رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[٨٧]

مسألة : الدنيا طالبة مطلوبة

في الخبر : « الدنيا طالبة مطلوبة ، والآخرة طالبة ومطلوبة » (١). فما الوجه في حذف الواو من الاولى وإثباتها في الأُخرى؟

ولعلّ الجواب أن الدنيا لمّا كانت ظلّاً للأُخرى ومعلولة لها ، والأُخرى نتيجة للدنيا وغاية لها فمن الغيب وردنا وإليه نصير كانت طالبيّة الدنيا و [ مطلوبيّتها ] (٢) شيئاً واحداً كـ ( حلو حامض ) ؛ فطالبيّتها عين [ مطلوبيّتها ] (٣) بوجه وإن كانت غيرها بوجه. والأُخرى لمّا كانت [ علّة (٤) ] فاعليّة أو مادّيّة أو غائيّة للدنيا تغاير طالبيّتها ومطلوبيّتها بوجه. وهو المعني في الحديث.

وأيضاً يمكن أن يقال : إن الآخرة [ لمّا كانت ] باعتبار المبدأ والمعاد قوسين متقابلين ، كانت طالبيّتها غير مطلوبيّتها ظاهراً. والدنيا لمّا كانت نهاية قوس البدء ومبدأ قوس العود ، فهي كالنقطة الجامعة بينهما كالحدّ المشترك كانت طالبيّتها عين مطلوبيّتها ، أو هي حقيقتها مركّبة من جهتي القوسين كالبرزخ ، كانت حقيقتها طالبة مطلوبة كـ ( حلو حامض ) ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٨ / ١٢.

(٢) في المخطوط : ( ومطلوبتها ).

(٣) في المخطوط : ( ومطلوبتها ).

(٤) في المخطوط : ( على ).

٢٨١
٢٨٢

[٨٨]

مسألة : أبى الله أن يجعل رزق المؤمن إلّا من حيث لا يحتسب

ورد في عدّة أخبار أنهم عليهم‌السلام قالوا : « أبى الله أن يجعل أرزاق المؤمنين إلّا من حيث لا يحتسبون » (١).

وفي بعضها : « وذلك لأن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه » (٢).

وورد في بعض الأدعية : « اللهم ارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب »(٣).

فما وجه الجمع؟

ولعلّ الجواب ومن الله الهداية إلى الصواب أنه أراد بالمؤمنين في الأوّل : الخلّص ، وبالثاني : سائر المؤمنين.

أو يراد بالأرزاق في الأوّل : ما يرزق المؤمن من العلم والمعرفة ، فقد أُطلق عليها اسم الرزق في كثير من الأخبار (٤). وبالرزق في الثاني هو أرزاق الأبدان.

أو يراد بالأوّل : مطلق الأرزاق الدنيويّة والأُخرويّة ، ولكنّه لا يعلم وجهها حتّى يطلبها منه إلّا بعد دعائه ، فبعد أن يلحّ في الدعاء يفتح الله له باب الطلب ، فحينئذٍ

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٠ : ٣٥ ـ ٣٦ / ٧٢.

(٢) الأمالي ( الصدوق ) : ٢٤٨ / ٢٦٨ ، بحار الأنوار ١٠٠ : ٣٦ / ٧٣.

(٣) الأمالي ( الصدوق ) : ٦٧٢ / ٩٠٢ ، بحار الأنوار ١٢ : ٢٥٦ / ٢٠ ، وليس فيهما : « اللهم ».

(٤) تفسير القمّيّ ١ : ٥٩.

٢٨٣

مقام « ارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب » فكلّ منهما بمقام ، فلا منافاة.

ويمكن أن يريد بالحسبان في الأوّل : اليقين ، فليس للمؤمنين يقين بباب رزقهم لما أخذ عليهم من الإيمان بالبداء ، وعلى قدر إيمان المرء بالبداء ينتفي يقينه بمحلّ رزقه ، ويراد بالحسبان في الثاني : الظن ، فلا منافاة ؛ لأنّ الظنّ لا ينافي الإيمان بالبداء ولو رجح الظنّ ، والله العالم.

