رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[٦]

دفع إشكال وبيان

حال ( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ )

قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) (١). يخطر بالبال والله العالم بحقيقة الحال أنه لعلّ المراد أنه إنْ فُرِضَ للرحمن ولد لزم أن يكون هو أوّل العابدين له ، لا يسبقه إلى عبادته سابق ؛ لأنه أوّل صادر منه ، فلا أخصّ بالوالد من ولده ولا أقرب له منه ، فأوّل ما يتحنّن بالهداية على ولده ؛ لذا وجب شكر الولد لوالديه. وقد قرنه الله تعالى بشكره.

فإن فرض أن للرحمن ولداً فهو أوّل العابدين له ، وأنا أوّل العابدين لم يسبقني إلى عبادته سابق ، ولست له بولد ؛ فليس له ولد.

وبعبارة اخرى : إن فرض للرحمن ولد فهو أنا ؛ لأَنّي أوّل العابدين له ، ولا يسبق الولد إلى عبادة والده أحد ، وأنا لست له بولد ، بل عبد مخلوق ؛ فليس له ولد.

وبعبارة اخرى : إن فرض للرحمن ولد ، فأوّل العابدين للرحمن عالم به ؛ إذ لا أقرب إليه من أوّل العابدين له ، ولا أعلم به منه ، وأنا أوّل العابدين له ، ولست أعلم أن له ولداً ، بل أعلم أنه ليس له ولد ؛ فليس له ولد.

ويمكن على بعد من الظاهر أن تكون إن نافية على الوجوه الثلاثة ، والتقدير : ما كان للرحمن ولد ، فلو كان له ولد لكان الأوّل ، وأنا أوّل العابدين ،

__________________

(١) الزخرف : ٨١.

٢١

ولست له بولد ، أو فهو أنا ؛ لأني أوّلهم ، أو فأنا عالم به. والتقدير ما مرّ في الوجه الأوّل ، وهو ظاهر.

ولعلّه عبّر بلفظ الرحمن لأنه الاسم المختصّ في مقام الأفعال والصفات ، والوالديّة والمولديّة أمر إضافيّ يقتضي الرحمة ، فهو أولى برحمة الهداية للشكر ، فالولد بجهة الرحمة أظهر من جهة الأُلوهيّة ، والله العالم.

٢٢

[٧]

كشف حال وبيان إجمال

ومبارزة مع أبطال : عبارة النظّام

قال النظّام : في ( شرح شافية ابن الحاجب ) في باب الإمالة : ( وإنّما أثّرت الكسرة قبل الألف مع الفاصلة قبل الألف ولم تؤثّر بعدها مع الفاصلة ؛ لأنّ الانحدار بعد الصعود أهون من العكس ) (١) ، انتهى.

وأقول : الكسرة أخفض من الفتحة ، والألف كفتحتين ، والياء ككسرتين ، وحقيقة الإمالة الأنحاء بالألف نحو الياء ، فالانتقال من الحرف الفاصل بين الكسرة والألف الممالة نحو الياء انحدار بعده صعود ، وهو سهل ، فأثّرت سببيّة الكسرة المتقدّمة مع الفاصلة. والانتقال من الألف الممالة إلى الفاصل بين الكسرة وبينها صعود بعد انحدار ، وهو عسر ، فلم تؤثّر الكسرة بعد الفاصلة حينئذٍ لمعاوقة ذلك الثقل لسببيّتها ، والله العالم.

وكتب عليها شيخنا الشيخ أحمد بن منصور : ( اللسان كما ينخفض بالياء والكسرة يرتفع بمقابليها ، ففي النطق بأحدهما قبل أحد المتقابلين لو لم يمل صعود بعد انحدار ، وبأحد المتقابلين قبله عكسه. والصعود بعد الانحدار أثقل من عكسه ، فلا جرم أن قصد التخلّص من الأوّل بالإمالة وإن ضعف بالفصل السبب. فاشتراط ملاصقة الكسرة للألف في إمالتها بتلك الكسرة واجب ، فقوله ( لأنّ الانحدار بعد

__________________

(١) شرح شافية ابن الحجب : ٢٣٤.

