رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[ محتدها (١) ] ومبدئها من نفسه ماسّة له ومخالطة لكلّه ، كحاسّة اللمس التي لا يفقدها جزء منه حلّته الحياة من حين ولوج الروح فيه ، فهي أوّل قبس من الروح البخاريّ [ الذي (٢) ] يشتعِلُ به فتيلة زيت بدنه ، فتظهر فيه كالدفعة لفعليّتها فيه كلّه وإن كانت أيضاً مراتب لقبولها كأصلها الشدّة والضعف.

وكانت الرحمة لقلّتها بالنسبة إلى مبدئها ، ولظهورها فيه بالتدريج لأنّ الله تعالى لا يكلّف نفساً إلّا وسعها ، ولأنّها ضعة الوجود الذي لا تقبله إنّيّته اختياراً إلّا تدريجاً ؛ لأنه في الإيجاد دائماً بوجه ، وأصل وجوده بوجه ناسبها الإذاقة.

وأيضاً لمّا كان الإنسان في ابتداء أمره متكوّناً من الجسمانيّات التي هي محتد ظهور الضرّاء فهو حينئذٍ معدن ونبات وحيوان بالفعل ، والعقل إنّما يظهر فيه متدرّجاً كان ما يناله من الضرّاء التي هي من سنخ موادّ جسمه تعمّه وتمسّه ، وكانت الرحمة التي تناله كالإذاقة ؛ لعدم وسعه وقابليّته لقبول ما يمسّه منها في كلّ درجة اختياراً ، وإلّا لجاز الترجيح لا لمرجّح ، ولانتفت فائدة البعثة.

وأيضاً الرحمة منه حال كونه إنساناً من حيث هو حيوان غريبة ، كان ما يرد عليه منها أذاقه متصاعداً مشتدّاً في كلّ درجة بخلاف الضرّاء ، فإنّ كلّ ما يرد عليه حينئذٍ منها يمسّه ؛ لما مرّ وبالوجدان.

وأيضاً الذوق أعلى من اللمس ؛ لأنّ اللمس أقرب الحواسّ إلى الجسمانيّة الحيوانيّة وأنزلها ؛ لأنّها أوّل قوس الصعود ، ونهاية نزول النفس إلى الجسدانيّة ، وأوّل مراتب ظهور الحياة والروح الحيوانيّة ؛ ولذا لا يعيش حيوان بدونها أصلاً ، ويعيش مع فقدانه لما سواه من الحواسّ الخمس الجسمانيّة. فاللمس كالرحمة والهداية العامّة التي دخل فيها البرّ والفاجر ، وقد لا يوجد في بعض الحيوانات من الخمس سواه بخلاف الذوق. فكانت الضرّاء أنسب بالمس لعمومهما ، وقرب مبدئها من مبدئه ، ولدركها له بكلّه. والإذاقة أنسب بالرحمة التي هي أثر من آثار رحمة الله

__________________

(١) في المخطوط : ( محتداها ).

(٢) في المخطوط : ( التي ).

٣٠١

التي هي صفة الوجود الأوّل ولازمه.

وأيضاً الرحمة من حيث هي [ لما كانت ] لا يدركها الإنسان إلّا بعقله ، فهي لا ترد عليه إلّا من جهة عقله ، فناسبها الإذاقة الّتي لا تدركها النفس إلّا بجهة العقل ، ولا البدن إلّا بجهة النفس ، والذوق مختصّ بلسانه الذي هو مغراف قلبه ، ومظهر صفة نفسه ، وكيفيّة فكره ، كانت الإذاقة أنسب للرحمة. ولمّا كانت الضرّاء الواردة عليه لا تختصّ بجهة منه ولا جارحة ولا يفقدها إلّا العقل من حيث هو لاحتجابه عنها حينئذٍ ، كان المسّ بها أنسب.

وأما قول الفاضل النظّام : ( إن كثيراً من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته ) فحقّ ، لكن لا تلازم بينه وبين تخصيص الإذاقة بالرحمة ، والمسّ بالضرّاء ، بل ما يرد عليه من الرحمة وإن قلّ بالنسبة إلى سعة رحمة الله في نفسه أكثر بكثير ممّا يرد عليه من الضرّاء وإن كثرت. ولهذا ربّما نسبت الإذاقة إلى العذاب وإن كان الأوّل أكثر وروداً ، والله العالم.

