تبصرة الفقهاء - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

تبصرة الفقهاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: السيد صادق الحسيني الإشكوري
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-988-000-6
ISBN الدورة:
978-964-988-003-7

الصفحات: ٥٢٨

الفعل إلى أمر الآمر المعتبر في صدق الامتثال إليه

خامسها : أن يكون كلّ من قصد القربة والرياء مستقلّاً بمعنى أنّه لو انفرد كلّ منهما كفى في البعث على الفعل ولا تأمّل أيضا ؛ إذ هو أيضا من الإشراك في العبارة ، وربّما نفصّل فيه بما يأتي الإشارة إليه ) (١).

سادسها : الصورة بحالها إلّا أنّ الباعث إلى صرفها غير الرياء من سائر المقاصد.

وفي صحّة العمل حينئذ وجهان ؛ من استقلال القربة وعدم حصول الاشراك المنهيّ عنه في العبادة ، ومن منافاته للإخلاص المعتبر في العمل.

وكأنّه الأظهر ؛ نظرا إلى أنّ الظاهر استناد الفعل إلى الجهتين ، فاستقلال القربة إنّما هو بالفرض ، وإلّا لزم توارد العلّتين على معلول واحد.

نعم ، لو كانت القربة سببا مستقلا بالفعل على البعث وكانت سببيّة الآخر فرضا محضا بمعنى أنّه لو خلا القصد عن الأوّل لأثر الآخر قوي الصحة ؛ لكونه إذن من المقارنات الصرفة ؛ إذ المفروض عدم استناد ذلك الفعل إليه بوجه ، فلا منافاة فيه للفرض.

ويجرى الوجه المذكور في الصورة السابقة أيضا ، وفيها أيضا يتقوّى البناء على الصحة.

سابعها : (٢) أن يكون قصد الامتثال مستقلّا ويضمّ إليه قصد الرّياء من غير استقلاله في البعث.

وفيه وجهان.

واستقرب العلّامة الحلي فيه صحّة العمل ، وحكى القول به عن بعض المحقّقين ؛ حملا لما دلّ على حرمة الترك في العبادة وأنّه تعالى خير شريك يدع كلّ العمل لشريكه على غير هذه الصورة ممّا لا يستقلّ فيه القربة إنّما هو على فرض خلوّ القصد عن الأخير.

نعم ، لو استند الفعل إلى محض القربة وكان الآخر مجرّد خطور بالبال عن غير تعيينه منه على الفعل فعلا قوي فيه الصحّة كما قدّمنا ؛ لحصول الخلوص معه.

__________________

(١) ما بين الهلالين لم ترد إلّا في ( د ).

(٢) في النسخ : « سادسها ».

٤٦١

ثامنها : (١) الصورة بحالها مع تبديل قصد الرياء بسائر القصود ممّا عدا القربة.

واحتمال الصحّة هنا أقوى من السابق ؛ لعدم اندراجه فيما دلّ على حرمة الرّياء ، وكذا ما دلّ على المنع من الاشتراك في العمل ؛ إذ الظاهر منه ارادة خصوص الرياء أيضا.

والأظهر فيه الفساد أيضا ؛ لعدم الخلوص معه إلّا مع عدم كونه دخيلا في البحث على الفعل بوجه كما أشرنا إليه.

فظهر بما ذكرنا عدم البأس بالضميمة في الصور المذكورة مع خلوّها عن تأثير في البعث سواء كانت ريائيّة أو غيرها ومنعها عن الصحة معه من غير فرق بينهما أيضا ، فلا يمنع صحة العمل صيرورة على اطلاع الغير على عمله حال الفعل ولا بعده ، وكذا مجرد حبّه لاختيار الناس به إلّا أنّ ذلك قلّما يخلو من داعية الرياء ومداخل الشيطان فيه في غاية الخفاء ، وقد جعل الرياء في العمل أخفى من دبيب النمل على الصفا.

ولذا عدّ ذلك من علامات المرائين وليس الاتّصاف به من صفات المتّقين.

هذا ، ولو كانت الضميمة راجحة في الشرع وكان الباعث على ملاحظتها رجحانها لم يمنع من الصحة ، بل كانت مؤكدة للقربة لحصول الامتثال إذن من وجهين كما لو تجاهر بالعبادة لرغبة الناس في العمل واقتدائهم به في ذلك أو كانت الضميمة إجابة المؤمن.

وكذا لو لاحظ في اجتهاده في العبادة تعظيمه في قلوب المكلّفين يستعين (٢) بهم على قضاء حوائج المؤمنين على إشكال فيه.

وكذا الحال في التقيّة ، فإن كان الداعي عليه إلى فعلها مجرّد القربة حيث إن مطلوب الشرع هو إيقاع الفعل على ذلك الوجه ، فالأمر واضح وإن دعاه إلى الفعل مجرّد الخوف بحيث لو لا خوفه لم يتلبس بالفعل مطلقا ، فالظاهر فساد العمل لانتفاء القربة.

ولو كان الخوف ضميمة مع استقلال القربة سواء كان مستقلا أيضا أو (٣) لا احتمل (٤) قويّا

__________________

(١) في النسخ المخطوطة : « سابعها ».

(٢) في ( د ) : « ليستعين ».

(٣) في ( ألف ) : « و ».

(٤) في ( ب ) : « احتمال ».

٤٦٢

البناء على الصحة ، وإن قلنا بالتعيين بالنسبة إلى سائر الضمائم ؛ لإطلاق ما دلّ على صحة العمل مع التقيّة ، وعدم انفكاكها في كثير من الأحوال بالنسبة إلى كثير من الناس عن ذلك ، فلو كان العمل فاسدا معها لأشير إليه في الأخبار.