٢٣

الصعود أهون ) تعبير بالملزوم ) ، انتهى.

ووجّهها الشيخ عبد الباقي ابن العلّامة الشيخ أحمد العسكريّ : رحمه‌الله بما حاصله : الضمّة أعلى الحركات لأنّها أثقلها ، ثمّ الكسرة لأنّها دونها في الثقل ، ثمّ الفتحة لأنّها أخفّها ؛ فلذا اغتفر الفصل حال سبق الكسرة ؛ لأنّ الناطق حينئذٍ منحدر من الكسرة إلى الفتحة. والمنحدر يمكنه أن يتخطّى الفاصل لسهولة الانحدار ، بخلاف تأخّر الكسرة ، فإنّه حينئذٍ صاعد ، والصاعد لا يقدر على تخطّي الفاصل. انتهى.

وفيه أن لفظ الإمالة ينبئ عن أن المُمَال هو الصاعد العالي ، فلا يقال في الرفع : أماله. والممال هو الفتحة أو الألف ، فيقتضي أن تكون هي العالية الصاعدة ، والممال إليه ، أعني الكسرة أو الألف. فالإماله انحدار كما يشعر به لفظها ، فالانتقال من غير الممال إليه يشبه الانحدار ، وهو أسهل ، وتخطّي الفاصلة معه أيسر ، وعكسه يشبه الصعود ، فهو أعسر ، وتخطّي الفاصلة فيه أشقّ ، والله العالم.

على أنه لا يخفى ما في كلام الشيخين من التكلّف والخروج عن الظاهر ، والله العالم.

٢٤

[٨]

زبرجدة خضراء : برهان العصمة

ثبت بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً ، [ أن الله هو (١) ] الحكيم القادر الحقيقيّ الحقّيّ ، فلا بدّ أن يصان فعله عن المرجوح مع قدرته البالغة التامّة العامّة على الراجح ، وعلمه به كذلك ، فيجب ألّا يكون خليفته إلّا أحكم رعيّته من حين الولادة ، وفي جميع أطوار وجوده ؛ فيجب أن يكون خليفته معصوماً كذلك ؛ لأنّ حكمته الموهوبة من الله تأبى له أن يفعل المرجوح مع قدرته على الراجح ، فضلاً عن المعصية وإن كان قادراً على فعلها ، وإلّا لانتفت حكمته ، فيلزم نفي حكمة من اختاره واستخلفه.

وبهذا تبيّن أن النبيّ والإمام لا يكون إلّا معصوماً عن القبائح في جميع أطوار وجوده ، بل عمّا لا يليق بخلافة الله وخليفته ، وظهر لك بهذا معنى العصمة ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( هو أنّه ).

٢٥
٢٦

[٩]

فيروزجة بهيّة ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى )

يخطر بالبال والله العالم بحقيقة الحال في وجه الاستثناء في قوله عزّ اسمه خطاباً لحبيبه المصطفى المصفّى صلى‌الله‌عليه‌وآله ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) (١) وجهان :

أحدهما : أن تنسى بمعنى تترك ، أي نُوحي إليك فلا تترك شيئاً ممّا اوحي إليك تبليغه إيجاداً أو تكليفاً إلّا وأنت مبلّغه أمراً ونهياً ، فعلاً وتركاً ؛ فلا تترك شيئاً ، ولا تتخلّف عن مشيئة الله بحال إلّا ما شاء الله أن ينسخه ، فيوحي إليك بتركه ، فتتركه بعد الوحي إليك بفعله.

والكلام خبر في معنى النهي ، فعلى هذا يكون معنى الاستثناء إثبات كمال القدرة والحكمة والعلم لله ، وأن حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله حكيم لا يفعل إلّا ما أُمر به ، تدور مشيئته على مشيئة الله ، مقدّس عن دعوى الاستقلال بوجه.