٣٠٢

[٩٤]

حكمة يمانية في لطيفة

ربانية : الرسول يعاين والإمام لا يعاين

لعلّ السرّ فيما أطبق عليه أهل العرفان وتطابقت فيه الروايات (١) ومحكم البرهان من أن الإمام لا يعاين الملك المبلّغ للوحي في تلك الحال ، من حيث هو مبلّغ ، وإنّما يسمع كلامه ولا يعاين شخصه ، ملقياً له الوحي الجزئيّ ، والرسول يعاينه كذلك ، ويسمع كلامه الملقى إليه منه أن الإمام لمّا كان مظهر الولاية المطلقة التي هي ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : التي هي باطن النبوّة التي هي باطن الرسالة ، فالإمام لا يتلقّى الوحي إلّا من مقامه. ومقام الولاية لا يمكن التلقّي فيه للوحي من الملك شفاهاً بمعاينة شخصه ، فهو يتلقّاه من الرسول من مقام ولايته التي هي باطن باطن الرسالة ، فإنّ الرسول لا يتلقّى الوحي فيها كذلك ، ولكنّه يلقي الوحي فيها إلى خليفته.

ومن هنا يظهر سرّ ما ورد : « إنّ الوحي يمرّ به جبرئيل عليه‌السلام أوّلاً على أمير المؤمنين عليه‌السلام ».

فإنّ مقام الرسالة يتلقّى من النبوّة المتلقّية من مقام الولاية ، فتفطّن.

وأيضاً مقام أخذ الوحي شفاهاً حسّيّا من شخص الملك المعاين مقام الرسالة ، التي هي مقام آخر مراتب ظهور كمال الرسول ، فلو عاين الإمام أيضاً كذلك كان رسولاً وانتفت الإمامة ، وهو محال. وانتفى الفرق أيضاً بين مقام الولاية والرسالة ومظهريهما ، فمقام الرسالة نهاية مراتب الكمال الوجوديّ ، والخلافة دونه بدرجة.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٧٦ ـ ١٧٧ / ١ ـ ٤.

٣٠٣

فأمير المؤمنين سلام الله عليه ـ : يتلقّى الوحي من الرسول بمقام ولايته المطلقة ، فإنّه مظهرها وحامل لوائها ، وهو لواء الحمد. فلا يمكن أن يستقلّ بأخذ الوحي شفاهاً من الملك حال كونه مرئيّاً له ، وإلّا لساوى الرسول وباينه ، فلم يكن نفسه التي بين جنبيه ، ولا كان منه كالرأس من الجسد ، ولم يكن خليفته مطلقاً ولا تابعاً كذلك وهو كذلك مطلقاً.

هذا كلّه في مقام الوحي التبليغي للرسالة ، وإلّا فقد استفاض أن الأئمّة عليهم‌السلام : يعاينون الملائكة ، ومع هذا فلا تتوهّم أن ذلك يقتضي أفضليّة سائر الرسل غير محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : على عليّ عليه‌السلام : وخلفائه عليهم‌السلام ، فإنّ جميع رسالات ما سوى : محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : معلولة لولاية عليّ عليه‌السلام : ومن فاضلها ، وقبس من نورها ، فلا يقاس المعلول بعلّته ، وحقيقة النور بالمستنير به.

أمّا محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : فولاية عليّ عليه‌السلام : معلولة لولايته ، ونوره شعلة من نوره ، فهو مظهر ولايته ، وحامل لوائه في الدنيا والآخرة ، آدم عليه‌السلام : فمن دونه تحته (١) ، والله العالم.

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ١٦ : ٤٠٢ / ١ ، و ٣٩ : ٢١٣ / ٥ ، و ٣٩ : ٢١٧ / ٩ ، و ٤٠ : ٨٢ / ١١٤.

