تبصرة الفقهاء - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

تبصرة الفقهاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: السيد صادق الحسيني الإشكوري
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-988-000-6
ISBN الدورة:
978-964-988-003-7

الصفحات: ٥٢٨

ويفصح عنه حكمه عليه‌السلام بإهراقهما الظاهر في عدم جواز الانتفاع بهما في الشرب وسائر الاستعمالات الغالبة المشروطة بالطهارة.

وما يقال من أنّ الأمر بالإهراق إنّما هو من جهة إعدام الماء ليصحّ التيمّم المنوط بعدم (١) وجدانه بيّن الفساد ؛ إذ مع عدم جواز استعمال شي‌ء من الماءين لا يتوقّف صحّة التيمّم على الإهراق ؛ لصدق عدم الوجدان الشرعيّ مع وجودهما أيضا.

ولو فرض جوازه تعيّن عليه الطهارة الاختيارية ، فلا يجوز له إهراقهما والعدول إلى الاضطراريّة ، والقول بكراهة استعماله حينئذ ، فيكون الأمر بالإهراق للندب ؛ لينتقل الحكم بعده إلى التيمّم كما يستفاد من كلام بعض الأعلام أوضح فسادا منه إلّا أن يحمل ذلك على صورة عدم وجوب طهارة الاختيارية ، وإطلاق السؤال وترك الاستفصال في كلام الإمام عليه‌السلام ينادي بخلافه.

وقد يقال : إنّ ذلك لأجل الاقتصار على التيمّم إذ ؛ قضيّة القاعدة في مثله المنع من استعمال الماءين ؛ للزوم تنجّس البدن باستعمالهما على ما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله.

فالمحكي (٢) في شأنه هو الوضوء بأحدهما ، وحيث كان أحدهما مجهول الطهارة فيدور أمره بين أن يكون طاهرا ونجسا يتعيّن عليه الجمع بين الوضوء والتيمّم ؛ إذ المقصود في المقام هو العلم بإصابة الطاهر لا نفس إصابته ، فهو كمن وجد أحد المشتبهين بالمضاف ، فإنّه يتعيّن عليه الجمع بين الوضوء والتيمّم كما قالوه حسبما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله ؛ لاحتمال وجدانه الماء فيتعيّن عليه الوضوء ، وعدمه فيتعيّن التيمّم (٣).

ويدفعه أيضا ما عرفت ؛ إذ لو صحّ ذلك وجب عليه الاحتياط حينئذ فكيف يجوز الإهراق (٤)؟! فالرواية واضحة الدلالة على سقوط التكليف بالوضوء بعد حصول الاشتباه.

__________________

(١) في ( ب ) : « بعد ».

(٢) في ( د ) : « فالممكن ».

(٣) زيادة في ( د ) : « فيكون الأمر به إرشاديّا أو للاستحباب من جهة تسهيل الأمر بالاقتصار على التيمّم ».

(٤) زيادة في ( د ) : « له ».

٣٤١

والطعن في إسناد الروايتين من جهة اشتمال كلّ منهما على غير واحد ممّن لا يقول بالحق ؛ مدفوع بما قرّر في محلّه من حجيّة الموثق خصوصا مثل روايات عثمان بن عيسى وسماعة وعمّار لإطباق الأصحاب على العمل بأخبارهم.

ولو سلّم ذلك فلا تأمّل في حجيّة الضعيف بعد الانجبار بعمل الأصحاب ، وهنا قد أطبقوا على العمل بهما.

على أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في مقامات شتّى بناء الشارع على وجوب الاجتناب في المحصور إذا دار الأمر بين الحلال والحرام كيف ما كان ، مثل ما دلّ على وجوب غسل جميع الثوب إذا لم يعرف موضع النجاسة منه ، وما دلّ على وجوب الاجتناب من اللحم مع اختلاط المذكّى منه بالميتة ، وما دلّ على وجوب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين .. إلى غير ذلك.

وقد جرى الأصحاب على ذلك في تلك المقامات.

ويمكن الاحتجاج على ذلك أيضا بالأصل ؛ « لوجوب الاجتناب عن المحرم ولا يتم إلّا باجتناب الجميع.

فإن قلت : إن الوضوء بالماء النجس ليس من المحرّمات الأصليّة وإنّما يثبت المنع منه من جهة البدعة ويرتفع ذلك بقصد الاحتياط ؛ إذ لا يصدق الإبداع بمراعاة الاحتياط ، مضافا إلى الأوامر الدالّة على رجحان الاحتياط لإفادتها تشريع الفعل من تلك الجهة وإن لم يكن مشروعا في نفسه.

وحينئذ فلا تكليف بالاجتناب في المقام ، بل الأمر فيه بالعكس ؛ لثبوت التكليف بالطهارة ، فيجب استعمال الماءين لتحصيل اليقين بالفراغ.

فما يوجد في كلام بعض المتأخرين (١) من تعليل المنع من استعماله في الطهارة الحدثية والخبثية بأنّ استعمال الماء النجس فيما يعد في الشرع طهارة أو إزالة نجاسة مع اعتقاد

__________________

(١) في حاشية ( د ) : « هو السيّد نور الدين أخو صاحب ».

٣٤٢

المشروعية إدخال في الدين ما ليس منه ، بل لو لم يعتقد مشروعيته إذا فعله بصورة المشروع لا يبعد تحريمه ؛ مدفوع بما عرفت من انتفاء البدعة مع قصد الحائطة ؛ إذ ليس ذلك إدخالا في الدين ما ليس منه بل إنّما يؤتى به من جهة احتماله لمصادفة ما ثبت في الدين. كيف ، وما ورد في الأخبار من الأمر بالاحتياط قاض بتعلّق الطلب به ، ومع تعلّق الأمر به لا يعقل توهّم البدعة.