ولو كان الداعي إلى نفس الفعل مجرّد القربة وإلى أدائه من غير ملاحظة القربة فيه بطريق التقيّة مجرّد الخوف ففيه وجهان.

وقضيّة ما ذكرناه من الإطلاق البناء على الصحّة أيضا إلّا أنّه لا يخلو عن إشكال.

ثمّ إنّه لا فرق في الحكم بين تعلّق الرّياء بالواجب أو الندب أو (٥) الجزء الواجب بين الواجب أو الندب أو الكيفيّة الواجبة أو المندوبة.

وقد يقال بالرياء في الجزء أنّما يقضي بفساده خاصّة ، فلا وجه للقول بتسرية الفساد إلى الكل.

نعم ، إن تعلّق الرياء بالكلّ بواسطة ذلك أو كان من الأذكار الموجبة حرمتها لإلحاقها بالكلام المفسد للصلاة أو اقتصر على ذلك الجزء مع وجوبه قضي بالفساد من تلك الجهات.

قلت : الظاهر تسرية الرياء غالبا إلى أصل الفعل في كلّ موضع يكون الأجزاء منه مرتبطا بعضها بالبعض نظرا إلى وحدة الفعل إذن في العرف.

نعم ، لو فرض عدم تسرية الرياء منه إلى أصل الفعل كما إذا قصد الرياء لجزء من دون ملاحظة ذلك في خصوص ما أتاه من الكلّ قوي الصحّة مع إعادة الجزء إذا كان واجبا ولو تعلّق الرياء ببعض الأمور المكمّلة للفعل كما ترك بعض الأمور.

__________________

(٥) لم ترد في ( ب ) : « أو الجزء ... الندم ».

٤٦٣

تبصرة

في (١) بيان كيفيّة النيّة في الوضوء

وقد اختلفوا فيها على أقوال :

أحدها : الاكتفاء بمطلق القربة ، وعزي إلى الشيخين والبصروي وابن طاوس في البشرى. وإليه يرجع ما حكي عن الجعفي والديلمي من الاكتفاء بمطلق النيّة.

ثانيها : اعتبار قصد رفع الحدث واستباحة الصلاة ، وإن حكاه في الذكرى قولا آخر أو غيرهما ممّا يشترط به. وظاهر هذا القول اعتبار القربة أيضا ؛ إذ قد عرفت أنّه لا خلاف فيه. وقد نصّ عليه بعض من يقول به ، وحكي القول به عن المحقق.

ثالثها : اعتبار قصد الاستباحة فقط. حكي عن السيد ، والظاهر اعتباره قصد القربة معه أيضا وإن ترك ذلك في النسبة إليه.

رابعها : اعتبار الجمع بين القربة والوجه والرفع والاستباحة. وعزي إلى الحلبي والقاضي والراوندي. واختاره من المتأخرين المحقّق الجزائري مع دعوى اتّحاد رفع الحدث واستباحة الصلاة. وحكي عن الحلبي.

والأقوى الأوّل ؛ أخذا بالإطلاقات مع عدم قيام شاهد على اعتبار شي‌ء من المذكورات ؛ إذ لا دليل في المقام سوى ما دلّ على اعتبار النيّة في مطلق العبادة ، وغاية ما يقتضيه ذلك كما عرفت هو تعيين نوع الفعل وكون الداعي إليه امتثال الأمر والمفروض في المقام حصول الثاني ، والأوّل حاصل بقصد مطلق الوضوء ؛ إذ الظاهر من الشرع أنّه عمل واحد وفعل متميّز من سائر الأفعال لا إجمال فيه بحيث يندرج تحته أنواع متعدّدة كالصلاة

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « المقام الثاني في .. ».

٤٦٤

والصوم وإعطاء الفقير الشامل للزكاة والصدقة وغيرهما. وهذا ممّا لا يكاد يخفى على من تأمّل في الأخبار ، وكلام العلماء الأبرار ، وينادي به المعلوم من حال المتشرّعة والتامّل في موارد التسمية.

نعم ، إنّما يختلف بحسب اختلاف الصفات والغايات الملحوظة فيه ، وهي أمور خارجة عن حقيقة غير مقوّمة لماهيّة. وفي كلام بعض الأعلام أنّ غسل تلك الأعضاء يمكن أن يقع على وجوه شتّى منها التنظيف ومنها غيره من أنواع الوضوء ، فالوضوء لغة النظافة ، فإذا قصد به القربة كان مثابا عليه كما ذكروه في إزالة النجاسات من أنّه يثاب عليها بذلك القصد ، فإذا قال « أتوضّأ قربة إلى الله » فمعناه أنّي أنظّف هذه الأعضاء لتحصيل القرب ، وهذا ليس من وضوء الصلاة في شي‌ء إجماعا.

ثمّ قرّر أنّه لا فرق بين معنى الوضوء لغة وشرعا إلّا النيّة ، وذلك أن الوضوء للصلاة تنظيف خاص لبعض الأعضاء وليس مجرّد القرب إلى الله تعالى فارقا ؛ لأنّه حاصل غالبا ، وغير غالب في الوضوء اللغويّ كما عرفت.

فلا يكون بينهما فارق سوى أنّ الوضوء تنظيف بهذه الأعضاء الخاصّة لفعل خاصّ كالصلاة مثلا ممّن لا يخطر بباله حال الوضوء لم يكن قد أتى بالواجب الشرعيّ على وجهه.

