رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

[٦٨]

تمليح وتلميح

الاسم في البسملة وفي الحمد

سألني بعض مشايخنا مذاكرة : هل لفظ الجلالة في بسملة ( الحمد ) ، وفي ( الْحَمْدُ لِلّهِ ) (١) واحد أم بينهما فرق؟

فأجبت على تشتّت من البال في تلك الحال أن الذات تسمى بجهة صفة ، فالصفات معاني الأسماء بهذا الاعتبار فهي سابقة عليها. ولعلّ إضافة اسم في البسملة يشعر بكون المضاف إليه من مقام معاني الأسماء ؛ وعليه يحتمل كون وصفي الرحمة للاسم وللمضاف إليه.

ومقتضى لازم الملك والاستحقاق والتربية والحمد كون اسم الجلالة في ( الْحَمْدُ لِلّهِ ) باعتبار تلك المعاني والصفات المتحقّقة في البسملة الناشئة منها ، فالثاني أخصّ باعتبار الأوصاف.

وأيضاً البسملة في مقام افتتاح الكتاب وهو من مقام ابتداء الخلق ، فالاسم فيها هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التي لا يسمّى به إلّا ذات الواجب تعالى ، وفي الْحَمْدُ للهِ هو باعتبار المحامد والنعمة والتربية ، والله العالم.

__________________

(١) الحمد : ١.

٢٠١
٢٠٢

[٦٩]

كشف وإنارة : الليل

قبل النهار والنهار قبل الليل

ما الجمع بين ما دلّ من الروايات والبراهين العقلية على أن النهار خلق قبل الليل (١) ، والنور قبل الظلمة (٢) ، وبين ما دلّ منهما على أن ليلة اليوم الحاضر هي الماضية ، وعليه انعقد إجماع الأُمّة شرعاً واتّفقت كلمة أهل اللغة ، وتفاهم أهل العرف في كلّ زمان ومكان. فهو ملحق بالضروري ؛ إذ لا يرتاب أحد في أن أوّل الشهر غروب شمس آخر يوم من الذي قبله ، وأنه آخر الشهر الماضي؟

قلت ـ وبالله المستعان ـ : اعلم أن الله تعالى بحكمته أوّل ما ابتدأ خلق ما هو أشدّ وجوداً وأجمع فعليّة وأكمل نوراً ، وهو بابه الأعظم ، فتنازل الوجود إلى مرتبة الأرض والتراب ، ثمّ عاد إلى ما منه بدأ ، فانقسمت الدائرة إلى قوسي بدءٍ وعودٍ. فقوس البدء كلّ درجة سابقة فيه أعلى ممّا تحتها وهي نهارها ، بخلاف قوس العود فإنّه على العكس من ذلك. فكلّ سافل في قوس النزول وإدبار العقل يظهر بعد العالي ، وعكسه في قوس إقبال العقل ، فالفعل في قوس إدباره قبل القوّة ، والقوّة في قوس إقباله وهو العوديّ قبل الفعل.

وبالجملة ، فهذا العالم على التعاكس من عالم الأنوار ، فكلّ رتبة تظهر أوّلاً في قوس إدبار العقل تظهر بعد ظهور ما بعدها في قوس إقباله ، والفعل في قوس

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٤٩ ، مجمع البيان ٨ : ٥٤٨.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤١ / ١.

٢٠٣

التكليف الإيجادي يسبق القوّة ، والقوّة في قوس الإيجاد التكليفي تسبق الفعل. وبذلك يكمل الاختيار والاختبار ، و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) فيهما ، وما كان عن الوسع لا يمكن كونه عن جبر واضطرار.