٣٠٤

[٩٥]

سرّ خفّي ووعد وفيّ

الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر

مسألة : ما الوجه في أن الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والآخرة على العكس؟

والجواب من وجوه :

أحدها : أن الكافر في الدنيا وإن اشتدّ بلاؤه وتتابع وتنوّع واتّصل ، فإنّه بالنسبة لما يلاقيه في الآخرة في جنّة ، والمؤمن على العكس من ذلك وإن تواترت عليه النعم في الدنيا وتنوّعت واتّصلت ، بل ولو ملك الدنيا بحذافيرها وعمّر في عافية إلى أن ينفخ في الصور ، فهو في سجن بالنسبة لما يلاقيه من فسحة الآخرة ، وأنواع النعم فيها.

الثاني : أن الدنيا على العكس من الآخرة في كلّ شي‌ء ؛ لأنّها بالنسبة للآخرة كالظلّ الحاكي لذي الظلّ ، والظلّ يحكي ذا الظلّ معكوساً ، ولأنّها نقيض لها بوجه ، وهما على التعاكس مطلقاً. والمؤمن في الآخرة في أتمّ السرور والأمن والفسحة ، والكافر على العكس من ذلك ، فما أضيق مقرّه وأوحش مسلكه وأثقل قيوده فيها! فلا بدّ أن يتعاكسا في الدنيا وإن لم يظهر للحسّ.

الثالث : أن المؤمن لمّا كان باقياً على فطرة الله المستقيمة ، مخلوق من طينة الجنّة ، والكافر معوجّ الفطرة ، مخلوق من طينة جهنّم. فالمؤمن من حيث إيمانه مسجون من حيث هو في الدنيا ، والكافر من حيث كفره في نعيم من حيث هو في الدنيا.

٣٠٥

الرابع : أن السرور والأمن والراحة والفسحة وأضدادها إنّما تكون بإدراك الملائم والمناسب والمجانس أو المناوع والمصانف للنفس أو المزاج أو الطبع أو العقل أو الحقيقة والهوية من حيث هي. فالمؤمن لمّا كان لا يدرك من الدنيا من حيث هي دنيا إلّا ما ينافي وينافي أو يضادّ أو يناقض ذاته وصفاته وطباعه ومزاجه ونفسه وعقله ؛ لأنه ليس من سنخ الدنيا من حيث هي دنيا ، بل من سنخ الجنّة وصفاتها كان في الدنيا في سجن ، والكافر لمّا كان من سنخ المجتثّ الذي لا أصل له ولا قرار ، وخلق من طينة النار لم يدرك من الدنيا إلّا ما يلائمه ويناسبه لقرب المشابهة ؛ فإنّ الدنيا لا قرار لها بل هي فانية مضمحلّة دائمة الذوبان والسيلان ، وهو في جنّته.

فإذا زالت الدنيا عنهما وكان بصرهما حديداً ، وأدرك كلّ منهما حقيقة الدنيا والآخرة انكشف لكلّ منهما أنه كان على العكس بل الضدّ بل النقيض ممّا كان فيه في الدنيا.

الخامس : قد تقرّر بالدليل عقلاً ونقلاً ، كتاباً وسنّةً إن الآخرة نتائج الأعمال ، بل هي هي و ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١).

و « إنّما هي أعمالهم ردّت إليهم » (٢).

فالمؤمن في الجنّة وفسحتها وإن كان في الدنيا ، والكافر في النار وضيقها وخوفها وأحزانها وإن كان في الدنيا ، إلّا إن النفس محجوبة عن مشاهدة ذلك بالعيان غير مشعرة به ما دامت مشغولة بتدبير البدن الطبيعيّ. فهي محجوبة به عن ملاحظة أصلها ، مأسورة بأسر المواد والطبائع ، مسجونة في مطمورة الزمان والمكان ، فإذا انكشفت الدنيا لكلّ منهما ، وظهرت الحقائق ، ووقعت المزايلة التامّة ، ونظر كلّ منهما وسمع ببصر بصيرته وسمع عقله ، رأى وعلم أنه كان على العكس ممّا كان عليه في الدنيا.

__________________

(١) الطور : ١٦ ، التحريم : ٧.

(٢) انظر : توحيد المفضّل بن عمر : ٥٠ ، بحار الأنوار ٣ : ٩٠ ، باختلاف.