قلت : ليس المقصود في الاحتجاج المذكور الاستناد إلى المنع من استعماله في الوضوء ونحوه ، بل المراد المنع منه في الشرب ونحوه ؛ إذ من الواضح حرمة شرب النجس في نفسه ولا يعلم الاجتناب عنه إلّا مع الاجتناب عن الأمرين.

ومن ناقش فيه من المتأخرين ناقش في المقامين.

وأمّا المنع من استعمال كلّ منهما في الطهارات فله وجه آخر يأتي إن شاء الله القول فيه.

وما يقال من أنّه إنّما دلّ الدليل على وجوب الاجتناب عنه مع العلم بالنجاسة ، وأمّا مع الجهل بها فلا دليل على وجوبه (١) مدفوع بأنّ الأحكام ثابتة للواقع من دون مدخليّة في ثبوتها للعلم والجهل كما هو ظاهر الإطلاقات. غاية الأمر قيام الدليل من العقل والنقل على عدم وجوب البناء (٢) عليه من دون العلم رأسا ؛ إذ مع الاشتباه بغير المحصور فيبقى محلّ البحث مندرجا تحت القاعدة.

نعم ، قد يتوهّم بناء الشرع في ثبوت النجاسة مع العلم دون الواقع. وهو ضعيف لما عرفت.

وقد فصّلنا القول فيه في محلّ آخر.

وما يتخيّل من دلالة العمومات على البناء على الحلّ حتّى تعرف الحرام بعينه ، والبناء على الطهارة في الأشياء وفي خصوص الماء حتّى يعلم النجاسة غير متّجه ؛ إذ المستفاد من تلك الأخبار غير صورة الاشتباه بالمحصور كما يعرف من إرجاع تلك العبارات إلى العرف.

__________________

(١) في ( ألف ) : « وجوب ».

(٢) في بعض النسخ : « الدليل ».

٣٤٣

ومع الفضّ (١) عنه فعدم فهم الأصحاب منها العموم كاف (٢) في ذلك ، فلا أقلّ من الشك ، وهو كاف في هدم الاستدلال.

وفي بعض تلك الأخبار دلالة واضحة على ما قلناه ، مضافا إلى أنّ المفروض حصول الماء في مقام تنجيس أحدهما وحرمة التابعة لنجاسته ، وظاهر العمومات المذكورة هو الحكم بالحلّ والطهارة إلى أن يعلم الحرمة والنجاسة الحاصل (٣) في المقام في الجملة.

غاية الأمر اشتباه الحلال بالحرام والطاهر بالنجس ، فلا بدّ إذن من الحكم بحرمة أحدهما ونجاسته نظرا إلى العلم المفروض.

فإذا قضيت (٤) القاعدة المذكورة بحليّة الأشياء وطهارتها إلى أن يعلم خلافها لم يمكن إجراؤها بعد حصول العلم بخلافها ودوران ذلك بين فردين ؛ إذ المستفاد منها تغليب جانب الحليّة والطهارة مع الجهل دون العلم (٥) ونسبة العمومات المذكورة إلى الماءين على نحو واحد ، وقد فرض خروج أحدهما عن الحلية والطهارة يقتضي العلم المفروض ، فيكون المتحصّل في المقام مع ملاحظة العمومات المفروضة هو طهارة أحد الماءين وحلّيته ، ونجاسة الآخر وحرمته (٦) قد يكون مع القطع به والشك في تعلّقه بالعين المخصوصة.

فهناك يقين بالطهارة ويقين بارتفاعها ، وشك في ارتفاع الطهارة المتعلّقة بخصوص العين المعيّنة لعدم العلم بخصوص الزائل ، فليس الشك في المقام من جهة الشك في ارتفاع الأمر الحاصل ؛ إذ المفروض حصول القطع به ، بل من جهة الشك في التعيين بعد علم المكلّف حينئذ ببقاء إحدى الطهارتين وزوال الآخر ، فبقاء إحدى (٧) الطهارتين معلومة كارتفاع الآخر

__________________

(١) في ( ألف ) : « النصّ ».

(٢) في ( ب ) : « كان ».

(٣) كذا.

(٤) في ( د ) : « قضت ».

(٥) لم ترد في ( ب ) : « ونسبة العمومات ... يقتضي العلم ».

(٦) زيادة في ( ب ) : « ولا دلالة في تلك العمومات .. » إلى .. ويدفعه أن الشك في بقاء الطهارة ».

(٧) في ( ألف ) : « أحد ».

٣٤٤

وليس الحكم ببقائها من جهة الاستصحاب ؛ إذ المفروض حصول القطع به.

نعم ، لمّا كانت الطهارة بالنسبة إلى كلّ من الماءين معلومة وكانت النجاسة الواردة دائرة بينهما فقد طرى الشك في ارتفاع خصوص كلّ من الطهارتين بعد العلم بحصولها فيندرج بملاحظة ذلك في قاعدة الاستصحاب.

وأنت خبير بعدم ظهور اندراج هذه الصورة في الأخبار الدالّة على حجيّة الاستصحاب ؛ إذ الظاهر منها استصحاب حكم اليقين الحاصل وعدم نقضه بالشك في حصول الرافع ، لا مع اليقين بحصوله والشك في المتعيّن.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم إطلاق الأدلّة الدالّة عليه فلا ريب في ارتفاع أحد الاستصحابين ، وبعد القطع إجمالا بانتقاض أحد الاستصحابين لا يصحّ الاستدلال بأحدهما بخصوصه.

وهل ذلك إلّا كالاستدلال بأحد العمومين بعد العلم بتخصيص أحدهما إجمالا أو بأحد الآيتين مع العلم بنسخ أحدهما كذلك؟ ولا يظن أن أحدا يجوّزه ويصحّح الاستدلال به.