أقول : ما ذكره بيّن الاندفاع ؛ إذ لا تأمّل لأحد في لزوم قصد الوضوء أعني الأفعال المخصوصة الموضوعة في الشرع ، فلا يكفي في حصوله مجرد قصد غسل الأعضاء المعلومة وإن ضمّ إليه قصد القربة ، بلا خلاف فيه (١) في عدم تسميته بالوضوء.

والكلام إنّما هو في الاكتفاء بذلك مع عدم ضمّ قصد الرفع أو الاستباحة ، والقول بانحصار جهة التعيين في قصد الغاية المخصوصة بيّن الفساد ؛ إذ الوضوء الشرعي أمر متميّز لا اشتراك فيه فمجرّد قصده كاف في تعيينه وإن لم ينو شيئا من غاياته.

وقد يتوهّم أنّه مع جواز وقوع الوضوء على كلّ من جهتي الوجوب والندب فيما إذا كان

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « و ».

٤٦٥

هناك جهة موجبة وأخرى مرجّحة لا يقع الفعل واجبا ولا مندوبا من دون تعيين أحد الوجهين ؛ إذ انصرافه إلى أحدهما ترجيح من غير مرجّح ، وأيضا مع قصد مطلق القربة من دون تعيين (١) الجهتين لا يكون امتثالا لشي‌ء من الطلبين ، وليس القدر المشترك بين الحكمين تكليفا واردا من الشرع ، فيكون ذلك امتثالا له.

ويدفع الأوّل أنّه مع حصول جهة الوجوب يقع واجبا في الواقع وإن لم يكن بملاحظة الغاية المتداولة واجبا ، وعدم ملاحظة الغاية الواجبة لا يخرجه عن الوجوب. ألا ترى أنّ سائر الواجبات النفسيّة من غير العبادات لو أتى بها المكلّف لا من جهة امتثال الأمر قد أتى بالواجب واتّصف به (٢) فعله بالوجوب وإن لم يكن ممتثلا لإطلاق متعلّق الأمر بالنسبة إليها ، إذ ليس المأمور به فيها إلّا الإتيان بالفعل لا خصوص الاتيان به مقيّدا بقصد الامتثال كما في العبادات ؛ إذ لا دليل على ذلك التقييد.

والقول بانصراف الأمر عرفا إلى ذلك في حيّز المنع ، بل واضح الفساد ، وإلّا لما كان فرق بين العبادة وغيرها أو كان الأصل في جميع التكاليف الشرعيّة وغيرها أن تكون عبادات مشروطة بقصد الامتثال إلّا ما خرج بالدليل ومن الظاهر خلافه.

وما قد يتخيّل من أنّها المقدّمة لو كانت واجبة مع خلوّها عن قصد التوصّل بها إلى ذيها يصحّ إذن قصد التقرّب بها كما هو الشأن في سائر الواجبات بل الرجحان (٣) وفساده كاشف عن بعد وجوبها الغيري بما إذا لوحظ الوصلة بها إلى الواجب ، مدفوع بأنّه لا شبهة في تقييد إيجاب المقدّمة بملاحظة ذيها ، فوجوبها أيضا إنّما يكون بتلك الملاحظة ، لكن ملاحظة الأمر ذلك في إيجابها لا يقتضي تقييد فعل الفاعل بذلك ليكون الواجب عليه إيقاعها على ذلك الوجه ؛ إذ لا

__________________

(١) الزيادة من ( ب ) : « أحد الوجهين إذ انصرافه إلى » ، وفي ( د ) زيادة على ذلك : « أحدهما ترجيح من غير مرجّح وأيضا مع قصد مطلق القربة من دون تعيين إحدى ».

(٢) لم ترد في ( د ) : « به ».

(٣) في ( د ) : « الراجحات ».

٤٦٦

ملازمة بين الأمرين قصد (١) التقرّب بها يتوقّف على تلك الملازمة (٢) وإن لم يتوقّف عليه الحكم بوجوب أصل الفعل.

ويجري نحوه في الواجبات النفسيّة كما إذا أمر المولى (٣) بإكرام صالح فأكرم صالحا لا من جهة صلاحه لم يكن ممتثلا ، ولا صحّ منه التقرب به إليه وإن اتّصف أصل فعله بالوجوب.

والحاصل فرق بيّن بين امتثال الأمر والاتيان بالواجب ؛ لاختصاص الأوّل بما قصد به الامتثال دون الآخر ، وإنّما يصحّ التقرّب مع حصول الامتثال لا غير. ثمّ إنّ الّذي يظهر من إمعان النظر في الأدلّة أنّ المعتبر في العبادة ليس إلّا القربة وملاحظة جهة الامتثال لا غير ، سواء لوحظ الأمر الخاص بتلك العبادة أو غيرها مع اتّحاد نوع الفعل كما إذا أعاد الحاضرة المؤدّاة فرادى جماعة على وجه الندب ، فانكشف بعدها فساد الأوّل ، فإنّ الأظهر صحّة الصلاة وإجزائها عن الفرض وإن لم يقصد بها الوجوب لعدم اعتبار قصد الوجه ، وقوله تعالى ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ ) (٤) لا يدلّ على أزيد من اعتبار قصد القربة الامتثال.