٣٠٦

السادس : لعلّ المراد بالدنيا محض الدنيا ، وهي دولة الباطل والجهل ، وبالآخرة دولة العقل وهي دولة آل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّها القيامة الصغرى ، وليست من محض الدنيا ، ولذا كان الغالب فيها أحكام العقل ، ولا ريب أن المؤمن في دولة الجهل في سجن وأي سجن ؛ لأنه لا يقدر أن يعبد الله إلّا سرّاً ، والكافر في جنّة ؛ لأنّ دولة الجهل دولته ، وهي جنّته وجزاؤه ، وهما على العكس في دولة آل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : كما هو ظاهر لمن عرف بعض سيرتها ، وعرف حقيقة دولة الجهل ، وقام بتكليف التقيّة فيها ، والله العالم.

٣٠٧
٣٠٨

[٩٦]

نور شرقي في حديث مدني

« ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة »

مسألة : قد استفاض بين الأُمّة بلا معارض أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، فمن صلّى في تلك الروضة ضمنت له على الله الجنّة (١).

فكيف يكون هذا بعمومه وقد صلّى فيها المنافقون على اختلاف أصنافهم؟

والجواب ما وقفت عليه منقولاً من الجزء الثاني من كتاب ( أزهار الرياض ) روي عن داود بن القاسم الجعفري ، قال : كنت جالساً عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام فقال : « يا هؤلاء إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، فمن صلّى في تلك الروضة ضمنت له على الله الجنّة. وقد صلّى فيها المخالف والمؤالف فما الذي ترونه في ذلك؟ ». فقلنا : الله ورسوله أعلم. فقال عليه‌السلام : « ليس كما تظنون ، إنما القبر مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأنه قبر علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما المنبر فقائمنا أهل البيت ، وأمّا الروضة فنحن الأئمّة ، فـ ( من صلى فيها ) أي من تولّانا ». فقلت : يا مولاي حضرني في ذلك المكان شعر ، فقال : « أنشد ». فأنشدته :

يا حجةَ اللهِ أبا جعفر

وابنَ البشيرِ المصطفى المنذر

انتهى.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٥٣ / ١ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٧ / ١٢ ، عوالي اللآلي ١ : ٣٥ / ١٦ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٧ ، ح ١.

٣٠٩

فقد دفع الإمام عليه‌السلام الإشكال بحذافيره ، فأمّا على هذا التأويل فظاهر ، وأما على الظاهر فإن قول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من صلّى » إلى آخره إنما يريد : من صلّى صلاة صحيحة شرعاً ، وذلك لا يتم إلّا بولايتهم ، فقد انحصر ضمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن صلّى فيها من أهل ولايتهم. بل في الحقيقة مَن ليس من أهلها لا يدخل تلك الروضة ولا بجسمه كما يظهر بالتأمّل في الأدلّة العقليّة. فليس الرجلان بمقبورين في حجرته بل في سنخهما وطبائعهما وما يناسبهما من الأرض ، والله العالم.

٣١٠

[٩٧]

هداية وبيان وإسرار

وإعلان نسخ ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها )

العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهما‌السلام في قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (١) قال عليه‌السلام : « نسختها ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) (٢) » (٣).

قلت وبالله المستعان : أراد بالصلاة في هذا الباطن : ولاية عليّ عليه‌السلام ، وقد استفاضت مضامين الأخبار بتأويل الصلاة بالولاية ، بل ورد عنهم عليهم‌السلام [ أن ] الصلاة [ على ] عليّ أيضاً بمعنى ولايته.

ويمكن بقاؤه على ظاهره أيضاً كما يظهر [ للعارف (٤) ] ، فيراد بنسخ الآية بـ ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) : إظهار ولايته وفرضها على الخلائق ، ويراد بالنهي عن الجهر بها : إخفاؤها عن سائر الخلق غير أهل البيت المطهّرين ، وبالنهي عن الإخفات بها : إظهارها لأهل البيت المطهرين خاصّة.

ويدلُّ على هذا كلّه أيضاً ما رواه العياشيّ عن الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن قوله عزوجل ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) ، قال عليه‌السلام : « ( لا تَجْهَرْ ) بولاية علي ولا بما أكرمته به حتّى آمرك بذلك ، ( وَلا تُخافِتْ بِها ) يعني : ولا تكتمها

__________________

(١) الإسراء : ١١٠.

