رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

فشهر رمضان شهر الله ، وشهر شعبان شهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، أو إنه إشارة إلى رتبة الولاية المطلقة ، وباطن المشيئة تامّة في ذاتها أبداً لا يمكن أن يلحقها شي‌ء من نقائص الخلق ، ورتبة الرسالة قد يلحقها ما يوجب إخفاء بعضه وطيّه تحت الإشارات وخلال العبارات ، أو التقية في الإعلان ببعضٍ وإظهاره بكمال الفعليّة ، بحسب ما تقتضيه الحكمة من الدعوة إلى الله بكمال الاختيار.

ويؤيّد ما نحن بصدده أيضاً من أن الأصل في الشهر التمام أن العام يوم خلق الله السماوات والأرض « ثلاثمائة وستّون يوماً » (٢) فكلّ شهر منه في أصل وجوده ثلاثون يوماً. فيحمل عليه ما أمكن حتّى يثبت خلافه ممّا عرض للحول من اختزال ستّة أيّام ، وكونها بالقوّة في نفس فلك القمر ، وهو العاد (٣) للحول.

ويحتمل ضعيفاً أنه لا يلزمه إلّا قضاء تسعة وعشرين يوماً ؛ للشكّ في التكليف بالزائد. وما قدّمناه يزيل هذا الشكّ.

ويحتمل أيضاً وإن كان أضعف كفاية قضاء شهر هلالي تمّ أم نقص ؛ لأنه مشغول الذمّة بشهر ، وهذا شهر بيقين. وفيه أنه مشغول الذمّة بقضاء شهر يمكن أن يكون ثلاثين ، بل هو الأصل فيه كما عرفت.

وعلى كلّ حال ففي قضاء الثلاثين خروج من خلاف الصدوق (٤) ، فهو أحوط ، والله العالم.

__________________

(١) الأمالي ( الصدوق ) : ٧١ / ٣٨ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٦٤ / ٣٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٧٢ ، أبواب أحكام رمضان ، ب ٥ ، ح ٣٣.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) الفقيه ٢ : ١١١ / ذيل الحديث : ٦.

٣٨١
٣٨٢

[١١٩]

لطيفةٌ فقهيّة : الإقلال

بالقيام من حقيقته أم واجب فيه

مسألة : لو نسي المصلّي الاستقلال في قيام ركعة حتّى ركع ، فهل تصحّ صلاته أم لا؟

الجواب : هذه المسألة لم أقف على تصريح بها في كلام الأصحاب ، وهي مبنيّة على مسألة لم أقف على من بحث عنها أيضاً ، هي أنه هل القيام المعتبر شرعاً في الصلاة هو المعنى العرفي ، والاستقلال من واجباته كالطمأنينة ، أو مركّب منهما ؛ فالاستقلال جزء من ماهيّة القيام المعتبر شرعاً في الصلاة؟

وظاهر الفتوى الأوّل ، وأن الاستقلال واجب فيه كما يظهر من تأمّل عبارات الفقهاء كعبارة السيّد علي المعاصر في ( شرح النافع ) (١) ، والبهائيّ في ( الاثنا عشريّة ) (٢) ، والعلّامة في ( التلخيص ) ، وابن حمزة في ( الوسيلة ) (٣) ، والمحقّق في ( الشرائع ) (٤) ، وغير واحد بلا استشكال ولا نقل خلاف. بل هذه العبائر صريحة في ذلك ، وهو ظاهر عبائر الأكثر ، كما يظهر بالتدبّر.

ويؤيّده أو يدلّ عليه وقوع الخلاف في وجوبه مع الاتّفاق على وجوب القيام. ويمكن حمل نفي اليأس عن تركه في صحيحة علي بن جعفر (٥) وخبري سعيد بن

__________________

(١) رياض المسائل ٢ : ٢٨٠.

(٢) الاثنا عشرية : ٥٨.

(٣) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٩٤.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ٧٠.

(٥) الفقيه ١ : ٢٣٧ / ١٠٤٥ ، تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٦ / ١٣٣٩ ، وسائل الشيعة ٥ : ٥٠٠ ، أبواب القيام ، ب ١٠ ، ح ١.