كيف وقد أجمعوا على عدم جواز الاحتجاج بالعام المخصّص بالمجمل مع أنّ قضية الأصل في كلّ واحد من الأفراد عدم إخراجه عن العموم سيّما إذا كان المخصّص مفصّلا. وكأنّ ما ذكرنا هو مقصود المحقق (١) حيث ذكر أنّ يقين الطهارة في كلّ منهما معارض بيقين النجاسة ، ولا رجحان فيتحقق المنع.

فما أورد عليه بعض المحققين من أن يقين الطهارة في كلّ واحد يعارضه الشك في النجاسة لا اليقين بها بيّن الاندفاع بما ذكرناه.

وما ذكره بعض المتأخرين ـ في الايراد على ما ذكره المحقق وما أورده المحقق المذكور من أنّ الاشتباه بين الإناءين قد يكون بعد العلم بالحال ، وقد يكون من أوّل الأمر ، فلا يتمّ الحجة في الثاني ولا الإيراد المذكور في الأوّل ـ غريب ؛ إذ مع الغضّ عن فساده بما عرفت لا وجه

__________________

(١) المعتبر ١ / ١٠٣.

٣٤٥

للتفصيل المذكور ؛ لوضوح عدم الفرق في ذلك بين الصورتين فكما يصحّح الاستناد إليه في الصورة الأولى ينبغي أن يقول به في الثانية أيضا ؛ إذ مجرّد احتمال كون أحد المعنيين هو ما علم نجاسته لا يوجب ارتفاع حكم اليقين بالطهارة الثانية له قبل ذلك على نحو ما يقال به في الصورة الأخرى.

وقد يقال أوّلا : إنّ العلم بخصوص النجس في الصورة الأولى يقتضي عدم صحة الاستناد إلى الاستصحاب بالنسبة إليه لحصول اليقين بنجاسته بالخصوص الذي هو الغاية في الحكم بالطهارة فيه بخلاف الثانية لعدم حصول العلم بنجاسة شي‌ء منهما بالخصوص فيصحّ الاستناد إلى الاستصحاب بالنسبة إلى كلّ منهما فكلّ من الماءين هنا يندرج في موضوع الاستصحاب.

وأمّا في الصورة فقد خرج أحدهما عن الموضوع قطعا ، والشكّ الطاري لا يوجب الاندراج تحت قاعدة الاستصحاب وإن كان أحد الماءين بالخصوص خارجا ؛ إذ كلّ منهما حينئذ من مصاديق الموضوع المقرّر للاستصحاب.

والحاصل أنّ العلم الإجمالي بأحد الإناءين حاصل في الصورتين ، فإن جعل ذلك مانعا عن البناء من الأصل المذكور جرى فيهما ، وإلّا فلا يمنع من البناء عليه فيهما أيضا.

ومجرّد تعيين النجس إناء ما لا يقضي بالفرق إلّا أن يقال : إنّ ما يقتضيه ظاهر أخبار الاستصحاب هو البناء على الطهارة مع الشك في عروض النجاسة لا مع اليقين به والشكّ في اليقين كما أشرنا إليه ، أمكن الفرق لكنه بيّن الفساد حسب ما مرّ الكلام فيه.

لا (١) يذهب عليك أنّ ما ذكره المحقق المذكور من الإيراد لو تمّ فإنّما يتمّ معه عدم العلم أولا بنجاسة الماءين ؛ إذ لو علم بها أوّلا ثم علم بطهر أحدهما من دون تعيين كان مقتضى الأصل على دعواه هو الحكم بالنجاسة ، والتفصيل المذكور في الإيراد الأخير فاسد أيضا لاقتضاء الأصل حينئذ ، ومع الاشتباه الأصل : الحكم بالنجاسة ، وفي الطارئ يجي‌ء المنع من جهة

__________________

(١) في ( د ) زيادة : « ثم ».

٣٤٦

الشبهة حسبما ذكره. والبناء على التفصيل بين هذه الصورة والصورة المتقدمة بعيد جدا. فتأمّل.

إذا تقرّر ذلك تبيّن أنّه لا وجه للاكتفاء في الطهارة أو الإزالة باستعمال أحد الماءين كما زعمه الجماعة لما عرفت من انتفاء الحكم بالطهارة فيه في ظاهر الشريعة وإن لم يحكم بنجاسته أيضا أو مجرّد الجهل بالطهارة في الظاهر ولو من جهة الأصل والعمومات كاف في عدم الحكم بالصحّة ؛ نظرا إلى أنّ الأصل عدم ارتفاع الخبث أو الحدث الحاصلين ؛ لاشتراط الطهارة في المزيل والشك في الشرط قاض بالشك في المشروط فتستصحب تلك الحالة السابقة من الحدث أو الخبث المتحقّقين ، ولا باستعمالهما معا على سبيل التعاقب وإن قطع معه باستعمال الطاهر.

أمّا بالنسبة إلى الرّفع فلأنّ (١) استعمال الأوّل غير كاف في الحكم بالرفع كما عرفت ، واستعمال الثاني بعده قاض بنجاسة المحلّ في حكم الشرع ، فلا يصحّ الطهارة معه لاشتراطهما بطهارة العضو في حكم الشرع المرتفع قطعا بتعاقبهما على المحلّ.

وأمّا في الإزالة فلأنّه وإن حكم معه بزوال الخبث الحاصل إلّا أنّه يقطع أيضا بتنجّس المحلّ من دون قطع بزوالها فتستصحب ولا يترتب فائدة يعتدّ بها على العلم بزوال النجاسة المتقدمة.

نعم ، لو كانت إزالة النجاسة الحاصلة في المحلّ متوقفة على غسلتين بخلاف الحاصلة في الماء اكتفى حينئذ في إزالتها بغسلة واحدة سواء غسل لكلّ منهما مرّة أو مرّتين.