(٢) الحجر : ٩٤.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٤١ / ١٧٦.

(٤) في المخطوط : ( على العارف ).

٣١١

عليّاً ، أو أعلمه بما أكرمته به » (١).

فقد كشف هذا الخبر عن [ المعنى (٢) ] الأوّل ، وهذا كلّه لا ينافي كون الآية الأُولى محكمة غير منسوخة بحسب التنزيل والتفسير ، فقد تنسخ الآية على بطن من السبعين دون ما سواه ، وقد تنسخ في الظاهر وبحسب التفسير دون الباطن والتأويل ، كما يظهر كلّ ذلك [ لمن (٣) ] يميز أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، والله العالم.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٢ / ١٧٨.

(٢) في المخطوط : ( معنى ).

(٣) في المخطوط : ( على من ).

٣١٢

[٩٨]

هداية ربانيّة : الكلام

في كراهية الإدغام الكبير في الصلاة

قال البهائي قدس‌سره في اثني عشرية الصلاة ، في الفصل الّذي عقده في التروك المستحبّة اللسانية : ( العاشر : ترك [ الإدغام (١) ] الكبير فإن الحرف الواحد في الصلاة قائماً بمائة حسنة ، وقاعداً بخمسين كما في الخبر (٢) ) (٣) ، انتهى.

وأقول : أراد قدس‌سره : أن الإدغام الكبير يفوّت النطق بالحرف المدغم وبفواته يفوت أجر المنطق به المذكور. ولي في ذلك نظر فإنّ ذلك يستلزم القول بكراهية الإدغام الكبير في مطلق قراءة القرآن ولو لم تكن في الصلاة كما هو ظاهر. وهذا (٤) لا أعلم به قائلاً من العصابة.

وأيضاً الإجماع قائم على أن من أخلّ بالتشديد عمداً بطلت صلاته ؛ لإهماله حرفاً عمداً. ومقتضى هذا أن الإدغام لا يوجب إسقاط حرف كما هو ظاهر.

وأيضاً ما قاله قدس‌سره يستلزم القول بكراهية ترك المدّ في المنفصل ، وذلك لا أعلم به قائلاً من العصابة حتّى البهائي قدس‌سره : و [ التفريق (٥) ] بين المسألتين تحكّم ظاهر ؛ فإنّه

__________________

(١) من المصدر ، وفي المخطوط : ( إدغام ).

(٢) ثواب الأعمال : ١٢٦ / ١ ، ثواب من قرأ القرآن قائماً في صلاته ، وفيه : عن أبي جعفر عليه‌السلام أن « من قرأ القرآن قائماً في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة ، ومن قرأه في صلاته جالساً كتب الله له بكل حرف خمسين حسنة ».

(٣) الاثنا عشرية في الصلاة اليوميّة : ٦٣.

(٤) في المخطوط : ( هذا ).

(٥) في المخطوط : ( الفرق ).

٣١٣

دليل جارٍ في المدّ أيضاً ، فإنّه يستلزم إسقاط حرف إلى ستّة أحرف بيقين. هذا مع أنه منافٍ لكلام أهل العربيّة.

قال ابن الحاجب : ( الإدغام أن تأتي بحرفين ساكن فمتحرّك من مخرج واحد من غير فصل ) (١). وأقرّه على ذلك كافّة شرّاح كلامه (٢).

وأنا لي في أصل المسألة كلام هو أنه لا يخلو إدغام أحد الحرفين في الآخر ؛ إمّا أن يكون لإعدام أحدهما بالكليّة ، وليس كذلك إجماعاً ، وإلّا لما كان فرق بين المشدّد وغيره ، والفرق محسوس.

أو بتداخلِ الحرفين وامتزاج أحدهما بالآخر. واتّحادُ الاثنين وصيرورتُهما شيئاً واحداً باطل عقلاً ونقلاً ، كما قرّر في الحكمة ؛ لأنه يلزم من فرضه رفعه والبيان في غير هذا الفن أو بالإتيان بحرفين متعاقبين متمايزين في النطق ، بحيث يتكرّر إخراجهما من المخرج الواحد. وهذا يلزمه أن يكون بينهما سكت ما يحسّ به ذو الذوق السليم من نفسه بلازم تحقّق التمايز بينهما حينئذٍ حسّا. وليس كذلك ؛ لتحقّق الفرق بين النطق بهما كذلك.

