تبصرة الفقهاء - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

تبصرة الفقهاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: السيد صادق الحسيني الإشكوري
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-988-000-6
ISBN الدورة:
978-964-988-003-7

الصفحات: ٥٢٨

تبصرة

[ في طهورية الماء المستعمل ]

الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر طاهر مطهّر من الخبث والحدث بإجماعنا المعلوم المقبول (١).

ويدلّ عليه مضافا إلى ذلك : الأصل ، والعمومات ، وخصوص رواية عبد الله بن سنان (٢).

وحكي عن شيخنا المفيد استحباب التنزّه عنه. ولا مستند له.

وكأنّه لأجل زيادة النظافة المطلوبة في ماء الطهارة ، لكن روى الصدوق مرسلا عن علي عليه‌السلام (٣) أفضليّة الوضوء من فضل جماعة المسلمين عن الوضوء من ركو ، أو مجرد إطلاقه قد يفيد عكس ما ذكره رحمه‌الله.

ومثله المستعمل في الأغسال الغير الرافعة كغسل الجمعة والعيد والزيارة ونحوها.

وهو أيضا ممّا لا خلاف فيه.

ونصّ المفيد بأنّ الأفضل تجري المياه الطاهرة الّتي لم يستعمل في أداء فريضة ولا سنّة.

وظاهره يدلّ على ما حكينا عنه أولا ، بل ويعمّ غسل اليد قبل الطعام ونحوه من الغسلات المندوبة.

وقد يستدلّ على كراهة الأغسال بغسالة الأغسال المندوبة لخبر : « من اغتسل من الماء

__________________

(١) في ( د ) : « المنقول ».

(٢) زيادة في ( د ) : « وغيرها ».

(٣) أصل الرواية هكذا : قال : سئل علي عليه‌السلام : « أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال : « لا بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة ».

أنظر : وسائل الشيعة : ١ / ٢١٠ ، باب أن الماء المستعمل في الوضوء طاهر مطهر ح ٣.

٣٢١

الذي اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلّا نفسه » (١) بناء على ظاهر إطلاقه.

وقد يقال : بدلالة آخر الرواية ورودها في ماء الحمام ؛ إذ فيه : فقلت : إن أهل المدينة يقولون : فيه شفاء من العمى (٢) فقال : « كذبوا! يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرّهما وكلّ ما خلق الله ثمّ يكون شفاء من العين » (٣)؟!

فلا تدلّ على المستعمل في خصوص الأغسال الغير الرافعة.

قلت : في تخصيص ما ذكر لأوّل الرواية تأمّل ، غاية الأمر أن يكون ردّ ما ذكروه مخصوصا بالقسم المذكور لوضوح الحال فيه أو لاختصاص (٤) قولهم عليهم‌السلام.

ولا يذهب عليك أنّ مورد الرواية هو الماء الذي اغتسل فيه لا به ، فالتعميم مشكل إلّا أن ينقح المناط أو يقال فيه بالأولوية.

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٥٠٣ ، باب الحمام ح ٣٨.

(٢) في المصدر : « العين ».

(٣) الكافي : ٦ / ٥٠٣ ، باب الحمام ح ٣٨.

(٤) في ( ب ) : « ظاهر اختصاص » ، بدل « فيه أو لاختصاص ».

٣٢٢

تبصرة

[ في المستعمل في رفع حدث الجنابة ]

المستعمل في رفع حدث الجنابة طاهر بلا خلاف عندنا إذ لا منجّس له لطهارة بدن الجنب ، وعدم تعقل سراية حكم الحدث إلى الماء مع عدم تأثره ذلك في محلّه.

مضافا إلى الأصل والعمومات وإجماع الأصحاب.

وكذا لا خلاف يعرف في طهوريّته للخبث.

وحكى جماعة عليه الإجماع. وحكى الشهيد قولا بعدمه نظرا إلى استيفاء قوّته ، فالتحق بالمضاف.

وهذا القول على فرض كونه من الأصحاب شاذّ ضعيف لا يقتضي وصمة في الإجماع المذكور كما توهمه بعضهم. وما استند (١) في إثباته أضعف منه ، فبعد ملاحظة الأصل والعمومات السليمة عن المعارض والإجماع المنقول بل المعلوم لا ريب في الحكم.

وفي طهوريّته للحدث خلاف معروف. والأشهر فيه ـ كما حكاه بعض الأجلّة ـ ذلك ، وحكي عليه الشهرة بين المتأخرين.

وفي شرح التهذيب للفاضل الجزائري : إن المشهور بقاء ما استعمل في رفع الأكبر على الطهورية. وذهب جماعة من القدماء على عدمها.

وفي الخلاف : إنّه مذهب أكثر أصحابنا.

وقد يستظهر من الشيخ في الإستبصار التفصيل بين حالتي الاختيار والاضطرار. وكأنّه مبنيّ على مجرّد إرادة الجمع بين الأخبار كما هو ظاهر من طريقته في كتابيه.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « إليه ».

٣٢٣

والأقوى الأوّل ؛ للأصل والعمومات مع عدم وضوح المخصّص كما ستعرف.