الثاني : أن يكون النسيان ضد الذكران ، أي أنّك علمك كلّه من الله بلا واسطة له إلّا ذاتك ، فلا يمكن عليك السهو والنسيان عن شي‌ء ؛ لأنّ من كان علمه كذلك لا يغيب عنه معلومه بحال. فهو برهان على عصمته عن السهو والغلط والنسيان ، ومن عصمهُ الله عن ذلك فهو معصوم عن العمد بطرق أولى.

فمعنى الاستثناء على هذا إثبات كمال القدرة والحكمة والاختيار لله تعالى

__________________

(١) الأعلى : ٦ ـ ٧.

٢٧

واحداً عليه وعلى من تحته ، بإثبات البداء لله في كلّ شي‌ء. فهذا يثبت علوّ درجة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله : على كلّ مخلوق ، علماً وحكمةً وعبوديّةً لله في كلّ مقام.

أمّا قوله عزوجل ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) فجملة تعليليّة ، فعلى الأوّل تعليل للاستثناء أي أنه تعالى هو العالم بالسرّ وأخفى فما يكن وجه الحكمة في نسخه وتركه ينسخه ، وما يكن في إمضائه يمضِه ، ولله المشيئة في البداء.

وعلى الثاني تعليل لنفي النسيان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنه تعالى المفيض عليه بلا واسطة إلّا نفسه ، وهو تعالى عالم السرّ وأخفى ، فلا يعزب عن نائبه الأعظم شي‌ء من الخلق ؛ لأنه بابهم طرّاً إلى الله ، وشفيعهم ، والله العالم.

٢٨

[١٠]

كشف حال وإبطال مقال : الوجود العام

اعتبر بعض المنطقيّين وجوداً عامّاً يشترك فيه الممكن والواجب ، فقال : ( مفهوم الموجود يعم الواجب والممكن ).

و [ قلت (١) ] : هذا الاعتبار إن طابق الواقع وما في نفس الأمر وإلّا فهو كذب باطل ، لا يبنى عليه حكم.

فإن كان ذلك المعتبر عدماً محضاً ، بطل الحكم بكلّيّته ؛ إذ لا يحكم على العدم البحت بكلّيّة ولا بجزئيّة ولا بحكم ؛ لعدم إمكان تعقّله بالكلّيّة. وعلى فرضه وإن كان فرضا مستحيلاً يلزم صدق العدم على الواجب بوجه ، وفساده ظاهر.

وإن كان موجوداً في الجملة ؛ فإما أن يكون واجباً ، [ أو (٢) ] لا ، فعلى الثاني يلزم صدق الإمكان على الواجب بوجه ، وفساده لا يخفى. وعلى الأوّل يلزم تعدّد الواجب ، وتركيبه من جنس وفصل ، وفساده ضروري.

وقد قام البرهان المتضاعف على أن الاشتراك بين الواجب والممكن إنّما هو في حروف لفظ ( موجود ) ؛ لضيق ساحة العبارة ؛ لحصر الحروف في ثمانية وعشرين حرفاً ، ولا يعمهما مفهومه ؛ لأنه « خلوّ من خلقه وخلقُه خلوّ منه » (٣) لا بمزايلة ، هذا بحسب الظاهر.

__________________

(١) في المخطوط : ( قلته ).

(٢) في المخطوط : ( أم ).

(٣) الكافي ١ : ٨٢ / ٣ ، و ٨٣ / ٥.

٢٩

وللعارفين مقام تنتفي فيه عن الواجب جلّ قدسه حتّى العبارة ، ينبّهك عليه حدوث الأحرف والعبارة والمعبر ، فافهم.

نعم الوجود العامّ المعبّر عنه (١) بالوجود المطلق ممكن حادث مخلوق ، والله العالم.

والمفهوم المصدريّ الاشتقاقيّ عام لجميع الممكنات لا يعدوها ، والله العاصم.

__________________

(١) في المخطوط بعدها : ( عند ).

