رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

أهله من كلّ وجه ، بل ليسوا أهله بوجه ، والمفروض أنهم أهله من كلّ وجه ، هذا خلف.

ولزم أيضاً زيادة أهله عليه إنْ تأخّروا عن أوّله ، أو تقدّموا عن آخره ، أو تقدّموه أو تأخّر عنهم ، أو تقدّمهم أوّلهم أو آخرهم ، وهذا لازم الأوّل ، وعلى كلّ فرض لا يكون ما فرض أجلهم ، هذا خلف ، فلزم أيضاً قيام صفات الرتبة المعيّنة من الزمان أو غيره ولوازمها بالأُخرى من حيث هي صفات الأُخرى ولوازمها ، وهذا محال.

وعلى الثاني يلزم ذلك كلّه أيضاً ، وأن يكون ما فرض حدّا ونهايةً للشي‌ء ليس بحدّ ولا نهاية له ، فما فرض أجله ليس بأجله ، هذا خلف.

ولزم أيضاً تحقّق صفات الرتبة ولوازمها من حيث هي صفاتها ولوازمها فيما هو برزخ بين الرتبتين من حيث هو برزخ ، فترتفع البرزخيّة عمّا فرض برزخاً ، هذا خلف محال ؛ لما يلزم من الغناء عن الوسائط والمعدّات وهو محال ؛ ولأنه تكليف بما لا يطاق.

وعلى الوجهين يمكن أن يراد بمجي‌ء الأجل : مجيئه لوليّ الأمر ليلة القدر أو غيرها وعلمه به ، وأنه من المحتوم ؛ إذ لا يتحقّق الإمضاء ، وأنه أجله إلّا بذلك ، كما دلّت عليه رواية العيّاشيّ : عن الصادق عليه‌السلام : في تفسير الأجل المذكور في الآية « هو الذي سمّى لملك الموت » (١) في ليلة القدر. ومن المعلوم أن الذي يسمّيه لملك الموت إنّما هو وليّ الأمر.

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام في تفسيره : « تعدّ السنين ، ثمّ تعدّ الشهور ، ثمّ تعدّ الأيّام ، ثمّ تعدّ النفس ( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ) (٢) الآية » (٣).

وهذا يدلّ أن المراد به انتهاء رتبة الدنيا ، وتجلّي الآخرة ، ولا منافاة ، والله العالم.

ومنها على الوجهين أيضاً ـ : أنه يمكن أن يراد بمجيئه : تحقّقه في رتبة

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢١ / ٣٩ ، وفيه : « يسمّى » بدل : « سمّي ».

(٢) الأعراف : ٣٤.

(٣) الكافي ٣ : ٢٦٢ / ٤٤.

٢٤١

الإمضاء ؛ لأنه حينئذٍ لا بداء.

وحاصله أنه إذا وصل إلى هذه الرتبة فلا بداء في تقديمه ولا في تأخيره.

ومنها : أن الواجب تعالى منزّه ومقدّس عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله من كلّ وجه ، فليس في أمره قهر لا إيجاداً ولا تكليفاً ولا موتاً ولا حياةً ولا رزقاً ، يمنّ على كلّ شي‌ء بما يقبله وسعه اختياراً ، فإذا جاء أجل كلّ امّة لا يطلبون التأخّر ولا التقدّم باختيارهم ؛ لعدم طاقتهم وقابليّتهم لذلك فلا يختارونه. ولأنّ من وافى إن كان على الفطرة جاد بنفسه لما ينكشف عن بصر بصيرته ، فلا يطلب التأخّر ولا الاستقدام ؛ لأنه يرضى بما يرضاه الله له ، بل يختار ما يرضاه الله على ما ترضاه نفسه. وإن كان على غير الفطرة فهو يطلب الاستئخار على هذا يطلبه الكافر ولا يطلب التقدّم ، والمؤمن على العكس من ذلك.

بقي السؤال عن وجه تقديم نفي التأخّر على نفي التقدّم؟ وهل التقدّم معطوف على جملة الشرط والجزاء ، أو على الجزاء وحده؟

فنقول وبالله المستعان ـ : لعلّ الوجه في تقديم نفي التأخّر أن طلب الاستئخار أهمّ ؛ لأنه أوضح فائدةً من الآخر ؛ ولأنّ النفوس بطباعها وفطرها تكره الموت وتحبّ البقاء ، وتكره مفارقة المألوف من الحياة الدنيا.

فالمألوف انس النفوس به ، وكراهيّتها فراقه لا تخفى ، والعادات قهّارات ، فوصف حالهم يقتضي هذا الترتيب.

وأيضاً البقاء في نفسه أهون من الإيجاد ، والسكون أهون من الحركة ، والاستقرار أهون من الانتقال ، وظهور الرتبة الثانية والصورة الأُخرى في المادّة في نفسها أشقّ وأغمض من الأُولى.

أو لأنّ نفي طلب الدنيا بعد معاينة جمال الأُخرى أظهر وأولى من العكس. هذا بالنسبة إلى المؤمن ، فَرُوعِيَ في الترتيب حاله لشرفه ، ولأنّ كون الكافر إنّما هو بالتبعيّة له.

٢٤٢

وأمّا الثاني فيحتمل الوجهين إلّا إن كون ( يستأخرون ) معطوفاً على جواب الشرط أظهرُ بحسب العبارة ؛ بقرينة دخول ( لا ) عليهما وبحسب الظاهر حينئذٍ.