مضافا إلى الرواية المذكورة ؛ لظهورها في الكراهة والصحيح على الأظهر : عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال : « ينضح بكفّ بين يديه وكفّا من خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، ثمّ يغتسل » (١).

وفي صحيحة علي بن جعفر : « إن كان يعني الماء في مكان واحد ، وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه ؛ فإن ذلك يجزيه » (٢).

وما يستظهر من الرواية الأولى وظاهر السؤال في الثانية من كون ذلك حال الاضطرار لا يوجب قصورا في الدلالة ؛ إذ لا قائل ظاهرا بالفصل.

وصحيحة محمّد بن مسلم : قلت له : الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره أغتسل من مائه؟ قال : « نعم لا بأس أن تغتسل منه » (٣).

ويؤيّده أيضا (٤) في الأخبار من المنع عن الاغتسال بغسالة الحمّام ؛ معلّلا بأنّ فيه غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب ، أو غسالة الزاني وولد الزنا والناصب ونحو ذلك ؛ إذ لو كان غسالة غسل الجنابة موجبا لذلك لكان التعليل به أوضح.

حجّة المنع بعد الاحتياط لتحصيل البراءة اليقينية بعد اليقين بالشغل ، ورواية عبد الله ابن سنان : « الماء الذي يغسل به الثوب ويغسل (٥) من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ به وأشباهه » (٦).

__________________

(١) الإستبصار ١ / ٢٨ ، باب الماء المستعمل ، ح ٢ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٤١٧ ، باب المياه وأحكامها ٣٧.

(٢) الإستبصار ١ / ٢٩ ، باب الماء المستعمل ، ح ٣ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٤١٧ ، باب المياه وأحكامها ، ح ٣٤.

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٨ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ٣٠ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٤٨ ، باب عدم نجاسة ماء الحمام إذا كان له مادة بمجرد ملاقات النجاسة ، ح ٢.

(٤) زيادة في ( د ) : « ما ورد ».

(٥) زيادة في ( ب ) و ( د ) : « به الرجل ».

(٦) الإستبصار ١ / ٢٧ ، باب الماء المستعمل ، ح ١.

٣٢٤

ورواية حمزة (١) بن محمّد الناهية عن الغسل من البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام ؛ معلّلا بأنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب.

وصحيحة محمّد بن مسلم : سألته عن ماء الحمّام : « أدخله بإزار ولا تغتسل من ماء آخر إلّا أن يكون فيه جنب أو أكثر الناس فلا تدري فيه جنب أم لا » (٢)؟

وصحيحة الأحرز : عن الماء الذي تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شي‌ء » (٣).

والجواب أمّا عن الاحتياط فبعد وجوبه في المقام بعد نهوض العمومات حجة (٤) والروايتان المذكورتان لضعف إسنادهما وعدم وضوح جابر لهما لا يقومان حجّة لإثبات حكم مخالف للأصل.

على أنّ دلالة الثانية على المدّعى غير ظاهرة إذ تعليل الحكم بالوجوه المذكورة لا يدلّ على استقلال كلّ منهما في ذلك.

والصحيحتان المذكورتان غير ظاهر في الدلالة ؛ لظهور الأوّل في الكراهة من جهة الاكتفاء فيه بمجرّد احتمال وجود الجنب ، وهو غير موجب لذلك بلا خلاف.

ودعوى استعمال النهي إذن في الحرمة والكراهة معا لو سلّم جوازه فلا شكّ في كونه خلاف الظاهر ، بل الظاهر عدم التأمل في ترجيح المجاز على استعمال اللفظ في المعنيين ، فليحمل النهي على إرادة مطلق المرجوحيّة. ومعه لا يخفى فيه دلالة على المقصود.

ويرشد إلى إرادة الكراهة في المقام أنّ النهي الأوّل ليس للإلزام قطعا فيهون (٥) الخطب في الثاني.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٣ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٩ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ٣٣.

(٣) الكافي ٣ / ٢ ، باب الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ، ح ٢.

(٤) زيادة في ( د ) : « على الجواز ».

(٥) في ( ألف ) و ( ب ) : « يتهون ».

٣٢٥

وأيضا غاية ما تقتضيه الرواية هو النهي عن الاغتسال مع اغتسال الجنب هناك واستعماله للماء.

ولا دلالة فيه على اغتساله في الماء ؛ ليكون الباقي غسالة ، فيكون النهي من جهة ملاقاته الماء ، وهو غير محلّ البحث.

وبمجرّد تنزيله على محلّ النزاع لا يتمّ الاستدلال.

وعدم دلالة الثانية على استقلال غسالة الجنب في الحكم ، بل وتأثيره فيه لوقوعه في السؤال خاصّة ، وعلى فرضه فهو يدلّ إذن على التنجيس ، ولا قائل به.

مضافاً إلى معارضتها بما عرفت من الأخبار الظاهرة في خلافه.

وحمل ما دلّ على المنع على صورة وجود النجاسة في بدن الجنب كما هو الغالب فيه غير بعيد ، ولذا ذكر إزالة النجاسة عند بيان كيفية غسل الجنابة في جملة من الأخبار وكلام الأصحاب ، فإذن يكون المنع من جهة استعماله في رفع الخبث.