فآخر القوس البدئيّ وأوّل العوديّ مرتبة الهيولى الصرف والهيولانيّ البحت. ولعلّ من أسرار ذلك وجوب المناسبة بين الفاعل من حيث هو فاعل أي بجهة فاعليّته التي هي علّة المفعول ـ [ و ] القابل من حيث هو كذلك ، فلا يلزم من ذلك تشابه حقيقة الفعل لذات الفاعل لذاته ، فلا يشبه ذات الفعل ذات فاعله من غير مزايلة ، ولا ينافيها من غير ممازجة ومشابهة. وكذلك النتيجة والشكل ، والدليل والمدلول ، والاسم والمسمّى ، والعلّة والمعلول ، إلى غير ذلك.

فظهر بهذا أن النهار في صقع الإبداع الأوّل سابق على ليله ، والليل في صقع القوّة الاستعداديّة ودائرة الزمان وعرصة المكان سابق على نهاره. فسبق النهار في ابتداء الخلق هو سبق الليل في عالم الزمان ، لأنّ هذا ظلّ ذاك ، والظلّ لا يظهر إلّا على عكس شكل ذي الظلّ ، فأسفله أعلاه ، وأعلاه أسفله ، كما هو محسوس.

فدليل كلّ منهما هو دليل الآخر ، فالمجرّد سابق الأجسام بدءاً ، ولاحقها عوداً. وعند كون أحدهما شهادةً يكون الآخر غيباً فيه ، فكلّ منهما ليل للآخر بوجه ، الظاهر نهار والغائب ليل. ومن هنا يظهر لك الوجه في موارد كثيرة ، فآدم عليه‌السلام : سكن الجنّة قبل الدنيا وبعدها ، ولو لم يسكنها أوّلاً لم يسكنها آخراً ؛ لأنه لا يعود شي‌ء إلّا لما منه بدأ.

ولذا من لم يسكنها من بني آدم عليه‌السلام : أوّلاً ولم يدخل نار التكليف المؤجّجة في الذرّ لا يسكنها آخراً ، وإنّما عود إلى بدء. وكانت دولة الجهل في دار الخلط سابقه على دولة العقل ، فلا يقوم العدل حتّى يستحكم الجور ويخلص ، وذلك بعد انتهاء الأقاليم السبعة ، وكمال عمارة الدنيا. فإذا سامتَ القطب الرأس ، واستولى على الحواسّ ، وانطبقت دائرة المعدّل على الأُفق الحقيقيّ ، عُدم الميل وانسلخ النهار من

٢٠٤

الليل. وكالوجه في أن الروح أوّل ما تلج من الرأس ، وتجمع الحواسّ وآخر ما تخرج منه ، وكبَدْأة خروج رأس الجنين قبل جسده من بطن امّه ، وكإدخال رأس الميّت الذكر في قبره قبل جسده.

وأمّا المرأة فلمّا كانت من فاضل طينة الرجل كانت مادّتها جانبه الأيسر ، وأُدخلت القبر بجانبها أجمع ، فهي كالبارزة دفعة بجميعها فترد القبر كذلك. ومن أجل ذلك كانت تابعة للرجل وكلّفت بطاعته ، ولكثافة طينتها بالنسبة إليه لكونها من فاضله ؛ احتاجت إلى زيادة تصفية ، فكان سنّها في البلوغ أقلّ من سنّ الرجل لما في التكليف وزيادته من التصفية ، والله العالم.

٢٠٥
٢٠٦

[٧٠]

نزل كريم وفضل

من الله عميم : « زيادة كبد الحوت »

روي أن أوّل نزل أهل الجنة يوم القيامة زيادة كبد الحوت (١) ، ولعلّ بعض وجوهه أن الحوت بارد رطب ، والكبد فيه حرارة بالنسبة إلى حيوانه ، والرطوبة مادّة تكوّن الأجسام المركّبة ، والحرارة مادّة روحها وحياتها ، وحرارة كبد الحوت أولى مراتب الحرارة وأضعفها. وأوّل ما يبدو في درجات تكوّن الإنسان حرارة تتعلّق برطوبات مادّة جسمه مثل حرارة كبد الحوت ، وهي مثل آخر حرارة ، فبقي عند نزع روحه ( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (٢).