ويرجّح الثاني أنه يكون حينئذٍ خبراً مستقلا دلّ به وبالأوّل على أن لكلّ حيّ عند الله أجلٌ لا يزيد ولا ينقص. وعليه يرتفع الإشكال من أصله ، والله العالم بحقائق أحكامه.

٢٤٣
٢٤٤

[٨١]

حكمة يمانية : الفرق بين الدعاء والأمر

ممّا يفرّق به بين الدعاء والأمر والنهي أن حقيقة الدعاء طلب الإفاضة بالاستعداد لقبول الفيض ، فهو إذن عين الإفاضة. وحقيقة الاستكمال على قدر استعداد الداعي وتأهّله لظهور فعليّته بالاستفاضة وترقّيه في درجات الوجود والكمال والفعليّة ، وتحقّقه بذكره الأوّل ومناسبته للفواعل مجانسة أو مُناوعة أو مصانفة أو مشابهة ، ودخوله في زمر المدبّرات ، تطيعه الأكوان والقوابل ، وتفيض عليه الفواعل ، وتظهر فيه من قواه ودرجاته ما استجنّ في طباع الأوّل ، والثاني يكون فاعلاً بإذن القيّوم تعالى. وكلّما اشتدّت فعليّته وقابليّته وكانت بالفعل ، اشتدّ طاعةُ مَن دونه له وقبوله منه طوعاً أو كرهاً.

فدعاء كلّ داعٍ لا يتجاوز رتبته الوجوديّة بالفعل ، فإنّه لا يؤثر [ في ] غير قوسي دائرته. فكنه الدعاء محض العبوديّة لله تعالى وفعليّة الامتثال لأمر الإقبال ، فهي فاعليّة بوجه وقابليّة بوجه و ( فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) حتّى ينتهي الأمر إلى مقام العبوديّة المطلقة التي هي محض فيض الجواد بذاته.

فالداعي من حيث إنه قابل آمل خاضع مستكين جامد منزّه مقرّ بتقصيره غير ناظر إلى نفسه ، هو سمعه الذي يسمع به إلى آخره ، حتّى ينتهي إلى رتبة الدعاء اللساني المحض ، فهو أدنى درجات الداعين ، فهو استكمال ما بوجه ، وفيض ما واستفاضة ما بوجه.

أمّا دعاء الناطق للكامل فهو استكمال واستفاضة منه واستشفاع به وتوسّل بوجه ، ويلزمه استكمال المدعوّ له به ، حيث إن مبدأه من الكامل ؛ لأنه مقتبس من

٢٤٥

نوره ، فهو نور أشرق على الناقص من الكامل بحسب رتبة قربه منه ، فهو فيض منه ، وإفاضته استكمالٌ واستفاضة ، وهكذا حقيقة الأمل تكميل للأدنى واستكمال واستفاضة من المبدأ الفيّاض بوسط وغير وسط ، فكل آمر مفيض على مَن دونه مكمّل له مستفيض ممّن فوقه مستكمل ، حتّى ينتهي الأمر إلى الآمر الحقيقيّ وهو [ الله (١) ] سبحانه الحقّيّ الغنيّ عمن سواه ، والمفتقر إليه مَنْ سواه.

فالدعاء من قوس ( يحبّونه ) ، والأمر من قوس ( يحبّهم ). ويمكن إدخال الأوّل في الثاني بوجه. والالتماس لا يخرج عنهما ؛ لما بينهما من التقابل ، أو هو كالبرزخ. وبذلك ظهر الفرق بين الدعاء والنهي ، فهما استكمال وتكميل أيضاً ، إلّا إنه برفع الموانع والمنافيات ، الذي هو عين وجود نقائضها وأضدادها بوجه ، وأقلّه الاستعداد بالفعل لقبول الضدّ أو النقيض.

والحاصل أن الدعاء بـ ( افعل ) أو ( لا تفعل ) هو نهاية حقيقة الداعي وتكليفه بوجه في الظهور ، فإنّ آخر مراتبه الوجوديّة والتكليفيّة هو الحسّي المتعلّق بالجوارح المحسوسة والحاسّة المحسوسة ، فهو نهاية مراتب ظهور ذكره الأوّل وظهوره وفعليّته به ، وهو النور الذي خلق منه. فكما أن حقيقته إيجاد واستمداد وقبول اختياري بحسب طاقته ووسعه ، فصفته وتكليفه هو طلبه بحقيقته الأمداد والبقاء على الفطرة الأوّليّة ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ) (٢) [ التي (٣) ] فيها ترتفع المنافيات ، وبها وعندها تتحقّق فعليّة السبيلين ، وتكمل القدرة على الاختيار.

فآخر مراتب ظهوره واستكماله الوجوديّ طلبه الجسميّ بلسانه اللحميّ وبجميع جوارحه الحسّيّة الجسميّة. والأمر والنهي صفة الفاعليّة ، كما أن الدعاء صفة المفعوليّة ، وحقيقة المفعول من حيث هما كذلك ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( أمره ).

(٢) الروم : ٣٠.

(٣) في المخطوط : ( الذي ).