٢٨٤

[٨٩]

جمع تفريق وبيان

تحقيق : نزل القرآن أوّل ليلة من شهر رمضان

مسألة : ما الجمع فيما رواه الكليني رحمه‌الله : في ( الكافي ) عن أهل العصمة سلام الله عليهم من أن القرآن نزل في أوّل ليلة من شهر رمضان (١) وبيان صريح الآيات المحكمة (٢) والسنة المستفيضة المحكمة (٣) وإجماع المسلمين كافّة على أن القرآن نزل في ليلة القدر؟

قلت : لعلّ الجواب ـ وبالله الاعتصام أنه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور جملةً كما دلّ عليه صرائح الأخبار المحكمة ، وعليه إجماع الأُمّة ، فإنّ نزوله إلى عالم الحسّيّ وقع مفرّقاً في العام الحسّيّ مطبقاً على أجزائه كما هو معلوم بالنصّ والإجماع. فمعنى أنه نزل أوّل ليلة من شهر رمضان : أن أوّل شي‌ء برز منه إلى عالم الحسّيّ نزل في أوّل ليلة منه ، فإنّها أوّل العام شرعاً وهو العام الحقيقيّ المطابق لترتيب عدّة الشهور عند الله.

ولا ينافي ذلك سبق نزوله إلى البيت المعمور على نزوله إلى عالم الحسّيّ وتأخّر ليلة القدر عن أوّل ليلة من شهر رمضان ؛ إذ بين النزولين مرتبتان كلّيّتان ؛ لأنّ الأوّل مرتبة قلب السفير به ، والثاني مرتبة لسانه الشريف التبليغيّ الحسّيّ.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٦٦ / ١.

(٢) كقوله تعالى : ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ). القدر : ١.

(٣) الكافي ٤ : ١٥٧ / ٥ ، ١٥٨ / ٧.

٢٨٥

وبينهما مرتبة خيالة (١) المطلق.

أو قل : الأوّل مرتبة الإذن ، والثاني مرتبة الأجل وهو الإمضاء وما بينهما الكتاب. وشهور العام ضعف ست من السبع التي لا يكون شي‌ء إلّا بها ؛ لكون العام رتبة الحسّ المستجنّ فيها بالقوّة ما قبله من الرتب ؛ فكانت ستّاً ، وكان اثني عشر ، والسابعة سابقة شاملة للكلّ ؛ لأنّها روح الكلّ فلا ينافي تأخّرَه إلى أوّل ليلة من شهر رمضان سبقُ نزوله جملةً في ليلة القدر إلى البيت المعمور.

وبوجه آخر هو أن يراد بأوّل ليلة من شهر رمضان ليلة القدر ؛ لأنّها كذلك باعتبار الغيب ، أو لأنّها مرتبة القلب الذي هو العرش المحيط ، وهو أوّل كائن بمعناه العقليّ والحسّيّ. وأوّل كائن وبارز من الإنسان قلبه ، ثمّ يُبنى عليه الجسد كما هو الحقّ ، وهو المشهور بين أهل التشريح.

وإن كان القول : إنه (٢) الدماغ [ فله (٣) ] وجه في الجملة أيضاً.

وأوّل كائن من الأرض الكعبة (٤) زادها الله شرفاً ثمّ دحيت الأرض من تحتها ، فهي من الأرض كالقلب من جسد الإنسان ، فهي أشرف بقعة من الأرض باعتبار الجسدانيّة الصرفة وإن كانت كربلاء زادها الله شرفاً أفضل منها بمقام آخر (٥) ؛ فلا منافاة بين الأخبار. وقد سبق بعض بيان ذلك.

وليلة القدر قلب شهر رمضان ، فلا ينافي كونَها وسطه في خارج الزمان كونُها أوّله باعتبار آخر وبحسب ترتيب الوجود الواقعيّ ، بل يؤكّده ، والله العالم.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) في المخطوط : ( لأنه ).

(٣) في المخطوط : ( له ).

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٩٠ / ١ ، بحار الأنوار ٥٤ : ٦٤ / ٣٩.

(٥) وسائل الشيعة ١٤ : ٤٤٦ ـ ٤٥٤ ، أبواب المزار ، ب ٤٥.

٢٨٦

[٩٠]

تحفة بيانيّة : « جعل السماوات عماداً لكرسيّه »

مسألة : ما معنى ما روي عن أمير المؤمنين : سلام الله عليه في بعض مدحه لباريه عزوجل أنه قال : « جعل السماوات عماداً لكرسيّه » (١)؟

قلت وبالله المستعان ـ : الجواب من وجوه :

أحدها : أن البرهان قائم عقلاً ونقلاً (٢) على أن جميع العالم مرتبط بعضه ببعض ، ومعتمد بعضه على بعض ؛ فالعالي معتمد على السافل في قبول الفيض منه ، وفي كونه مظهراً له ، وفي تأديته فيضه إلى من دونه ؛ إذ لا بدّ من الواسطة بين كلّ رتبتين ، ومن المناسبة بين المفيض والمستفيض من حيث هما كذلك. وكلّ متوسط برزخ به يكمل قبول من دونه لفيض من فوقه بواسطته بكمال الاختيار ؛ لما في الواسطة من المناسبة لهما بجهتيه.