٣٠

[١١]

دفع وهم وبيان فهم

معنى الأيام السعيدة من الشهر

ورد في الأخبار (١) الحكم على بعض أيام الشهر بالسعد وبعضها بالنحس ؛ عامّاً في بعضها وخاصّاً في آخر ، [ فهل (٢) ] المراد بالشهر : العربي ، أو الفارسي؟ والشهور الفارسيّة هي التي أوّلها الحمل وآخرها الحوت ، وهي البروج المعروفة.

المعروف بين العامّ والخاص والعالم والجاهل أن المراد به الشهر العربيّ. وصرّح محسن الكاشاني : في ( تقويم الحسنين ) بأن المراد به : الشهر الفارسي.

ولم يستدلّ بما تطمئنّ به النفس ، ولم أرَ من قال بذلك ، ولا من وافقه عليه ، بل العمل في سائر الأزمان والأصقاع على أنه الشهر العربيّ.

وممّا يدلّ عليه أن الشارع خاطب بذلك خاصّة الناس ومن يعرف الشهور الفارسية ومدخلها ومخرجها من العربية ، وعامّتهم ومن لا يعرف ذلك ، ومحال أن يخاطب الحكيم به من يستحيل منه معرفته ، فلم يخاطب أحداً إلّا بما يفهم بحسب عقله. وأين العوامّ من معرفة الشهور الفارسيّة الّتي لا يعرفها إلّا علماء الرصد والتقويم أو من قلّدهم؟ ما ذاك إلّا تكليف ما لا يطاق ، فمتى قال الشارع : يكره الجماع في ليلة النصف مثلاً ، علم كلّ من سمعه أن المراد نصف الشهر العربي بلا ارتياب ، والله الهادي.

__________________

(١) الدروع الواقية : ٢٥٩ ـ ٢٦٦.

(٢) في المخطوط : ( فهو ).

٣١
٣٢

[١٢]

كشف حال وبيان

إعضال : نوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : عن الصلاة (١)

اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الواحد الأحد من كلّ وجه ، وبكلّ اعتبار ، وهو أرحم الراحمين ، وجميعُ أفعاله جرت على كمال الاختيار ، إيجاداً وتكليفاً ؛ لأنه المختار ، ولذلك خلق الخلق على فطر مختلفة كلّا بحسب وسعه من القبول ، ( أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (٢) فاقتضى (٣) عدله وحكمته ورحمته أن يجعل له خليفة وباباً لا يؤتى إلّا منه ، وهو وجهه ودليله وحجابه الأعظم.

وقد استفاض أن الله خلق محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأهل بيته المعصومين من نور عظمته قبل أن يخلق شيئاً من خلقه ، فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق الأشياء وأشهدهم خلقها ، وأجرى عليها طاعتهم ، وفوض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرّف والإرشاد والأمر والنهي في الخلق ؛ لأنهم الولاة ؛ فلهم الولاية المطلقة العامّة في كلّ شي‌ء. فلا جود من الله إلّا وهم بابه وسبيله ومصدره ، فهم علّموا الملائكة وجميع الخلق توحيد الله وعبادته (٤) وجميع ما يصلحهم في جميع النشئات والتطورات ، وجود الله متصل الفيض لا ينقطع بحال.

__________________

(١) انظر الفقيه ١ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ / ١٠٣١.

(٢) طه : ٥٠.

(٣) جواب قوله : ( لما كان .. ) أي فقد اقتضى ..

(٤) الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٢ : ٩١ ، بحار الأنوار ٢٥ : ١ / ٢.

٣٣

فمن توهّم أن محمّداً : الذي هو نائب الله في كلّ شي‌ء ، ونوره الّذي أشرقت من نوره الأكوان ، ونبعت منه عيون الرحمة والجود ينام كما ننام ، ويذهب النوم بحسّه وعقله ، حتّى إنه نام عن صلاة الصبح ، حتّى طلعت الشمس ، فقضاها بعدُ ، لحديثٍ شاذ نادر (١) جرى [ على (٢) ] سبيل التقيّة الّتي عصم الله بها دماء أهل الإيمان عن التلف ، فقد جهل مقامه الأقدس المطهّر عن جميع النقائص والحظوظ البشريّة ويلزمه من المفاسد في التوحيد وجميع أُصول الإيمان ما لا يحصى ، [ ويحطّ ] (٣) مقامه عن الخلافة العامة ، ويفسد باب الجود ، وتنقطع السعادة بين الحقّ والخلق ، ولا يكون أفضل الكلّ في الكلّ من كلّ وجه ، كذلك في تلك الحال.