٢٤٦

[٨٢]

شهاب ثاقب لرجم شيطان

كاذب : شبهة لبعض الحشويّة في الإمامة

رأيت منقولاً عن ابن القيّم أنه قال : ( جرى بيني وبين بعض النصارى مناظرة ). وذكر صورتها ، وحاصل ما ذكره أن محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله : ادّعى النبوّة ، وأنه رسول الله : وأبطل الشرائع ، وقتل أتباع الرسل ، واستحلّ دماءهم وأموالهم وفروجهم ، وقال : إنه بأمر الله ، وبقي ثلاثاً وعشرين سنة كذلك ، وأمره لا يزال في علوّ وظهور واستحكام ، وأسباب النصر والغلبة تتأتّى له وتتيسّر ، ودعوته مستجابة ، ونصره يتزايد خارجاً عن عادة البشر ، وأعداؤه في الهلاك والذلّ ؛ تارة بدعائه ، وأُخرى بدونه ، وحاجته مقضيّة ، وأمانيه حاصلة على أتمّ وجه وأكمله ، والله سبحانه وتعالى لا يقهره ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين ؛ فإمّا أن يكون صادقاً ، أو ليس للعالم صانع ولا مدبّر ؛ إذ لو كان للعالم صانع مدبّر قدير حكيم لقابلة على شدّة ظلمه وافترائه على الله أعظمَ مقابلة ، وجعله نكالاً للصالحين ؛ إذ لا يليق بالملوك غير هذا ، فكيف بملك الأرض والسماوات؟

أو أن للعالم صانعاً ، لكنّه متّصف بأشدّ الظلم والسفه وإضلال الخلق ونصرة الكاذب ، والتمكين له وإجابة دعوته وإقامة أمره من بعده ، وإعلاء كلمته وإظهار دعوته ، والشهادة له بالنبوّة قرناً بعد قرن على رؤوس الأشهاد في كلّ مجمع ، وذلك ليس من فعل أحكم الحاكمين ، بل ذلك قدح وطعن وإنكار لربّ العالمين بالكليّة.

٢٤٧

ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذّابين أقام (١) في الوجود وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتمّ له أمره ولم تطل مدّته ، بل سلّط عليه الرسل ومحقوا أثره واستأصلوا شأفته ، هذه سنّة الله في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. انتهى ملخّصاً ، بحيث لا يشذّ من معناه شي‌ء ، بل أكثر العبارة بحروفها.

وقد استغنم الظفر بهذا بعض من تمنّى بهواه هدم أساس مذهب الشيعة ، فكتب عليه ما صورته : ( تفكّر في هذه الحجّة ، وافطن أن مثلها وارد في شأن الرافضة في دعوة الإمامة ، وأنّها حقّ لعليّ : ثمّ لولده من بعده ، وأنّهم قهروا وغصبوا إلى يوم القيامة ، ثمّ مع ذلك إذا ذكر الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين ، يقولون : كيف هذا ، ونحن نرى الدولة تارة تكون لأهل السنّة وتارة تكون للرافضة في بلدان عديدة؟

وبيان الفساد أن الدولة إنّما تكون لإمام الطائفة وإلّا فلا يستقيم كون الطائفة في عزّة ، وإمام الطائفة في الذلّ باعترافكم ، فلو كان كما تقولون لزم الإمام القيام عند ذلك ؛ للعزّ ، ولكن ليس لهم إلّا الذلّ والخزي في الدارين ، فتدبّره فإنّه نفيس جدّاً ) ، انتهى.

وأقول وبالله الاعتصام ـ : قد تدبّرناه بأدنى ملاحظة في حال شدّة الاشتغال ، وتلاطم أمواج البلبال ، وتراكم سحائب الزلزال ، فوجدناه مبنيّاً على شفا جُرف هارٍ فانهار به في نار جهنّم ، من وجوه :

الأوّل : (٢) أن أصله الذي عوّل عليه ، وأخلد إليه مبنيّ على أن من بغى على الله وعصاه وتقوّل عليه لا تمدّ له دولة ولا تعلو له كلمة ولا يتمكّن من أسباب النصر ، بل لا بدّ من أن يعاجله بالعقوبة والاستئصال ، وأن علوّ الكلمة وتيسير أسباب النصر وظهور القهر والغلبة وطول مدّتها دليل على [ حقيّة (٣) ] الدعوة ، وأن امتداد دولة المفتري على الله وظهور كلمته وتيسير أسباب النصر له ينافي قدرة الله وعدله وحكمته بل وجوده.

وهذه الحجّة مع كونها واهية هاوية في نفسها ، لا تتمّ حجّة على الرافضة في

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) في المخطوط : ( أحدها ).

(٣) في المخطوط : ( حقيقة ).

٢٤٨

دعواهم اختصاص الإمامة بعليّ عليه‌السلام : وخواصّ بنيه عليهم‌السلام من وجوه :

أحدها : منع الدعوى الذي بنى عليه وهمه ، وهو سراب حسبه ماء ؛ إذ لا برهان له عليه ، ولا دليل من الطرق الثلاثة والكتب الأربعة (١).

الثاني : معارضتها بالبرهان المتضاعف المحكم عقلاً ونقلاً كتاباً (٢) وسنةً (٣) على وجوب عصمة الإمام ؛ لأنه خليفة الله وحجّته على عباده ، وبابه وسبيله الذي لا يؤتى إلّا منه ، وخليفته الذي ألبسه ثوب عزّه ، وجعله خليفة رسوله على أُمته ، والقائم مقامه ، والسادّ مسدّه في كلّ شي‌ء تحتاج له الخلق.