وبوجه آخر : الحوت حامل الأرض ، ولكلّ أرض حوت تناسبه [ هي (٣) ] روحه ، والممدّة للجسد غذاءه ، ولكلّ عضو هو الكبد ، وزيادتها : مظهر قوّتها ، وآلتها التي بها تقسم صفو الكيلوس إلى أربعة أخلاط ، وهي القابضة الممسكة المعدة ، فالإنسان دائماً أول غذائه ومدد حياته من زيادة الكبد ، فزيادة حوت أرض محشرهم تمدّهم أوّل حرارة الحياة الأُخرويّة.

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١٧ ـ ١١٨ / ب ٨٥ ح ٣. بحار الأنوار ٨ : ١٧٣ / ١١٨ ، صحيح البخاري ٣ : ١٢١١ / ٣١٥١ ، وفيها : « وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة ، فزيادة كبد الحوت ». وهي : قطعة منفردة متعلّقة بالكبد ، وهي أطيبها وألذّها ، بل هي أهنأ طعام وأمرؤه. عمدة القارئ شرح صحيح البخاري ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) الأعراف : ٢٩.

(٣) في المخطوط : ( هو ).

٢٠٧

ولا يبعد أنه في عالم الدنيا يستمدّ أوّل درجات حرارة حياته من زيادة كبد حوت أرض الدنيا معرفة المحيص به الواصل له به ، لكن بحسب الغيب ؛ حتّى يكون في أوّل مراتب الحياة الآخرة شهادة تفكّر في أن آخر دائرة البروج الاثني عشر برج الحوت الذي به تشقّ الأرض بالنبات والمعدن والحيوان. وهو برج الثاني عشر من صفوة الأبدال الذي هو عمد من نور أو فضّة وبه ومنه المدد. ولا تنكر أن يكون أوّل نزلهم كبد حوت محسوسة ، وزمن الحوت زمن الاعتدال الأشرف الربيعيّ ، والله العالم.

٢٠٨

[٧١]

نور قرآني وخطاب

بياني : تواتر القراءات السبع

كلّ واحدة من القراءات السبع متواترة بالنصّ والإجماع.

أمّا الأول فحديث : « اقرأوا كما تقرأ الناس » (١). ووجه الدلالة أن الشارع أمر المكلّفين بقراءة القرآن وجوباً عينيّاً أو كفائيّاً أو استحباباً ليدّبّروا آياته فيعملوا بها. والضرورة قاضية بوجوب ذاته على نحو ما أمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : وبلّغه عن الله ، ونزل به جبرئيل ، حتّى يحصل يقين أن هذا المتلوّ هو كلام الله ، فلا يجوز قراءته كيفما اتّفق ، ولا بأي لغة اتّفق ، ولا بأيّ ترتيب اتّفق ، ولا بأيّ إعراب اتّفق ، بل بمثل ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : عن الله تعالى. فالقراءة بالرواية لا بالرأي إجماعاً.

فإذن ، لا بدّ أن يعيّن الشارع إلى معرفة ذلك طريقاً يوصل المكلّفين إليه ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ؛ لأنّ التكليف بالمجهول تكليف بالمحال ، وهو ظلم ؛ فهو باطل بالضرورة ، فحينئذٍ نقول : الطريق إلى ذلك هو قراءة السبعة القرّاء المشهورين ، فإنّ قراءة كلّ واحد منهم ؛ إما أن تكون متواترة فالأمر فيها واضح ، أو غير متواترة فلا يبقى سبيل إلى العلم بكتاب الله الذي كلّف الله عباده بتدبّره والعمل بما فيه ، وجعله معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المستمرّة الكبرى ، والحجّة بينه وبين عباده. فلو لم تكن السبع متواترة لما حصل القطع بشي‌ء من القراءات أنه كلام الله بعد الترجيح بينها ، فتسقط

__________________

(١) بصائر الدرجات ١٩٣ / ٣ ، بحار الأنوار ٨٩ : ٨٨ / ٢٨ ، وفيهما : « اقرأ كما يقرأ الناس ».