ويلزم أن يكون لله خليفة وحجة على جميع الموجودات غيره ؛ لعدم إمكان خلوّ الإمكان بحال عمّن هو كذلك ، وذلك يستلزم التركيب في الواحد الحقّيّ ، فيجر إلى مفاسدَ لا تحصى. فعليك بتأمّل هذا الإجمال ينكشف لك الحال.

ومن قال : إنه فعل ذلك تعليماً فقد حكم على المبعوث في كلّ مقام لتكميل النواقص بتعليم النقائص باختياره. ومن توهّم أنه في تلك الحال ، مشغول بالفناء في البقاء الّذي هو أعلى من الصلاة فقد نصر ضُلّال الصوفية الأشقياء المحجوبين عن اللقاء ، ونصر القول بالتناسخ من حيث لا يدري ، بل مال إلى وحدة الوجود ، نعوذ بالله من ذلك.

وإياك أن تنسب هذا لأحد من علماء الفرقة ، فتظلمهم ؛ فيخاصموك عند الله ورسوله بعد أن يخاصمك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : عن الله وعن نفسه ، والله الهادي والعاصم.

فهذا الوهم ترده جميع قوانين الشريعة المقدّسة وبراهين المعقول ، والله اعلم.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٣٣ / ١٠٣١.

(٢) في المخطوط : ( من ).

(٣) في المخطوط : ( فعليه ).

٣٤

[١٣]

جواب سؤال ودفع إشكال

نسبة المعصية لآدم عليه‌السلام والبدن

قد سألني في أيام الشبيبة بعض أهل المناصب عن مسألتين :

أحدهما : نسبة المعصية لآدم عليه‌السلام : ظاهر القرآن أن آدم عليه‌السلام : عصى الله تعالى ، وأُصول المذهب على أن جميع الأنبياء معصومون من آن الولادة ، وعليه إجماع الفرقة.

والجواب أن الكتاب العزيز قد اشتمل على المجازات اللغويّة كما اشتمل على الحقائق اللغويّة ، فنسبة المعصية إلى آدم : وسلام الله عليه وعلى المعصومين من ذرّيّته من قبيل المجاز اللغوي ، والعاصي في الحقيقة إنّما هم فراعنة ذرّيّته في كلّ زمان كفلان وفلان ، لكنه لمّا كانوا حينئذٍ في صلبه قبل التميّز نسبت له المعصية مجازاً ، فوجب إنزال آدم عليه‌السلام : من الجنّة لوجوب إنزال فراعنة ذرّيّته من الجنة ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه في جهنم جميعاً.

فلعل بكاء آدم عليه‌السلام : لما لحقهُ بالعرض من المحنة بالخروج من الجنّة ، بسببهم ولكونهم من صلبه ، ولما يُنسب إليه ظاهراً من معصيتهم ، فقيل : عصى آدم عليه‌السلام : ، وإنّما العاصي بعض من خرج من ظهره ، فهو كالذهب المغشوش بالنحاس ، يلقى في النار ليصفى من الخلط ، فتلحقه المحنة بسبب ما مازجه من الخلط.

ويمكن أن يراد بآدم عليه‌السلام : في القرآن الجنس المتحقّق بتحقّق فرد منه ، فيراد بكلّ

٣٥

فرد من فراعنة البشر آدم [ الّذي نسبت (١) ] المعصية إليه ، بل يمكن أن كونهم يخرجون من ظهره هي المعصية المنسوبة إليه ، فإن إطلاق المعصية على ذواتهم صحيح وإن كان مجازاً لغويّاً. وسمّي تخليصه منهم وتميّزهم منه ومن أطائب ذرّيّته توبةً واجتباء ؛ إذ بدونه لا يكمل الاجتباء والرّجوع إلى ما منه بدأ ، والله العالم.