فإذن كلّ ما دلّ على وجوب عصمة الرسول دلّ على وجوب عصمة الإمام ؛ لأنّ حاجة الخلق لهما سواء ، خصوصاً في بيان معاني الكتاب والسنّة ، والسياسة والرياسة.

وقد أمر الله بالكون مع الصادقين (٤) ، ولا يتحقّق الصدق الكامل من كلّ وجه ، وهو الذي يجب صرف المطلق إليه مع إمكان صدور المعصية ، فضلاً عن وقوعها في حال. ولو كانت مطلقةً عامّة لدخل فيها كلّ كافر ؛ للجزم بوقوع الصدق منه في حالٍ ما ، وهو غير مراد بالضرورة ، وقال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٥).

والمراد بها : عليّ : وفاطمة : وابناهما عليهم‌السلام ، كما استفاضت بها النصوص من الطرفين (٦) ، بل تواتر مضمونها.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) البقرة : ١٢٤.

(٣) بحار الأنوار ٢٥ : ١٩١ ـ ٢١١ / ١ ـ ٢٠.

(٤) في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ). التوبة : ١١٩.

(٥) الأحزاب : ٣٣.

(٦) تفسير القمّيّ ٢ : ١٩٣ ، التبيان في تفسير القرآن ٨ : ٣٣٩ ، عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣١ ـ ٤٧ / الفصل الثامن ، مسند أحمد بن حنبل ٤ : ١٠٧ ، صحيح مسلم ٤ : ١٥٠١ / ٦١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٥٨ ـ ١٦٠ / ٤٧٠٥ ـ ٤٧٠٧ ، ٤٧٠٩.

٢٤٩

واستفاض أيضاً أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال في شأن علي عليه‌السلام : دون من سواه : « عليّ : مع الحقّ » (١) إلى آخره.

ولا يكون كذلك من تصدر منه [ معصية (٢) ] بحال ، فضلاً عن الكفر ؛ لأنهما من الباطل بالضرورة.

وأنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « أهل بيتي كسفينة نوح في قومه » (٣) إلى آخره.

و « كباب حطّة » (٤) إلى آخره.

و « أمان لأهل الأرض » (٥) إلى آخره.

وأنهم « لا يفارقون القرآن ولا يفارقهم » (٦).

وأنّهم « الثقل الأصغر » (٧).

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، ممّا هو نصّ في عصمتهم.

وقد أقام الرافضة البرهان المتضاعف المحكم على عصمة عليّ : وخواصّ بنيه عليهم‌السلام ، وأنّهم حجّة الله على عباده ، ومستودع سرّه ، وعيبة (٨) علمه ، كما يؤيّده ما أثبته مخالفوهم ، فضلاً عن أتباعهم من معاجزهم وكراماتهم التي لم تُدّعَ في غيرهم وبين أتباعهم أيضاً على لسان الخصم وغيره ، ما ثبت في غيرهم ممّن تغلب منه المعاصي والكفر والأُمور المنافية لمنصب الإمامة التي هي خلافة الله ورسوله العامّة ، وقطب رحى دائرة الوجود.

الثالث : النقض بما هو ضروريّ من تعمير إبليس : وإنظاره وغلبة جنده على أكثر

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٧٦ ، ٧٧ ، ٢٩٧ ، تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ / ٧٦٤٣.

(٢) في المخطوط : ( معصيته ).

(٣) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦٣ / ٤٧٢٠.

(٤) الأمالي ( الطوسيّ ) : ٧٣٣ / ١٥٣١.

(٥) فرائد السمطين ١ : ٤٥ / ١١ ، وفيه : « أهل » بدل : « لأهل ».

(٦) كمال الدين : ٢٤١ / ٦٤.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٥ / ٣.

(٨) العيبة : مستودع السر. لسان العرب ٩ : ٤٩١ عيب.

٢٥٠

الجنّ والإنس واستمرار دولته ، وكذا النصارى وعبدة الأوثان على تباين أصنافهم ، وتيسير أسباب الغلبة والنصر لهم في أكثر المعمورة كما هو مشاهد محسوس. فإذا أمكن بل وجد إمهال الله تعالى لمثل فرعون : ونمرود : وأضرابهم من عتاة الأُمم السالفة المئات من السنين بل الأُلوف كما هو معلوم يقيناً بالاستفاضة.

ولمثل إبليس إلى يوم الوقت المعلوم مع ظهور الغلبة وتيسير أسباب النصر ، بل ولمثل أهل الضلال من هذه [ الأُمّة (١) ] ، ولمثل قتلة الرسل ولمن سباهم وشرّدهم. وما جرى على ذرّيّة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : معلوم بالضرورة.