٢٠٩

حجّيّته وهو ضروري البطلان.

مضافاً إلى أن الشارع أذن للمكلّفين أن يقرءوا كما تقرأ الناس ، ولا ريب أن الناس قد أطبقوا على القراءة بقراءة السبعة ، والاجتزاء بكلّ واحدة منها في الصلاة ، والاحتجاج بكلّ واحدة منها في الأُصول والفروع بلا نكير ، وهذا فرع تواتر كلّ منها. ولو قيل بالإطلاق بكلّ ما يقرأ الناس لزم عدم انحصار المتواتر منها ، ولم تخرج السبع منها.

أمّا القول بتواتر العشر كما هو قول جمع من المحقّقين ، بل قال الشيخ بهاء الدين : في حاشية تفسير البيضاوي : ( أن تواتر قراءة العشرة هو مشهور الإماميّة ) فقول بتواتر قراءة السبعة من غير عكس.

فظهر بهذا أن القراءة بقراءة السبعة لا ريب أنّها قرآن وإن حصل الشكّ في غيرها ؛ إذ لم يقل أحد من الأُمّة : إن القراءة المتواترة خارجة عن السبعة ، وإن السبعة آحاد ، فإنّ ذلك يوجب سدّ باب العلم بمعرفة ألفاظ القرآن الذي هو معجز نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوجب سدّ باب التكليف به.

فإذن وجب أن يكون هناك سبيل يعرف به على اليقين ، وقد اتّفقت الأُمّة على تواتر قراءة السبعة وغيرها ممّا حصل الشكّ فيه في الجملة ، فقد تبيّن أن قراءة السبعة هي قراءة الناس التي أمر أهل البيت عليهم‌السلام : بالرجوع إليها والقراءة بها.

وأيضاً ظاهر قولهم عليهم‌السلام : « كما تقرأ الناس » أن الأمر إنّما ورد بالقراءة بما يقرأ به جميع الناس ؛ لأنّ لفظ الناس بمنزلة الجمع المحلّى ، وهو يفيد العموم ، ولم يقرأ جميع الناس إلّا بقراءة السبعة ، فخرج الثلاثة المكمّلة للعشرة فضلاً عن الشواذّ عن الخبر ، وانحصر مدلوله فيها. ولا يمكن أن يراد منه الأمر بالقراءة بكلّ ما قُرِئ به لبطلانه إجماعاً.

وأمّا الإجماع [ فقد (١) ] ثبت في سائر الأعصار والأمصار قولاً وعملاً من الاجتزاء

__________________

(١) في المخطوط : ( فلا ).

٢١٠

بأيّ قراءة من السبعة في الواجب والندب ، وجميع أهل العصر يستدلّ بها في الأحكام ويقول : ( دلّ كلام الله الذي أنزله على نبيّه ) في كلّ عصر ، طبقة فطبقة.

وأيضاً وجدنا كلّ من صنّف في هذا الباب في كلّ عصر يروي قراءة السبعة بطرق متعدّدة عمّن يثق به عن مشايخه الذين يعتمد على روايتهم من أهل الضبط والمعرفة وغيرهم ، بل ربّما تجد كلّ مصنّف من المصنّفين يرويها بطرق غير طرق الآخر على اختلاف أطوارهم وأزمانهم ، ومساكنهم وأهويتهم ، ومطاعمهم ومشاربهم ، بل لا يشكّ كلّ واحد بتواترها في كلّ عصر من أهل فرق مذاهب الإسلام ؛ لأنه لا يرتاب أحد في أنّها كلّها كلام الله المنزل على محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعنوان القرآن بحيث [ لا يشوبه (١) ] شكّ ، وهذا فرع ثبوت تواترها في كلّ نفس ، فلو لم يكن ذلك حقّا لوجب على الإمام عليه‌السلام بيانه.