[ تنبيهات ]

وهاهنا أمور ينبغي الإشارة إليها :

أحدها : الظاهر ثبوت الحكم المذكور منعا وجواز (١) [ ه ] في المجتمع بعد تمام الغسل ، وفي أثنائه ، بل وفي القطرات المنتضحة منه ، إلّا أنها إذا انتضحت في الإناء لم يمنع من الاغتسال بمائه لاستهلاكه فيه ؛ إذ لا يزيد على حكم المضاف ، فما في كلام بعض الأعلام خروج ذلك عن محلّ البحث ، وردّه على المنتهى حيث استظهر منه دخوله فيه استنادا إلى الأخبار النافية للبأس عنه إذا وقعت في الإناء ، وتجويز الصدوق بل الشيخ أيضا في ظاهر كلامه الاغتسال بماء الإناء إذا انتضح فيه مع أنّهما من المانعين ممّا لا وجه له ؛ لوضوح أن ثبوت الحكم المذكور لنفس القطرة لا يوجب ثبوته لما استهلك فيه.

__________________

(١) في ( د ) : « جوازا ».

٣٢٦

والذي دلّت عليه الأخبار المذكورة ، وكلام الشيخين المذكورين هو الثاني خاصّة ، ولو أفسد غسله ففي ثبوت الحكم لما اجتمع قبله وجهان.

ولو ظهر فساد غسله لم يجر فيه حكمه ، ولو اعتقد صحته فغسالة من خالف أهل الحق لا يجري فيه الحكم المذكور ، بل حكمها حكم السؤر ، فذكر غسالة الناصب وغيره الوارد في بعض الروايات إنّما هو من جهة السؤرية لا غيرها.

ثانيها : يثبت الحكم المذكور للغسل الترتيبي والارتماسي مع قلّة الماء من غير خلاف يعرف كما في الحدائق (١) : هل يصحّ غسله بالارتماس؟ وجهان.

والظاهر ابتناؤه على كون الغسل حاصلا دفعة حقيقة في الكون تحت الماء أو أنّه يحصل حقيقة بالتدريج وإن صدق معه الدفعة العرفيّة ، فعلى الأوّل يحكم بالصحّة قطعا ، وعلى الثاني يجي‌ء وجه الفساد.

وقد تبيّن من ذلك أنّه لو نوى الغسل حال الكون تحت الماء صحّ غسله ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

وحكى (٢) الحدائق الإجماع عليه.

والأقوى صحّة الغسل مطلقا لإطلاق الأخبار الواردة في الارتماس.

وقد يستدلّ عليه أيضا بأنّه كما لا يخرج الماء الوارد على البدن بمجرّد وروده عن حكمه ـ ولذا لا يجب تجديد الماء لكلّ جزء جزء ـ كذلك الحكم (٣) في الورود عليه لذلك.

وفيه : أنّه قد قام الإجماع هناك شاهدا على الجواز بخلاف المقام. ودعوى عدم الفرق ممنوع للزوم الحرج هناك.

وأمّا هنا فيمكن حصوله بالدفعة الحقيقية. نعم ، فيما ذكر تقريب للمقام وإن لم ينهض حجّة على المرام.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « و ».

(٢) زيادة في ( د ) : « في ».

(٣) في ( د ) : « الحال ».

٣٢٧

ولو نوى الغسل ترتيبا بارتماس العضو في الماء فإن نواه وهو في الماء دفعة صحّ غسل العضو المقدم خاصّة ، ولو نوى غسل العضو تدريجا ففي صحّة غسل ما عدا الجزء الأوّل إشكال من إلحاقه بالماء الوارد ، ومن الشك في تنقيح المناط.

وكأنّ الأوّل أقوى.

هذا كلّه إن قلنا بصيرورة الماء مستعملا قبل خروجه عن الماء وانتقاله من محلّ الغسل كما هو الأقوى.

وبه نصّ في المنتهى والنهاية إلّا أن ظاهر (١) التأمل في النهاية في كونه مستعملا إذن بالنسبة إلى غيره حيث ذكر فيه وجهين ، والأقوى كونه مستعملا بالنسبة إليه أيضا بل ثبوته بالنسبة إليه أولى كما اختاره في المنتهى.

ويعزى إلى ظاهر الشهيد في الذكرى القول بكونه حينئذ مستعملا في حقّ الغير ، أمّا بالنسبة إليه فلا حتّى يخرج.

وفي دلالة عبارته هناك على ذلك تأمّل.

ثالثها : المعروف بينهم أنّ محلّ الخلاف هو المستعمل في رفع الحدث الأكبر سواء استعمل في رفع الجنابة أو غيرها. وعنون البحث في المنتهى في خصوص غسل الجنابة ولم يذكره غيره.

وحمله صاحب المعالم على إرادة المثال ، واستشكل في ذلك في الحدائق ؛ نظرا إلى ورود الأخبار في خصوص الجنابة ، وكلام بعض المانعين كعبارة الصدوق في الفقيه خصوص بها.

نعم ، قد يستفاد التعميم من رواية عبد الله بن سنان على وجه إلّا أنّه لا يتعيّن حملها على ذلك ؛ لجواز عطف قوله « وأشباهه » على فاعل « يجوز » ، فيكون المعنى أنّه لا يجوز الوضوء وأشباهه به ، فلا يفيد حكم غير الجنابة.