فإذا جاز أن يمهل مثل هؤلاء المذكورين طرفة عين لأمرٍ هو بالغه ، وحكمة هو أعلم بها ، وتكميلاً للحجّة البالغة ، وتحقيقاً لكمال اختيار المكلّفين وغير ذلك ، فلِمَ لا يجوز أن يمهل راصد الخلافة برهة من الزمان ؛ ليستنطق صامت الإمكان وتبلغ الحجّة ويستحكم البرهان ، ويحيا من حيّ عن بيّنة ، ويهلك من هلك عن بيّنة ، ويكمل الاختيار ويظهر الاختبار ، كما هو مقتضى ذلّ العبوديّة ورحمة المعبود وغير ذلك؟

الرابع : أن دعواه لا يتم إلّا بإثبات أن من سوى عليّ عليه‌السلام : وخاصّة بنيه عليهم‌السلام يقولون عن الله ويأتون بما يدلّ على صدق دعواهم من الكرامات والمعاجز ؛ ليكون قولهم عن الله ورسوله بيقين ، وبأنّ علياً عليه‌السلام : وخاصّة بنيه عليهم‌السلام لا تكون لهم العاقبة ، وليسوا من ورثة الأرض بيقين. وهذا باطل بيقين ؛ إذ ليس له عليه سلطان مبين ، وليس أحد يدّعي ذلك من جميع المكلّفين فضلاً عن أن يقيم عليه شبهة فضلاً عن البرهان.

نعم ، أطبقت الأُمّة على أن عليّاً عليه‌السلام : وخواصّ بنيه عليهم‌السلام من خاصّة الله وخالصته من خلقه ، ومن سادات الصالحين الذين هم شهداء الله ، وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأنّهم سفينة النجاة ، وباب حطّة ، والنجوم التي يُهتدى بها ، وهي الأمان والثقل الذي لا يفارق القرآن بوجه ، وغير ذلك ممّا لا يحصى من خواصّهم العليّة ومزاياهم الجليّة ، فهم الذين يورّثهم الأرض بطريق أولى من جميع من سواهم.

__________________

(١) في المخطوط : ( الإمامة ).

٢٥١

وقد أوضحنا بحمد الله في غير هذه [ العجالة (١) ] أن العزّة لله ولرسوله ، ولهم ولأتباعهم ، وأنّهم المخصوصون بنصر الله أبداً من حين بعث الله محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى أن يورّثهم الله الأرض ومن عليها بالبرهان المتضاعف.

الخامس : أنه لو ثبت دعواه لثبت عكسه ، ونقيضه وعكسه ، فثبت أن كلّ من لم تنشر دعوته وتعلُ كلمته وتمتدّ دولته وتحصل على كلّ حال نصرته ، فهو ليس بصادق ولا من أهل الحقّ ؛ فيخرج جلّ الأنبياء والرسل عليهم‌السلام على هذا عن أهل الحقّ والصدق ؛ إذ لم تسمع لأكثرهم دعوة ، ولم تقبل منهم موعظة ، ولم تثبت لهم في ظاهر الحال نصرة ، ولا علت لهم في ظاهر الحال كلمة ، ولا حصلت لهم على أهل زمانهم غلبة.

وفي الخبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه رأى النبيّ ومعه الرهط ، والنبيّ ومعه الرجلان والرجل ، والنبيّ وليس معه أحد. مع أنه لا شكّ في كونهم هم الدعاة إلى الله ، وذلك لا ينافيه.

بل ويلزم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : مدّة مقامه في مكّة لم يعلم بأنه من أهل الحقّ والصدق ، بل ولم يكن منهم لعدم غلبته في الظاهر على عتاة قريش.

بل ويلزم كون قريش في ذلك الحال هم أهل الحقّ.

بل ويلزم انقلاب الحقّ باطلاً وبالعكس ، وذلك كلّه باطل بالضرورة.

الثاني : (٢) أن قوله : ( ومع ذلك نراهم إذا ذكرت الغلبة ) إلى آخره ، بهتان عليهم وزور ؛ إذ لم يقل أحد منهم بذلك ، ولا وجد في شي‌ء من كتبهم ، والكذب لا يؤسّس دعوى.

نعم كلّ مسؤول عن شهادته يوم تبلى السرائر ، بل من تصفّح زبرهم وجدهم قد أقاموا البرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً على أن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين منذ بدأ الله الخلق إلى أن يرجع كلّ شي‌ء إلى ما منه بدأ.

__________________

(١) في المخطوط : ( العزالة ).

(٢) في المخطوط : ( السادس ).

٢٥٢

وأدنى ذلك ما يشاهد من حال الأنبياء وأتباعهم مع قلّة عددهم ، وضعف أتباعهم ، وعدم ناصريهم في دولة الجهل مع حرص سلاطين الجور وأتباعهم على إبادتهم عن جدد الأرض ؛ إذ لا ضدّ لهم غيرهم ، ومع ذلك لا تنقطع دعوتهم إلى الله وهدايتهم الخلق وبيان الدليل إلى السبيل وإقامة الحجّة ، ومع ذلك يعيشون في الأرض بين ظهراني أضدادهم ، بل وكثيراً ما يخدمهم أعداؤهم خدمة العبد ، ويهابونهم ويعظّمونهم تعظيم العبد للمولى.

فيكفي في ثبوت نصر الله لهم بقاؤهم على وجه الأرض بين أظهر أضدادهم الجبابرة العتاة داعين إلى الله دالّين عليه بالبرهان والحجّة ، وعلى بطلان عقائد من سواهم وكفرهم ، والحال أنّهم تحت سلطنتهم.