ولم أجد ولا أظنّ أن أحداً وجد قرينة فضلاً عن دليل تُشعر بأنّ قراءة أحد السبعة في آية ليست بقرآن ، وبذلك علم يقيناً دخول قول المعصوم في جملة الأُمّة القائلين بتواتر قراءة السبعة وأنّها قرآن وكلام الله. وهذا هو معنى الإجماع ، ولأنّ تقرير الإمام للأُمّة على ذلك دليل على رضاه به ، ورضاه به دليل على أنه حقّ لا يحتمل النقيض.

هذا ، وكم إجماع حصل عند أفاضل العلماء وتواتر ثبت لديهم بأقلّ ممّا ثبت به تواتر قراءة السبعة وأنّها إجماع بكثير (٢). وبذلك تبيّن تواتر قراءة كلّ واحد من السبعة بالنصّ (٣) والإجماع الذي لا شكّ فيه.

وأيضاً فممّا لا ينبغي بل لا يمكن الشكّ فيه أن القرآن قطعيّ المتن ، وأن ذلك إجماع ، وهو فرع تواتره ، فلا بدّ فيه من قراءة متواترة. وهذا في غير السبع ممنوع ؛ لعدم الدليل عليه ، فانحصر المتواتر فيها.

وأيضاً يلزم القائل بعدم تواتر السبع أنه لا متواتر في شي‌ء من القراءات ، فينسدّ

__________________

(١) في المخطوط : ( شوبه ).

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) وسائل الشيعة ٦ : ١٦٢ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٧٤.

٢١١

باب العلم بأنّ شيئاً منها كلام الله ، فتبطل [ حججه (١) ] أجمع.

نعم قال الشيخ الرضيّ : ( لا نسلّم تواتر كلّ واحدة من قراءة السبعة ) وهذا إن أراد به أن المتواتر منها ما اجتمعت السبعة عليه دون ما اختلفوا فيه ، فقد خرج بهذا شطر القرآن أو نحوه عن كونه قرآناً على اليقين ، والظنّ لا يغني هنا شيئاً ؛ فلا يحترم ، ولا يجوز الاستدلال به ولا قراءته في الواجب. وهذا ضروريّ الفساد من وجوه ، ومستلزم للتكليف بالمجهول ، ومخالف لضروريّ الملّة ، فضلاً عن المذهب ، مع أن الطريق الذي ثبت به تواتر ما اتّفقوا عليه حاصلٌ فيما اختلفوا فيه ؛ فإنّ مجرّد اتّفاقهم لا يدلّ على تواتر ما اتّفقوا عليه.

وإن أراد أن المتواتر هو ما اتّفقوا عليه وأحد ما اختلفوا فيه غير معلوم بعينه ، لزم التكليف بالمحال وحجّيّة ما لا سبيل إلى معرفته والاستدلال بما لا يستطاع التوصّل إليه على كلّ حال. فشطر القرآن لا يعلم كونه قرآناً ؛ إذ كلّ واحدة من قراءة السبعة مشكوك في كونها قرآناً وفي تواترها.

نعم ، هذا ينطبق على القول بأنّ الحقّ واحد غير معلوم ، وهذا ضروريّ البطلان إجماعاً.

وإن أراد معنًى غير هذا فهو أعلم به.

وبالجملة ، فظاهر هذا الكلام اجتهاد في مقابلة الدليل ، ومنعٌ للدليل بلا دليل ، فإنّ جميع الأُمّة منذ كُتبت المصاحف العثمانيّة إلى عصرنا هذا مطبقة على اليقين من حرّها وعبدها ، ذكرها وأُنثاها ، صغيرها وكبيرها ، جاهلها وعالمها ، مؤمنها ومسلمها أن ما بين الدفتين كلام الله ، وأنه يجب احترامه وتعظيمه ، وأنه لا يمسّه إلّا المطهّرون ، وعلى أنه كلّه حجّة ودليل ومعجزة في سائر الأعصار والأمصار.

فلو فرض أن الرضيّ : مخالف في جزئيّ وحاشاه لم يضرّ بالإجماع الذي سبقه ولحقه وعاصره.

__________________

(١) في المخطوط : ( حجية ).