نسبة المعصية للبدن

المسألة الثانية : كيف يثاب البدن ويعاقب ، وهو مستخدم للنفس مقهور لها ، لا يستطيع مخالفتها ، لأنه آلة لها كالمنشار في يد النجّار؟

والجواب ومن الله استمداد الصّواب أن المكلّف هو الإنسان ، وهذا اللفظ لا يصدق على النفس وحدها ولا على البدن وحده ، وإنّما يراد به شي‌ء (٢) مركّب هو مجموع النّفس والبدن ، كالسّكنجبين إنّما يطلق عَلى شي‌ء مركّب من أجزاء ثلاثة ، لا يصحّ إطلاقه على شي‌ء من أجزائه على الانفراد.

فالنفس إنّما تعصي وتطيع بالبدن ، والبدن إنّما يعصي ويطيع بالنفس ، فكلّ منهما لا يتحقّق منه أحدهما على الانفراد ، فكلّ منهما إنّما صدر من كلّ منهما دفعة على الاجتماع ، ولكلّ منهما [ قسط (٣) ] من الاختيار فكلّ منهما إنّما صدر منهما باختيارهما معاً ، وليس البدن بمثابة المنشار في يد النجّار من كلّ وجه ، بل لغلبة النفس وكونها منبع الاختيار ؛ ربما نسب لها الفعل. بل خواصّ الحكماء ينفون القسر والطبع بوجه وإن أثبتوه بوجه. فجميع الحركات عندهم اختيارية بوجه ، حتّى إن الأصنام المنحوتة إنّما عبدت بنوع من اختيارها.

فلذا ظاهر القرآن (٤) إنها تعذّب في النار مع عابديها ؛ فظهر استحقاق البدن للثواب والعقاب كالنفس ، والله الهادي ، وهو العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( التي نسبة ).

(٢) في المخطوط : ( بشي‌ء ).

(٣) في المخطوط : ( قصط ).

(٤) إشارة إلى ما جاء في قوله عزوجل ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) الأنبياء : ٩٨.

٣٦

[ ١٤ ]

كشف غمة ودفع ملمة ( ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي )

لعل نفي الدراية في قوله عزّ اسمه ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (١) نفي درايته صلى‌الله‌عليه‌وآله من تلقاء نفسه [ المقدّسة (٢) ] استقلالاً لا بإفاضة العليم القادر ، أي أني لا علم لي ولا دراية بشي‌ء ما أصلاً ، حتّى أحوال نفسي وأصحابي من قبل نفسي ، بل كلّ علم لي وكلّ كمال فهو لي من الله بلا واسطة سوى نفسي.

فإذن هو صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم الخلق بجميع الخلق وصفاته ، ولذا كان أولى بهم من أنفسهم ؛ لأنه الواسطة لكل الخلق في كلّ كمال ووجود ، فنفى بذلك الربوبيّة عن نفسه ، وأثبت أنه أعلم الخلق وأكملهم ، حيث أشار إلى أنه ينبوع كلّ جود ووجود.

وبوجه آخر حاصله أن نفي الدراية في الآية الكريمة إشارة إلى إثبات البداء لله في كلّ شي‌ء ، فإنه عنوان كمال القدرة لله تعالى وسرّه.

وبوجه آخر هو أنه نفى الدراية بجهة مفهوم البشريّة المحضة العامّ ؛ فهو إثبات لأن درايته إنّما هي من لدن حكيم عليم في مقام ( قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) (٣) وإن كان هو يشمل جميع مراتب الوجود ، إلّا إنه في كلّ رتبة بما يناسبها. وفي مقام البشرية المحضة لا يكون إلّا بالوحي الجزئي التدريجيّ الآتي على لسان ملك. فهو إثبات لكمال جامعيّته لكلّ كمال.

__________________

(١) الأحقاف : ٩.

(٢) في المخطوط : ( المقدّس ).

(٣) النجم : ٩.