والسافل معتمد على العالي في الاستفاضة والإفاضة والاستكمال وحفظ الكمال ووجود الحقيقة والإمساك ؛ إذ لا وجود للمعلول إلّا مع وجود علّته ، فلا يمكن استغناؤه عنه ذاتاً وصفةً بوجه وعلى حال أصلاً ؛ إذ حقيقة المعلول عند التأمّل الصافي هو عين إفاضة العلّة ، وتحت ذلك سرّ يظهر على أهل الاستيضاح المتفكّرين. فالسافل كالبدن والعالي روح له ومظهر.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٣٥ / ١٥٠٤ ، بحار الأنوار ٥٥ : ٦ / ٣ ، وفيهما : « جعل السماوات لكرسيه عماداً ».

(٢) التوحيد : ٤٤٠ / ١.

٢٨٧

الثاني : أن يراد بالسماوات : سماوات العقول العالية ، وبالكرسي المكوكب أو مطلق الأجسام ؛ الكلّيّ للكلّيّ والجزئيّ للجزئيّ.

الثالث : أن يراد بالسماوات : الأئمّة من آل محمّد : صلى الله عليه وعليهم فإن الإمام هو السّماءُ الظليلة (١) كما ورد مستفيضاً ، وبالكرسيّ أي معنى أُريد ، فهم الأعضاد والأشهاد وأعمدة الفضة الّتي رفعت بها السماوات.

الرابع : أن يريد بالسماوات : العقول ، وبالكرسي : النفس الكلّيّة ، وهي الصدر ، والله العالم.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢١ : ١٢٣.

٢٨٨

[٩١]

زبرجدة يمانيّة

لعلّ الوجه في غسل الميّت أن إفاضة الماء الذي هو مثل وحكاية وظلّ ومظهر لماء الحياة الحقيقيّة يفيد البدن بعد خروج النطفة التي خلق منها منه استعداداً لملاحظة النفس له في البرزخ ، وإعداداً له في مناسبتها ، فهو أوّل التصفية حتّى يصلح لتعلّقها به تعلّقاً تامّاً ثانياً.

ولعلّ الوجه في سائر الأغسال هو تنقية البدن عن أثر القدر الحاجب لإشراق نور النفس عليه ، وظهور آثارها من حيث هي مقدّسة فيه حتّى يصلحا معاً لعبادة الله ، والوقوف بين يديه ؛ إذ العمل منهما جميعاً بعد مناسبتهما له في الجملة ، ومناسبة كلّ منهما للآخر ، وبإفاضة الماء على الوجه المشروع تحصل في الجسد حياة يناسب بها حياة النفس ويستعدّ لارتباطها به ، فتهتزّ أرضه وتربو ، وتنبت ما يثمر ثمرات الجنان ، والله المنّان ، وهو أعلم بأسرار أحكامه.

٢٨٩
٢٩٠

[٩٢]

في بيان بعض أسرار الصلاة

اعلم أن الصلاة خطرها عظيم ؛ ولذا ورد فيها أنّها معراج المؤمن (١) ، وأنّها معراج كلّ تقيّ (٢) ، وأنّها « عمود دينكم » (٣). وهي بالنسبة إلى عبادات العالم بأجمعه كالإنسان بالنسبة إليه. فكما أن الإنسان نسخة مختصرة من جميع العالم ، فهو كتاب مستقلّ ودائرة تامّة ، وكلّ نوع سواه قوس ، كذلك الصلاة نسخة مختصرة من جميع عبادات العالم فعلاً وتركاً. ينبّهك على ذلك ما هو ظاهر منها ؛ فقد اشتملت على ركوع وسجود وقيام وقعود وحركة وسكون ، وترك لجميع ما سوى ذكر الله وجوباً ، وتحريم جميع لذّات الدنيا من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك.

وبالجملة ، جميع ما يشغل عن الله. فروحها الإقبال على الله ، ومادّتها ذكر الله ، وصورتها التواضع والاستكانة والخضوع لله. فهي محض القبول للاستكمال بأنوار الملكوت ، والمصلّي من حيث هو قابل محض ؛ فهي أصل الدعاء وحقيقته. فالصلاة أشارت ونعتت كلّيّات جواهر العالم ، ورتبه وحقيقة عباداته أجمع ، وأشارت إلى رتب الوجود بدءاً وعوداً.

وكانت اليوميّة التي هي أصل الصلوات وأُمّها قد فرضت فوق العرش في مقام قاب قوسين خمساً عدد أهل الكساء ، وأُولي العزم ، والمتحيّرة السيّارة ، وعدد كلّيّات العالم :

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٩ : ٣٠٣ / ذيل الحديث : ٢.