نعم ، ما دلّ على وجوب الاطاعة وربّما يفيد ذلك إلّا أنّه مع ايقاعه متعلّق الأمر (٥) بقاء للأمر ، فلا مصداق إذن للإطاعة والامتثال ، واحتمال تقييد إطلاق الأمر بما دلّ على وجوب الاطاعة ليكون المأمور به خصوص الفعل بقصد الامتثال ( ممّا لا دليل عليه غاية ما يسلّم أن يكون هناك تكليفان فيسقط الثاني بعد الإتيان بالفعل لا بقصد الامتثال ) (٦).

وهذا هو الوجه في عدم وجوب اعادة غير العبادات إذا أدّاها بغير قصد الامتثال ، فاندفع بذلك الايراد الأخير أيضا ؛ للاجتزاء بالوضوء المفروض عن التكليفين وإن لم يكن امتثالا لخصوص كلّ من الأمرين ؛ إذ مجرّد قصد الامتثال الحاصل مع العلم بكونه راجحا عند

__________________

(١) في ( د ) : « فقصد ».

(٢) في ( ب ) و ( د ) : « الملاحظه ».

(٣) زيادة في ( د ) : « عبده ».

(٤) البينة : ٥.

(٥) زيادة في ( د ) : « لا ».

(٦) ما بين الهلالين وردت في ( ب ) و ( د ).

٤٦٧

الأمر كاف في الصحّة كما عرفت.

وقد يقال إنّ محصّل الاستدلال على الصحّة هو التمسّك بالإطلاقات ، وهي لا تنهض مع الشكّ في الصحّة مع الخلوّ عن قصد الوجه والغاية بناء على كون أسامي العبادات بإزاء الصحّة (١) المستجمعة لشرائط الصحّة كما هو الأظهر ، فالواجب إذن بعد اليأس عن دليل الصحّة هو الاتيان بالشرط المشكوك.

ويدفعه ورود بيان الوضوء في عدّة أخبار مع خلوّه عن الاعتبار المذكور ، فلا إجمال فيه بعد ذلك ليجب الاحتياط على أنّ ذلك لا يجري فيما إذا قصد أحد الغايات الّتي يستحبّ الوضوء لها ، فاعتبار خصوص الرّفع أو استباحة الصلاة لا دليل عليها (٢) بوجه ، والوجه في اعتبار قصد الوجه قد مرّ بيانه.

وما يدلّ على وهنه.

وقد يستدلّ على اعتبار قصد الاستباحة بأمور :

منها : ظاهر الآية الشريفة ، فإنّ المستفاد منها ملاحظة الغاية المخصوصة في أداء الصلاة كما هو الظاهر من نظائره كقولك « إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك ، وإذا أردت لقاء العدوّ فخذ سلاحك » إلى غير ذلك ، فإذا أوقعه لا بقصده لم يكن ممتثلا للأمر المذكور ، وفيه فالواجب ايقاع الوضوء لأجل الصلاة.

وفيه أنّ المستفاد من التعليق المذكور هو كون العلّة في الطلب هو الغير أي أنّ مطلوبيّته لأجل الغير والتوصل إليه ، وأين ذلك من تقييد نفس المطلوب بأن يكون المقصود خصوص إيجاده بقصد الغير وبينهما من البون ما لا يخفى.

ومنها : أنّ قضية امتثال الأمر الإتيان به على النحو المطلوب وإلّا لم يكن إطاعة ، فلو أتى بالواجب الغيري من حيث كونه نفسيا ومطلوبا بالأصالة لم يكن ممتثلا للأمر المتعلّق به ولا مطيعا ، وكذا العكس ، والوضوء كما مرّ من الواجبات الغيريّة ، فلا بدّ فيه من ملاحظة الغير

__________________

(١) في ( د ) : « الصحيحة ».

(٢) في ( د ) : « عليه ».

٤٦٨

مضافا إلى كونه واجبا بالأصالة أيضا على بعض الفروض ، فكيف يصحّ إطلاق النيّة من دون تعيين أحد الوجهين بل وتعيين الغاية المخصوصة ؛ إذ العبادة المشتركة إنّما تقع مجزئة عن أحد أفرادها بالقصد والنيّة.

ويدفعه أنّ عدم صدق الامتثال لا يعطي بقاء التكليف إلّا أن يقال بتعدّد أنواع الوضوء أو (١) اعتبار الجهة التقييديّة في المطلوب.

وقد عرفت فساد الأمرين ، فغاية ما يقتضيه عدم الامتثال عدم ترتّب الثواب المعدّ للوضوء المخصوص عليه ، وذلك لا يقضي بعدم الإتيان بالواجب ؛ لما عرفت من الفرق الظاهر بين الأمرين.

مضافا إلى أنّ امتثال الأمر حاصل (٢) مع قصد المأمور به إجمالا وإن لم ينو خصوص الجهة المأخوذة فيه إذا لم ينو خلافه كما إذا نوى ما في ذمته كائنا ما كان ، فلا يفيد ذلك اعتبار خصوص قصد الاستباحة.

ومنها : أنّ قوله عليه‌السلام في الحديث المتواتر : « إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (٣) يعطي أنّ صحة الأعمال وكمالها إنّما يناط بنيّاتها ، فكلّ عمل لا يقع على النيّة المطلوبة لا يكون صحيحا والمطلوب من وضوء الصلاة أن يكون ذلك الوضوء لأجلها ، ولا يكون كذلك إلا إذا وقع تقييدها.

وفيه : أنّ الروايتين مسوقتان ظاهر [ ا ] لبيان دوران الأعمال على حسب تلك النيّات ، ولو سلّم شمولها لغير ذلك أيضا ، فغاية (٤) ما يستفاد منها انحصار الواقع في المنويّ ، وهو لا يقتضي بقاء التكليف بغيره إلّا بأحد الوجهين المتقدمين. وقد مرّ فسادهما.