٣٨٣

يسار (١) ، وابن بكير (٢) ، وهو محمول على تركه سهواً. فهي تدلّ على ما قلناه من صحّة الصلاة مع نسيانه ، وعلى أنه ليس جزءاً من ماهيّة القيام بل واجب فيه.

وقال الفاضل في ( شرح الروضة ) بعد قول الشهيدين : ( ويجب القيام مستقلا مع المكنة ، فإن عجز عن الاستقلال في الجميع ففي البعض ، فإن عجز عن الاستقلال أصلاً اعتمد على شي‌ء ، مقدّماً على القعود ) (٣) ، قال الفاضل : ( مقدّماً على القعود وعلى ترك الانتصاب ؛ فإنّ الانتصاب داخل في ماهيّة القيام بخلاف الاستقلال ، فحين الاعتماد يتحقّق القيام ، وإن ما فقد أمر خارج عنه ليس في تأكّد الوجوب ، وظهوره مثل القيام والانتصاب ، وحين ترك الانتصاب ينبغي القيام حقيقة ) ، انتهى.

وقال في ( البحار ) : ( المشهور وجوب الاستقلال في القيام ، وذهب أبو الصلاح (٤) إلى جواز الاستناد على كراهية ، ولا يخلو من قوّة. ثمّ على تقدير الوجوب ، إذا أخلّ بالاستقلال عمداً بطلت صلاته ، والظاهر عدم البطلان بالنسيان ) (٥).

وبقي الإشكال في عبارة ( التحرير ) حيث قال : ( القيام ركن مع القدرة ؛ فإن أمكنه الاستقلال به وتركه عمداً أو سهواً بطلت صلاته. ولو تعذّر وأمكنه أن يعتمد على حائط أو عكّاز أو شبهه وجب ) (٦) ، فإنّها صريحة أو كالصريحة في أن الاستقلال جزء من ماهية القيام المعتبر شرعاً في الصلاة ، فإنّ الظاهر أن مفعول ( تركه ) يعود إلى ( الاستقلال بالقيام ) بقرينة عود المستكنّ في ( تعذّر ) عليه قطعاً ، وهو متأخّر عنه.

ومن العبائر المتشابهة في هذا المقام عبارة ( القواعد ) حيث قال : ( القيام ركن في الصلاة الواجبة لو أخلّ به عمداً أو سهواً مع القدرة بطلت صلاته ، وحدّه الانتصاب مع الاستقلال فإن عجز عن الاستقلال انتصب معتمداً على شي‌ء ) (٧) ، انتهى.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٧ / ١٣٤٠ ، وسائل الشيعة ٥ : ٥٠١ ، أبواب القيام ، ب ١٠ ، ح ٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٢٧ / ١٣٤١ ، وسائل الشيعة ٥ : ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، أبواب القيام ، ب ١٠ ، ح ٤.

(٣) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٤) الكافي في الفقه : ١٢٥.

(٥) بحار الأنوار ٨١ : ٣٤١.

(٦) تحرير الأحكام : ٣٦ ( حجري ).

(٧) قواعد الأحكام ١ : ٢٦٧ ، حجري.

٣٨٤

وقريب منها عبارة ( معالم الدين ) ، قال : ( القيام : وهو في جميع الصلوات ركن ، وحدّه الانتصاب مستقلا مع القدرة ).

ولعلّه محمول على عموم الفرائض ، وإن احتمل عموم النافلة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقريب منهما عبارة ( الذكرى ) (١).

وظاهر قولهم : ( حدّه الانتصاب مع الإقلال أو مستقلا ) أن الاستقلال جزءٌ من المحدود. فعلى ظاهر هذه العبارات أنه لو فات الاستقلال سهواً بطلت الصلاة ؛ لفوات القيام الشرعيّ فيها بفوات أحد جزأي حقيقته. ولكن هذا الظاهر لا دليل عليه ؛ إذ الأصل عدم النقل عن المعنى العرفيّ ، ولم يدلّ دليل أن له حقيقة شرعيّة مركّبة من العرفيّ والإقلال. وظاهر الفتوى أيضاً يدفعه كما عرفت.

