رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[١٣٩]

لؤلؤة فقهية : الوصيّة إلى المملوك

مسألة : لو دبّر إنسان مملوكه ، وأوصى له بشي‌ء فما حكمه؟

والجواب ، ومن الله استمداد الهداية : أن التدبير وصيّة للمملوك بثمنه ، فالوصية والتدبير صحيحان وإن وقعا معاً ، ولا يفسد أحدهما الآخر ، لا نعلم فيه مخالفاً ولا يظهر له مانع. وإطلاقات أخبار التدبير والوصيّة لمملوك الموصي (١) تدلّ على صحّتهما معاً ، والظاهر أنه إجماع. ولا تفسد وصيّته وصية أُخرى إذا [ أُخرجا (٢) ] من الثلث ، أو أجاز الوارث ، والتدبير وصية.

إذا عرفت هذا ، فلا يخلو إما أن يتقدّم التدبير ، أو الوصية ، وعلى الأوّل ننظر ؛ فإن وسعهما الثلث أو أجاز الورثة أُعتق وأُعطي الوصيّة وإن قصر ، فإن وسع قدر ثمنه أُعتق ، وإن وسع الثلث شيئاً من الوصيّة اعطي أيضاً ، وإلّا اقتُصر على عتقه بالتدبير ؛ لأنهما وصيّتان متعاقبتان فيبدأ بهما الأولى فالأولى ، وإن قصر الثلث عن ثمنه انعتق منه بقدره ، واستسعي في الباقي للورثة.

وعلى الثاني ؛ فإن وسعهما الثلث ، فكما مر من نفوذهما فينعتق ويعطى الموصى له به ، وإلّا فإن وفت الوصيّة أو قيمتها بقيمته انعتق ، وإلّا انعتق منه بقدر الثلث ، واستسعي في الباقي. ولو وفت الوصيّة ببعض قيمته انعتق منه بنسبتها من قيمته ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠٢ ـ ٣٠٧ ، كتاب الوصايا ، ب ١٨.

(٢) في المخطوط : ( خرجا ).

٤٦١

والباقي بالتدبير إن وفى الثلث بهما ، وإلّا انعتق بالتدبير بقدر ما بقي من الثلث أيضاً ، واستسعي في الباقي.

هذا ما ظهر لي من قواعد الوصيّة والتدبير وأخبار البابين بلا خلاف ولا معارض فيهما ظهر ، ولا يظهر لي خلاف في إجراء التدبير مجرى سائر الوصايا في ترتّبه على ما سبقه ، وترتب ما لحقه عليه. فلا يُتوهّم أن الوصيّة للمدبّر من [ مولاه (١) ] تلغي حكم التدبير ، فيجري مجرى القن الموصى له بشي‌ء حينئذٍ.

وما في مثل عبارة المحقّق الشيخ علي : في ( شرح القواعد ) (٢) والشهيد : في ( المسالك ) (٣) و ( الرّوضة ) (٤) وابن شجاع : في ( معالم الدّين ) وابن سعيد : في ( الجامع ) (٥) في بحث الوصيّة للمملوك ، وأنه ينعتق بالوصيّة من قولهم ، ولا فرق في ذلك بين القنّ وغيره الإشارةُ منهم جميعاً لصحّة الوصيّة للمملوك خاصّة ، كما يشهد به بحثهم في باب التدبير ، فتدبر. والله العالم بحقيقة أحكامه وصلّى الله على محمّد وآله.

ولو جامع التدبير الاستيلاد انعتقت بالتدبير وإن سبقه الاستيلاد ، فإن وفى الثلث بثمنها ، وإلّا أُكمل من سهم ولدها. ولو أوصى لأُمّ ولده بشي‌ء مطلقاً انعتقت من نصيب ولدها ، وأُعطيت الوصيّة على أشهر القولين وأظهرهما. ولو اجتمعت ثلاثة : الاستيلاد ، والتدبير ، والوصيّة انعتقت من الثلث بالتدبير إن وسع الثلث ثمنها ، وإلّا أُكمل من نصيب ولدها.

هذا ما يظهر من قواعد الباب وأخباره ، والله العالم بحقيقة أحكامه ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطّاهرين.

__________________

(١) في المخطوط : ( موالات ).

(٢) جامع المقاصد ١٠ : ٨٢.

(٣) مسالك الأفهام ١٠ : ٥١١.

(٤) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ٦ : ٤٩٥.

(٥) الجامع للشرائع : ٤٠٨.

٤٦٢

[١٤٠]

رفع وهم وبيان

فيه رجم شيطان : هل يمكن

أن يوجد أفضل من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أم لا؟

مسألة : بلغني أنه سأل بعض ملوك الفرس بعض علمائهم ؛ هل يقدر الله عزّ اسمه وتعالى عمّا يصفون أن يخلق أفضل من محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أم لا؟

ولعلّ الجواب ومن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : [ استمداد الصواب ] ـ : أن من عرف بعض حقيقة الحال ، لم يسأل هذا السؤال ، وذلك أن قدرة الله القادر على كلّ شي‌ء لا تنسب إلى عجز ، ولا توصف بنقص ، و [ لا ] تحدّ بحدّ ، ولا منتهى لها ، فسبحان القادر على أبديّة إمداد أهل الجنة بالنعيم ، وأهل النار بالعذاب الأليم. وهو سبحانه سبب من لا سبب له ، ومسبب الأسباب من غير سبب ، وهو على كلّ شي‌ء قدير ، وبكلّ شي‌ء محيط. ولكن خزانة ينبوع الإمكان لا تسع بفطرتها وجوداً مثل وجود محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلاً عن [ وجود ] أفضل منه.