قلت : بعد بناء الأصحاب على تعميم الحكم يتقوّى في الرواية إرادة المعنى الأول ، مضافا

__________________

(١) في ( د ) : « ظاهره ».

٣٢٨

إلى أظهرية (١) من اللفظ ، وممّا يقربه ذكر « الأشباه » بصيغة الجمع ، وهي لا تناسب الحمل الثاني ؛ إذ ليس هناك شي‌ء غير الغسل للاتفاق على إزالة الخبث به كما مرّ.

ثمّ إنه على ما رجّحناه من البناء على الكراهة فالأمر واضح ؛ للاكتفاء فيه بمجرّد فتاويهم ، مضافا إلى ما عرفت من إطلاق بعض الأخبار الدالّة عليه.

رابعها : هل يختص الحكم المذكور بما إذا تيقّن حصول الحدث ليكون الغسل رافعا لحدث يقيني أو يعمّ صورة الشك في الحدث أيضا إذا وجب به الغسل كالبلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء أو تيقّن بالحدث والطهارة معا وشكّ في المتأخّر منهما أو يعم صورة عدم الإيجاب أيضا فيجري الحكم أيضا فيما إذا استحب له الغسل من جهة الاحتياط كما إذا ظنّ الجنابة وقلنا برجحان الاحتياط فيه كما هو الأقوى أو الخروج عن خلاف كما في وطي دبر المرأة أو البهيمة بناء على عدم وجوب الغسل له ، ونحو ذلك؟ وجوه أضعفها الأخير ؛ لأصالة بقاء طهوريّة الماء مع عدم ظهور (٢) مخرج له ، و (٣) مجرّد احتمال رفع الحدث به واقعا لا يكفي فيه مع حكم الشرع بنفيه ظاهرا.

والثاني مختار بعض الأفاضل ؛ للحكم معه شرعا بكونه محدثا. والأحكام الشرعية تابعة للظاهر لا الواقع.

وكأنّ الأظهر أن يقال : أن كان الحكم بوجوب الغسل من جهة الحكم بحصول الحدث شرعا كما إذا تيقّن الحدث وشكّ في الغسل ، فالظاهر ثبوت حكم الغسالة فيه ، وإن كان لتغليب جانب الاحتياط فليس الثابت له إلّا مجرّد أحكام الحدث (٤) ، فلا يتعدى الحكم إلى الماء ؛ عملا بالاستصحاب لعدم (٥) ثبوت (٦) رفعه الحدث ، ومجرّد ارتفاع أحكام المحدث عنه في

__________________

(١) في ( د ) : « أظهريّته ».

(٢) في ( ألف ) : « طهور ».

(٣) في ( ألف ) : « أو » بدلا من « له و ».

(٤) في ( د ) : « المحدث » ، وهو الظاهر.

(٥) في ( ب ) : « كعدم ».

(٦) في ( د ) : « ثبوته ».

٣٢٩

الظاهر لا يوجب الحكم برفع الحدث ؛ لعدم قيام الدليل عليه كذلك كما في الثوبين المشتبهين ، فإنّه لا يصحّ الصلاة في شي‌ء منهما مع عدم تنجيس أحدهما لما يلاقيه.

خامسها : هل يجري الحكم المذكور في المستعمل في الغسلات المندوبة كالغسلة الثانية والثالثة في كلّ من الأعضاء أو يختصّ بالواجب منها أو يفصل بين ما كان قبل ارتفاع الحدث أو بعده؟ وجوه ؛ ظاهر الإطلاقات هو الأوّل ، وبناء على ما قوّينا من الكراهة لا يبعد القول به.

سادسها : هل يجري الخلاف في استعمال الماء المفروض في رفع الحدث أو يجري في مطلق استعماله في الوضوء والغسل وإن لم يكونا رافعين؟ فظاهر إطلاق جماعة حيث عنونوا البحث في طهورية الماء المفروض ورفع الحدث به هو الأوّل ، وظاهر إطلاق الأخبار الّتي استدلّوا بها هو الأوّل ، وعلى ما قوّينا ( فتعميم ) (١) الحكم هو الأقوى.

سابعها : الظاهر أنّ محلّ النزاع إنّما هو في القليل ، فلو اغتسل بالكثير لم يخرج من الطهوريّة.

وفي الحدائق (٢) أنّه الظاهر من كلمات جمع من الأصحاب ، تصريحا تارة وتلويحا أخرى.

وقد يعزى إلى ظاهر العلامة في المختلف تعميم الخلاف للقسمين حيث استدلّ بصحيحتي صفوان وابن بزيع في المسألة.

وفيه تأمّل لا يخفى على من راجع المختلف ، بل ظاهره خلاف ذلك.

[ و ] عن بعض المتأخرين إسناد المنع في (٣) الكثير أيضا إلى شيخنا المفيد حيث حكم في الحقيقة بكراهة الارتماس في الكثير الراكد.

قال : والظاهر أنه لا وجه له سوى صيرورته مستعملا ممنوعا من الطهارة به ثانيا.

قلت : كأن ما ذكره وقع عن غفلة من ملاحظة عبارته المعروفة في ذلك ؛ إذ ذاك ظاهر في

__________________

(١) ما بين الهلالين من ( د ).