ومنها : ما ورد في الأحاديث المتكثّرة من الأمر بالوضوء للصلاة ، والمستفاد منها إيقاع

__________________

(١) في ( د ) : « إذ ».

(٢) في ( ألف ) : « الحاصل ».

(٣) دعائم الإسلام ١ / ٤.

(٤) في ( ب ) : « وغاية ».

٤٦٩

الوضوء لأجل الصلاة ، فمتى أوقعه من غير قصد الصلاة لم يتحقّق ذلك.

وفيه : أنّا لم نظفر بالأخبار المتكثّرة المنقولة.

نعم ، في بعض الأخبار أنّ الله فرض الطهور للصلاة ، وحمله على ما ذكره غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه ؛ إذ المنساق منها خصوص كون الصلاة عليه ؛ لوجوب الطهور كما ورد في غير واحد من أخبار علل الوضوء ، وهو لا يعطي ملاحظة الجهة التقييديّة في الفعل بوجه من الوجوه ، ولو كان هناك في الأخبار نحو ما ذكره فحملها على ما ذكره غير بعيد أيضا.

إذا عرفت ذلك يتبيّن لك الاكتفاء بالوضوء الواقع على جهة القربة المطلقة سواء قارنه قصد الرفع أو استباحة الصلاة فريضة أو نافلة أو غيرها من الغايات المطلوبة فيها ارتفاع الحدث وجوبا أو استحبابا أو غيرها أو كانت خالية عنها ، فارتفاع الحدث واستباحة الصلاة مانعان لفعله ، ولا فرق بين إطلاقه رفع الحدث أو قصد خصوص حدث معلوم مع وجود غيره أو عدمه.

ولو عيّنه والواقع غيره فالظاهر الإجزاء مع كونه خطأ. واستقرب الفساد في البيان.

ولو كان عمدا ففيه وجهان كما لو نوى عدم ارتفاع الحدث به ، وكذا (١) لو اعتقد عدم ارتفاع الحدث به كما لو توهّم أنّه جنب فتوضّأ للأكل ، ثمّ تبيّن خلافه.

وقضية الإطلاقات فيه الاجتزاء ، فيقوى بها البناء على الصحة في الجميع.

وقد يتخيّل اختلاف وضوء الجنب ونحوه لسائر الوضوءات الرافعة في النوع حيث إنّه وضوء صوريّ لا غير بخلاف غيرها.

وفيه بعد.

وأمّا الواقع على جهة التجديد إذا تبيّن فساد الأوّل فقد يقال فيه أيضا بنحو ذلك إلّا أنّ البناء فيه على الاجتزاء هو الأقوى ؛ لما عرفت. وكأن العلّة المشرعة لتجديد احتمال وقوع الحدث عنه ليجوز الطهارة الواقعيّة.

__________________

(١) لم ترد في ( ب ) : « وكذا ... الحدث به ».

٤٧٠

وذهب بعضهم إلى عدم الاكتفاء به ، ويضعّفه ما مرّ. ولو قصد استباحة فريضة بعينها فلا إشكال في استباحة غيرها من الفرائض وكذا الحال لو نرى استباحة النافلة ، ونفى عنه الخلاف في كلام بعض المتأخرين. ولو نرى عدم استباحة تلك الصلاة ففي صحة الوضوء وجهان.

وقطع في البيان بالفساد.

ويحتمل قويّا إلقاء النفي أو ما يستباح به صلاة معيّنة هو بعينه ما يستباح به غيرها ، ولو نوى استباحة ما يشترط بالطهارة ما عدا الصلاة كالطواف الواجب فالمشهور استباحة الصلاة به أيضا.

وعن الشيخ وظاهر الحلي عدم الاجتزاء به. وهو ضعيف.

ولو نوى سائر الغايات ممّا لا يشترط بالوضوء فهناك أقوال :

ثالثها : الاكتفاء مع تعيين الغاية دون ما لو أطلق ولم يقصد غاية مخصوصة.

رابعها : التفصيل بين ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث كقراءة القرآن وما ليس كذلك كالتجديد.

خامسها : التفصيل بين ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث قصدا لكمال الغاية المنويّة وما لا يستحب له الطهارة أو يستحب لا مع قصد الكمال.

وعن بعضهم زيادة قصد الكون على الطهارة ، فيجزي فيه أيضا.

وكلّ هذه الأقوال مبتنية على أمور اعتباريّة لا تنهض حجّة في المطالب الشرعيّة.

وممّا يدلّ على ما قلناه من الاجتزاء بذلك في الفريضة إطلاق الطهارة والتطهير ونحوهما على كثير من الوضوءات المذكورة ، وهو قاض بحصول ارتفاع الحدث بها ، فلا مانع إذن من الدخول بها في الصلاة.

وقد يقال باختلاف الأحداث بالنسبة إلى الأفعال ، فلا يفيد ارتفاعه بالنسبة إلى الفعل المنويّ ارتفاعه بالنظر إلى غيره سيّما مع كون عناية الشرع بغيره أقوى ، وهو بمكان من البعد كما لا يخفى على من لاحظ الطريقة المألوفة وتأمل في سياق الأخبار المأثورة.