وهل الإقلال واجب في حال الركوع والجلوس والسجود على المعنى المذكور في القيام؟ الظاهر ذلك ؛ لأنه الكيفيّة المتلقّاة من الشارع ، فيجب اتّباعها وبها يحصل يقين البراءة ، وخلافها مشكوك فيه ، ولا دليل عليه ، والله العالم بحقيقة أحكامه.

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٢٦٦ ( حجري ).

٣٨٥
٣٨٦

[١٢٠]

لطيفة فقهيّة : هل يجوز فعل

مستحبّات قيام الركعة من جلوس اختياراً أم لا؟

مسألة : هل يجوز فعل مستحبّات قيام الركعة من جلوس اختياراً ، أم لا ، وذلك كالقنوت والستّ الافتتاحيّة ووظائفها والسورة على القول باستحبابها؟

الجواب لا يجوز الإتيان بذلك وأمثاله ، ولا بالدعاء العارض الخارج عن أفعال الصلاة في خلال قيام الركعة ، بل ولا القعود في أثنائه قبل الركوع والرفع منه ولو ساكتاً أصلاً اختياراً ؛ لما في ذلك من مخالفة المعهود من الشارع ، والكيفيّة المتلقّاة منه. والعبادة كيفيّة متلقّاة ، فما وقع على خلافها لا يخرج به المكلّف من عهدة التكليف إلّا بدليل ، ولا دليل على جواز الجلوس قبل الركوع مطلقاً اختياراً.

وأيضاً الأصل في كيفيّة الصلاة المتلقّاة من فعل الشارع خصوصاً في محلّ البيان الوجوب بلا خلاف نجده ، ولا دليل على جواز الجلوس مطلقاً اختياراً قبل الركوع. فإذن الأصل فيه الوجوب. فالقيام حال الستّ الافتتاحية مثلاً يشبه الواجب الشرطيّ في تحقيق الاستفتاح الشرعيّ ، كالتحريمة في النافلة ، بل الظاهر أن الجلوس اختياراً قبل الركوع فعل خالٍ من أفعال الصلاة ، ولم يقم دليل على جوازه فهو يبطلها.

٣٨٧

ويعضده إطلاق [ أكثر (١) ] الفتاوى بوجوب القيام ، بل في بعضها ركنيّته ، ولا ينافي ما قلناه تصريح جماعة بأن القيام في مندوب قيام الركعة مندوب ؛ لأنّ معناه أن القيام في القنوت مندوب ، أي يجوز تركه مع القنوت لا إلى بدل ، لا أنه يجوز القنوت في الفريضة جالساً اختياراً.

بل يمكن أن يقال : لو قيل بجواز الجلوس في القنوت مثلاً اختياراً لزم أن يكون القيام واجباً تخييريّاً بينه وبين الجلوس ، بل وبين [ الاضطجاع (٢) ] ؛ لأنه حينئذٍ لا يجوز تركه أصلاً مع تحقّق القنوت ، ومعه لا يجوز تركه إلّا إلى بدل. وهذه خاصّة [ الواجب (٣) ].

والظاهر بطلان هذا كلّه ؛ لعدم الدليل على شي‌ء منه. وفي مداومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه الهداة على فعل مستحبّات قيام الركعة من قيام ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « صلّوا كَمَا رأيتموني أُصلّي » (٤) ، وفعلهم لها كذلك في مقام البيان دليل على ما حقّقناه.

وأيضاً الأصل في فعلهم في الصلاة إلّا تجوز مخالفته إلّا بدليل.

وممّا يؤيّده أيضاً ما رواه عاصم بن حميد في أصله المشهور عن عمرو بن أبي نصر : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : المؤذّن يؤذّن وهو على غير وضوء؟ قال : « نعم ، ولا يقيم إلّا وهو على وضوء ». قلت : يؤذّن وهو جالس؟ قال : « نعم ، ولا يقيم إلّا وهو قائم » (٥).

وقد صرّح الشيخ محمّد ابن الشيخ أحمد الدرازيّ بصحّة هذا الخبر.

وما رواه البزنطيّ عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « يؤذّن الرجل وهو جالس ولا يقيم إلّا وهو قائم ، وتؤذّن وأنت راكب ولا تقيم إلّا وأنت على الأرض » (٦).

وما رواه سليمان بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يقم أحدكم الصلاة وهو ماشٍ ،

__________________

(١) في المخطوط : ( البرء ).