(٢) الحدائق الناضرة ١ / ٤٥٧.

(٣) زيادة في من ( د ).

٣٣٠

خلاف ذلك بل كالصريح فيه حيث قال (١) : « ولا ينبغي له أن يرتمس في الماء الراكد ؛ فانّه إن كان قليلا أفسده وإن كان كثيرا خالف السنّة بالاغتسال فيه ».

فإن حكمه بإفساد الماء مع القلّة خاصّة كالصريح في عدم حصوله مع الكثرة.

على أن ما ذكره من انحصار الوجه في الكراهة بيّن الفساد.

ونصّ الشيخ في التهذيب عند شرح العبارة المذكورة على عدم زوال الطهورية عنه مع الكثرة.

وفيه إيماء إلى خروجه عن محلّ الخلاف.

وظنّي أن الحكم في ذلك أوضح من أن يخفى ؛ إذ ليس استعمال الماء في رفع القذارة الحكمية بأشدّ من استعماله في رفع النجاسات العينية ، وإذا كان الثاني ممّا لا خلاف في عدم رفعه الطهوريّة عن الماء فالماء (٢) أولى.

ثامنها : الظاهر انّ عود (٣) المستعمل إلى الطهوريّة كعود النجس إلى الطهارة ؛ إذ لا يزيد حكمه عليه ، فعلى ما هو الأقوى (٤) الاكتفاء في التطهير بمجرّد الاتصال بالمعتصم يكتفي به هنا أيضا ، والظاهر الاكتفاء هنا بالاستهلاك في الماء الطهور كيفما كان ؛ إذ لا يزيد على المضاف.

وهل يزول عنه بإتمامه كرا قولان :

أحدهما ذلك. وذهب إليه الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى.

والآخر المنع عنه. واختاره المحقق وجماعة. وتوقف الشيخ في الخلاف.

والأقوى بناء المسألة على كون الإتمام مطهّرا للقليل النجس وعدمه ، فعلى القول به هناك لا ينبغي التأمل فيه في المقام وإلّا فلا دليل على زوال الحكم الثابت ، فالقول بعدم عود الطهارة هناك وعود الطهوريّة هنا ممّا لا وجه له.

__________________

(١) المقنعة : ٥٤.

(٢) في ( د ) : « فالأوّل ».

(٣) في ( ب ) : « فرد ».

(٤) زيادة في ( د ) : « من ».

٣٣١

والاستدلال عليه بأنّ بلوغ الكريّة مانع عن الانفعال بالنجاسة فمنعه عن الانفعال بارتفاع الحدث أولى على ما في المنتهى (١) كما ترى ؛ إذ ذلك إنّما يقتضي أن يكون عاصما لنفسه بعد حصول الكريّة كالنجاسة لا رافعا لما ثبت فيه لعدم ثبوته في اعتصامه عن النجاسة أيضا. على أن رفعه لذلك أولى من رفعه النجاسة ، فتوجّه المنع عليه كما لا يخفى.

__________________

(١) نقل هذه العبارة من المنتهى في الحدائق الناضرة ١ / ٤٥ ، ولم نعثر عليه في المنتهى.

٣٣٢

تبصرة

[ في غسالة الحمام ]

اختلف الأصحاب في غسالة الحمّام ، والمراد بها مجمع غسالات الحمّام. وعبّر عنها في الرواية : « بالبئر الّتي مجتمع (١) فيها غسالة الحمّام » (٢).

وفي السرائر (٣) : إنّه المستنقع الّذي يسمّى الحبة (٤) ، فذهب جماعة من قدماء الأصحاب إلى وجوب الاجتناب عنها في الغسل بل والوضوء أيضا ، بل مطلق التطهير ، ويعزى إلى الصدوقين ؛ معلّلين بأنّه « يجتمع فيه غسالة اليهودي والنصراني والمبغض لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو شرّهم » (٥).

ومنه الشيخ في النهاية (٦) وابن ادريس في السرائر (٧).

وفي الشرائع (٨) : لا تغتسل بغسالة الحمّام إلّا أن يعلم خلوها عن النجاسة. ونحوه ما عن القواعد والبيان. وليس في هذه العبارات تصريح بالنجاسة وإنّما دلّت على المنع من الاستعمال لكنّ التعليل الوارد في كلام الصدوقين تبعا لما في الرواية ظاهر في النجاسة.

واستظهر بعض المتأخرين من تعليلهما أنّهما لا يقولان بالمنع.

__________________

(١) في ( د ) : « يجتمع ».

(٢) الكافي ٣ / ١٤ ، باب ماء الحمام والماء الذي تسخنه الشمس ، ح ١.

(٣) السرائر ١ / ٩٠.

(٤) في المصدر : « الجئة ».

(٥) من لا يحضره الفقيه ، باب المياه وطهرها ونجاستها ، ح ١٦.

(٦) نهاية الإحكام ١ / ٢٤٥.

(٧) السرائر ١ / ٩٠.

(٨) لم نعثر عليه في الشرائع ، ونقله في المعتبر ١ / ٩٢.

٣٣٣

وهو كما ترى.

نعم ، ظاهر الصدوق نفي البأس عنه إذا أصاب الثوب حيث روى الرواية الدالّة عليه بعد ما ذكر الحكم الأوّل ، فيكون قائلا بطهارته مع المنع من استعماله.