(٢) الخصال ٢ : ٦٢٠ ، حديث أربعمائة ، وفيه : « قربان ».

(٣) المحاسن ١ : ١١٦ / ١١٧.

٢٩١

العقل ، والنفس ، والروح ، والخيال ، والجسم ، وغير ذلك من الانقسامات المخمّسة.

ولأنّ الخمسة نهاية الكثرة العدديّة ؛ فهي كأنّها برزخ بين القوسين ، وجامعة بين النشأتين ، وعدد خمسة الأصابع التي هي مظهر القدرة في القبض والبسط ومظهر الجود ، وعدد ضمير الغيب المشير إلى ينبوع الوجود ، وعدد القوى الخمس الباطنة ، وعدد الخمس الظاهرة (١). ومجموعها بأصل الفرض عشر ركعات [ كعدد (٢) ] القوى العشر (٣) ، وعدد القبضات العشر التي تكوّن منها الإنسان المصلّي ، وعدد الكلّيّات العشر المجرّد ، والتسعة المادّيّات ؛ باعتبار أن عالم الكون والفساد واحد [ لإمكان ] (٤) انقلابات العناصر واستحالة بعضها إلى بعض.

وكان منها أصل فرضها ثنائيّاً ؛ لتجمع قسمة العالم الثنائيّة : مجرّد وجسمانيّ ، وظاهر وباطن ، وغيب وشهادة ، ومبدأ ومعاد ، ودنيا وآخرة ، وجوهر وعرض ، وغير ذلك. وكان أصلها كلّها ثنائيّةً خمساً بعشر ركعات مقابلة للعشر الحسنات ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (٥). ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : بمقتضى ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٦) أزاد سبعاً ردماً لسبعة أبواب الجحيم ، وليكون فيها بسيطاً ومركّباً كانقسام العالم كذا إلى ذلك.

فالبسيط منها ما أُبقيَ على الأصل ، والمركّب ما أُزيد فيه ، ولوحدة البسيط بوجه كان منها البسيط واحداً ، وتعدّد المركّب لتعدّده في العالم. وكانت الزيادة اثنتين لتطابق أصلها ، وتحكي قيام الخليفة مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكانت المغرب زيادتها واحدة لتكون كالبرزخ بين الرتبتين لوجوب وجود البرزخيّة بين البسيط المحض والمركّب المحض ، بل بين كلّ رتبتين.

وقد فسّرت المغرب بالزهراء سلام الله عليها ـ : لأنّها منبت الأنوار وسفط

__________________

(١) انظر التفسير الصافي ٣ : ١١١.

(٢) في المخطوط : ( وعدد ).

(٣) انظر الهامش الأول في هذه الصفحة.

(٤) في المخطوط : ( الإمكان ).

(٥) الأنعام : ١٦٠.

(٦) ص : ٣٩.

٢٩٢

الأسرار ، فهي كالبرزخ بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والوليّ. وأشارت الزيادة بتسبيعها إلى القسمة السباعيّة في العالم ؛ إذ لا يكون شي‌ء في السماء والأرض إلّا بسبعة أشياء. والأفلاك سبعة ، وأملاكها سبعة ، وأيّام الأُسبوع التي جمعت أيّام الدهور والأعوام والشهور سبعة ، تشير إلى أربعة عشر هي الأيّام الحقيقيّة التي نهينا عن معاداتها. وهي ضعف السبعة بالتثنية التي هي جهة تثنية الصلاة بأصل الفرض.

وأيضاً أُبقيت منها واحدة على الأصل ؛ لئلّا تخلو من صورة أصلها ، ولتكون مبدأً لها وغايةً ، ولئلّا تخلو مرتبة من المبدأ. فالغاية هي البداية ، وكان أصلها ثنائيّاً أيضاً ؛ لأنّ مقام فرضها وظهور التكليف بها ثنائيّ ، وهو مقام العقل والنفس. أو قل : الروح ، وهو المقام الجامع بينهما ، أو قل : مقام ( نحن نحن وهو هو ) (١) ، ومقام منتهى العابدين ، ومقام وقوف العابد بين يدي المعبود ، بل هي في المقام الأرفع ، وهو مقام الإرادة المطلقة ومنقطع الصفات.