٢١٢

فثبت بما قرّرناه تواتر كلّ واحدة من قراءات السبعة بلا شكّ ، ولا نسلّم تواتر العشرة.

وقد وقفتُ بعد هذه الكتابة على كلام للنيسابوري : في تفسيره يؤيّدها قال : ( القراءات السبع متواترة ، لا بمعنى أن سبب تواترها إطباق القرّاء السبعة عليها ، بل بمعنى أن ثبوت التواتر بالنسبة إلى المتّفق قراءته كثبوته بالنسبة إلى كلّ من المختلَف في قراءته ، ولا مدخل للقارئ في ذلك إلّا من حيث أن مباشرته لقراءته أكثر من مباشرته لغيرها ، حتّى نسبت إليه. وإنّما قلنا : إن القراءات السبع متواترة ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان بعضٌ غير متواتر كـ ( ملك ) ، ( ومالك ) (١) ونحوهما ؛ إذ لا سبيل إلى كون كليهما غير متواتر ، فإنّ أحدهما قرآن بالاتّفاق. وتخصيص أحدهما بأنه متواتر دون الآخر تحكّم باطل ؛ لاستوائهما في النقل ، فلا أولويّة به ، فكلاهما متواتر ، وإنّما يثبت التواتر فيما ليس من قبيل الأداء كالمدّ ، والإمالة ، وتخفيف الهمزة ، ونحوها ) (٢) ، انتهى.

وهو موافق لما قلناه وإن كان في استثناء بعض ما استثناه نظر ، والله العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الحمد : ٤.

(٢) تفسير غرائب القرآن ١ : ٢٣.

٢١٣
٢١٤

[٧٢]

نور فرقاني وضياء

بياني ( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً )

قوله تعالى في سورة ( النساء ) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً ) (١).

قلت : لعلّ المراد : نفي أن يكون للذين أُوتوا نصيباً من الكتاب نصيب من الملك الحقيقيّ ؛ بدلالة الاستفهام الإنكاريّ ، فمن ليس له نصيب من ملك لا يفيض منه جود ولا وجود بوجه أصلاً. فإذا عجز الإنسان عن نفع نفسِهِ فمن أين يأتي مَن يلوذ به النفع؟ وذلك أن المُلك لله الواحد القهّار ، فلا جود ولا وجود إلّا من لدنه ؛ إذ لا ملك إلّا له. ومن ليس له ملك بوجه وهو في ذاته معدم فقير لا يؤتي النقير. بل المعطي هو المالك حقيقةً وإن كان في صورة الظاهر من ذلك عطاء ، فلا يرد ما أورده النيسابوري (٢) : من أنّا نجدهم يعطون في حال عدم ملكهم ، ومن كان في حال ملكه بخيلاً فهو في حال عدمه أبخل.

هذا إنْ ارجع الضمير المجرور باللام إلى الذين ، أمّا لو رجع إلى ( بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ ) لم يرد الإيراد من أصله ؛ لأنّ الجبت والطاغوت من حيث هما كذلك لم

__________________

(١) النساء : ٥١ ـ ٥٣.

(٢) تفسير غرائب القرآن ٢ : ٤٢٧.

٢١٥

يصدر منهما إيتاء بوجه أصلاً ، مع أنه لو أُورد عليه الإيراد جرى فيه الجواب.

لنا أن نقول : الآية خاصّة بأعداء آل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الناس هم آل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا اعتراض ، والله أعلم بالصواب.