فإن قلت : إن الأظهر كما يأتي (٢) عدم تنجّس المحلّ باستعمال أحد الماءين ، وحينئذ فإذا طهر أعضاء الطهارة بالماء الثاني بعد الفراغ من الطهارة بالأوّل ثمّ استعمله في الطهارة الثانية حصل اليقين بصحة إحدى الطهارتين وارتفاع الحدث الحاصل ؛ إذ لو كان الطاهر هو الأوّل فقد ارتفع به الحدث ، وإن كان الثاني فقد أزيل به النجاسة الحاصلة في المحلّ ، وصحّت الطهارة

__________________

(١) في ( ألف ) : « ولأن ».

(٢) في ( ألف ) هنا زيادة لفظة : « في ».

٣٤٧

الواقعة به.

ومن الواضح عدم خلوّ الواقع عن إحدى الصورتين ، فيحصل اليقين بارتفاع الحدث. وحيث صارت ملاقاته للأوّل كالعدم بعد غسله للأخير ، فلا ينجس به المحل بعد ملاقاته للأخير ؛ إذ ليست إصابته له حينئذ إلّا كإصابته لأحدهما.

وحينئذ (١) لا تقضي بتنجس المحل كما عرفت ، فلا مانع من جهة نجاسة الماء للعلم بطهارة أحدهما ، ولا من جهة تنجّس المحلّ فيصحّ أحد الاستعمالين قطعا.

ومنه يظهر الوجه في ارتفاع الخبث بتعاقبهما والحكم بطهارة المحلّ بعد استعمالهما ؛ لما عرفت من ارتفاع حكم الأوّل بورود الثاني.

قلت : قضية الأصل في المقام هو الحكم بتنجس المحلّ بعد إصابة الماءين ؛ للقطع بطروّ النجاسة عليه مع عدم العلم بزوالها ، فيستصحب ما علم ثبوته حتى يعلم زواله. ولا علم به في المقام ؛ لتوقفه على العلم بطهارة الأخير ، والمفروض عدم العلم بما (٢) يحكم شرعا بنجاسته ما تواردا عليه إلى أن يعلم زوالها ، ومعه لا يمكن الإتيان بالطهارة الثانية لاشتراطها بطهارة المحلّ ، والمفروض أنّه معلوم النجاسة في حكم الشرع.

وفيه نظر.

وتحقيق القول فيه أن يقال : إنّه لا وجه لاستصحاب النجاسة في المقام ؛ إذ هو من قبيل استصحاب أحد الحالين مع العلم بحصول كلّ منهما كاستصحاب بقاء الحدث والطهارة مع العلم بحدوث طهارة وحدث عنه (٣) ، فكما أنّه لا يمكن استصحاب الحدث أو الطهارة في ذلك المقام فكذا هاهنا ؛ للعلم بطهارة المحل في إحدى الحالين ونجاسته في الأخرى.

وكما علم اتّصافه بالنجاسة في حال كذا يعلم اتّصافه بالطهارة أيضا كما لا يمكن الحكم باستصحاب الطهارة كذا لا يمكن استصحاب النجاسة أيضا. والتفصيل بين الحالين بإجراء

__________________

(١) في ( د ) : « هي » ، بدل : « حينئذ ».

(٢) في ( د ) : « بها فيحكم » ، بدل : « بما يحكم ».

(٣) في ( د ) : « منه ».

٣٤٨

الاستصحاب في إحداهما دون الأخرى غير مقبول ، فغاية الأمر أن يكون مجهول الحال ، وحينئذ فلا يمكن الحكم بشي‌ء منهما.

وقد يقال : إنّ قضية القاعدة حينئذ هو الحكم بالطهارة ؛ إذ بعد تكافؤ الاستصحابين يرجع إلى أصالة الطهارة.

وأنت خبير بأنّ الأصل المذكور ممّا لا دليل عليه بحيث يشمل المقام ؛ إذ لا مصرّح فيه للعقل ولا شاهد عليه من النقل ، غاية ما في الباب الرجوع إلى ما دلّ على أصالة الطهارة في الماء أو سائر الأشياء حتّى يعلم القذارة ، وقد عرفت عدم صحة الاستناد إليه في المقام.

كيف والمفروض العلم بالقذارة في المقام ولا دلالة فيها على عدم الالتفات إلى العلم المفروض ، والحكم بطهارة الجميع بل قضية إطلاقها هو الحكم بالنجاسة على نحو ما تعلّق العلم بها ، ومع الحكم بها كذلك لا يمكن الحكم بطهارة كلّ منهما حسب ما مرّ الكلام فيه.

ونظير المقام ما لو كان عنده ماءان أحدهما معلوم الطهارة بعينه والآخر معلوم القذارة ، فغسل ثوبه بكل من ذينك الماءين وشكّ في تاريخ الاستعمال ، فإنّه مع الجهل بتقديم الطاهر أو النجس لا مجال لاستصحاب الطهارة ولا النجاسة ولا إجراء (١) القاعدة المذكورة.

نعم ، قد يقال فيه بالأخذ بضدّ الحالة السابقة على نحو ما قيل في صورة العلم بحدوث الحدث والطهارة مع جهالة التاريخ لاستصحاب بقاء الحالة السابقة في الآنات اللاحقة إلى أن يعلم ارتفاعها ، وقضيّة ذلك الحكم بتقدّم ما لا تقضي (٢) برفع الحالة السابقة (٣) وتأخر ما يقضي بارتفاعه فيحكم بطهارته مع نجاسته أوّلا وبنجاسته مع طهارته.

مضافا إلى أن تقدّم ما يخالف الحالة الموجودة يقضي بارتفاع تلك الحالة لحدوث ضدّها ، ثمّ ارتفاع ذلك الضدّ بطروّ الآخر ، بخلاف الوجه الآخر ؛ إذ ليس هناك من الحوادث إلا

__________________

(١) في ( د ) : « لإجراء ».

(٢) في ( د ) : « يقضي ».

(٣) في ( د ) : « الثابتة ».