ونصّ في الإرشاد بنجاستهما ما لم يعلم خلوه عن النجاسة. وربّما يعزى ذلك إلى بعض من تأخر عنه.

ويحتمل أن يحمل عليه كلام المانعين من استعماله ، فيتّحد القولان إلّا أن تنزيل كلام الصدوق عليه لا يخلو عن بعد.

والمختار عند العلامة في المنتهى هو الطهارة ، وظاهر عدم المنع من استعماله.

وفي الروض (١) : إنّه الظاهر إن لم يثبت الإجماع على خلافه. وهو مختار المحقق الكركي وغيره من المتأخرين.

حجة القول بمنعه من استعماله أمران :

أحدهما : عدّة روايات منها رواية حمزة بن أحمد ، عن الكاظم عليه‌السلام : « لا يغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام ؛ لأنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم » (٢).

ورواية ابن أبي يعفور ، عن الصادق عليه‌السلام : « لا تغتسل في البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمّام ؛ فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب ، وهو شرّهما » (٣).

وروى في العلل ، في الموثق ، عن ابن أبي يعفور ، عن الصادق [ عليه‌السلام ] في حديث قال : « وإيّاك أن تغسل من غسالة الحمّام ففيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم ؛ فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ،

__________________

(١) روض الجنان : ١٦١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٣ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ح ١.

(٣) الكافي ٣ / ١٤ ، باب ماء الحمام والماء الذي تسخنه الشمس ح ١.

٣٣٤

وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » (١).

لا يبعد اتحاد الروايتين إلّا أنّ ظاهر لفظ الروايتين يأباه. ويعضدهما عمل جماعة من القدماء بمضمونها بل لا يبعد أن يكون ذلك هو الأشهر مع اعتضاد بعض تلك الأخبار بالبعض.

ثانيهما : الإجماع (٢). وقد وردت به عن الأئمّة عليهم‌السلام آثار معتمدة قد أجمع الأصحاب عليها لا أجد مخالفا فيها.

وفيه دلالة على وجود أخبار معتمدة في ذلك ؛ ليكون متواترة أو مقرونة بقرينة القطع حيث إنّه لا يقول بحجيّة أخبار الآحاد. ويمكن أن يجتمع بما ذكر للقول بالنجاسة بناء على ظهور المنع من الاستعمال في ذلك سيّما بملاحظة التعليل حسب ما مرّ.

ويرد عليه أن الأخبار المذكورة لا دلالة فيها على المنع في صورة الشك فإن ظاهرها الحكم بوجود النجس فيها. وظاهره حصول العلم بذلك.

وحينئذ فلا كلام في النجاسة لو حمل على كونه مظنّة لذلك ، ففي التعليل شهادة على عدم إرادة التحريم بملاحظة ما تقرّر في الشريعة من أنّ المناط في الحكم بالنجاسة هو العلم دون الظن ، وأن قضية الأصل عدم المنع من الاستعمال من دون حصول العلم بالمنع. وكأنّ ذلك هو ملحوظ من استظهر من التعليل عدم المنع كما مر.

وكيف كان ، فلا دلالة ظاهرة في تلك الأخبار على المنع من الاستعمال في صورة الجهل ووجوه (٣) الأخبار المعتمدة (٤) في ذلك غير ظاهر ؛ إذ لم نجد من الأخبار في ذلك سوى ما ذكرنا.

والأوّلان ضعيفان ، والثالث أيضا ليس من الصحيح إلّا أنّ إسناده معتبر.

__________________

(١) علل الشرائع ١ / ٢٩٣ ، باب ٢٢٠ آداب الحمام ، ح ١ ؛ وسائل الشيعة ١ / ٢٣٠ ، باب كراهة الاغتسال بغسالة الحمام .. ح ٥.

(٢) زيادة في ( د ) : « حكاه في السرائر ، قال بعد الحكم بعدم جواز استعماله على حال : وهذا إجماع ».

(٣) في ( ألف ) : « وجوه ».

(٤) في ( ب ) : « المفيدة ».

٣٣٥

وأمّا الإجماع فغير ظاهر ، وحكاية ابن إدريس (١) لا يخلو عن وهن ، مع تفرّده بنقله ، وذهاب كثير من الأصحاب إلى خلافه.

قال المحقق في المعتبر (٢) بعد ذكر كلامه : ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية ورواية مرسلة ذكرها الكليني عن بعض أصحابنا ، عن ابن جمهور.

وهذه مرسلة وابن جمهور ضعيف جدا ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال ، فأين الإجماع وأين الاخبار المعتمدة؟! ونحن نطالبه بما ادّعاه ، وأفرط في دعواه.

وفي مرسلة أبي يحيى الواسطي تصريح بطهارته ، وظاهر الفقيه العمل بها ، فيكون حاكما بصحّتها.

وقد ظهر بما قرّرنا حجة القول بالطهارة وعدم المنع من الاستعمال مع عدم العلم بالنجاسة ، فإنّ القاعدة الشرعيّة المحكمة المأخوذة من الاستصحاب وأصالة عدم وجوب الاجتناب والعمومات توقّف الحكم بالنجاسة على العلم بها ، وهو قضية مرسلة أبي يحيى الواسطي المشار إليها ، وهي وإن كانت ضعيفة إلّا أنّها مؤيّدة بذكرها في الفقيه وحكم الصدوق بصحتها بالأصل المذكور.