٣٧

فلا منافاة بين الآية الكريمة وبين ما ثبت بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً (١) من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عالم بجميع ما كان وما يكون من جميع العالم ؛ لأنه باب الكلّ وسبيله إلى الله ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢ / ٨.

٣٨

[١٥]

نكته لطيفة

تعدد المعاذيّة في سورة الناس

يمكن أن تكون النكتة في تعدّد لفظ المعاذيّة بصفات مختلفة المفهوم ، وفي الإتيان بالظاهر دون الضمير [ ثلاث (١) ] مرّات في سورة ( الناس ) هو التنبيه على افتقار الإنسان إلى تدبير الله وعنايته وإمداده وحده لا شريك له ، وعدم غناه عن بارئه بحال في كلّ نشأة ودرجة من منازل وجوده.

فالإنسان أوّل أمره بعد الولادة لا يعرف سوى من يقوم بتربيته من أُمّ أو أب أو ما يقوم مقامهما ، ويتوهّم أن مربية قادر على دفع جميع المكروهات عنه ، وعلى جلب جميع الملائمات والمحبوبات له. ولذا لا تراه يفزع ويلجأ في جميع حوائجه ومهمّاته إلّا لمربّيه ؛ لأنّه لا يرى قادراً سواه.

ثمّ إذا ترقّى إلى إدراك أقوى وأعلى من الأوّل يرى أن الملك الذي مُربّاه تحت قهره هو القادر على جميع ذلك دون من سواه ، فهو لا يفزع في مهماته إلّا له ؛ لأنه لا يرى لغيره قدرةً على شي‌ء ، ولا يعرف ملكاً هو أقدر من ملك أرضه.

ثمّ إذا بزغ فيه نور العقل واستعدّ [ للتكليف (٢) ] الشرعي ، ونظر في آيات الله عرف أن لا قادر على شي‌ء من ذلك إلّا الله تعالى وحده ، وعرف أن الله عزّ اسمه هو

__________________

(١) في المخطوط : ( أربع ) ، ويدلُّ على ما أثبتناه ما سيأتي من كلامه في موضعين.

(٢) في المخطوط : ( التكليف ).

٣٩

المربّي له وأنه الملك وأنه الإله المعبود وحده فلا مُدبّر له في جميع حالاته ولا قاهر ومألوه سواه. فإن قبل الهداية الأوّليّة العامّة انقطع إلى الله في جميع أحواله ، وإن أباها واستحبّ العمى على الهدى كان شيطاناً موسوساً مضلا عن الهدى ، وكان تعويله وانقطاعه إلى هواه الذي اتّخذه إلهه.

فانقسم الناس بهذا إلى [ ثلاثة (١) ] أقسام ، كلّ قسم منها مباين لغيره بوجه وإن كان يجمعها في الظاهر بحسب البنية نوع الإنسان :

فالإنسان أوّل بروزه في الدنيا مربّى بحت ، لا يجد لنفسه اعتباراً ولا [ تدبيراً ] (٢) ولا اختياراً [ فلذلك ] دلّ عليه بلفظ الربّ المربّي والمدبّر.

ثمّ إذا كان صبيّا وظهر فيه سلطان الوهم ، كان مملوكاً مقهوراً لما فيه من شره النفس ، لخلوّها حينئذٍ من الارتياض بالنواميس الشرعيّة ، فناسب أن يدلّ عليه بلفظ الملك.

ثمّ إذا عرف الله وعبده وانقاد له كان الله إلهه ومولاه في كلّ أحواله.

فلمّا تباينت حقائق الأقسام الثلاثة ناسب التعبير بالظاهر دون الضمير المتّحد المعنى بمرجعه. والخانس عن هذه الأنواع الثلاثة هو من جملة ما أمر الله بالاستعاذة به منه في كلّ الحالات. وهذا التقسيم يدلّ على كلّيّات مراتب النفس من الهيولاني إلى العقل بالفعل ، وعلى ترتّب كلّ درجة على سابقتها ، وعلى تباين حقائق النفوس بتباين الملكات ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( أربعة ).

(٢) في المخطوط : ( تبدير ).

٤٠