٣٤٩

ارتفاع (١) الحالة الموجودة فيه ، فيزيد الآخر عليه بوجود حادثين والأصل عدمهما.

ويجري ذلك بعينه فيما نحن فيه إلّا أنّك خبير بأنّ الاستناد إلى الأصول المذكورة أخذ بالأصول المثبتة (٢) ، وهي لا تنهض حجّة إذ لا يمكن إثبات ملاقاة الطاهر له في الأول والنجس في الثاني بمجرّد الأصل المذكور ؛ إذ غاية الأمر حجيّة الأصل المذكور في محلّه ، ولذا يحكم ببقاء نجاسته بعد استعمال الأوّل ، وأمّا في إثباته حكما عاديا آخر فلا وجه له أصلا كما قرّر في محلّه.

إذا عرفت ذلك فنقول : بعد الجهالة بالطهارة والنجاسة وانتفاء طريق في الظاهر إلى الحكم بكلّ منهما لا يمكن الحكم بصحّة الأمر المتوقّف على الطهارة ؛ لعدم قيام دليل شرعيّ على حصول الشرط ، وكذا لا يترتّب عليه الحكم المتوقّف على النجاسة.

فلو اعتبرنا في حرمة الأكل والشرب نجاسة المأكول والمشروب قوي الحلّ (٣) في المقام لعدم العلم بحصول الحرمة ، فيبنى على انتفاء الحكم.

لا يقال : إنّه يترتّب على نجاسة الماء المنع من استعماله فيما يشترط بالطهارة من الطهارات وإزالة الأخباث ، فيجري فيه ما ذكر من البناء على عدم ثبوت ذلك الحكم حتّى يقوم دليل عليه ، فالمنع من استعماله فيها مدفوع بالأصل ؛ لعدم قيام دليل عليه حسب ما ذكر أو نقول : إنّه لا منع في المقام من استعماله في الأمور المذكورة إلّا من جهة البدعة ، وارتفاعها إنّما يكون بقيام الدليل لا بمجرد الأصل ، وكذا الحال بالنسبة إلى آثار ذلك الاستعمال ؛ إذ قضية الأصل عدم ثبوت شي‌ء منها من دون قيام دليل عليه ، فلا وجه لإثباتها بمجرد الأصل بل قضية الأصل عدم ثبوتها وعدم تفريغ الذمة عمّا يشترط بحصولها.

فثبت بما ذكرنا عدم جواز الصلاة في الثوب بعد تعاقب الماءين المذكورين عليه ، وكذا الحال بالنسبة إلى البدن ، فلا يحكم في الظاهر بصحة الوضوء من جهة احتمال نجاسة العضو من غير قيام دليل شرعي على طهارته ، ولو من جهة الأصل لا أنّه محكوم بفساده ، فاحتمال نجاسة

__________________

(١) في ( ألف ) : « الارتفاع » بدل : « إلّا الارتفاع ».

(٢) في ( ألف ) : « المشتبهة ».

(٣) في ( ب ) : « الحال ».

٣٥٠

العضو نظير احتمال نجاسة الماء في الصورة المفروضة من غير فرق.

فقضية الأصل الحكم بصحة أحد الوضوءين وارتفاع الحدث باستعمالها كذلك.

إلّا أنه يشكل الحال نظرا إلى ارتفاع الحكم بطهارة الأعضاء ، وهو مانع من الحكم بصحة الصلاة من جهة الخبث ، وحينئذ فقضية القاعدة الانتقال إلى التيمّم أيضا ؛ لوجوب تقديم الطهارة الخبثية على الطهارة الاختيارية فينطبق الحكم المذكور حينئذ على القاعدة.

وقد يقال حينئذ بلزوم تكرار الصلاة بأدائها تارة بين الطهارتين وأخرى بعد الطهارة الثانية ليعلم معه بأداء العبادة مستجمعا للطهارة الحدثية والخبيثة ؛ إذ لو كان الطاهر هو الأوّل فقد أدّى العبادة على وجهها ، وكذا لو كان الثاني.

وفيه : أنّه وإن حصل العلم حينئذ بأداء الصلاة مستجمعة للطهارتين بحسب الواقع إلّا أنّه لا يجوز الإتيان بها كذلك على ما تقتضيه القواعد الشرعيّة للحكم شرعا بفساد الصلاة الأولى من جهة الحكم عليه ببقاء الحدث ؛ نظرا إلى الشك في ارتفاعه باستعمال الأوّل ، وعدم جواز استعمال الثاني من جهة ارتفاع الحكم بطهارة البدن معه ، مع اشتراطها في صحّة العبادة وتقدّمها على الطهارة الحدثية الاختيارية ، فتحصيل إحراز (١) الواقع في العبادة مع المخالفة لما تقتضيه القواعد الشرعيّة ليس أخذا بالاحتياط ؛ ليتحقّق رجحان كلّ من (٢) الفعلين من تلك الجهة حتى (٣) يصحّ التقرّب بكل منهما.

وبما قرّرنا يظهر ضعف ما قد يفصل في المقام بين ما إذا وفي الماء لذلك فيكرّر العبادة على الوجه المذكور ، وما إذا لم يف به فينتقل إلى التيمّم معه.

لكن ما أورد عليه من أنّ هذين الماءين قد حكم بنجاستهما شرعا واستعمال النجس في الطهارة ممّا لا يمكن التقرب به لكونه بدعة فاسد ؛ لوضوح أنّه لم يحكم بنجاسة الماءين المذكورين معا وإنّما حكم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر على الإجمال ، وحصول الطهارة

__________________

(١) في ( ب ) : « إجراء ».

(٢) لم ترد في ( ب ) : « من الفعلين ».

(٣) في ( ب ) : « متى ».

٣٥١

والنجاسة بالنسبة إلى خصوص كلّ منهما غير معلوم واستعمال النجس المجهول من جهة الاحتياط وإحراز استعمال الطاهر لا يكون بدعة كما عرفت.