والبرزخ الكلّيّ الأعظم ركعة واحدة ، بل هي في مقام المشيئة المطلقة والوجود المطلق ذكر مجرّد سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح. فلمّا وصل الأمر بالإدبار في قوس البدء إلى آخر المراتب النزوليّة ، ومجمع القوابل ، ومنتهى الكثرة ، وابتداء قوس العود ، وتكافأت القوابل ، واشتدّ المزج ، وتضاعفت الأغشية ، وكان الخلق كما قيل :

تنكر منها عرفها فاهيلها

غريب وفيها الأجنبيّ اهيل

وابتدأ السفر الرابع وحان أوان تبليغ الرسالة العظمى ظهر تضاعفها ، ونسبت الزيادة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : وإن كان التكليف في الاثنتين تكليفاً بالأربع ، والتكليف بالخمس تكليفاً بالخمسين لجامعيّتها لها وثوابها عليها ، فلا نسخ لأصل أصلاً بل ظاهراً ، وإنّما هو إرجاع الجزئيّات إلى الكلّيّات. على أن نسبتها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : حقيقةٌ ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، فهو ممّا فوّضه الله إليه وقال له ( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ) (٢).

__________________

(١) انظر شرح العرشية ٢ : ١٣٢.

(٢) ص : ٣٩.

٢٩٣

وخُصّت الصبح بعدم الزيادة لأنّها في ساعة ليست من الليل ولا من النهار (١) ، وهي تشبه ساعات الآخرة ، فهي تحاكي رتبة أوّل فرضها ، ولأنها برزخ بين النور والظلمة ، والوجود والعدم ، والغيب والشهادة ، فهي تجمع المقامين ؛ ولذلك يجتمع فيها ملائكة الليل [ والنهار (٢) ]. وهي بمنزلة دولة الصاحب : عجّل الله فرجه وفرّج عنّا به فإنّها كالبرزخ بين المقام الذي أحبّ الله بحكمته أن يعبد فيه سرّاً وهو زمن دولة الجهل وبين المقام الذي أحبّ الله بحكمته أن يعبد فيه بكمال الإعلان ، وهو زمن دولة العقل ، وهو زمن الرجعة.

فساعة الفجر من الليل بوجه ؛ ولهذا اعتبرها الشارع تارة من الليل وأُخرى من النهار. فهي كرتبة الخيال الجامع لخواصّ المجرّد والمادّيّ ، لا من حيث هما كذلك كما هو شأن البرزخ والغيب والشهادة ، والظاهر والباطن. فأشبهت مقام بدئها ومعادها ، وبوجهٍ مقام المزج بين الطينتين وعركهما. ولضيق وقت الصبح بالنسبة إلى غيرها ، وكونها واقعة على أثر كسل النوم المضعف للقوى النفسانيّة التي هي مادّة العبادة ؛ أُبقيت على أصل الفرض ، والله رؤوف رحيم.

وكان منها ثلاثيّة إشارة إلى قسمة الوجود الثلاثي أيضاً : العقل والنفس والجسم ، والمجرّد والخيال والجسمانيّ. وإلى عدد الأجزاء الثلاثة الذين هم الثلاثة الظاهرة من الأربعة ، الّذين هم أركان الاسم الأعظم الّذي خلقه الله بالحروف ، غير متصوّت إلى آخره. وإلى تدويرات القبضات العشر الثلاث (٣) التي هي طينة المصلّي ، وبكمال الثلاث لكلّ واحدة من العشر يبلغ الغلام الحلم فيستحقّ أن تدفع إليه أمواله.

فإذا تمّت الثلاثة للعشر كملت ثلاثين عدّة شهر الميقات ، وأيّام الصيام التي صومها يصفّي النفس من أثر ما أكل آدم عليه‌السلام : من الشجرة ، والذرّيّة في صلبه.

وإشارة إلى أوّل فرد من العدد بعد الواحد على ما هو الأقوى من دخول الواحد

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ : ١٢٦ ، بحار الأنوار ٨٠ : ١٠٧ / ٤.

(٢) إشارة الى ما ورد في الكافي ٣ : ٢٨٣ / ٢.

(٣) كذا في المخطوط.

٢٩٤

في الأعداد ، وأوّل الأفراد على قول. وله وجه في الجملة ، فهي روح كلّ عدد بوجه. وكالهيولى لجميع الأعداد بوجه ، وكالصورة بوجه. وإلى أوّل فرد ظهر فيه التركيب من الوجود ، وإلى مقام أمر العقل بالإدبار. ففيه حينئذٍ ثلاث جهات : جهة إلى ربّه ، وجهة [ إلى ] نفسه ، وجهة إلى الخلق. ولتكون المغرب والعشاء وهما مجموع صلاة الليل المحض سبعاً فيُسدّ بكلّ ركعة منهما باب من جحيم الهيولى التي تشبهها ظلمة الليل ؛ ولهذا تستوحش نفوس عامّة البشر (١) من الأموات في الليل ، وتنفر منهم طباعهم أشد من النهار بكثير ؛ لرجوع الميّت إلى شبه الهيولى الصرفة ، والليل كذلك ، [ فتشتدّ (٢) ] الوحشة ؛ لشدّة وحشة عرصات الهيولى وظلمة سبلها. فالنفوس تستوحش من اجتماعهما أشدّ من استيحاشها من كلّ منهما منفرداً ؛ لما في اجتماعهما من تضاعف علّة الوحشة.