ويدلّ عليه أيضا ظاهر الإطلاق في الصحيحة الآتية ، ولا يحسب ماء الحمّام.

وهذا هو الأظهر في النظر ، فتكون المذكور من الروايات محمولا على الكراهة إن قلنا بكون المقصود من التعليل كونه مظنّة لورود تلك النجاسات ، وإن حمل على صورة العلم بذلك فهي محمولة على ظواهرها حسب ما عرفت.

وحينئذ فيكتفي في ثبوت الكراهة بالخروج عن خلاف الجماعة وما حكي من الإجماع عليه ودلالة الروايات المعتبرة عليه ، والظاهر أنّه لا شكّ في المرجوحيّة بل لا بد من مراعاة الاحتياط في المسألة.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « له ».

(٢) المعتبر ١ / ٩٢.

٣٣٦

وفي الرياض (١) : إنّه ينبغي القطع بعدم جواز التطهير مطلقا مع عدم العلم بطهارته (٢). وأمّا سائر الاستعمالات فالجواز قوي.

وأنت خبير بأنّ القطع المذكور ليس في محلّه ، والأخبار المذكورة غير واضحة الدلالة عليه حسب ما عرفت ، ولا دليل ظاهر في ذلك غيرها مع ما في الحكم بالطهارة من المنع عن الاستعمال في التطهير من البعد ، فلا وجه للالتزام به من دون قيام دليل ظاهر عليه.

[ تنبيهات ]

وينبغي التنبيه على أمور :

أحدها : أنّه لو علم بورود الماء النجس عليه مع قلّته فلا إشكال في نجاسته كما أنّه لا إشكال في طهارته مع علمه بعدم ملاقاة النجاسة له ، ولو ظنّ عدمه فالظاهر طهارته ، ولا يبعد خروجه عن محلّ البحث.

ولو شكّ فيه من دون ترجيح لملاقاته النجاسة ففي اندراجه في محلّ البحث وجهان ؛ من إطلاق كلامهم ، وظهور المفروض في كلامهم في صورة الظن.

ولذا عدّوه من مسألة تعارض الأصل والظاهر.

و (٣) يشهد له ملاحظة تعليل الروايات المذكورة حسب ما عرفت.

ثمّ إنّ الظاهر فرض المسألة في صورة قلة الماء أو بلوغه حدّ الكثرة مع كون الحال فيه على ما ذكر قبل البلوغ إليه ، بناء على عدم كون البلوغ حدّ الكرّ مطهّرا للقليل.

أمّا لو كان الماء المظنون الطهارة به الحاصل فيه كرّا أو ورود كرّ من الماء الطاهر كذلك فالظاهر خروجه عن محلّ البحث.

ثانيها : ظاهر المفروض في كلامهم الحمّامات المعروفة الموضوعة للعامّة ، وأمّا الحمّام

__________________

(١) رياض المسائل ١ / ١٢.

(٢) في ( ب ) : « بالطهارة ».

(٣) لفظة الواو لم تذكر في ( ألف ).

٣٣٧

الموضوع لخصوص أصحاب الدار ممّا لا يكون موردا للنجاسات على نحو المفروض في الأخبار وكلام الأصحاب فلا يبعد خروجه عن محلّ الكلام ، فلا بدّ من البناء فيه على مقتضى الأصل.

ويحتمل اندراجه فيه للإطلاق ، وهو بعيد لانصرافه إلى الشائع.

والفرق ظاهر بين الصورتين ، وقضية الأصل البناء على الطهارة ، وعدم الخروج (١) في الاستعمال حتّى يتبيّن المخرج عنه.

وفي جريان ذلك في الحمّامات العامّة ممّا لا يدخلها النّصاب إلّا اليهود والنصارى مع كونها مظنة لورود سائر النجاسات وجهان ، أوجههما ذلك إن بني الأمر فيه على الكراهة ، وأمّا مع البناء على المنع من الاستعمال ففيه إشكال من خروجها عن ظاهر الأخبار المذكورة ، ومن مشاركتها لها في المعنى.

ثالثها : الظاهر أنّه لا إشكال في أرض الحمّام وإن كان مجرى لتلك المياه المجتمعة لخروجها عن مورد النصّ وكلام الأصحاب ، فلا بدّ من البناء فيهما على مقتضى الأصل ، بل في المعتبرة المستفيضة المشتملة على الصحاح عدم البأس بها ، وعدم لزوم غسل الرجل منها بعد الخروج من الحمّام ، يستفاد منها طهارة الأرض وطهارة الماء المختلف (٢) فيها.

ولا دلالة فيها على جواز استعمال ذلك الماء في التطهير ، فيرجع فيه إلى الأصل.

ففي الصحيحين بعد السؤال عن الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه؟ قال : « لا بأس أن يغتسل فيه الجنب ولقد اغتسلت به ثمّ جئت فغسلت رجلي وما غسلتهما إلّا لما لزق بهما من التراب » (٣) يعني لا لأجل النجاسة بل للتنظيف من الكثافة.