(٢) في المخطوط : ( الإضجاع ).

(٣) في المخطوط : ( الواجب ).

(٤) عوالي اللآلي ١ : ١٩٨ / ٨ ، صحيح البخاري ١ : ٢٢٦ / ٦٠٥.

(٥) عنه في بحار الأنوار ٨١ : ١١٩ / ١٨.

(٦) الكافي ٣ : ٣٠٥ / ١٦ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٠٢ ، أبواب الأذان ، ب ١٣ ، ذيل ح ٦.

٣٨٨

ولا راكب ولا مضطجع إلّا أن يكون مريضاً ، وليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة » (١) الخبر.

فإذا ثبت هذا في الإقامة وهي من مستحبّات الصلاة الخارجة عنها فثبوته في مستحبّاتها الداخلة أولى ، لا أقلّ من المساواة ؛ لاتّحاد طريق المأخذ. بل ما قدّمناه من الأدلّة يثبت طريق الأولويّة هنا ؛ فإنّ الإقامة كمندوب من المندوبات الداخلة ، كما يظهر من الأخبار ، وإنّما لحقها من أجل شبهها بها ، فكيف بها نفسها.

ويؤيّده أيضاً أنّ جملة من العلماء يذكرون القنوت والستّ الافتتاحيّات من مستحبّات القيام ، ومقتضاه أنه لا يكون افتتاح ولا قنوت من جلوس اختياراً ، بل هي تابعة للقيام ، وبدله مع [ العجز (٢) ] عنه ، فلا تكون من جلوس إلّا مع العجز عن القيام ، ولا تكون مع الاضطجاع إلّا مع العجز عن الجلوس.

واعلم أن هذا كلّه جارٍ في الجلوس المندوب حال الإتيان بمندوبات الجلوس ، فلا يجوز فعله من قيام ولا مضطجعاً اختياراً ؛ لما ذكر كلّه من مخالفة الكيفيّة المعهودة من الشارع ، وخروجه عن أفعال الصلاة ، وغير ذلك. ولم يرد دليل على جوازه ؛ فهو مبطل.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٠٦ / ٢١ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٠٤ ، أبواب الأذان ، ب ١٣ ، ح ١٢ ، وفيهما : « لا يقيم » بدل : « لا يقم ».

(٢) في المخطوط : ( الجفر ).

٣٨٩
٣٩٠

[١٢١]

كلمة جامعة وحكمة

لامعة : « عند الامتحان يكرم المرء أو يهان »

من كلام مولى الخلائق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الّتي جمعها الآمديّ في درره قوله صلوات الله وسلامه عليه ـ : « عند الامتحان يكرم المرء أو يهان » (١). وهي من جوامع الكلم.

فإن قلت : مقتضى الظاهر أن استحقاق الإكرام أو الإهانة إنّما هو بعد ظهور ما يوجب أحدهما ، وذلك إنّما يتحقّق بعد الامتحان.

قلت وبالله المستعان ـ : كما تكون قبل ، تكون بعد ، فيحتمل أنه سلام الله عليه أراد : العنديّة البعديّة ، أي أن المرء يستحقّ الإكرام أو الإهانة بعد أن يمتحن ويختبر ؛ هل هو من أهل هذا ، أو هذا بلا فصل؟

ويحتمل أنه عليه سلام الله أراد : العنديّة القبليّة على معنى أنه إذا أُريد امتحان امرئ ، أو استنطاق صامت طباعه ، أُكرم ؛ ليظهر شكره أو كفره ، أو اهين ؛ ليظهر صبره ورضاه أو سخطه للقضاء ، فهو مبتلىً بالخير والشرّ ، ومفتون بهما ، ليظهر أنه مستحقّ للثواب أو العقاب. وفي هذا حثّ على الشكر والصبر والرضا بالقضاء ، وأمر للممتحن بهما بألّا يقنط الممتحن بالشرّ من رَوح الله ، ولا يأمن الممتحن بالخير من مكر الله ، وبيان لما وعد الله به الشاكرين من الثواب وتوعّد به الكافرين من العقاب.

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم : ٤٥٤ / ٧.