فالثلاثيّة برزخ بين أصل فرضها ونهاية زيادتها ، وبسيطها ومركّبها ، وخصّت بالمغرب ؛ لضيق وقت فضيلتها ، وهو أضيق الأوقات ؛ ولأنّها واقعة بعد التكليف برباعيّتين ؛ إذ أوّل ما فرض منهما الظهر ؛ ولذا كانت هي الوسطى على الأشهر الأظهر. وفيه إجماع منقول ، ولأنّ المغرب واقعة أيضاً في الحدّ المشترك بين محض النور والظهور والظلمة والستور ، فهي كرتبة البرزخيّة بين الهيولى المحض والصورة التامّة ، ولأنّ وقتها أيضاً برزخ بوجه ، والبرزخ يجمل فيه بعض ما فصّل في الكثرة ، ويصنّف بعض ما شخّص ، وينوع بعض ما صنّف ، ويجنّس بعض ما نوّع.

ومن هذا يظهر أيضاً وجه في كون الصبح ثنائيّة. ولأنّ المغرب والصبح في حال يشبه السفر ، بل هو سفر بوجه ؛ لأنه حركة ونقلة من ضدّ إلى ضد : من النور إلى الظلمة ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن وقت الحياة وهي اليقظة إلى وقت الموت وهو النوم وبالعكس ، ومن شأن السفر التخفيف والقصر بمقتضى رأفة اللهِ بالعباد.

وكان الصبح بلا زيادة أصلاً ؛ لأنّ وقتها أعلى من وقت المغرب ، وهي أشرف

__________________

(١) في المخطوط : ( البشري ).

(٢) في المخطوط : ( فتشد ).

٢٩٥

منها ؛ لأنّها في وقت انفلاق الصبح وذهاب غسق الليل ، كقيام القائم : عجّل الله فرجه. فوقتها أشدّ جامعيّة ، وأكمل برزخيّة بين الضدّين ؛ ولذا تجتمع فيه ملائكة الليل والنهار ، وتقسم فيه أرزاق العباد ، دون المغرب. فأشبه الانتقالَ من قوس البدء إلى قوس العود بحسب النشأة الدنيا.

والمغرب وقتها أشبه الانتقالَ من المبدأ وهو الغاية طالباً له في القوس النزوليّ ، فناسب فيها الزيادة بالجملة ، ليحصل به تكليس (١) وتصفية في الجملة.

وكان منها رباعيّاً إشارةً إلى قسمة الوجود الرباعيّة : عقل ، ونفس ، وخيال أو قل : روح وجسم. أو قل : عقل ، ونفس ، وهيولى ، وصورة ، إلى غير ذلك ، كالأركان الأربعة للاسم الأعظم ، وإلى العرش المحيط والخلفاء الأربعة ، والجبال الأربعة ، والطيور الأربعة ، وأركان البيت المعمور ، والكعبة المشرّفة التي هي مأوى العهود التي التقمها الحجر.

ولتربيعها ؛ كان القبر الذي هو مأوى الأجسام ومستودعها مربّعاً ؛ ليتطابق مأوى الجسد والروح ، والنفس والعقل ، والسر [ والنور ] ، والظاهر والباطن ، فقد خلق الله أسماء بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير منطق ، وجعل له أجزاء أربعة أخفى منها جزءاً وأظهر ثلاثة ، وجعل لكلّ جزء من الثلاثة أربعة أركان. فالأركان اثنا عشر عدد الخلفاء الاثني عشر. وعدد الركعات الرباعيّات منها اثنا عشر ، فأشارت كلّ واحدة منها إلى عللها الأوّلية التي هي علّة القسمة الرباعيّة في الوجود ، ومجموعها إلى أركان الاسم الأعظم الاثني عشر الذين هم خلفاؤه ، وهم أركان الوجود وأقطابه.

وكانت الرباعيّات ثلاثاً ؛ إشارةٌ إلى عدد الأجزاء الظاهرة من أركان الاسم الأعظم.

وأيضاً أشار عدد كلّ واحدة منها إلى عدد الأربعة الحرم ، ومجموعها إلى عدّة الشهور عند الله ، و [ عدّة (٢) ] شهور السنة ، وعدد البروج الغيبيّة والحسّيّة.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) في المخطوط : ( عد ).