٤٧١

وقد يحتجّ بعدم الاكتفاء بها في الصلاة بالآية الشريفة ؛ لقضائها بوجوب الوضوء عند القيام إلى كلّ صلاة خرج عنه ما قام الدليل عليه وبقي غيره ، وبقوله عليه‌السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (١) ؛ لاقتضائه بوجوب الوضوء ، ولو كان متوضأ لغير الصلاة.

وفيه : أنّ الآية مخصوصة بالمحدثين سيّما مع ستر القيام فيها بالقيام من النوم كما في الموثّق وغيره ، ويجري نحو ذلك في الرواية مضافا إلى عدم دلالتها سيّما الأخير على اعتبار الجهة التقييدية في فعل الوضوء ، فيعمّ ما لو أوقعه لأحد الغايات المذكورة أيضا ، فتأمل.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٣ ، باب وقت وجوب الطهور ، ح ٦٧.

٤٧٢

تبصرة

[ في غسل الوجه واليدين ]

من أفعال الوضوء غسل الوجه بالنصّ والإجماع بل الضرورة من الدين.

وحدّ الوجه طولا من قصاص الشعر إلى طول الذّقن بلا خلاف فيه ظاهر.

وفي التذكرة الإجماع عليه.

وفي القوي : كتبت إلى الرضا عليه‌السلام أسأله عن حد الوجه؟ فكتب : « من أوّل الشعر إلى آخر الوجه وكذلك الجبينين » (١).

ويعتبر القصاص ممّا يحاذى الجبهة والجنبين ، فلا عبرة بالقصاص من عند الزغبتين ؛ إذ لا قائل ظاهرا بوجوب غسلهما.

وظاهر بعض المتأخرين حكاية الإجماع عليه.

وعرضا ما حواه الإبهام والوسطى ممّا يمرّان عليه من ظاهر الوجه من القصاص إلى آخر الذقن على المعروف بين الأصحاب ؛ للصحيح المروي عن الباقر عليه‌السلام : « الوجه الذي قال الله عزوجل وأمر الله تعالى بغسله الّذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه إن زاد عليه لم يؤجر وإن نقص منه أثم ما دارت عليه الإبهام والوسطى من قصاص الشعر إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان مستديرا فهو من الوجه » (٢).

وظاهر الرواية دوران الإصبعين معا من عند القصاص إلى منتهى الذقن كما فهمه الأصحاب ، فيدخل في الوجه ما دخل تحتهما.

وقوله : « وما جرت عليه الإصبعان » تأكيد وإيضاح لقوله « ما دارت .. » إلى آخره.

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٧ ، باب حد الوجه الذي يغسل ، ح ٤.

(٢) الكافي ٣ / ٢٧ ، باب حد الوجه الذي يغسل ، ح ١.

٤٧٣

وقوله « مستديرا » حال من الضمير في « عليه » ، وكأنّ التقييد به إشارة إلى عدم دخول ما خرج عن مستدارة الوجه ممّا يحويه الإصبعان في حوالي الذقن.

ويحتمل أن يكون صفة للمصدر المحذوف أي جريانا مستديرا.

وحملهما بعض محقّقي المتأخرين على إرادة (١) الخطّ الواصل بين القصاص ومنتهى الذقن الّذي هو مقدار ما بين الإصبعين غالبا على نفسه بعد فرض جانب وسطه. ويكون ذلك تحديد الكلّ من طول الوجه وعرضه.

وأيّد هذا الوجه بأنّهم يقولون بخروج النزغتين والصدغين من الوجه ، وإنّما يخرجان عنه بناء على المعنى المذكور دون ما ذكروه ، وعليه فيخرج مواضع التحذيف والعذاران وبعض من العارضين أيضا.

وأنت خبير بأنّ حمل الرواية على المعنى المذكور بعيد عن العبارة ؛ إذ ظاهرها إدارة الإصبعين معا من القصاص ، ولو حمل على الدائرة لم يمكن ذلك مضافا إلى بعد المعنى المذكور عن متفاهم العرف ، ومخالفته لفهم الأصحاب.

على أنه لو حمل على ذلك لزم خروج ما يزيد على النزغتين ممّا يليهما الواقع في أعلى طرفي الجبهة كما هو مقتضي الاستدارة ، والظاهر عدم الخلاف في وجوب غسله.

وكذا يخرج عنه ما يزيد على العذارين ممّا يقابلهما وكثير من أجزاء العارضين ، والبناء على خروجهما عن الوجه في غاية البعد.

والاعتماد فيه على مجرّد الاحتمال المذكور أبعد ، بل ظاهرهم اتفاق على دخول بعض المذكورات ، ولو سلّم تكافؤ الاحتمالين فلا أقلّ من كون الأوّل موافقا للاحتياط محصّلا للقطع بالفراغ بعد اليقين بالشغل ، مع كونه أقرب إلى الوجه العرفي ، فتعيّن ترجيحه.

ثمّ إنّ هذه الرواية هي الأصل في تحديد الوجه ، فما حواه التحديد المذكور داخل في الوجه وما خرج منه خارج عنه ، وهاهنا حدود يذكر للوجه قد وقع الخلاف في كثير منها لا بدّ

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « إدارة ».

٤٧٤

من الاشارة إليها :

منها : النزغتان ، وهما البياضان اللّذان عن جانبي الناصية ، ولا خلاف ظاهر في عدم وجوب غسلهما ، وقد مرّت الاشارة إليه.

وقد يتوهم شمول التحديد المذكور لهما.

ويدفعه أنّ المتبادر من ظاهره بمعونة فهم الأصحاب هو قصاص الناصية وما يحاذيها لمحاذاة النزغتين للناصية الخارجة عن الوجه قطعا ، وخروجهما عن التسطح الّذي يتميّز (١) به الوجه عن الرأس.