٣٩١

ويحتمل إرادتهما معاً على معنى أن المرء ممتحن [ بالإكرام (١) ] أو الإهانة ، ومجاز بعدُ بما يظهر منه من الكفر والشكر والصبر والرضا والسخط ، فما أجمعها من كلمة لمكارم الأخلاق!.

__________________

(١) في المخطوط : ( الكرام ).

٣٩٢

[١٢٢]

حكمة يمانيّة في خاصّة إنسانيّة : الإنسان ناطق

أطبق أهل اللسان والميزان [ على ] أن ( الناطق ) فصل الإنسان المميّز له عن سائر الحيوان. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى بيان ؛ فإن أُريد : أن الناطق خاصّة مساوية للإنسان ، ورد عليهم مشاركة الملك ، بل والفلك ، والجانّ ، فإنّهم فسّروا الناطق بالمدرك للكلّيّات (١) ، ولا ريب أن من ذُكر كلّهم يدرك ولو كلّيّاً واحداً.

ونحن نقول وبالله المستعان ـ : الفصل هو الصورة التي يدور عليها الاسم ، وتتحقّق بها الماهيّة. ولا ريب أن الناطق فصل الإنسان المميّز له من الأكوان ، فهو مساوٍ له ، ومعناه : أن الإنسان من بين الخلائق له قابليّة النطق ، أي مخاطبة جميع أهل درجات الوجود.

فحقيقة الناطق بالفعل من لا يزال ناطقاً أبداً. وكيف لا يكون كذلك ، وهو المخلوق أوّلاً وبالذات من قول ( كُنْ ) (٢)؟ فهو الذي قبلها بكمالها وحقيقتها ، وما سواه فمن فاضله ، فهو مجبول على تلك الحركة. كيف لا ، وقد عرفت أن الرحمن بلطيف حكمته ركّب في قوى الإنسان وطبيعته بل في كونه الأول قوّة النطق بـ ( بَلى ) (٣) في الذرّ الأوّل وبـ ( بلى ) و ( لا ) (٤) في الثاني ، وهداهم النجدين (٥) هناك.

__________________

(١) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة ٩ : ١٩.

(٢) البقرة : ١١٧ ، آل عمران : ٤٧ ، ٥٩ ، الأنعام : ٧٣ ، النحل : ٤٠ : مريم : ٢٥ ، يس : ٨٢ ، غافر : ٦٨.

(٣) الأعراف : ١٧٢.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : ( إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ). الإنسان : ٣.

(٥) إشارة إلى قوله جل من قائل ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ). البلد : ١٠.

٣٩٣

فالإنسان دائماً أبداً ؛ إمّا مناجٍ ربّه ، أو نفسه الأمّارة والشيطان ، أو الخلق في كلّ طبقة من درج وجوده ، بدءاً وعوداً ، إلّا إنه في كلّ مقام وصقع ينطق بلسان سكّانه ولغتهم ، لا يسكت عنه حتّى ينتقل منه ويسافر إلى غيره بعد استعداده لمعرفة لسانهم والنطق بلغتهم ، فيكون له لسان من نوع ألسنتهم ، ونطق يشبه نطقهم ، ويعرف لغتهم.

فالحقيقة الإنسانية بما هي إنسانية قد علمت الأسماء كلّها ، فهو أبداً ناطق [ بلغة (١) ] صامت عن اخرى ، فلو سكت لسانه اللحمي فهو ناطق بلسانه الفكري أو الوهمي. وهكذا في رتب وجوده وكمالاته وحواسه ، حتّى ربّما كان متكلّماً بحواسّه الظاهرة بما يناسب كلّاً منها من النطق واللسان.

فكلّه ناطق ؛ إمّا بالفعل أو القوّة القريبة أو البعيدة ، فليس في جميع الموجودات من هو كذلك غيره ، وإن لم يخل شي‌ء منها من شي‌ء من فاضل كمالاته ؛ إذ ليس من صنع الحي القيّوم موات من كلّ وجه ؛ لأنه كالغيث. على أن الفرد الكامل من الإنسان ناطق أبداً بكلّ لسان بالفعل. وقد ثبت بالنص (٢) والبرهان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ ويكتب بكلّ لسان كليّة كاملة شاملة ، [ وكلّما (٣) ] نطق سواه بلسان صمَت عن آخر. وحقيقة العزل أن تصمت عن كلّ ما سوى الله لله ، ولا تنطق إلّا عن الله مخلصاً.