والأدلّة على هذا لا تحصى ، وجميع الموجودات بفطرها ووجوداتها وصفاتها ، كما تدلّ على وحدانيّة الباري عزّ اسمه وتعالى تدلّ على ذلك. ولنشر إلى بعض الطرق ؛ ليتبصّر بها النّاظر على سبيل الإجمال :

٤٦٣

الأول : أنه قد قام البرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً (١) على أنه ليس فوق رتبة وجود محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلّا رتبة الوجوب الذاتيّ ، فهو نور الزيت الّذي يكاد أن يضي‌ء ولو لم تمسّه نار المشيئة. فإمكانه مستهلك في وجوده ، لشدّة استنارته به ومناسبته (٢) له ، فهو أقوى إمكان ؛ لقابليّته لحمل هذا الوجود المطلق ، ولأنه ينبوع فوارة الإمكان على الإطلاق. فكلّ إمكان دونه هو مبدؤه ومنتهاه ، وبابه إلى الله ، وأضعف أنواع الإمكان من حيث هو إمكان لشدّة قربه من الوجود ، وقبوله لصفاته ولوازمه ، وهو الّذي له مع ربّه حالات هو فيها هو ، وهو هو ، وهو (٣) [ المخاطب (٤) ] عن الله جميع الخلائق بـ ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (٥).

فإذ ثبت أنه لا يمكن أن يكون لهم ربّان ، لا يمكن أن يقبل الإمكان مثل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ؛ لأنه الّذي أقامه الله مقامه في كلّ مقام دليلاً على ذاته وصفاته ، وهو الواحد بكلّ معنًى فلا يكون أوّل صادر منه ، والدليل عليه الجامع لجميع الدلالات إلّا واحداً ، فهو مجمع الشؤون وجامع الصفات [ ومنقطعها (٦) ] وهو المثل الأعلى والاسم الأعظم الّذي استأثر الله به في علم الغيب عنده ولم يظهره لغيره من جميع الخلق ، فلا يعلمه إلّا هو.

ولا يمكن أن يكون للواحد المطلق مثلان ، فلو وسع عرصة الإمكان أن يكون لوجود محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثل ، لما كان الواجب عزّ اسمه وتعالى واحداً بالوحدة الحقيّة ، بل كان فيه ضرب من التركيب سبحانه وتعالى ، فيؤول السؤال إلى أنه هل (٧) يكون الواجب ممكناً أم لا؟ والواحد من كلّ وجه مركّباً أم لا؟ فيكون ولا ينافي عموم قدرة الله

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ١٦ : ٢٩٩ ـ ٤٠١ ، ب ١١.

(٢) إشارة لقوله تعالى : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي‌ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ). النور : ٣٥.

(٣) انظر شرح العرشية ٢ : ١٣٢.

(٤) في المخطوط : ( الخاطب ).

(٥) الأعراف : ٧٦.

(٦) في المخطوط : ( ومنقطتها ) ، ويحتمل أنه : ( ومنطقتها ).

(٧) في المخطوط بعدها : ( ان ).

٤٦٤

تعالى ؛ إذ من البيّن أن السؤال : هل يمكن اتّصاف الواجب تعالى بصفات الإمكان؟ مع سقوطه لا ينافي عموم قدرة الله على كلّ شي‌ء ، ولا تنسب قدرته تعالى إلى عجز.

الثاني : أن عرصة خزانة الإمكان لا تقبل مثلاً لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : وإلّا لوجد ؛ لأنّ الباري عزّ اسمه جواد مطلق ، وقادر مطلق ، وعالم مطلق ، فلا يبخل على مستحقّ بما يستحقّ ، فلو قبلت مادّة الإمكان وجوداً مثل وجود محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : معه لوجد معه ، ولا يظلم ربّك أحداً ولا يكلّف شيئاً إلّا بما يقبله باختياره ، بل ما يسأله باختياره من بارئه بلسان قابليّته. وإذ لم يوجد لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : شبهٌ معه ، عُلم أن مادّة الإمكان غير قابلة له ، ولا يلزم من ذلك عجز في قدرة العليم القهّار.

ولذلك أمثلة كثيرة في الموجودات ، فالثمرة لا تظهر إلّا من الشجرة ، ولا تظهر من النواة قبل أن تكون شجرة ، لا لعجز في القدرة ، بل لعدم أطاقه النواة لذلك ، وعدم قبولها له باختيارها.

فعلى هذا يرجع السؤال إلى أنه هل يمكن اتّصاف الجواد المطلق ببخل أم لا؟ وهذا ساقط متناقض بالضرورة ، فإذا ثبت بالبرهان المتضاعف أنه لا تقبل مادّة الإمكان مثلاً لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثبت أنه لا تقبل أشرف منه بطريق [ أَولى (١) ].