نعم ، لو قصرت النزغتان بحيث كانتا قريبتين من محاذاة الجبهة احتمل قويا وجوب غسلهما ؛ لدخولهما في ظاهر العبارة.

ومنها : مواضع التحذيف ، وهي أسفل منهما يتّصل أعلاها في النزعة وأسفلها بالصدغ عليها شعر خفيف تحذفها النساء ، ولذا سمّيت بها.

وفسّرها بعضهم بما بين منتهى العذار والنزغة ، وهو تسامح في التعبير.

وفي وجوب غسله قولان نصّ العلّامة في غير واحد من كتبه وجماعة بعدمه.

وعلّل كونها من الرأس نبات الشعر عليها.

وعن جملة من الأصحاب القول بدخولها احتياطا. وبه قطع في الروضة.

والأظهر أنّ الشعر النابت عليها إن كان نحو شعر الرأس وإن كان خفيفا لم يجب غسله ؛ لكونه فوق القصاص وإن نبت عليه الشعر الضعيف قوي وجوب غسله سيّما مع البناء على وجوب الاحتياط في صورة الشكّ.

ومنها : الصدغ. وفسّره جماعة من أهل اللغة تارة بما بين العين والأذن (٢) وأخرى بالشعر المتدلّي عليه (٣). وقد قطع جماعة من الأصحاب بعدم وجوب غسله ، بل هو المعروف من

__________________

(١) زيادة « يتميز » من ( ب ).

(٢) الصحاح ٤ / ١٣٢٣ ( صدغ ).

(٣) لسان العرب ٨ / ٤٣٩ ( صدغ ).

٤٧٥

المذهب.

وفي النصّ الصحيح (١) التصريح به.

وأنت خبير بأنّ الّذي ينبغي القطع به دخول بعضه ؛ نظرا إلى التفسير المذكور ، لدخوله في التحديد المذكور والتزام تخصيصه كما قد يومي إليه كلام بعضهم بيّن الفساد.

وقد يراد به ما حاذى العذار فوقه المحاذي لرأس الأذن.

وبه فسّره العلّامة في غير واحد من كتبه. ويساعده العرف.

وكأنّه المقصود في الرواية وكلام الأصحاب.

وحينئذ فلا تأمل في خروجه عن الوجه ؛ لخروجه عن التحديد المذكور ، مضافا إلى خصوص الصحيح ، مع تأيّده بحكم الأصحاب.

وعن الراوندي القول بدخوله في الوجه ، وقد يحمل كلامه على الأوّل بإرادة الوجه.

ومنها : العذار ، وفسّره تارة بالشعر المحاذي للأذن ويتّصل اعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض ، وأخرى بالقدر المحاذي للأذن ، وكذلك بينه وبين الأذن بياض يسير.

والمعروف خروجه ؛ لعدم شمول الإصبعين له في الغالب ، ومن ظاهر الشيخ في المبسوط (٢) والخلاف (٣) والإسكافي دخوله فيه. وبه نصّ المحقق الكركي (٤) والشهيد الثاني (٥). وفصّل بعضهم بين ما يشمله الإصبعان وغيره ، وبه جمع بين القولين المذكورين ، وهو الأقوى.

ومنها : العارض ، وفسّره غير واحد منهم بالشعر المنحطّ عن محاذاة الأذن المتصل أعلاه بالعذار وأسفله بما يقرب من الذّقن.

وفي القاموس (٦) : أنّه جانبا اللحية. وقد يفسّر بمنبت الشعر المذكور كما يعرف من

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٧ ، باب حد الوجه الذي يغسل والذراعين وكيف يغسل ح ١.

(٢) المبسوط ١ / ٢٠.

(٣) الخلاف ١ / ٧٦.

(٤) جامع المقاصد ١ / ٢١٣.

(٥) الروضة البهية ١ / ٣٢٣.

(٦) انظر القاموس المحيط ٢ / ٨٦ و ٣٣٤.

٤٧٦

ملاحظة العرف.

وكيف كان فقد قطع الفاضلان بخروجه عن الوجه والشهيدان (١) بدخوله.

وفصّل العلّامة في النهاية (٢) بين ما ناله الإصبعان وغيره.

وهو الأقوى ، وقد يحمل عليه القولان الأخيران.

ومن الغريب ما أورده بعض الأفاضل على اعتباره بالاصبعين من أنّ التحديد بهما إنّما هو بالنسبة إلى وسط الوجه خاصّة وإلّا لزم غسل ما تجاوز عن العارض أيضا ، وهو باطل إجماعا ؛ إذ التحديد المذكور إنّما هو بالنظر إلى ما يشمله استدارة الوجه كما لا يخفى على من تأمّل في الرواية ، ولو سلّم الإطلاق فخروج ذلك بالإجماع لا يقضي بخروج غيره.

ولو سلّم اختصاص التحديد بما ذكر فلا بدّ من القول بدخول جميع ما تحته بحكم الغصب (٣) به ، فقضية الإطلاق احالة الباقي إلى ذلك.

ثمّ إنّ المدار في الأصابع طولا وقصرا على مستوى الخلقة بحسب العادة ، فطويلها وقصيرها عن المعتاد يرجعان والإصبع (٤) الخارج عن العادة يرجع إليها أيضا كالأغمّ كذلك ، فيجب عليه غسل موضع الغمة.