ثمّ إنّ ما ذكرناه إنّما يتمّ مع وجوب الطهارة من الخبث ، فلا يتمّ ذلك إذا كان قبل دخول وقت الصلاة الواجبة ؛ إذ لا يجب عليه إذن مراعاة طهارة البدن ، وكذا إذا كان فاقدا للطهورين سوى الماءين المفروضين لتقدم الطهارة الحدثية على الخبثية قطعا ، ولذا يسقط وجوب الصلاة بانتفاء الأوّل دون الثاني.

وحينئذ فالحكم بإطلاق المنع من استعمالهما والانتقال إلى التيمّم لا ينطبق على القواعد ، والاقتصار على ما تقتضيه القاعدة غير موافق لظاهر كلمات الأصحاب وإطلاق الموثقتين المذكورتين.

فالظاهر عدم صحّة الوضوء بهما في الصورة الأولى ؛ أخذا بظاهر الخبرين المتقدمين المعتضدين بإطباق الأصحاب على أنّه لا يظهر قائل صريح بوجوب التعاقب بين الأصحاب سيّما على التفصيل المذكور (١) ، فانّ من لم يعمل بالحديثين المذكورين من المتأخرين يكتفي باستعمال أحدهما.

وأمّا الصورة الثانية فالظاهر خروجها عن مدلول الخبرين وظاهر كلمات الأصحاب أو الحكم بالانتقال إلى التيمّم شاهد على فرض المسألة في صورة التمكّن من الطهارة الاضطراريّة ، ومع خروجه عن مدلول النصّ والفتوى لا يبعد الرجوع فيه إلى مقتضى الأصل ؛ إذ لا وجه للقول بسقوط الصلاة حينئذ من غير قيام دليل ظاهر عليه إلّا أن يدّعى الإجماع على المنع من استعمالها في الطهارة مطلقا ، وهو محلّ تأمّل ، والأظهر في النظر الرجوع فيه إلى القاعدة المذكورة ، فتأمّل.

هذا ، وقد ظهر ممّا فصّلنا ضعف ما ذهب إليه جماعة من المتأخرين من البناء على جواز استعمال أحد الإناءين إسنادا (٢) إلى الأصل والعمومات ، واستضعافا للموثقين المذكورين ،

__________________

(١) لم ترد في ( ب ) : « المذكور فإنّ .. بالحديثين ».

(٢) في ( د ) : « استنادا ».

٣٥٢

ومنعا لما ادّعي عليه من الإجماع.

وقد ذكروا في المقام شواهد على ما راموه من البناء على الطهارة وجواز الاستعمال : منها نصّ الأصحاب بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المتعلّقة بغير المحصور مع أنّ قضية الأصل فيهما على نهج سواء.

وكذا ما ذكر من توقّف ترك الحرام على المجموع.

وفيه : أنّ الفارق بين الأمرين خروج غير المحصور بالإجماع والسيرة المقطوعة ، وما يستفاد من الاخبار و (١) لزوم العسر والحرج الظاهرين بخلاف غير المحصور ؛ لعدم قيام شي‌ء من هذه الأدلّة عليه.

مضافا إلى أن احتمال (٢) الماء (٣) المذكور في غير المحصور لضعفه لا يعدّ في العرف علما ولا يعتنى به أيضا في الأمور العادية (٤) بخلاف الاشتباه في المحصور ، ولذا لم يعد الآتي به متجرّيا على الحرام ، على أنّ العلم الحاصل في غير المحصور يتساوى غالبا بالنسبة إليه الحكم بحرمة الفرد المخصوص وعدمه.

ألا ترى أنّا إذا علمنا وجود ماء نجس في العالم لم يكن حكمنا بنجاسة الماء المخصوص حكما بطهارة غيره من المياه بل العلم بوجود النجس إجمالا حاصل .. (٥).

__________________

(١) زيادة واو العطف من ( د ).

(٢) في ( ب ) : « الاحتمال » ، بدل : « احتمال الماء ».

(٣) لم ترد في ( د ) : « الماء ».

(٤) في ( ب ) : « العارية ».

(٥) هنا بياض في نسخة ( ألف ) بمقدار سطر واحد بل أقل.

٣٥٣

الفصل (١) الثاني

في الوضوء

وهو غسلات ومسحات معروفة مشترطة بنية القربة.

والكلام في أسبابه وغاياته وكيفيته ولواحقه :

القول في الأسباب

والمراد بها الأمور القاضية بإيجاب الوضوء لغاية واجبة وندبه للمندوبة.

والأولى تتميمه لما تقتضي ندبه لغاية واجبة أو مندوبة كالمذي ، ولا فرق بين ما يكون اقتضاؤه فعليّا أو شأنيا كالحدث المبتدأ الواقع عقيب آخر ، والواقع من المكلّف أو غيره ؛ ولا بين ما يكون مقتضيا له بالنسبة إلى الغاية الواقعة عقيبه أو لأخرى كالبول الخارج من المسلوس عقيب الطهارة أو في أثنائها.

ويطلق عليها الموجبات والنواقض والأحداث أيضا إلا أنّ الموجبات أخصّ منها مطلقا إن اعتبر فيها الإيجاب فعلا ، وإلّا فهما متساويان.

والنواقض أعمّ منها من وجه كالأحداث سواء اعتبر النقض فعلا أو لا بناء على التعميم في الأسباب ، وإلّا فالنواقض أعمّ مطلقا على الأخير.

__________________

(١) في ( د ) : « المقصد ».

٣٥٤

تبصرة

[ في خروج البول أو الغائط والريح ]

من أسباب الوضوء خروج البول أو الغائط والريح من الموضع المعتاد بالإجماع والروايات المستفيضة المتكثرة منها الصحيح : « لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك الأسفلين والنوم » (١).

وصحيحة أخرى : « لا يوجب الوضوء إلّا غائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها » (٢).