وأيضاً لو فرض أن مادّة الإمكان تقبل أفضل منه [ للزم (٢) ] أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس هو الباب الأعظم من اللهِ تعالى ، بل ما فرض هو الواسطة الكلية من الله تعالى والدليل الجامع الدلالات على الذات والصفات ، فإذا لم يكن موجوداً بالفعل لزم انسداد باب الجود ، وألّا يوجد شي‌ء دونه في الرتبة ، وقد وجد الخلق ، فمَن وَاسطتهم وسببهم إلى الله؟ ولزم أن [ لا ] يوجد محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأن سببه وبابه إلى الله لم يوجد ، ولم ينفتح وانقطعت السفارة من الخلق إلى الحقّ ، ولزم الفصل بين الحقّ والخلق بعدم ، ولزم بخل الجواد المطلق بأعظم جوده ، وأشدّ ما يحتاج إليه الخلق ، ولزم ألّا يوجد أقرب الخلق إلى الله.

وكلّ ذلك مستحيل بالضرورة ، ويلزمه مفاسد لا تحصى ، وألّا يعرف أحد ربّه.

__________________

(١) في المخطوط : ( أولا ).

(٢) في المخطوط : ( لازم ).

٤٦٥

وأيضاً لا تقبل مادّة الإمكان مثل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : معه ، بل ذلك مستحيل ذاتيّ ؛ لما يلزمه من تعطيل جود الجواد المطلق بذاته ، أو تركّب ذات الباري عزّ اسمه وتعالى. فإنّا إن فرضنا أن مادّة الإمكان تسع من هو أشرف من محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : لزم الأوّل ؛ لأن المفروض في السؤال عدم وجود من هو أشرف الممكنات وأقربهم إلى الله تعالى ، وهو باب الجود والرحمة العامّة ، وعلّة كلّ موجود ، فإذا عدمت العلّة لم يوجد المعلول ، مع أنه فرض مستحيل بالضرورة ، لضرورة وجود الجود.

وإن منعنا صحّة هذا الفرض واستحالته ، لزم من فرض وجود المماثلة له معه فرض تركّب ذات الواجب عزّ اسمه وتعالى ، لضرورة لزوم تعدّد مبدئهما وجهة صدورهما ؛ إذ لا يمكن صدور شيئين من مبدأ واحد ، من جهة واحدة ، من كلّ وجه ، وقد برهن على هذا في الحكمة (١). فإذا امتنع فرض وجود المماثل امتنع فرض وجود الأشرف بطريق الأولويّة.

وعلى كلّ حال ، [ فمآل ] هذا السؤال إلى أنه هل يصحّ فرض قيام صفات الإمكان والحدوث بذات الواجب أم لا؟ فيلزمه أن السؤال : هل يصحّ فرض إمكان الواجب أم لا؟ وهو ضروري السقوط ، فلا ينافي عموم قدرة الله تعالى على كلّ ما يشاء بالضرورة.

وهذا السؤال الساقط المستحيل الذاتيّ يشبه ما سأل به بعضَ المتشبهين بالطلبة بعضُ الجهال في زماننا ألقاه الشيطان على لسانه ؛ لعدم علمه بجهله ، وصورته : هل يقدر الله تعالى وتقدّس عمّا يصفون أن يخلق له مثلاً أم لا؟ وما درى المسكين الجاهل أن هذا السؤال أشبه بالزندقة من الإيمان ؛ لأنه سؤال صريحه أنه هل يمكن أن يكون الواجب ممكناً مخلوقاً أم لا؟ وهل يمكن أن يكون للواجب مثل أم لا؟ وهو ساقط بالضرورة ، وفيما ذكرناه كفاية لرده.

__________________

(١) انظر في ذلك محصل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٢.

٤٦٦

[١٤١]

بيان نفسيّ لحديث

قدسيّ : حديث « كنت سمعه وبصره »

ما الجمع بين ما جاء في الحديث القدسيّ « فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به .. ويده [ التي (١) ] يبطش بها » (٢) ، وبين ما جاء عنهم عليهم سلام الله ـ « نحن سمع الله وعينه ويده ولسانه؟ » (٣) فالأوّل يدلّ على أنه تعالى سمعهم وبصرهم ويدهم ، والثاني يدلّ على أنهم عليهم‌السلام سمعه وبصره ولسانه ويده.

ولعلّ الجواب بطريقين :

أحدهما : أنه جاء عنهم عليهم سلام الله أنهم قالوا « لنا مع ربنا حالات نحن فيها هو ، وهو فيها (٤) نحن ، وهو هو ، ونحن نحن » (٥) ، ففي تلك الحالات هو سمعهم وبصرهم ولسانهم ويدهم ، وهم سمعه وبصره ولسانه ويده ، وفي غيرها هو سمعهم وبصرهم ولسانهم ويدهم ، دون العكس ، بل يمكن التعاكس في كلّ حال بوجه ؛ فإنهم لا ينطقون عن الهوى ، ولا يبصرون عنه ، ولا يبطشون عنه على حال. كلّ ذلك من غير لزوم تشبيه ولا نقص في وحدانيّة الباري ، تقدّس وتعالى.