وفي صحيحة أخرى : أرأيت أبا جعفر عليه‌السلام جائيا من الحمّام وبينه وبين داره قذر؟ فقال :

__________________

(١) في ( د ) : « الحرج » ، بدل : « الخروج ».

(٢) في ( د ) : « المتخلّف ».

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٨ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ٣٠.

٣٣٨

« لو لا ما بينى وما بين داري ما غسلت رجلي ولا يجنب ماء الحمّام » (١).

وفي إطلاق الفقرة الأخيرة دلالة على طهارة الغسالة ، بل وعدم وجوب التحرّز عنه في التطهير كما أشرنا إليه. ولا ينافي استحباب التنزّه عنها فإنّ النهي هنا في مقام توهّم الوجوب.

وفي الموثق : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام يخرج عن الحمّام فيمضي كما هو لا يغسل رجله حتّى يصلّي (٢).

وظاهر قوله « حتّى يصلّي » : حتّى يوقع الصلاة ، فيفيد عدم غسل رجله لأجل الصلاة أيضا.

وقد يحمل على إرادة إيقاع الصلاة ، فيدلّ على غسل رجله لأجل الصلاة. وحينئذ قد لا يفيد المدّعى ، بل ربّما يومي إلى خلافه إلّا أنّه خلاف الظاهر منه.

ثمّ إنّ حصول العلم بتنجس الأرض أحيانا لا يقضي وجوب الاجتناب عنها في غير حال العلم ، وذلك لورود النجاسة عليها تارة والمطهّر أخرى ، وما توارد عليه الحالان من دون علم بالمتأخر لا يحكم بطهارة ملاقيه ، بل الظاهر الحكم بطهارته أيضا لا لعموم « كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (٣). أمّا لو علم بنجاسة الأرض ولم يعلم بورود المطهّر عليه فالظاهر أنّه لا إشكال في الحكم بنجاسته بل (٤) ونجاسة ملاقيه أيضا ؛ بناء على ما هو المختار من حصول التنجيس بما حكم بنجاسته بالاستصحاب.

وعلى القول بعدمه يحكم بطهارة الملاقي بمجرد احتمال طريان المطهّر عليه. وهو أنسب بإطلاق تلك الأخبار. إلّا أنّ حملها على ما قلناه غير بعيد. وهو المتّجه بعد تنزيل المعلوم بالاستصحاب منزلة اليقين ، فكما أنّ صورة العلم بالنجاسة خارجة فكذا ما بمنزلته لنصّ الشارع على كونه حجّة متّبعة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٩ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ٣١ وفيه : ولا نحيت ماء الحمام.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٣٧٩ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ٣٢ وفيه : لا يغسل رجليه.

(٣) وسائل الشيعة ٣ / ٤٦٧ ، باب أن كل شي‌ء طاهر حتى يعلم ورود النجاسة عليه ، ح ٤.

(٤) لم ترد في ( ب ) : « بل ونجاسة ».

٣٣٩

تبصرة

[ في اشتباه الماء النجس بالطاهر ]

إذا اشتبه الماء النجس بالطاهر مع عدم الانحصار لم يجب الاجتناب ، وجاز استعمال كلّ منهما فيما يشترط بالطهارة بلا خلاف بين الطائفة.

ويدلّ عليه بعد الإجماع السيرة المعلومة ، ولزوم العسر والحرج الشديد لو لاه.

ويستفاد ذلك أيضا من الأخبار.

وأمّا مع الانحصار فالظاهر أنّه لا خلاف بين قدماء الأصحاب إلى ما بعد الشهيد الثاني في وجوب اجتناب الجميع وعدم جواز استعمال شي‌ء منها فيما يشترط بالطهارة. وقد استفاض في كلماتهم حكاية الإجماع على وجوب اجتناب الإنائين المشتبهين. حكاه في الخلاف والغنية والمعتبر والتذكرة والنهاية والمختلف وغيرها.

والأصل فيه بعد الإجماع ـ محصّلا ومنقولا ـ موثقة سماعة : عن رجل معه إناء ان وقع في أحدهما قذر لا يدري في أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : « يهريقهما ويتيمّم » (١).

ونحوه موثقة عمّار أيضا (٢).

وحكمه عليه‌السلام بالتيمّم مع تمكّنه من الماء صريح في المنع من استعمالهما وعدم صحّة الوضوء بشي‌ء منهما ، وعدم (٣) البناء على أصالة الطهارة بالنسبة إلى كلّ منهما.

__________________

(١) الإستبصار ١ / ٢١ ، باب الماء التعليل يحصل فيه شي‌ء من النجاسة ح (٤٨) ٣.

(٢) الظاهر أنه ما رواه سعد بن عبد الله ، عن أحد بن الحسن بن علي بن فضال ، عن عمرو بن سعيد المدائني ، عن مصدق بن صدقة ، عن عمار بن موسى الساباطي ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب فيه على أنه يهودي؟ فقال : « نعم ». فقلت : « من ذلك الماء الذين يشرب منه؟ قال : « نعم ». لاحظ : الاستبصار ١ / ١٨ ح (٣٨) ٣.

(٣) في ( د ) : « هدم ».

٣٤٠