وفي أخرى : ما ينقض الوضوء؟ فقال : « ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الدبر والذكر غائط أو بول أو مني أو ريح » (٣) ، الخبر.

ولا فرق بين حصول الاعتياد وعدمه في الخروج عن الموضع المعتاد (٤) المعروف كما إذا اعتاد الخروج من غيره ، فاتفق الخروج منه بلا خلاف فيه يعرف ؛ للإطلاقات.

وفي حكمه (٥) الموضع المعتاد ما لو وقع الموضع الخلقي في غير المعتاد في ظاهر كلام الأصحاب. وفي (٦) المنتهى (٧) والسرائر (٨) حكاية الإجماع عليه.

__________________

(١) الإستبصار ١ / ٨٦ ، باب الضحك والقهقهة ، ح ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٣٤٦ ، باب الاحداث الموجبة للطهارة ح ٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٦١ ، باب ما ينقض الوضوء ، ح ١.

(٤) لم ترد في ( د ) : « المعتاد ».

(٥) في ( ألف ) : « حكم ».

(٦) زيادة في ( د ) : « ظاهر ».

(٧) منتهى المطلب ١ / ٣١.

(٨) السرائر ١ / ١٠٦ ، وفي ( د ) : « التحرير ».

٣٥٥

وفي الحدائق (١) : إنّ ظاهرهم فيه عدم اعتبار الاعتياد ، واستشكل فيه حتّى مع الاعتياد.

وهو غريب.

ولو تعدّد المخرج الخلقي كما في الخنثى المشكل أو غيره فإن اعتيد المخرجان فلا تأمّل في النقض ، وإلّا نقض الخارج عن الواقع في المحلّ المعتاد ، ولو مع (٢) عدم الاعتياد ، وفي غيره مع عدم اعتياده وجهان.

ولو انفتح مخرج سوى الطبيعي ، فإن كان مع انسداده فعن المنتهى حكاية الإجماع على أنّه كالطبيعي إذن ، فظاهره عدم اعتبار الاعتياد فيه أيضا.

وفي الحدائق : إن ظاهرهم عدم اعتبار الاعتياد.

وبه قال (٣) في السرائر والمنتهى والتحرير والروض والمسالك وغيرها.

وظاهر إطلاق الشرائع والمدارك عدم النقض مع عدم الاعتياد. ولو كان مع عدم انسداد الطبيعي ففي النقض الخارج منه أقوال :

النقض مطلقا ، وإليه ذهب في السرائر والتذكرة.

وعدمه كذلك ، واختاره غير واحد من المتأخرين وتردّد فيه في الذخيرة واستشكله في الحدائق فيرجع إلى القول بعدم النقض. وقد نصّ عليه في الأخير.

وهو غريب مع مبالغة في عدم حجية الاستصحاب في صورة الشك في قدح العارض كما في المقام ، والتفصيل بين حصول الاعتياد وعدمه.

وفي الحدائق (٤) وغيره : إنّه المشهور والتفصيل بين الخروج عما دون المعتاد وما فوقها ، وعزي إلى الشيخ في المبسوط والخلاف.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ / ٨٦.

(٢) زيادة : « مع » من ( د ).

(٣) لم ترد في ( ب ) : « وبه قال .. عدم الاعتياد ».

(٤) الحدائق الناضرة ٢ / ٨٦.

٣٥٦

والوجه في الأقوال المذكورة إطلاق ما دلّ على نقض البول والغائط ، فإن (١) الإطلاقات إنما تنصرف إلى الأفراد الشائعة (٢) ، وهو الخارج من الموضع المعتاد ، وفيها ما يدل على حصر النواقض أيضا ، وأنه مع الاعتياد يكون مشمولا للإطلاقات ؛ لانصرافها إلى المعتاد بخلاف ما إذا لم يحصل الاعتياد وأنّ الخارج عما دون المعدة مشمول للغاية ، فيتناول (٣) الاسم بخلاف الخارج عمّا فوقها.

وقد يقال : إن الإطلاقات إنّما تنصرف إلى المعتاد الشائع لا معتاد الشخص على سبيل الندرة ، فلا فائدة في اعتبار الاعتياد بالنسبة إليه إلّا أن يقال : إن المنساق من العبارة هو خصوص الخارج من الموضع المعدّ لخروجه خلقة أو المعتاد المعدّ له عارضا وإن ندر (٤) حصول الثاني فإنّ ندرة حصوله لا يقتضي خروجه عن الإطلاق مع ظهور شموله له بعد حصوله على ما هو الأظهر من انصراف الإطلاقات إلى الأفراد النادرة إذا شملها المعنى المنساق من اللفظ ، بخلاف ما إذا كان شك في الشمول أو ظهور في خلافه.

فظهر بذلك الفرق بين ندرة حصول الاعتياد في الخروج من غير الموضع المعتاد وندرة الخروج عن غير المعتاد.

ويتبيّن منه قوة التفصيل المشهور إلّا أن يكون الخروج عن حوالي الموضع المعروف ، فيحتمل فيه إطلاق البناء على النقض كما إذا خرج البول في المرأة من مخرج الحيض إذا أفضى ، وكذا إذا حصل ثقب في الآلة فخرج منه البول أو قطع الذكر. وينبغي القطع فيه بحصول النقض بأوّل مرة.

ثمّ إن المرجع في صدق الاعتياد إلى العرف ، فلا عبرة بتكرره مرّتين كما اعتبر في عادة الحيض. واكتفى به هنا في الروض والمسالك أو ثلاثا كما حكي عن بعض الأفاضل. وقيّده

__________________

(١) في ( د ) : « وإنّ ».

(٢) في ( ب ) : « السابقة ».

(٣) في ( د ) : « فيتناوله ».

(٤) في ( ألف ) : « قدر ».

٣٥٧

بعضهم بعدم تطاول الزمان.