الثاني : أن معنى الحديث القدسيّ : أن المؤمن ينظر ويسمع بنور الله ، وينطق بنور

__________________

(١) من المصدر ، وفي المخطوط : ( الذي ).

(٢) بحار الأنوار ٦٧ : ٢٢ / ٢١.

(٣) بصائر الدرجات : ٦١.

(٤) ليست في المصدر.

(٥) شرح العرشيّة ٢ : ١٣٢ ، وفي رواية فيه : « إلّا إنه هو ، ونحن نحن ».

٤٦٧

الله وحكمته ، معبّراً عنه أي النور الّذي خلق منه والله تعالى يمدّه بعلمِه ، وعلمُه بنوره وقدرته ، ويفجّر من لسانه ينابيع الحكمة بذلك أبداً ، فيظهر ما في قوّته إلى فعله. فهم عليهم سلام الله لا يشاؤون الّا ما يشاء الله ؛ فقلوبهم وكر مشيئة الله تعالى ، ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) أبداً في كلّ حال.

فهو تعالى بهذا الاعتبار عينهم وسمعهم ويدهم ولسانهم إلى آخره. فأمرهم أمر الله ، ونهيهم نهي الله ، فطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته. كلّ ذلك على سبيل الحقيقة ، وليس فيه تجوّز بوجه ، وهم عليهم‌السلام عينه [ الّتي (١) ] ينظر بها عباده نظرة الرحمة ، بل والنقمة ، ويده المبسوطة على بريته بالجود ، بل والقهر والبطش ، ولسانه المعبّر عنه بالحقّ إلى خلقه.

وبالجملة ، فهم عليهم‌السلام بابه الأعظم ، وسبيله الأقوم لجميع خلقه ، فلا وجود ولا كمال ولا جود مطلقاً إلّا وهم بابه وسبيله وواسطته وشفعاؤه إلى الله ، و [ هم (٢) ] هداة الخلق إلى كلّ كمال وجمال وجلال ، فلهم النعمة على جميع الخلق ، حتّى في أصل وجود ذاتهم وبقائهم ورزقهم وحياتهم وموتهم ومبدئهم ومعادهم ، فلا منافاة بين الحديثين بوجه ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( الذي ).

(٢) في المخطوط : ( هما ).

٤٦٨

[١٤٢]

فصّ يمانيّ في

فحص فقهيّ : مسألة ما لو

ترك سجدة أو تشهداً وشكّ في تعيينه

مسألة : لو قام رجل للثالثة في رباعية ، وبعد استقلاله قائماً ، تيقّن أنه ترك واجباً : إما سجدة ، وإما التشهد ، ولم يقطع بتعيين المتروك ، [ فما (١) ] ما حكمه؟

الجواب : ما يحضرني لفقهائنا شي‌ء ، وفيها ثلاثة أوجه :

الأوّل : أنه يهدم القيام ويجلس ؛ لأن من تيقّن أنه ترك واجباً بعد قيامه ، وجب عليه هدم ذلك القيام ، لتلافي ما ترك ، وهذا قد تيقن أنه ترك واجباً ، فيجب عليه هدم هذا القيام ، ولا يجوز له المضيّ فيه ؛ لأنه منهيّ عنه ، والنهي في العبادة يستلزم الفساد. فبقاؤه قائماً حينئذٍ مبطل ، فإذا كان حينئذٍ شاكّاً في السجدة فيجب عليه تلافيها ؛ لأنه في محلّه ، ولم يدخل في عمل آخر. فإذا سجد كان شاكّاً في التشهد فيجب عليه تلافيه ؛ لأنه في محلّه ، ولم يدخل في عمل آخر ينافيه.

وهذا وإن استلزم زيادة واجب في الواقع إلّا إنا نمنع بطلان الصلاة بمثله ؛ إذ ليس هو بركن ، ونمنع شمول أدلّة بطلان الصلاة بتعمّد زيادة واجب لمثل هذا ؛ فإنه ليس عمداً محضاً ، والبطلان إنّما هو لتعمّد زيادة واجب محضٍ ، وهذا إنّما هو فيه

__________________

(١) في المخطوط : ( ما ).

٤٦٩

بحسب اللزوم الواقعيّ ، وهذا هو الأقرب الأوجه عندي.

الثاني : ما يظهر من كلام الشيخ حسين : في ( شرح المفاتيح ) و [ اختاره (١) ] بعض الطلبة من المعاصرين من أهل البحرين ، وهو أنه حينئذٍ يتمّ الصّلاة ولا شي‌ء عليه. ووجّه بأنه بعد استقلاله قائماً شاكّ حينئذٍ في كلّ من التشهّد والسجدة ؛ لعدم قطعه في كلّ منهما بعدم تركه ، والشكّ في كلّ منهما بعد القيام لا عبرة به.

وهذا وإن استلزم نقصان واجب في الواقع بيقين ، لكنا نقول : بعدم ضرره في مثل هذا ، ونمنع شمول أدلّة بطلان الصلاة بنقص واجب عمداً لمثل هذا ؛ لأنه ليس بعمد محض.