٢١٦

[٧٣]

فصّ يماني ونور برهاني : برهان العصمة (١)

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم في جميع حالاته ، حتّى عن السهو والغلط ؛ وذلك لأنه رسول الله : مطلقاً في جميع حالاته وحركاته وسكناته فلا ينطق عن الهوى ، ولا يسكن ولا يتحرك إلّا بوحي يوحى ، فلا يصدر إلّا عن الله عزوجل ، فهو رسول الله : في جميع حالاته ، بل وبكل جوارحه. والعاصي والساهي والغافل وشبهه من غيبة السكر والإغماء ، بل والنوم من حيث المتعارف منها ، جميع أفعالهم من حيث هم كذلك ، ليست عن الله ولا ينطقون عنه ولا بوحيه ، فليس العاصي والساهي وشبههما رسول الله في تلك الحال من الجهة ، وقد كان الرسول رسول الله في جميع حالاته مطلقاً من كلّ وجه ؛ إذ لا يصحّ تجزّؤه لأنه كلّه لله ، هذا خلف. وهذا بعينه جارٍ في الخليفة والإمام حرفاً بحرفٍ ، والله العالم.

__________________

(١) مرّ هذا في العنوان : ٨.

٢١٧
٢١٨

[٧٤]

تعشير وتخميس فيه

تزكية وتقديس : الفرق بين الزكاة والخمس

مسألة : ما الفرق بين الزكاة والخمس ؛ حتّى كانت الزكاة أوساخ الناس وحرمت على بني هاشم وأهل البيت عليهم‌السلام دون الخمس حتّى خصهم الله بالخمس وحرّم عليهم الزكاة مع أنّهما مشتركان في أن كلّاً منهما جزء من مال الناس؟

قلت وبالله الاعتصام ـ : لعلّ الفرق بطريقين :

أحدهما : أن الزكاة لا تخلو من شوب امتنان ؛ لأنّها بالعاملة أشبه ، ولذا سمّيت صدقة ، والصدقة لا تخلو من شائبة انكسار في نفس المتصدّق عليه ، والخمس حصّة على سبيل الشركة والاختصاص ؛ فالخمس بحقوق الشركاء أشبه ، وهي بحقوق واجبي النفقة أشبه. وأكثر الطباع تشحّ بأطايب المال في الصدقة ، وتحرص على الاختصاص به وعلى اصطفائه ، فلذا خفّف الله عنهم وأمر بترك أخذ كرائم الأموال في الزكاة ، فأطلق عليها أوساخاً أي فضلات والخمس حصّة شائعة تؤخذ من كلّ عين ، بل خصّ الإمام بالأنفال وبصفو المال.

الثاني : أن هذا العالم الذي أُمر فيه بإخراج الزكاة والخمس لمّا كان عالم الخلط والمزج كان كلّ ما يزكّى فيه قسطاً من الحلو وآخر من المالح ، وقسطاً من الطيّب وآخر من الخبيث.

٢١٩

يدلّ على ذلك حديث غرْس آدم ونوح عليهما‌السلام للكرم والحبلة (١) ، فما غرسا غرساً إلّا ولإبليس : لعنه الله فيه نصيب (٢) ، فجعلت الزكاة في مقابلة سهم الشيطان ، فكانت أوساخاً ، وكان الخمس في مقابلة سهم آدم عليه‌السلام ، فكان ملكاً صافياً لا درن فيه ، وكان كلّ منهما بالقدر المعين ، لعلّة كون ذاك صرفاً خالصاً أو هو خالص في الخمس ، وفي الزكاة كفى المقدّر لخلوصه وما زاد. وإن أُشيب فقد أُبيح لطفاً ورحمةً وعفواً ، أو لكفاية المقدّر في رفع ضرورة المضطر ، فهي تشبه أكل الميتة وهي اولى منها من وجوه ، فأُبيحت للمضطرّ بقدر دفعها. والخمس لله ولرسوله وأهل بيته مع الغناء الحقيقي ، ولباقي الأصناف معاً فأُعطوا ما يكفيهم ؛ لأنهم عيال الإمام. هذا على سبيل الإجمال ، والله العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الحَبَلة : بالتحريك ، وربما يسكّن : القضيب من الكرم. والصحاح ٤ : ١٦٦٥ حبل.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٨٤ / ٤٠ ، وفيه غرس نوح عليه‌السلام للحبلة دون آدم عليه‌السلام ، الكافي ٦ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤ / ٢ ، ٣٩٤ / ٣.

٢٢٠