فظهر بهذا أن الناطقية فصل الإنسان ، فإن أراد أهل اللسان والميزان بإدراك الكليات : هذا فنعم ما قالوا ، وإلّا ورد عليهم ما ذكرناه. والظاهر أنّهم إنّما أرادوا أن الإنسان امتاز وتشخّص في أصل وجوده بقابلية إدراك جميع الكليّات ، حتّى كلّي نفسه فـ « من عرف نفسه عرف ربّه » (٤) وليس من هو بهذه المنزلة سواه ، فلا نقض ولا منافاة ، فتأمّل ، وأحسن كما أحسن الله إليك بنطقك ، والله العالم.

__________________

(١) في المخطوط : ( بلغت ).

(٢) بصائر الدرجات : ٢٢٥ ـ ٢٢٧.

(٣) في المخطوط : ( وكلمن ).

(٤) بحار الأنوار ٥٨ : ٩٩.

٣٩٤

[١٢٣]

جمع شتات في حكم

من أحكام الأموات : مسألة نقل الأموات

ورد في الأخبار (١) أن لله عزّ اسمه ملائكةً ينقلون الأموات من دار إلى [ دار ].

وورد أن طينة ابن آدم : التي خلق منها جسده مستديرة ، وهي تحجب الذنب (٢).

ويمكن الجمع بينهما أن المراد بالأوّل : تنقّل جسده المثاليّ في مراتب المثال من رتبة إلى رتبة ومن مثال بقعة إلى مثال اخرى ، فكلّما تكلّس وصفا نقل إلى رتبة اخرى ، فالسعيد صاعد في مراتب جنان المثال ، والشقي نازل في دركات نيرانه ، بحسب خلوص كلّ منهما وصفائه من شوب خلط الآخر ومزجه به. وأن المراد بالثاني : بقاء طينة جسده مستديرة في قبرها و [ مادّتها (٣) ] ومبدئها الذي قبضت منه ؛ ولذا حكمت الأخبار المستفيضة المضمون أن المكان الذي يدفن فيه الجسد هو قبره الذي [ يستدار (٤) ] فيه (٥) ، وعلى ذلك إجماع البشر فتوًى وعملاً ، فلا تدافع ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٣ / ١ ، ٢.

(٢) بحار الأنوار ٧ : ٤٣ / ٢١.

(٣) في المخطوط : ( مادها ).

(٤) في المخطوط : ( بسترار ).

(٥) انظر الهامش : ٢ أعلاه.

٣٩٥
٣٩٦

[١٢٤]

كشف التباس ونفي بأس : معنى التفضيل

بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطيّبين الطاهرين.

مسألة : كيف يصحّ التعبير باسم التفضيل في أسمائه تعالى فيقال : أحسن الخالقين ، وأكرم المعطين ، وأرحم الراحمين ، وما أشبه ذلك ، واسم التفضيل يقتضي المشاركة ، وتعالى الله عن الشبه؟

والجواب وبالله المستعان من وجهين :

الأول ، وهو يحتاج إلى تقديم مقدّمة هي أن ذاتيّات الشي‌ء الشخصيّ ، وذاتيّات ذاتيّاته ، ولوازم الكلّ وجميع صفاته ، ولو كانت بالعرض سواء ، كانت جنسيّة أو نوعيّة أو شخصيّة لا يشاركه فيها شخص آخر ، وكذلك صفات الأنواع وذاتيّاتها ولوازمها لا يشارك نوع منها نوعاً آخر ، ولا شخص منها شخصاً آخر ، من حيث هي منسوبة لذلك الشخص أو ذلك النوع. فإنسانيّة زيد مثلاً من حيث هي إنسانية زيد لا تكون لعمرو ، وكذا ناطقيّته وحيوانيّته وعالميّته وسامعيّته إلى غير ذلك من صفاته وخواصّه وذاتيّاته ولوازمه لا تكون لشخص غيره في الوجود وإلّا لزم ؛ إمّا اتّحاد الذاتين ، أو صحّة تعدّد المعلول لعلّةٍ واحدة من حيث هي واحدة. وقد برهن على أنه لا يجوز.