وفيه أنا نمنع صحّة هذا القيام بعد تيقّن ترك واجب ، وهذا قد تيقّن بعد قيامه أنه ترك واجباً بيقين ، فيجب هدم هذا القيام لتلافيه. فالمضيّ فيه منهيّ عنه ، وهو يستلزم الفساد.

فإن قلت : نمنع وجوب هدم القيام لتلافي واجب غير معلوم بشخصه.

قلنا : يكفي في وجوب هدم هذا القيام القطع بترك واجب ولو لم يتشخّص بعينه بل اشتبه بغيره. وهذا حينئذٍ قاطع بأنه أهمل واجباً ، وعموم النصّ والفتوى يشمل المتشخّص والمشتبه بغيره ، والإطلاقات تتناوله.

الثالث : ما أفتى به بعض الطلبة من أهل البحرين المعاصرين أيضاً ، وهو بطلان الصلاة حينئذٍ. ووُجّه بأنه حينئذٍ إن عمل بالوجه الأوّل لزم زيادة واجب في الواقع قطعاً عمداً ، وإن عمل بالثاني لزم ترك واجب في الواقع قطعاً عمداً ؛ فالوجه البطلان.

ونمنع عموم شمول أدلّة البطلان بزيادة مثل هذا الواجب المشتبه بغيره ونقصانه.

وزاد بعض طلبة أهل البحرين على القول بالمضيّ وجوبَ قضاء [ السجدة (٢) ] والتشهّد وسجود السهو ، مقدماً للسجود ثمّ التشهّد ثمّ سجود السهو ؛ لأنهما يجب قضاؤهما مع الفوات ولا يعين لفوات واحد منهما بعينه ، فوجب قضاؤهما ؛ ليحصل يقين البراءة منهما.

__________________

(١) في المخطوط : ( اختار ).

(٢) في المخطوط : ( سجدة ).

٤٧٠

وفيه أن السجدة والتشهّد إنّما يقضيان إذا تركا سهواً ، ولم يذكرا إلّا بعد الدخول في واجب ركني ، وليس هذا كذلك ، ولأن المتروك منهما يجب تلافيه بعد التسليم بلا فصل ، فلا يحصل بقضاء واحد منهما خاصّة أو كليهما يقين البراءة.

وأيضاً نمنع وجوب قضاء مثل هذا الفائت ، ونمنع شمول أدلّة وجب قضاء المتروك منهما في مثل هذه الحالة ، وإنّما يجب قضاء الفائت منهما سهواً محضاً. وهذا ممّا يستأنس به لضعف الوجه الثاني وتقوية الأوّل.

وممّا يضعفه أيضاً ويقوّي الأوّل أنه لو وقع هذا الشكّ قبل أن يستقلّ قائماً ، فإنه لا ينبغي الشكّ في أنه يجب عليه القعود والعمل بالوجه الأوّل من تلافي السجود ؛ لشكّه فيه وهو في محلّه لم يدخل في عمل آخر يوجب إلغاء الشكّ وعدم اعتباره ، فإذا سجد سجدة وجب التشهّد لما ذكرناه.

وتعليله غير جارٍ في هذه الصورة ؛ فلا بدّ حينئذٍ من العمل بالأوّل ، والقول بالبطلان لا يتمّ في هذه الصورة ؛ لعدم جريان دليله فيها ، فإذا هدم القيام المنهيّ عنه ؛ لوقوعه في غير محلّه قطعاً للقطع بترك واجب ، كان كمن عرض له الشكّ قبل استقلاله قائماً ؛ لوجوب هدم هذا القيام.

ومع هذا فالمسألة لا تخلو من الإشكال ، والمخلص منه إكمالها على الوجه الأوّل وسجود السهو ثمّ الإعادة ؛ سواء كان الشكّ واليقين قبل القيام أو بعده. وأحوط منه إضافة قضاء السجدة والتشهّد بعد التسليم مقدّماً لقضاء السجدة ، لسبقها على التشهّد على سبيل الأولويّة ، والله العالم.

٤٧١
٤٧٢

[١٤٣]

جمع مفترقين

ونكاح جنسين : جواز نكاح الجنّ

مسألة : هل يجوز للبشر نكاح الجنّ أم لا؟

لم أقف على من تعرّض [ لهذه المسألة ] إلّا الشيخ سليمان الماحوزيّ : في ( أزهار الرياض ) ، قال رحمه‌الله : ( لم أقف في هذه المسألة لأصحابنا على كلام نفياً وإثباتاً ).

وذكر اختلاف العامّة في المسألة ، وأدلّة المانِعين منهم والمجوزين ، واختار هو الجواز ، واستدلّ عليه بأصالة الجواز وأصل الإباحة ، وبعموم ما دلّ على شرعيّة النكاح والترغيب فيه (١) ، وعدم ثبوت كون اختلاف الجنس مانعاً ، وبما رواه عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن أحد أبوي بلقيس كان جنّيّا » (٢).