والنطق بالمدغم أو بحذفهما معاً والإتيان بحرف آخر يشبههما زمان النطق به أقصر من زمان النطق بالحرفين ، وأطول من زمان النطق بالحرف الواحد. وليس كذلك ، لمغايرته لمفهوم لفظ الإدغام ، ولمنافاته ، ولما يفهم قطعاً من مقاصد أهل الصناعة كما يظهر على فطنة المتأمل.

فإذن الإدغام : إلصاق أحد الحرفين بالآخر إلصاقاً شديداً حتّى يتّصل النطق بهما فيصير في الحسّ كأنّه نطق واحد وإخراج واحد بحيث لا يتميّز عنده النطق بأحدهما عن الآخر ، وكأنّهما عنده خرجا من المخرج دفعة بسبب شدّة الاتّصال والتلاصق. فإطلاق الإدغام عليه إذن مجاز لغويّ صار حقيقة عرفيّة ، وبدون هذا لا

__________________

(١) شرح شافية ابن الحاجب ( المتن ) ٣ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، شرح النظّام ( المتن ) : ٣٣١.

(٢) شرح شافية ابن الحاجب ( الأسترآبادي ) ٣ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، شرح شافية ابن الحاجب ( النظام ) : ٣٣١.

٣١٤

يستقيم تعريف ابن الحاجب : وشبهه.

وعلى كلّ حال فليس في الإدغام إسقاط حرف من الحرفين باتّفاق أهل العربيّة ، فلا كراهة فيه ؛ لعدم انطباق دليل البهائيّ : عليه ، وليس له دليل غير ذلك ، والله العالم.

٣١٥
٣١٦

[٩٩]

حكمة يمانيّة : « عليك بالحسنة بين السيّئتين »

( نور الثقلين ) عن ( العيّاشي ) (١) عن الباقر عليه‌السلام : أنه قال لابنه الصادق عليهما‌السلام « يا بنيّ عليك بالحسنة بين السيّئتين تمحوها » (٢) ، قال عليه‌السلام : « وكيف ذلك يا أبتِ » (٣)؟ قال عليه‌السلام : « مثل قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) لا تجهر بصلاتك : سيّئة ، ولا تخافت بها : سيّئة ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (٤) حسنة » (٥).

قلت والله المستعان ـ : لعلّه عليه‌السلام أراد بذلك أمره لابنه عليه‌السلام بالاقتصاد في جميع الأحوال ، فيكون أراد بالحسنة الصراط المستقيم بين طرفي الإفراط والتفريط. فالسيّئتان هما الطرفان ، والنمرقة الوسطى هي الحكمة. وهذا جارٍ في كلّ شي‌ء من الأفعال والأعمال والعقائد ؛ فإنّ التوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط هو الصراط المستقيم. فمن استقام عليه وسلكه كما أمر الله سبحانه انمحت عنه سيّئتا الإفراط والتفريط. وهذا مطلق أُريد به العموم.

ومن القرائن على إرادة ذلك قوله عليه‌السلام : « مثل قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) .. سيئة » ، فأشار إلى أن السيّئة الجهر والمخافتة على الإطلاق ، وهما

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٤٢ / ١٧٩.

(٢) في المصدر : « تمحوهما ».

(٣) في المصدر : ( يا أبه ).

(٤) الإسراء : ١١٠.

(٥) نور الثقلين ٣ : ٢٣٤ / ٤٨٣.

٣١٧

طرفا الإفراط والتفريط. ويزيدك بياناً ما رواه في ( نور الثقلين ) عن ( العياشي ) (١) أيضاً عن الباقر عليه‌السلام : أنه قال : « يا بنيّ ، عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوها » (٢) ، قال : « وكيف ذلك يا أبه »؟ قال : « مثل قوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٣) » (٤).