هذا كلّه في البول أو الغائط.

ويحتمل إجراء الجميع في الريح إلّا أنّه نصّ في المهذب والسرائر (١) والمنتهى (٢) والبيان والمشارق (٣) وكشف اللثام على عدم نقض الريح الخارج عن القبل الشامل للذكر والفرج ، وظاهر ذلك عدم الفرق بين حصول الاعتياد وعدمه ، فقضيته حينئذ عدم الاعتبار بالريح الخارج من الدبر أو المخرج المعدّة للغائط.

وفي بعض الصحاح تخصيص النقض بالضرطة (٤) والفسوة ، وصدقهما مع الخروج عن معد آخر غير ظاهر ، فالأظهر عدم إلحاق الريح بهما فيما ذكرنا للشك في الشمول وقضاء الأصل والنصوص بعدم انتقاض الطهارة بالشّك.

وهل يعتبر كون الخروج من (٥) النحو المعتاد أو يكفي مسماه كيفما كان؟ وجهان ، فلو خرجت المقعدة متلطخا بالعذرة فعادت لم ينقض على الأوّل بخلاف الثاني.

واستقرب في كشف اللثام عدم النقض فيه ، وحكاه عن الذكرى ، واحتمله في المدارك إلّا أنّه مال إلى النقض.

وكأنّه الأظهر لصدق الخروج معه لغة وعرفا. وانصراف الإطلاقات عما ليس معتادا مطلقا ممنوع.

وينبه عليه أنّه لو انفصل ثمة شي‌ء بعد الخروج معها نقض قطعا فكذا مع عدمه (٦) لو خرج من الأغلف بول فصار في غلفته ، ففي انتقاض طهارته وجهان مبنيّان على أنّ ما تحت الغلفة من الظواهر أو البواطن ، وقد ذكر في وجوب غسل ما تحت الغلفة في الاستنجاء وجهان

__________________

(١) السرائر ١ / ١٠٧.

(٢) منتهى المطلب ١ / ١٨٨.

(٣) مشارق الشموس ١ / ٥٧.

(٤) في ( ألف ) : « بالضرط ».

(٥) في ( د ) : « على ».

(٦) زيادة في ( د ) : « و ».

٣٥٨

بل حكي فيه قولان ، وكأن الأقوى صدق (١) الخروج معه إلّا أن يكون (٢) ..

ولو قطع بعض الذكر وأبقى منه الجلدة فجرى البول إليها ففيه قولان.

وكأن الأقوى هنا عدم الانتقاض مع عدم الخروج إلى الظاهر.

ثمّ إنّه مناط (٣) الحكم بالنقض على تسمية الخارج باسم البول أو الغائط في العرف ، فلو لم يسمّ باسميهما (٤) لم يثبت فيه الحكم.

ولو خرج عن التسمية لأجل الامتزاج بالغير كالبول الممتزج بالدم ففيه وجهان ؛ أقواهما الانتقاض.

ولو استهلك فيه لصدق خروج البول وإن لم يكن متميزا في الحسّ ولو لم يتميز البول من الدم في المثانة كما قد يتفق في بعض أمراضها ، احتمل عدم الانتقاض ؛ لعدم صدق اسمه قبل الامتياز.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من اعتبار الاعتياد وعدمه إنما هو في نقض الخارج.

وأمّا في نجاسته فلا شكّ فيها مع صدق الاسم لتبعيّة الحكم. والفارق إناطة الحكم هنا بالخروج وهناك بالتسمية.

والظاهر أن ذلك ممّا لا خلاف فيه كما يستفاد من إطلاقاتهم. وربّما يستفاد من بعض الأفاضل تأمّل فيه ، وليس في محلّه.

ثمّ اعلم أنّه قد وقع في المعتبرة المستفيضة تقييد الريح الناقض بكونه ذا صوت أو رائحة ، وقضيّة ذلك عدم نقض الخالي عنهما ولو مع اليقين بالخروج.

وقضية حمل المطلق على المقيد تقييد المطلقات بها لكن لم نر أحدا من الأصحاب عمل على ظاهرها.

__________________

(١) لم ترد في ( ب ) : « صدق الخروج .. وكان الأقوى ».

(٢) العبارة هكذا ، وفيها نقص بيّن.

(٣) في ( د ) : « يناط ».

(٤) في ( ألف ) : « باسميها ».

٣٥٩

ويمكن أن يحمل ذلك على إرادة عدم انتقاض الطهارة بمجرّد الشك أو الظنّ ، وقد يومي إليه غير واحد من تلك الأخبار.

ولمّا كان كلّ من الوصفين من أوضح الأدلّة على اعتبار خصوصهما في تلك الروايات ، وقد روى علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام (١) : رجل يكون في الصلاة فيعلم أن ريحا قد خرجت ، فلا يجد ريحها ولا يسمع صوتها؟ قال : « يعيد الوضوء والصلاة » (٢).

وربّما يخيّل (٣) تخصيص الريح الناقض بالمعدي فلو اجتمعت الرياح في أطراف المقعدة لم ينقض ، فجعل الإمام عليه‌السلام أحد الوصفين كاشفا عن الناقض وعدمه عن عدمه إلّا أن يعلم بالحال في بعض الأخبار (٤) مع الخلو عن الوصفين أيضا فيحكم أيضا بالنقض قطعا.

وعليه يحمل الرواية الأخيرة.

فهناك صور ثلاثة يتبين الحكم فيها من الجمع من أخبار الباب.

وفيه : أنّه جمع لا شاهد عليه ، بل ظاهر إطلاقات الأصحاب خلافه ، وكذا ظواهر الأخبار ، فتأمّل.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « في ».

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٢٤٨ ، باب أنه لا ينقض الوضوء الا اليقين بحصول الحدث ، ح ٩.

(٣) في ( د ) : « يتخيّل ».

(٤) في ( د ) : « أحيان ».

٣٦٠