وبما رواه الصدوق : في ( من لا يحضره الفقيه ) بإسناده عن القاسم بن عروة : عن بريد العجلي : عن أبي جعفر عليه‌السلام : قال : « إن الله تعالى وتبارك أنزل على آدم عليه‌السلام : حوراء من الجنة ، فزوّجها أحد ابنيه ، و [ تزوّج (٣) ] الآخر ابنة الجانّ ، فما كان في الناس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء ، وما كان فيهم من سوء خلق فهو من ابنة الجانّ » (٤).

قال رحمه‌الله : ( وإذا ثبت جوازه في الشرائع المتقدّمة ثبت جوازه في شريعتنا ؛ لعدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ١٣ ـ ٢٦ ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ب ١ ـ ٢.

(٢) بحار الأنوار ٦٠ : ٣١٢ ، وليس فيه لفظ : « إن ».

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : ( زوج ).

(٤) الفقيه ٣ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ / ١١٣٧ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٦٤ ، أبواب ما يحرم بالنسب ، ب ٣ ، ح ٢.

٤٧٣

ثبوت نسخه ) (١) ، انتهى.

وأقول : ما اختاره رحمه‌الله تعالى من الجواز هو الحقّ ، للأصل السالم من المعارض ، ولظاهر قوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢).

وظاهر عموم قولهم عليهم‌السلام : « كلّ شي‌ء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (٣).

ولما رواه في ( من لا يحضره الفقيه ) (٤) من الحديث المذكور ، ومضمونه مرويّ بطرق متعدّدة لا تخفى على المتتبع مع عدم ورود نسخه ، [ فاستصحب (٥) ] مشروعيّته. حتّى يثبت المزيل الناقل عن يقين المشروعيّة.

ولخبر تزويج أمير المؤمنين عليه‌السلام [ أحدهم ] جنّية من جنّ وادي نصيبين (٦).

ولأن نكاح الجنّيّة بدون أن تكون في صورة البشر محال على البشر ، فإذا صارت في صورة البشر جرى عليها أحكام البشر فصحّ نكاحها ، ودخلت في أدلّة جواز نكاح البشر كتاباً وسنةً وجماعاً ؛ لأن الأحكام الشرعيّة تدور على الصورة النوعيّة الّتي هي مظهر الماهيّة حِلّا وتحريماً ، ونجاسةً وطهارةً.

ولا ينافيه جواز تمكّنها من التشكّل بغير تلك الصورة حينئذٍ ، وإمكان ظهورها في غيرها ؛ فإن المدار على الصورة المنكوحة حال النكاح ، لا على الحقائق العينيّة ، فإنا ننكح بعض المسلمات من البشر ونحن نعلم أن حقيقتها العينيّة وصورتها النفسيّة بل الخياليّة كلب أو خنزير أو قرد أو غير ذلك ، لكن حلّ لنا نكاحها بحسب الصورة الظاهرة المحسوسة.

__________________

(١) أزهار الرياض : ٦٩ ـ ٧٠ ( مخطوط ).

(٢) البقرة : ٢٩.

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٤) بحار الأنوار ١١ : ٢٣٦ / ١٨ ، ٢٤٤ / ٣٩ ، ٤٠.

(٥) في المخطوط : ( فستصحب ).

(٦) انظر : الخرائج والجرائح ٢ : ٨٢٦ / ٣٩ ، الأنوار النعمانيّة ١ : ٨٣ ـ ٨٤ ، بحار الأنوار ٤٢ : ٨٨ / ١٦ ، وفيها : جنيّة من أهل نجران يهوديّة اسمها سحيقة بنت جريريّة ، حيث تمثّلت بمثال أُمّ كلثوم ابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ كي يزوّجه عليه‌السلام بها بعد أن طلب منه أن يزوّجه من ابنته أُمّ كلثوم.

٤٧٤

وأمّا الاستدلال على الجواز بخبر أبي هريرة : ففيه مع شدّة ضعفه وخروجه عن أخبار الفرقة أن دلالته موقوفة على ثبوت نكاح سليمان عليه‌السلام : لها ، وإلّا احتمل فيه إن سلم أنه نكاح على غير وفق الشريعة. وقد وقفتُ في كلام بعض الأُدباء المأمونين ، نقلاً من حاشية السيد نور الله الشوشتري : على البيضاوي : على ما لفظه : ( قال السيد المرتضى : في كتابه الموسوم ( بصحيفة الحقائق ) رواية عن معاوية بن عمار : سألت الصادق عليه‌السلام : عن آدم عليه‌السلام : أكان يزوّج ابنته من ابنه؟ فقال : « معاذ الله ، لو فعل ذلك ما رغب عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما كان دين آدم : إلّا دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله تعالى لما أهبط آدم : وحوّاء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء قابيل : ثمّ ولدت هابيل : فلما أدرك قابيل : أظهر الله له جنّيّة من الجنّ يقال لها جمانة : في صورة إنسيّة : فأوحى الله إلى آدم : أن زوّجها من قابيل » ) الخبر.

وفيه دلالة واضحة على عدم نسخ ذلك ، وعلى أنه إنّما نكحها في صورة إنسيّة ، فعلى الصورة دار الحكم ، والله العالم.