فأشار إلى أن غلّها إلى العنق وبسطها كلّ البسط هما السيّئتان ، وابتغاء السبيل بين ذلك هي الحسنة بينهما. فتمثيله عليه‌السلام بالآيتين قرينة على إرادة ما قلناه وعلى أن المراد من الإطلاق : العموم في كلّ شي‌ء. وإنّما أفرد الضمير في « تمحوها » (٥) ؛ لأنه لا يمكن أن يسلك شخص الطرفين معاً في شي‌ء واحد من جهة واحدة شخصيّة.

فإذن لا يتحقّق عليه إلّا سيّئة واحدة هي إمّا طرف الإفراط ، أو التفريط ، فالحسنة تمحوها ، والله العالم بمقاصد أوليائه.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٤٢ / ١٧٩. وليس هو حديثاً مستقلا بل هو الحديث الأوّل عينه ، وقد استشهد به الإمام عليه‌السلام في الآية (١١٠) من الإسراء أوّلاً ، ثم في الآية (٢٩) من السورة نفسها تحت الرقم : ١٧٩.

(٢) في المصدر : « تمحوهما ».

(٣) الإسراء : ٢٩.

(٤) تفسير نور الثقلين ٣ : ١٥٩ / ١٧٩.

(٥) لاحظ أن في تفسير العياشي ونور الثقلين : « تمحوهما ».

٣١٨

[١٠٠]

نور مقدسي : وسط الدنيا بيت المقدس

( نور الثقلين ) عن ( روضة الواعظين ) (١) ، للمفيد (٢) أن عبد الله بن سلام : قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني عن وسط الدنيا قال : « بيت المقدس » قال : ولم؟ قال : « لأنّ فيه المحشر والمنشر ، ومنه ارتفع العرش ، وفيه الصراط والميزان ». قال : صدقتَ يا محمّد (٣) :

قلت : لعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بكونه وسط الدنيا أنه قلبها الغيبيّ بحسب البرزخ والمحشر. فلا منافاة بينه وبين ما ورد أن الكعبة وسط الأرض (٤) ، فإنّ هذا بحسب جسمها الحسّي. أو أنه فرق بين وسط الدنيا ووسط الأرض.

والأوّل أعمّ ، فالكعبة بالنسبة إلى الأرض كالقلب الصنوبريّ لجسد الإنسان ؛ ولذا دحيت الأرض من تحتها على مثال دحو جسد الإنسان من تحت قلبه ؛ فإنّه أوّل كائن منه. وبيت المقدس بالنسبة للأرض كالدماغ لجسد الإنسان ، فهو [ يستمدّ (٥) ] من القلب أصفى الأبخرة ، وهو الروح البخاريّ ، ويمدّه [ بالإحساس (٦) ] الشعوري.

ولعلّه أراد بارتفاع العرش منه معراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى السماء ، فإنّه العرش

__________________

(١) روضة والواعظين ٢ : ٤٠٩.

(٢) كذا في المخطوط ونور الثقلين. وجاء في بحار الأنوار ١ : ٨ في بيان مصادره : ( وكتاب روضة الواعظين وتبصرة المتعظين للشيخ محمّد بن أحمد الفارسي ، وأخطأ جماعة ونسبوه إلى الشيخ المفيد .. ).

(٣) نور الثقلين ٣ : ٢٦٥ / ١٠٧.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٩٠ / ١.

(٥) في المخطوط : ( يمتد ).

(٦) في المخطوط : ( الإحساس ).

٣١٩

المحيط بالأكوان ، وخزانة العلم ، وعرش المشيئة ، وعرش الكيفوفة ، والعرش الذي هو مستوى الرحمة.

أو يريد بالعرش : عرش العلم ، وببيت المقدس : حضيرة القدس ؛ فإنها مظهر العلم وخزانته ، أي مقام المشيئة المطلقة.

أو يريد بالعرش : جملة العالم ، وببيت المقدس : باب المشيئة. فيكون معنى « ارتفع » : ظهر.

أو يريد به : العقل الأوّل ، وببيت المقدس : النفس الكليّة ، أو بالعكس.

أو يريد بالعرش : المحدّد ، وببيت المقدس : النفس الكليّة ، ويريد بـ « ارتفع » : ظهر عالياً ، أو بالعكس بحسب ملاحظة القوسين : قوس البدء والعود ، كلّ وجه باعتبار قوس ، وعكسه باعتبار الآخر ، والله العالم.

٣٢٠