٣٩٧

وعلى هذا قياس أحوال الأنواع في مرتبة نوعيّتها ، فحيوانيّة الإنسان لا يشاركه فيها نوع آخر من الحيوان.

ومن هنا يتبيّن صحّة القول بأنّ كلّ لازم مساوٍ لملزومه ؛ إذ ما يوجد في الغير ليس على الحقيقة بلازم. فالحركة بالإرادة ليست في الحقيقة لازم الإنسان من حيث هو إنسان ، بل من حيث هو حيوان. فإذن هي في الحقيقة لازم الحيوان وهو مساوٍ ، وعلى هذا فقس.

وإن كان أكثر أهل الميزان (١) يطلقون على هذا أنه لازم أعمّ ، ويقسّمون اللوازم إلى مساوٍ وأعمّ ، ويعنون بالأعمّ لازم بعض ذاتيّات الحقيقة ، وبالمساوي لازمها من حيث هي. فإطلاقهم أن الحركة بالإرادة لازم الإنسان كأنّه من باب المجاز ، ولا منافاة بين القولين.

هذا كلّه باعتبار المصدوق ، وواقع نفس الأمر ، والحقيقة الوجوديّة باعتبار خارج الذهن. أمّا باعتبار مفاهيم الألفاظ ووجودات معانيها ذهناً التي اقتضتها مميّزات الأنواع ومشخّصات نوعيّتها في مرتبتها ، وهي التي تتحقّق وتتقوّم بها في عمومها وكلّيّتها. وهي الوجودات العامّة باعتبار وجودها الذهني الذي به يتحقّق عمومها وكلّيّتها ، فهو كالمادّة المطلقة المرسلة الصرفة لجزئيّاتها وإن كان لا يتحقّق الحكم بأنّها مادّة لهذا الجزئيّ إلّا بلحوق صورته الشخصية المختصّة به ، فبها قوام وجود النوع في الخارجيّ.

والمفهوم الذهنيّ هو المنقسم إلى الكلّيّ والجزئيّ ، والنوع والجنس ، وهو بنظر آخر بمثابة الوجود العامّ الساري في طبيعة كلّ شي‌ء يصدق عليه الإيجاد ، ولكن لا يظهر ويتحقّق في شخص إلّا بحسب ما يناسبه ويقبله بالاختيار ، وهو قسطه الّذي لا يليق بغيره.

هذا ، ومراتب وجود الأجناس والأنواع والأشخاص متفاضلة في نفسها

__________________

(١) انظر التعريفات : ٨٣.

٣٩٨

بالأشديّة والأشرفيّة والعليّة والمعلوليّة والأقربيّة لمبدإ الكلّ وغير ذلك. بل المرتبة الواحدة من مراتب قوسي البدء والعود متفاضلة الدرجات والأجزاء بأبعد ممّا بين السماء والأرض ، مع كلّ جزء ودرجة ورتبة ، لا تشاركها الأُخرى في سنخ حقيقتها ولوازمها وصفاتها وأحكامها. وكيف يشارك الظاهرَ المظهَرُ والعلّةَ المعلولُ والأصلَ والصفوةَ الفاضلُ وذا الظلّ ظلُّه؟ ومتى كانت الذات فاضل الذات ، كانت صفاتها ولوازمها وأحكامها فاضل صفاتها ولوازمها وأحكامها.

وبهذا يتبيّن أنّه يحرم حمل أحكام أحد الرتبتين على الأُخرى ، [ فحمل (١) ] أحكام العليا على ما دونها تكليف بما لا يطاق ، وحمل أحكام الدنيا على العليا يستلزم نسبة التقصير ، بل الذنب الّذي يجب الاستغفار منه ، كما دلّ عليه الاعتبار (٢) ، والأخبار.

إذا تبيّن هذا ظهر أن معنى ما أطبق عليه أهل اللسان والبيان من إثبات أسماء التفضيل ، إنّما هو على معنى أن المفهوم الذهنيّ الذي لا يأبى الشركة والانطباق على جزئيّات وإن كان بحسب ما ينسب لكلّ منها يباين الآخر فعليّةً ورتبة وغير ذلك كأعلم وأقدر وأحسن مثلاً إنّما هو على معنى أن قادريّة زيد وعالميّته مثلاً أشدّ فعلية وشرفاً وأعلى رتبة من عالميّة [ عمرو (٣) ] وقادريّته.