الثالث : (١) أن قوله : ( إن الدولة إنّما تكون لإمام الطائفة ) إن أراد بهذا الحصر أن الدولة تختصّ بالإمام دون المأموم ، فهو واضح الفساد ؛ لوضوح التلازم بين دولة التابع والمتبوع. وإن أراد أنه يجد للرافضة دولة في بعض البلاد ، والدولة يختصّ بها الإمام دون المأموم ، فهو أوضح فساداً ؛ لأنّ دولة المأموم من حيث هو مأموم لازم مساوٍ لدولة الإمام ، وإلّا لم يكن مأموماً ولأنّ دولة الراعي علّة لدولة الرعيّة من حيث هم رعيّة ، فدولتهم دليل دولته ، وبالعكس. فتسليمه وجود اللازم المساوي والمعلول وإنكار الملزوم والعلّة جهل أو عناد. هذا مع أنه منافٍ لحصره الدولة في الإمام.

وإن أراد أنّهم لا دولة لهم ، وإلّا لوجدت دولة إمامهم ؛ لأنّها أوّلاً وبالذات ولهم بالتبعيّة ، فقد أثبت الرافضة بالبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً دولة إمامهم وأنه سلطان الدنيا والآخرة ، وأن العالم بأسره في قبضته ، وأنه عين الله ويده (٢) وخليفته المطلق ونائبه الخاصّ الخالص وسبيل خلقه طرّاً إليه. ولا ينافي ذلك عدم ظهوره لكلّ عين بحيث تراه وتعرفه بشخصه ، فإنّه المؤيّد بنصر الله المستر بسرّ الله إلى أمدٍ اللهُ أعلم

__________________

(١) في المخطوط : ( السابع ).

(٢) بحار الأنوار ٢٤ : ١٩٩ / ٢٧ ، و ٢٥ : ١٧٤ / ٣٨.

٢٥٣

به ، وحكمة هو أعلم بها.

فهذه سائر ملوك الأرض ممّن يدّعي الإسلام وغيرهم لم نرهم ، بل ولا جُلّ رعاياهم ؛ [ لاحتجابهم (١) ] بحجاب الملك والتعظّم والتجبّر ، فعدم الرؤية لا يستلزم نفي السلطنة والنصر والعزّة ، وإلّا لما كان لإبليس وحزبه دولة.

الرابع : (٢) أن قوله : ( لا يستقيم ) إلى آخره ، مسلّم ، ومنه يعلم أن ثبوت عزّ الرافضة ودولتهم في وقتٍ وبوجه ما يستلزم عزّ إمامهم ، ووجود دولته في جميع الأوقات ، وبجميع الجهات والحالات ؛ لأنّهم الأقلّون عدداً ، مع شدّة حرص جميع من على وجه الأرض ممّن خالفهم على إبادتهم. والحال أنّهم معروفون بأعيانهم وبلدانهم ، وكتُبهم منتشرة ، وبراهينهم على الحقّ ظاهرة مشهورة ، قد ملأت ما بين الخافقين ، ومع هذا لم يُخلِ الله الأرض منهم ، ولا من علمائهم الداعين إلى الله ، المبطلين للباطل ، الموضّحين للحقّ في كلّ زمان مع شهرتهم. فذلك من أوضح البراهين على عزّ إمامهم ، ودوام نصره ووجوده ، وقهره لعدوّهم عنهم بقدرة الله تعالى.

الخامس : (٣) أن قوله : ( فلو كان كما تقولون ) إلى آخره ، تقوّل على الله بغير علم ، وتخرّص في الأديان بغير برهان. كيف ، والدعاة إلى الله في كلّ زمان من أزمنة ظهور دولة الباطل وغلبة الجهل وجنوده يخفون أشخاصهم في كثير من الأزمان عن أهل الطغيان ، ولكلّ رسول غيبة ، كما يعرف ذلك من وقف على السير والأخبار ، خصوصاً أكابرهم كإدريس : ويونس : وموسى : وإبراهيم : وعيسى : ومحمّد : صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم أجمعين وغيرهم؟

هذا وقد تواتر البرهان المحكم عقلاً ونقلاً (٤) ، وأطبقت العقلاء على عدم جواز خلوّ زمان من أزمنة التكليف من حجّة لله من البشر ؛ إما ظاهر مشهور ، أو خائف

__________________

(١) في المخطوط : ( لاحتجاجهم ).

(٢) في المخطوط : ( الثامن ).

(٣) في المخطوط : ( التاسع ).

(٤) بحار الأنوار ٢٣ : ٢٠ / ١٦ ، ١٧.

٢٥٤

مغمور ، وهو شهيد الله وعينه في بريّته ، ولسانه المعبّر عنه بالصدق ، وسبيل خلقه إليه ، مع وقوع الفترات بين الرسل. وما ذاك إلّا لأنّ الحجّة غير ظاهر مشهور معروف بشخصه ، بل مغمور لا معدوم ، وإلّا لارتفع التكليف لارتفاع الحجّة المبيّن الحافظ للشرع القويم. فيكون الخلق حينئذٍ عبثاً ، ولا يجوز على الله العدل القادر الرحيم التكليف بما لا يطاق.