٤٧٥
٤٧٦

[١٤٤]

تحقيق حال وإظهار

كمال : مسألة التوأمين أيهما أكبر؟

مسألة : لو وضعت امرأة توأماً ، فأيّهما أكبر ؛ أهو الخارج أوّلاً أو أخيراً؟

الجواب الأظهر أن الأكبر هو الّذي خرج أخيراً. والدليل عليه ما رواه الكليني : عن محمّد بن يحيى : عن أحمد بن محمّد بن عيسى : عن علي بن أحمد بن أشيم : عن بعض أصحابه قال : أصاب رجل غلامين في بطن ، فهنأه أبو عبد الله عليه‌السلام : وقال : « أيّهما أكبر؟ » فقال : الّذي خرج أوّلاً. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « الّذي خرج أخيراً هو أكبر ، أما تعلم أنها حملت بذلك أوّلاً ، وأن هذا دخل على ذلك ، فلم يمكنه أن يخرج حتّى خرج هذا. فالّذي يخرج أخيراً هو أوّلهما » (١).

ورواه الشيخ بسنده عن محمّد بن يعقوب : إلى آخر السند (٢).

وهذه الرواية لم يظهر لها معارض من عقل ولا نقل ولا إجماع ، بل لعلّ الدليل الاعتباريّ يساعدها.

وفي إيراد رائسي الفرقة وشيخيها لهذه الرواية من غير ردّ لها ولا ذكر لما يعارضها من الأخبار ، ولا تصريح يطّرحها وعدم العمل بها دليل على أنهما عاملان بها ، خصوصاً شيخ الطائفة : فان ديدنه في ( التهذيب ) الكلام على ما لا يوافق رأيه

__________________

(١) الكافي ٦ : ٥٣ / ٨ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٩٧ ، أبواب أحكام الأولاد ، ب ٩٩ ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ١١٤ ـ ١١٥ / ٣٩٥.

٤٧٧

من الأخبار الّتي يوردها فيه ، بتأويل أو طرح وبذكر ما يعارضه من الأخبار.

ويدلّ عليه أيضاً مرسل جامع ابن سعيد : قال : وروى أن أكبرهما آخرهما خروجاً (١).

وممّا يستأنس له به ما في ( الكافي ) بسنده عن الثمالي رضى الله عنه : قال : سألت أبا جعفر : عليه‌السلام الخبر إلى أن قال عليه‌السلام ـ « وللرحم ثلاثة أقفال : قفل في أعلاها ممّا يلي السرة من الجانب الأيمن ، والقفل الآخر في وسطها ، والقفل الآخر أسفل الرحم ، فيوضع بعد تسعة أيام في القفل الأعلى ، فيمكث فيه تسعة أيام وعند ذلك يصيب المرأة خبث النفس و [ التهوّع (٢) ]. ثمّ ينزل إلى القفل الأوسط ، فيمكث فيه ثلاثة أشهر ، وسرّة الصبي فيها مجمع العروق : عروق المرأة كلّها ، منها يدخل طعامه وشرابه من تلك العروق. ثمّ ينزل إلى القفل الأسفل فيمكث فيه ثلاثة أشهر ، ثمّ تطلق المرأة فكلّما طلقت انقطع عرق من سرة الصبي » (٣) الخبر.

وكذلك جميع الأخبار (٤) الدالّة على مقادير رتب الجنين ، وهي كثيرة تؤيّده.

فقد علم من الأخبار ، وقواعد الحكمة المتقنة ، وقواعد فنّ الطبيعيات ، وقوانين الفقه ، كما يظهر لمتأمّل أحكام العدد أن أوّل مبدأ مراتب خلق الإنسان الحسّي النطفة ، ثمّ العلقة ، ثم المضغة ، ثم العظام ، ثم كسوة العظام لحماً ، ثم ينشئه الله تعالى خلقاً آخر ، كما نصّ عليه الكتاب الحكيم (٥).

ولا ريب أن الخارج أخيراً قد تطوّر بهذه الأطوار ، ودار في هذه الأدوار وقرّ في القرار ، وسكن هذه البيوت ، وقفلت عليه هذه الأقفال قبل الخارج أوّلاً. والكبر والصغر الزمانيّ إنّما هو بحسب سبق الحصول في زمان سابق ، فمن سبق زمان وجوده في الزمان ، فهو أكبر. ولا مدخل في ذلك للسبق المكانيّ حتّى يقال : إن من

__________________

(١) الجامع للشرائع : ٤٦٠.

(٢) من المصدر ، وفي المخطوط : ( التموج ).

(٣) الكافي ٦ : ١٥ / ٥ ، باختلاف.

(٤) الكافي ٦ : ١٢ ـ ١٦ / باب بدء خلق الإنسان وتقلّبه في بطن امّه.

(٥) في الآية : ١٢ ـ ١٤ من سورة المؤمنون.

٤٧٨

سبق إلى الحيّز الأرضيّ هو أكبر ، فلا يمكن أن يكون من هو في قرار الرحم ، والقفل الثالث كان نطفة ثمّ علقة إلى آخر المراتب بعد الخارج أوّلاً ؛ لأن الخارج أخيراً سكن هذه الأقفال ، وكمل خلقه ، حتّى كان إنساناً قبل الخارج أوّلاً ، لضرورة تعدّد النطفتين وتعاقبهما في الوصول إلى الرحم.