ولو كان عريض الوجه زائدا على المعتاد أو بعكسه قوي الرجوع في نفسه إلى يد تناسب ذلك الوجه في المعتاد ، وإن لم يكن من مستوى الخلقة.

هذا ، ولا يذهب عليك أن أشبار مستوى الخلقة ( متفاوته جدّا ، والبناء على خروج ما ذكرناه من حدّ الوجه في العرض إنّما هو على الأغلب.

ولو فرض في أشبار مستوى الخلقة ) (٥). ما يشمل الأجزاء من الحدود المذكورة بالفرض

__________________

(١) الدروس ١ / ٩١ ، والروضة البهية : ١ / ٣٢٣.

(٢) نهاية الإحكام ١ / ٣٦.

(٣) كذا.

(٤) في ( د ) : « الأصلع ».

(٥) ما بين الهلالين زيدت من ( د ).

٤٧٧

فالأقرب لزوم مثله ، وربّما يحمل عليه كلمات الأصحاب ؛ إذ لا موجب للتقييد إلّا في الصدغ ، والمعارضة بينه وبين التحديد بالأصابع من قبيل العموم من وجه ، وقضيّة الاحتياط إذن غسله.

٤٧٨

تبصرة

[ في كفاية مسمّى الغسل ]

الواجب من الغسل أقلّ مسمّاه ، ويحصل بجري الماء من جزء إلى آخر ولو بمعونة اليد على المشهور بين الأصحاب (١).

وعن جماعة البناء فيه على الرجوع إلى العرف.

وعن بعضهم الاكتفاء بمثل الدهن.

ولا خلاف ظاهر بين الأقوال المذكورة ؛ لإمكان الانطباق بينها ، وكأنّ الاختلاف في التعبير من جهة احتمال المغايرة ، فعبّر كلّ بما هو المناط عنده.

نعم ، فصّل بعضهم في الاكتفاء بمثل الدهن بين حالتي الاختيار والاضطرار. حكاه الشهيد (٢) عن الشيخين (٣). وحينئذ فلا تأمّل في المغايرة إلّا أن القول به ضعيف.

ويدلّ على اعتبار الجريان في الجملة أنّه المتبادر من لفظ الغسل عرفا ، فيثبت كونه كذلك لغة. وعدم ذكره بخصوصه في كلام أهل اللغة ـ كما قيل ـ لا يقضي بعدمه ؛ لاكتفائهم عن ذكره لوضوحه ، ومع الغض عنه فالمتّبع في مثله هو المعنى العرفي عند الدوران بينه وبين اللغوي.

وقد يقال بالاكتفاء فيه أيضا بإفاضة الماء على المحلّ أو وقوعه فيه.

وفيه تأمّل.

ويدلّ عليه أيضا اعتبار الجريان في بعض الصحاح ، وفيه (٤) : « كلّ ما أحاط به الشعر

__________________

(١) لم ترد في ( ب ) : « الأصحاب ... ظاهر بين ».

(٢) الذكرى ١ / ٧٧.

(٣) المقنعة : ٨ ، النهاية : ٤٧.

(٤) في ( د ) : « ففيه ».

٤٧٩

ليس للعباد أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه ولكن يجري عليه الماء » (١).

وورد أيضا في الغسل : « الجنب ما جرى عليه الماء من جسده فقد أجزأه » (٢).

ولا قائل بالفرق مضافا إلى ما في الأخبار الواردة في الوضوء البياني من ذكر الصبّ والإفاضة والغرفة لكلّ عضو.

وفي الأخبار المستفيضة الاكتفاء فيه بمثل الدّهن كالصحيح : « إنّ المؤمن لا ينجّسه شي‌ء إنّما يكفيه مثل الدهن » (٣).

وفي صحيحة أخرى : « إذا مسّ جلدك الماء فحسبك » (٤).

ونحوه خبر آخر في الغسل ، وهي محمولة على بيان أقل مراتب الجريان المعتبر في الغسل ، فظاهر إطلاقها مقيّد بما ذكرنا ، والمعارضة بين إطلاقها وما مرّ من قبيل العموم المطلق ، فلا بدّ من حمله عليه.

وفي كلام بعض الأعلام الميل إلى عدم معارضته بين المقامين ؛ إذ ليس في شي‌ء منهما دلالة على عدم اجزاء غيره.

وهو كما ترى ؛ إذ ما دلّ على اعتبار الغسل والجريان ظاهر في (٥) تعيينه بخلاف الأخبار الأخيرة.

ثمّ إنّ الواجب حصول مسمّى الغسل ، فيعمّ سائر وجوهه من الصبّ عليه أو إدخاله في الماء أو تحريكه تحت الماء أو إخراجه عنه أو الوقوف تحت المطر بحيث يجري الماء على العضو.

وكذا جعل العضو تحت غير المطر من المياه النازلة إن لم يكن بصبّ الغير ، وإلّا كان الآخر

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤٥ ، باب حد الوضوء وترتيبه وثوابه ، ح ٨٨.

(٢) الكافي ٣ / ٢١ ، باب مقدار الماء الذي يجزئ للوضوء والغسل ح ٤ ، وفيه : « قليله وكثيره فقد أجزأه ».

(٣) الكافي ٣ / ٢١ ، باب مقدار الماء الذي يجزئ للوضوء .. ح ٢ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ١٣٨ ، باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح ٧٨.

(٤) الكافي ٣ / ٢٢ ، باب مقدار الماء الذي يجزئ للوضوء .. ح ٧ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ١٣٧ ، باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح ٧٢.

(٥) في ( ألف ) : « وفي ».

٤٨٠