فتبيّن أن هذا المُشَبّه قد حكم على خليفة الله وأمره بما لم يأمره الله ، وطلب منه فعل ما لم تقتضِه حكمة الله وعدله ورحمته في تدبيره عباده ، بل اقتضت عكسه. وقد عرفت أن عدم ظهوره للأبصار الحسّيّة لا ينافي عزّه وظهوره للبصائر القدسيّة وتأييده الإلهي. فله شبه بالرسل كيوسف عليه‌السلام : ومن ذكرنا منهم فقد أخفوا أنفسهم ، حتّى إن أسباط يعقوب عليه‌السلام : لم يعرفوا يوسف عليه‌السلام : أخاهم ، والحال أنهم لم يُزايلهم عزّ الله ونصره.

فما أورده هذا المُشَبّه وارد عليه في شأن هؤلاء الرسل ، بل وفي شأن محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : قبل الهجرة ، مع أنه المجاب الدعاء ، المؤيّد بنصر الله وعزّه منذ خلق الله السماوات ، وإلّا لكان يحيى عليه‌السلام : وأضرابه أفضل منه بوجه ، فلا يكون أشرف الكلّ في الكلّ مطلقاً ، وهو كذلك مطلقاً ، هذا خلف.

السادس : (١) أنه إن سُلّم دعواه وتمّ ثبت به حقيقة مذهب الرافضة ودعواهم اختصاص عليّ عليه‌السلام : وبنيه الأطياب المعصومين : بالإمامة ؛ لظهور هذه الدعوى من الرافضة وغيرها ممّا اختصّوا به ، وانتشاره ودوامه واستمراره واشتهار ما برهنوا به عليه ، مع استمرار وجودهم ، وتزايد اشتهار دعواهم على مرّ السنين. والحال أنهم عدد نزر قليل جدّاً في كلّ زمان بالنسبة لأعدائهم ، مع شدّة حرص أعدائهم على إبادتهم.

ما ذاك إلّا نصر إلهيّ ، وتأييد ربّانيّ ، وإلّا للزم بمقتضى دعواه أن يأخذهم الله ويستأصلهم كسائر من تقوّل عليه ، فإنّهم يقولون : إن إمامة عليّ عليه‌السلام : والأحد عشر من بنيه جاءت من الله بنصّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) في المخطوط : ( العاشر ).

٢٥٥

وهذا المفتري وأضرابه يعتقدون في الرافضة أنّهم يسبّون أولياء الله وخلفاء رسوله ؛ فإذن على هذا يجب في حكمة الله استئصالهم ، وإذا مهّل الله لهم وأمدّهم باشتهار الذكر والنصر ، فإذن هم الفرقة الناجية المحقّة.

السابع : (١) أنه إن أراد بالدولة : العزّ (٢) الدنيوي ، وباستمراره : استمراره برهة ما معلومة أو غير معيّنة ، فلا خفاء ولا ريب في ثبوت ذلك لمن ثبت كفره وعتوّه على الله بالضرورة من الدين والتواتر المحكم ، كفرعون : ونمرود : وإبليس : وغيرهم من الفراعنة ؛ لأسباب اقتضتها حكمة الحكيم القادر العليم ، فأمهلهم وأملى لهم ، لتكمل الحجّة ويتمّ الاختيار ، ويظهر الاختبارُ كامنَ ما في النفوس. فثبوت ذلك لهم لا يدلّ على [ حقيّة (٣) ] الدعوى ولا عدمه على بطلانها بضرب من ضروب الدلالات ، بل الوجدان يشهد بخلافه.

وإن أراد العزّ الإلهيّ والدولة الربّانيّة ، فعدم ظهور صاحبها للأعين الحسّيّة لا ينافي ثبوته له في الواقع ، كما هو معلوم من سير الأنبياء والرسل عليهم‌السلام والأولياء حتّى محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّهم يدورون في جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم مطلقاً على مشيئة الله تعالى وحكمته ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٤) في جميع أحوالهم مطلقاً.

فلو كان صبرهم على أذى الأعداء ينافي عزّهم ونصرهم الإلهيّ الحقّيّ لكان ما فعل بهم الأعداء من القتل وغيره ينافي قدرة القادر العليم بذاته ، بل ولكان كفر من كفر ، بل ومعصيةُ من عصى مع إمهال الله له ، كما هو بالوجدان ينافي قدرة الله وعزّه.

فإذن صبر أوليائه على الأذى وعلى مخالفة من خالف أمرهم ، وخالف أمر الله لا يدلّ على ذلّهم ولا على عجزهم عن قهر الأعداء واستئصالهم ، بل يدلّ على أنّهم يعاملون الخلق بما اقتضته فيه حكمة الحقّ. فرحمة الله ورأفته بعباده وحكمته فيهم

__________________

(١) في المخطوط : ( الحادي عشر ).

(٢) في المخطوط : ( والعز ).

(٣) في المخطوط : ( حقيقة ).

(٤) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

٢٥٦

أمرت نوّابه بالصبر على ذلك مع قدرتهم على استئصالهم أعداءهم ؛ لأنّ قدرتهم من قدرة الله ، وناصرهم هو الله القاهر فوق عباده.

هذا مع أن ذلك القاطع للطريق ، الملقي نفسه في أضيق المضيق ، ليس له سلطان ولا برهان ولا أثارة من علم على أن دولة غير عليّ عليه‌السلام : وبنيه المعصومين عليهم‌السلام وعزّهم بنصرٍ إلهي وتأييد ربّانيّ ، ولا على أنّها مستمرّة أبداً ، فلِمَ لا يجوز أن تكون دولة أئمّته كدولة نمرود : وفرعون : وبخت‌نصر : وإبليس : وغيرهم من الفراعنة؟ ولا على أن عليّاً عليه‌السلام : والأئمّة من بنيه عليهم‌السلام ليس لهم عزّ ونصر إلهيّ ولا تقوم لهم دولة وعزّ ، ونصر مستقرّ ، وكلمة عليا ظاهراً محسوساً.