٢٩٦

وأيضاً كانت الرباعيّة ثلاثاً ليقابل كلّ واحدة منها واحدة من الثلاثيّة ، فكان كلّ ركعة منها إجمالَ رباعيّة بأجمعها وغيبها ، وكان كلّ رباعيّة تفصيلَ ركعة منها وظاهرها.

ومن هذا يظهر وجه في وجود ثلاثيّة فيها أيضاً ؛ ولهذا أيضاً لم تقصر في السفر ، فكأنّه روعي في كلّ ركعة منها وجود رباعيّة بأسرها نوعاً فلم تقصر ؛ لما يلزم من ارتفاع الرباعيّات بأسرها. فكونها ثلاثية كالذاتيّ لها بهذا التقريب ، فلم تقبل القصر.

وأيضاً كان في الخمس رباعيّة إشارة إلى تدويرات القبضات العشر الأربع (١) التي تبلغ بها أربعين هي تمام الميقات وكماله وأوان بلوغ الأشدّ ، وعدد أيّام تخمير طينة آدم عليه‌السلام : ورتبها ، وعدد أجزاء الإيمان ، « فمن أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت من قلبه ينابيع الحكمة » (٢).

و « من أكل لقمة حراماً لم ترفع له دعوة أربعين يوماً » (٣).

وبهذا العدد تكمل التصفية ، وتستعدّ طينة نفسه لقبول الآثار الملكوتيّة.

وإشارة إلى العبادات : الصلاة والزكاة والصوم والحجّ. وإلى نقط الجهات الأربع التي بنيت عليها أركان الكعبة زادها الله شرفاً وليتطابق فيها حكاية قوسي البدء والعود ، فمبدؤها ثنائي.

وأيضاً كرّر التربيع ثلاثاً ؛ ليطابق كمال ظهور العقل والنفس والروح في الجسد. أو قل : كمال ظهور العقل وتنزّلاته في المراتب الكلّيّة : النفس ، والخيال والهيولى والصورة. أو قل : الروح ، والنفس والهيولى والجسم.

وخُصّت تلك الزيادة بالظهرين والعشاء لوقوعهم في محض النور والظهور ، ومحض الظلمة والإسرار ، وخصّ القصر بهم ؛ لأنّ المسافر من حيث هو كذلك لا يستقرّ على حال ؛ فأشبه حاله سفر الإنسان بذاته وكدحه إلى ربّه ، فإنّه من تلك الجهة دائم الحركة الجوهريّة والسير ، والنقلة في الرتب الوجوديّة ، فلا يتمّ فيه ظهور

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٩ / ٣٢١ ، باختلاف.

(٣) بحار الأنوار ٦٣ : ٣١٣ / ٧.

٢٩٧

رتبة بالفعل من كلّ وجه ، لأنّ سيره في صفو كلّ رتبة وخالصها دون لوازمها وظواهرها ، فلو كملت فيه رتبة بجميع لوازمها لتقيّد بها ولم يتجاوزها ؛ ولهذا وصف الإنسان بالضعف في أصل خلقة ، كما قال تعالى : ( وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) (١).

ولا ينافي ذلك أن وجود الرتبة الّتي يبلغها باعتبار وجودها له وتحقّقه بها أشدّ من وجودها الظهوريّ في نفسها بوجه ، بل في الحقيقة ؛ فإنها فيه روح لها في نفسها ، فهي أشدّ وجوداً وبَساطة وجامعيّة.

فإذن لا يناسب للإنسان حال سفره ولا يتمّ له كمال ظهور الصلاة ونهاية كثرتها ، فأنقص منها ما به يكمل الظهور الوجوديّ والكثرة الخارجيّة ليتناسب التطابق دون ما لم يكن.

وأيضاً مبنى التكليف على التخفيف ؛ لأنه لطف ورحمة والله أرحم الراحمين ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (٢) ؛ لأنه مقتضى العدل ، والوسع دون الطاقة. ومن شأن السفر المشقّة ؛ ولذا رتّب على شقّ الأنفس ، وفيه أشدّ الشغل ، فخفّف الله فيه على العباد من الصلاة لأنها عمل بدنيّ كما أنها نفسانيّ بأن أسقط عنه بعض التكليف البدنيّ ، وهو ما فيه نهاية التكليف ، ولم يخلِه من الزيادة الّتي هي رحمة ، وبها الكمال الظهوريّ ، فأسقط زيادة الاثنتين وأبقى زيادة الواحدة ؛ إذ لا تعذر النفس عن ذلك الكمال ؛ لما فيه [ من (٣) ] الإعراض عن الله تعالى بوجه في حال. فأبقى تكليفه بالأصل وبشي‌ء من الزيادة وأسقط شيئاً.