فالاشتراك إنّما هو باعتبار المفهوم الذهنيّ العامّ الذي منه نشأ صحّة التفضيل والاختصاص والتمايز بحسب الرتبة في نفسها نوعاً أو شخصاً ، فاشتركت في

__________________

(١) في المخطوط : ( كحمل ).

(٢) هو مقام ( حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ) كشف الخفاء ١ : ٣٥٧ / ١١٣٧ فالنبي لمّا كان أعلى شرفاً ورتبة من بني جنسه خصّه الله بأحكام لم يخصّ بها أحداً من خلقه ، وسوّغ له ما لم يسوّغ لأحد من خلقه كوجوب صلاة الليل ، وجواز الزواج بأكثر من أربع ، فترك صلاة الليل في حقه ذنب تنزّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك يوجب الاستغفار. انظر : تهذيب الأحكام ٢ : ٢٤٢ / ٩٥٩ ، وسائل الشيعة ٤ : ٦٨ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ١٦ ، ح ٦. وانظر العنوان : ١٤٦ في عبارة القاضي إلا من ظلم والعنوان : ١٣٠ من هذه الرسالة.

(٣) في المخطوط : ( زيد ).

٣٩٩

مفهوم عامّ بحسب ملاحظة العقل تحليل الأشخاص إلى مشخّصاتها وأنواعها وأجناسها حتى تنتهي إلى الهيولى الكلّيّة ، التي توجد فيها الشخصيّات بالإمكان المحض والقابليّة المحضة.

وهذه بمثابة مفهوم الوجود العامّ لكلّ موجد ، مع أن الوجودات الجزئيّة متباينة متفاضلة فيه إذا لاحظ العقل أقساطها منه لقبوله الشدّة والضعف في كماله وفعليّته وشرفه ، وهو ينبوع صحّة التفضيل وإن اختصّ كلّ برتبة ، لا أن معنى التفضيل أن زيداً يشارك عمراً في حقيقة عالميّته وقادريّته ورتبتهما في أنفسهما وقسطهما بحسب قابليّتهما من الرحمة العامة والخاصّة ، لثبوت التمايز بينهما ، بل التباين بوجه وعدم الاشتراك ، بل على معنى أن المفهوم من العالميّة [ أن ] قسط زيد منها أشرف وأكمل وأشدّ فعليةً من قسط عمرو منها. فصحّ التفضيل وصحّ عدم المشاركة.

فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أشرف الخلق في كلّ كمال وإن لم يشاركه أحد في وصفه وشرفه لاختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلك الرتبة التي لا يدانيه فيها أحد من الخلق. هذا كلّه باعتبار نسبة الممكنات بعضها إلى بعضٍ.

أما بالنسبة إلى صفات الباري جلّ اسمه فعدم المشاركة أظهر ، كما دلّت عليه براهين التوحيد من أنه الواحد الأحد ليس كمثله شي‌ء ، ذاتاً وصفةً ، وإنّما الاشتراك في مجرّد الحروف المعبّر بها على عالم وقادر مثلاً ، لتضيّق ساحة الحروف والعبارات واضطرار الخلق إلى وصف بارئهم بصفات الكمال ، وأن يدعوه بأسمائه الحسنى ، ولم يجدوا عبارة عن ذلك إلّا ما عبّروا به عن أمثالهم ، وليفرّقوا بين الكمال والجلال اختياراً ، ويتمكّن بعضهم من تعليم بعضٍ ، و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ).

فأذن لهم برحمته أن يعبّروا عن أسمائه وصفاته بالحروف التي علّمهم إيّاها وعبّروا بها عن أسمائهم ، فقد جمع الاسم واختلف المعنى ، فمعنى الله أعلم وأقدر : أن علمه وقدرته فوق الكمال بما لا يتناهى ولا يدرك ، بل فات هواجس العقول ، بحيث علمت العقول أنه لا يشبهه شي‌ء ، وعلى هذا فقس.

٤٠٠