وإنّما أدلّة الرافضة وبراهينهم العقليّة والنقليّة على دعواهم في عليّ عليه‌السلام : مشهورة مستمرّة الظهور بلا تناقض ولا منافٍ. وجميع الأُمّة مطبقة على شدّة علوّ درجتهم في العلم والعمل والسياسة والرياسة وجميع المكارم والمآثر ، وعلى شدّة براءتهم وتقدّسهم عن كلّ منقصة ورذيلة ، وتعاليهم عن [ الحظوظ (١) ] البشريّة ، ولم يكن ذلك في سواهم من الأُمّة أصلاً ، فهم كباب حطّة (٢) وكسفينة نوح عليه‌السلام (٣) : وكنجوم السماء (٤) ؛ فهم الأمان ومنهم ظهر نور الإيمان ، ولهم دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : بقوله : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً » (٥).

فهم المطهّرون على الإطلاق ، وقد أنزل الله تعالى فيهم ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) (٦) ، الآية.

وهم أحد الثقلين اللذين لا يفترقان (٧) ، فأيّ برهان على عصمتهم أوضح من

__________________

(١) في المخطوط : ( الخصوص ).

(٢) الأمالي ( الطوسيّ ) : ٧٣٣ / ١٥٣١.

(٣) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦٣ / ٤٧٢٠.

(٤) فرائد السمطين ٢ : ٢٤٤ / ٥١٧.

(٥) مناقب أمير المؤمنين ( ابن المغازلي ) : ٣٠١ ـ ٣٠٧ / ٣٤٦ ـ ٣٥١.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) انظر ينابيع المودّة ١ : ٩٥ ـ ١٠٦ / فصل في حديث الثقلين والغدير.

٢٥٧

هذا؟ مع أن براهين عصمتهم لا تحصى ، وقد نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : باتّفاق الفريقين على أن منهم المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً (١) ، وعلى أن عليّاً عليه‌السلام مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار (٢).

وقال فيه : « وصيّنا خير الأوصياء ، وهو بعلكِ يا فاطمة » ، رواه الطبراني (٣) : وغيره (٤) من أكابر المحدّثين ، فقد فضّله على جميع أوصياء المرسلين مثل شيث : وشمعون الصفا : ويوشع : وهارون : عليهم‌السلام وأضرابهم.

فلعمري ما أصرّح هذه الأخبار المستفيضة في عصمتهم! كيف لا يكون عليّ عليه‌السلام : سيّد الأوصياء : بل سيّد الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهو وصيّ أشرف الخلق مطلقاً في كلّ كمالٍ وفضيلةٍ؟ فلو لم يكن وصيّه كذلك لما كان له الشرف والسيادة على من سواه من الخلق في كلّ شي‌ء مطلقاً ، وهو كذلك مطلقاً.

ولم يثبت لغير عليّ عليه‌السلام : والأئمّة من بنيه عليهم‌السلام معشار عشر سهم من ألف ألف ألف سهم ممّا ثبت لهم من الكمالات والكرامات الثابتة بالاستفاضة. بل ولم يثبت لغيرهم شي‌ء يدلّ على حقيقة دعواه من جميع من ترأس في هذه الأُمّة أو ادّعيت له الرئاسة. فأمكن أن يكون اعتقاد إمامة غير علي عليه‌السلام : والأئمّة عليهم‌السلام من بنيه كاعتقاد ربوبيّة فرعون : وأن المسيح عليه‌السلام : ابن الله ، وأن أصنام المشركين شفعاء إلى الله ، وغير ذلك ممّا يُفترى على الله ، فإنّ مدّعي ذلك موجود إلى الآن ، ولبعضهم دولة وعزّ ظاهر كالنصارى وعبدة الأوثان.

الثامن : (٥) أن قوله : ( فليس لهم إلّا الذلّ ) إلى آخره ، سبّ وفحش مجرّد لا يؤسّس دعوى ، فضلاً عن أن يؤصّل ديناً ويبطل آخر ، فهو من قبيل قول الكفّار

__________________

(١) كفاية الأثر : ٤٧.

(٢) انظر مناقب آل أبي طالب ٣ : ٧٦ ، ٧٧ ، ٢٩٧ ، تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ ، ٧٦٤٣.

(٣) المعجم الكبير ٣ : ٥٧ / ٢٦٧٥ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٤) ذخائر العقبى : ١٣٥ ـ ١٣٦ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٥) في المخطوط : ( الثاني عشر ).

٢٥٨

للرسل : إنّهم سحرة ، وإنّهم يقولون باجتهاد لا بوحي ، وإنّهم يعصون ، وإن القرآن أساطير الأولين.

ولكن من انسلخ عن آيات الله ومُسخ جُعلاً بعد أن كان رجلاً ، يحكم بنفاسة القاذورات ويستطيب ريحها ؛ لأنه من سنخها ويستبزّ الحقّ ؛ لأنه ليس من أهله. والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

٢٥٩
٢٦٠