأهل البيت عليهم‌السلام : ـ

__________________

(١) العنكبوت : ٨.

(٢) الكافي ٥ : ٤٢٠ / ٢ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤١٣ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ب ٢ ، ح ٣.

(٣) أي الضمير : ( وهي ).

٤٥٧

أي أنا ورثنا ذلك الشرف ، فنساؤنا محرّمة على من سوانا من البشر ، كما كان ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وإن اختص هو بظهور هذا الشرف له من حين بعثته ، وهم لا تظهر وراثتهم له في ذلك. وأظن ظنّاً متاخماً للعلم أنه ورد ما يدلّ صريحاً على عموم تحريم نسائهم بعدهم كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فالجامع بينه وبين الإجماع على حلّ نسائهم بعدهم في دولة الباطل ، تخصيص ظهور ذلك التحريم بالنسبة لهم ، والتكليف به بزمن الرجعة.

الثالث : إرجاع المبتدإ إلى أُبوّة الرعيّة ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبٌ لجميع من دخل تحت دعوته غيباً وشهادة ، وكلّ إمام من خلفائه هو الأب الثاني لرعيّته. فهذه الفضيلة لهم خاصّة ، فإنها الأُبوّة الحقيقيّة ، وهي لهم دون من عداهم. فضمير « لنا » لهم ، ويحتمل حينئذٍ أيضاً إرجاعه للأُمّة على نحو ما تقدّم وإن كان ضعيفاً.

الرابع : إرجاع المبتدإ إلى توصية الإنسان بوالديه حسناً. والتوصية الحقيقيّة إنّما تكون للإنسان الحقيقيّ لا يكلف بها سواه ، وهو هم عليهم‌السلام خاصّة ، فهم مكلّفون بما لا يكلّف به غيرهم من المعرفة والتعظيم لذينك الأبوين. فابوّة محمّد وعليّ عليه‌السلام : لغيرهم إنّما هي من فاضل ابوّتهما ، كما أن علم غيرهم بهما من فاضل علمهم بهما ، وتكليفه بالإحسان لهما من فاضل تكليفهم ، والله العالم.

٤٥٨

[١٣٨]

هداية رحمن لكسر قلب

شيطان : الشمس تغرب بين قرني شيطان

مسألة : شاع بين الأُمّة أن من لا ينطق عن الهوى قال : « الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان » (١) ، فما معناه؟

فنقول وبالله المستعان ـ : اعلم أنه كما أن للعقل جنوداً [ فللجهل (٢) ] جنود ، وهي أضداد جنود العقل ؛ للمضادّة بين الأصلين بحسب الذات ، فكما أن للعقل ملائكة يبثّها في عالم الكون والفساد في الليل ، وملائكة اخرى يبثّها فيه في النهار ، [ فكذلك (٣) ] للجهل جنود هي شياطين يبثّها في الليل ، وجنود هي شياطين اخرى يبثّها في النهار ، يتعاقبون في البشر غير المعصوم منهم ، كما يتعاقب ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمع جنود الليل وجنود النهار في الساعة البرزخية بينهما.

وأكثر ما تهيج شياطين الليل عند الغروب ، وشياطين النهار عند الطلوع ؛ لأن أكثر ما يهيج [ من ] الأبخرة والأدخنة في عالم الكون والفساد عند الطلوع والغروب. وبغلبة الأبخرة والأدخنة يشتدّ تمكّن الشيطان من النفوس البشريّة ، وطمعه في [ غوايتها (٤) ] لأنهما مجراه ومركبه ؛ ولذا ورد أنه أشدّ ما يتمكّن الشيطان

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٣ : ١٨٢ / ١١ ، ٨٠ : ١٥٤.

(٢) في المخطوط : ( للجهل ).

(٣) في المخطوط : ( كذلك ).

(٤) في المخطوط : ( لوايتها ).

٤٥٩

من ابن آدم : إذا ملأ بطنه (١).

فهذان الجندان اعني : شياطين الليل وشياطين النهار هما قرنا الشيطان أي مظهر قوته وآلة فعله وغوايته للنفوس ؛ لأن قرني ذي القرن هما مظهر قوته ، كاليدين للإنسان فلما كانت الشمس تطلع وتغرب بين وقتي [ شياطين (٢) ] الليل وشياطين النّهار ، قيل : تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان.

ويؤيّد ما قلناه من تفسير القرنين بالجندين : شياطين الليل وشياطين النهار ما في رواية زيد النرسي : « إن الشمس تطلع بين قرني شيطان ، وتغرب بين قرني شيطان ، إلّا ليلة القدر » (٣) ، فإن السرّ في استثنائها أن ليلة القدر ينزل فيها من الملائكة على اختلاف أصنافها ما تغصّ به السكك ويملأ [ الهواء (٤) ] ، وما بين الأرض والسماء ؛ فيضعف بذلك ظهور قرني الشيطان ، بل لا يتحقّقان ؛ إذ لا محلّ لهما ولا قوة لهما على الظهور حينئذٍ ؛ لما يحصل من نزول تلك الملائكة من القوّة للنفوس المطمئنّة ، ومن الضعف للنفوس الأمّارة ، ومن حيث نزول تلك الملائكة على تلك الحال نفسه فلا يظهر مع ذلك قرنا الشيطان ، فهي لا تطلع تلك الليلة بين قرني شيطان ، ولا تغرب بين قرني شيطان ، والله العالم.

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٦٣ : ٣٣١ / ٥ ، ٣٣٦ / ٢٥ ، ٣٣٧ / ٣٣.

(٢) في المخطوط : ( شيطان ).

(٣) بحار الأنوار ٨٠ : ١٥٠ / ١٣ ، باختلاف. وفيه عن كتاب الراوندي ، غير أن في هامشه ذكرت نسخة بدل أنه من كتاب زيد النرسي.

(٤) في المخطوط : ( الهوى ).

٤٦٠