كلّ ذلك رحمة منه بالعبد ، ولئلّا يحرمه فضلاً مَنّ به عليه بالكلّيّة ، والله العالم بحقيقة أحكامه ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) النساء : ٢٨.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) في المخطوط : ( عن ).

٢٩٨

[٩٣]

أذاقه رحمة وإنارة ظلمة

( وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ )

قال النظّام النيسابوري : في تفسير قوله تعالى : ( وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ ) (١) ـ : ( وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن كثيراً من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة.

وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطريّ لا يطيق أدنى [ الرحمة (٢) ] ، كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه ) ، انتهى (٣).

وأقول وبالله المستعان ـ : حاصل الفرق على ما فهمه هذا الفاضل أن ما ينال العبد من الرحمة بالنسبة إلى رحمة الله التي وسعت كلّ شي‌ء يكون كالإذاقة ، والإنسان لمّا كان ضعيفاً في فطرته لا يطيق ورودها إلّا قليلاً متزايداً بحسب [ استعداده (٤) ] على سبيل الإذاقة.

وحاصل النظر أن الإنسان خلق ضعيفاً هيولانيّاً ، عقله وإدراكه بالقوّة ، فهو حينئذٍ كما يمسّه أدنى الألم ولا يطيقه ؛ لضعف قواه حينئذٍ عن تحمّله ، ولمنافاته ومضادّته بالكلّيّة لقواه ؛ لأنه بالفعل في الجملة وهي بالقوّة كذلك ، فإذن لا وجه

__________________

(١) يونس : ٢١.

(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( الراحة ).

(٣) تفسير غرائب القرآن ٣ : ٥٧١.

(٤) في المخطوط : ( استداده ).

٢٩٩

[ لما (١) ] وجّه به التخصيص.

ولعلّ الجواب أن الفارق (٢) بذلك لم ينظر لما نظر له صاحب [ التفسير ] من ضعفه الفطري ، وتساوي عدم طاقته ، لثاني مرتبة الرحمة والضرّاء ، وإنّما نظر إلى أن كلّ ما ينال البشر من الرحمة الواسعة وإن كثر فهو قليل بالنسبة إلى سعة رحمة الله وعظمتها ، فكلّ ما يرد عليهم من الرحمة تضمحلّ نسبته إلى ينبوع الرحمة والجود ، فناسبه الإذاقة لقلّتها بالنسبة إلى المسّ. وناسب الضرّاء المسّ ؛ لأنّ القليل منها لا يحتمله البشر ؛ لضعفه ومنافاتها لأصل فطرته وعدم ملاءمتها لقواه وحواسّه ونفسه.

ويدلّ على هذا أن ذلك الفارق نظر إلى حال البشر في عموم الإذاقة والمسّ وإن بلغوا أشُدّهم كما هو ظاهر الآية الكريمة. فأين هذا ممّا فهمه المنظر على أن قوله : ( إن ضعفه الفطريّ يقتضي عدم إطاقته لأدنى الرحمة كالألم ممنوع ) (٣)؟ فإن ذلك الضعف يلائمه راحة الرحمة ، كما هو ظاهر مع أن الرحمة والألم ضدّان بل نقيضان بوجه ، فكيف يرتفعان ولا واسطة ، ولا بدل لهما؟

وأيضاً الضعف الفطريّ الثابت للإنسان ، ليس هو ما فهمه وأدركه نظره ، فإنّ الوجدان يدفعه ، بل ضعفه الفطريّ عدم كمال ظهور رتبة من رتب الوجود من حيث هي ، وعدم فعليّتها من حيث هي بحسب الكمال الظهوريّ فيه ، وعدم تقيّده بها. وذلك عين القوّة والشرف الذي امتاز به الإنسان عن جميع الخلائق و [ فُضّل عليهم (٤) ] به.

وعليه لا يتمّ النظر ، فنقول : لمّا كانت الضرّاء لا تأصّل لها في الوجود ، وإنّما هي بالعرض ، فهي لا تتجاوز الحسّيّات لأنها أصلها ومحتدها ، والرحمة عامّة لا نفاد لها لأنها وجدت أوّلاً وبالذات ، ولأنّ مبدأها من الله الذي لا ينقطع جوده ؛ لكون

__________________

(١) في المخطوط : ( بما ).

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) نقله بالمعنى ، وهو قول النظام المار في الصفحة السابقة.

(٤) في المخطوط : ( وفضلهم ).

٣٠٠