فالخارج أخيراً كان نطفة حال كون الخارج أوّلاً في قوى أبيه متفرّقاً ، أو في بقلة ، أو في قوى السحاب ، أو في القوى السماويّة ، وإنّما منع الأخير الأوّل عن الخروج بسبب سدّه المخرج.

ولا يرد أنه يلزم بقاء الخارج أخيراً في الرحم أكثر من مدّة الحمل ، ولو بقي أكثر من مدّة الحمل ساعةً قتل امّه كما في الخبر ؛ لجواز أن ينقص الخارج أوّلاً عن أقصى مدّة الحمل ، ولا ضرر فيه أصلاً بل هو كثير الوقوع.

وقال الشيخ سليمان الماحوزي : في ( أزهار الرياض ) : ( هل أكبر التوأمين أوّلهما خروجاً أو آخرهما؟ وتظهر الفائدة في قضاء فوائت الميّت وفي الحبوة وغيرهما.

والجواب : الظاهر أن أكبر التوأمين أوّلهما خروجاً ، قضية [ العرف (١) ] ، ولأن الأكبرية والأصغرية إنّما هما بعد الخروج إلى دار الدنيا وتحقّق الحياة ، وذلك بعد الانفصال. وبه جزم الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد الأصغر : في ( الجامع ) وهذه عبارته : ( وأكبر التوأمين أوّلهما خروجاً ، وروى : آخرهما خروجاً ) (٢) ، انتهى.

ألا تراه كيف جزم بالأوّل ونسب الثاني إلى الرواية بصيغة التمريض؟ والرواية المذكورة ضعيفة الإسناد رواها محمّد بن يعقوب).

وساق الرواية المذكورة ثمّ قال : ( ورواها الشيخ : بإسناده عن محمّد بن يعقوب : إلى آخر الإسناد. وضعف الرواية بجهالة [ ابن (٣) ] أشيم : والإرسال وغيرهما من عدم وضوح التعليل بسقط التعلّق بها في إثبات مثل هذا الحكم المخالف لقضيّة العرف.

__________________

(١) من المصدر ، ويؤيده قول المصنّف : ( أما أن قضيّة العرف .. ) ، وفي المخطوط : ( المعرف ).

(٢) الجامع للشرائع : ٤٦٠.

(٣) في المخطوط : ( بن ).

٤٧٩

واعلم أن هذه المسألة ، قلّ من تعرّض لها من الأصحاب ، بل لم أقف عليها الآن في غير ( الجامع ) ، فدعوى الإجماع فيها على أكبرية آخرهما مجازفة محضة لا تقبل ، والله الهادي ) (١) ، انتهى كلامه ، رفع الله مقامه.

وأقول : أما أن قضية العرف أن الخارج أوّلاً هو الأكبر ، فممنوع في التوأمين وإن سلّمناه فيما إذا تعدّدت الأُمّهات ، ولو سلمنا فيهما في العرف العام منعناه في عرف الشارع ، بدلالة ما ذكرناه ، والعرف العامّ لا يعارض ما ذكرناه من الأدلّة لو لم يثبت به عرف للشارع ، وأمّا أن الأكبريّة والأصغريّة إنّما هما بعد الخروج إلى الدنيا ؛ فإن أراد بالدنيا : خصوص خارج البطن منعناه ، وإن أراد مطلق عالم الأجسام فالخارج أخيراً قد سبق إليه كما عرفت ، وعليه يثبت أكبريّة الخارج أخيراً.

وأمّا أن مدارهما على أسبقيّة تحقّق الحياة ، فالخارج أخيراً قد سبق إليها ؛ إذ ليس أوّلها : الخروج من البطن بالضرورة ، وأمّا جزم ابن سعيد : بذلك فليس بحجّة ، وإمكان كون مرسلته (٢) رواية أُخرى غير رواية محمّد بن يعقوب (٣) : ظاهر ، بل هو الظاهر.

وأمّا ضعف الرواية ، فليس بمانع من العمل بها إذا لم يظهر لها معارض أقوى من نصّ أو إجماع خصوصاً مع كون ظاهر رائسي الفرقة العمل بها. وكم عمل الأصحاب بالمراسيل والموثّقات والمقطوعات والضعاف! فالخبر المشتمل على مجهول أقوى ممّن عُلم يقيناً عدم إيمانه ، لاحتمال صلاحه ، بل وثاقته ، فهو أقوى العرف العامّ لو سلم في التوأمين. ولم يأت ابن سعيد : بدليل على فتواه حتّى ننظر فيه.

ومع هذا فظاهر عبارة الشيخ سليمان : هنا [ أنه يدّعي أن (٤) ] الإجماع على

__________________

(١) أزهار الرياض : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ( مخطوط ).

(٢) الجامع للشرائع : ٤٦٠.

(٣) الكافي ٦ : ٥٣ / ٨ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٩٧ ، أبواب أحكام الأولاد ، ب ٩٩ ، ح ١.

(٤) في المخطوط : ( مدع ).

٤٨٠