تبصرة الفقهاء - ج ١

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

تبصرة الفقهاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: السيد صادق الحسيني الإشكوري
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-988-000-6
ISBN الدورة:
978-964-988-003-7

الصفحات: ٥٢٨

الموثق له واحدا أوهن شي‌ء حسبما قرّر في محله.

وأمّا محمّد بن سنان فضعفه وإن كان مشهورا بين الأصحاب إلّا أنّه عند التحقيق من أجلّاء الثقات كما هو المختار عند جماعة من المحقّقين لأحوال الرجال ، وقد فصّل القول فيه في الرجال.

والثاني : ما مرّت الإشارة إليه من ظهور البعد الثالث بالمقايسة. ويؤيّده ما يداول في الاستعمالات من ترك البعد الثالث في مثل التعبير المذكور.

نعم ، لو صحّ حملها على المستدير أمكن المناقشة في دلالتها كما مرّت الإشارة إليه فيما مرّ من الأخبار إلّا أنّه لا يمكن إرادته في المقام ؛ إذ لا قائل بمضمونه.

مضافا إلى أنه روى الصدوق (١) رحمه‌الله مرسلا إنّ الكرّ هو ما يكون ثلاثة أشبار طولا في مثله ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا.

على ما قد روى اسماعيل بن (٢) جابر أيضا في الصحيح قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال : « ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » وهو أصحّ روايات الباب حسبما نصّ عليه جماعة من الأصحاب.

وما ذكره صاحب العوالي (٣) من أن هذه الرواية والرواية المتقدمة غير معلوم الإسناد ضعيف جدا.

وعن بعض الأصحاب أنّ هذا الخبر ممّا اتفق الكلّ على صحته ، وظاهر لفظ السعة والاقتصار على ذكر البعدين يومي إلى إرادة المدور ، فيقارب مكسّره ما أفاده روايته الأولى ، فحملها على المدور هو الذي يقتضيه الجمع بين روايتيه ، بل لا يبعد أن يكون الكر مكيالا مدوّرا فينصرف الاطلاق في مثل الخبر المذكور إلى المستدير.

وبعد ملاحظة جميع ما ذكر لا يبعد أن يكون هذه الصحيحة حجّة مستقلّة على القول

__________________

(١) الأمالي للصدوق : ٧٤٤.

(٢) الإستبصار ١ / ١٠ ، ح ١ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٤١ ، ح ٥٣.

(٣) عوالي اللئالي ٣ / ١١.

١٨١

المذكور.

ودعوى تطبيقها على القول المشهور لكون الذراع زائدا على الشبرين غير ظاهر بل الظاهر خلافها حسبما يساعده الاختيار ، ويعاضده الاشتهار عند أهل الاعتبار.

وقد ظهر بما قرّرنا ضعف حملها على المكعّب ليكون الكر ستة وثلاثين شبرا ، ويكون المراد بالستة (١) مجموع الطول والعرض أو أحدهما ، ويبين الحال في الآخر بالمقايسة مضافا إلى أنّه لا يظهر قائل صريح به من الأصحاب ، ولو فرض ذهاب البعض إليه فلا ريب في شذوذه فلا داعى لحمل الخبر عليه.

هذا ، ويؤيّد القول المذكور مقاربته للتحديد بالوزن بناء على تفسير الرطل بالعراقي كما هو المشهور المنصور ، فإنه لا يوافق جدّا زيادة الانصاف في المساحة.

نعم ، لو فسّر الرطل بالمدني قارب القول به إلّا أنه خلاف المشهور ، فاختيار المعظم هنا الأرطال العراقية لا يوافق اختيارهم زيادة الانصاف.

وربّما يؤيده أيضا ما ورد في بعض الأخبار من تفسير الكر بنحو من هذا وأنّ الماء إذا كان أكثر من راوية لا ينجسه شي‌ء ونحو ذلك.

مضافا إلى أنه الذي يجمع به بين الأخبار لما عرفت من إمكان تنزيل أخبار المشهور وغيره على ذلك ، ولا أقلّ من إمكان حمل الزائد إذن على الاستحباب بخلاف ما لو أخذ بالأكثر للزوم طرح الأقل حينئذ.

فظهر من جميع ما ذكرنا أن الأظهر في المقام هو مختار القميين.

وممّا قررنا ظهر وجه القول الثالث وضعفه.

ووجه القول الرابع حمل الأخبار على إرادة الجمع دون الضرب.

وضعفه ظاهر لخروجه عن ظواهر الروايات ومخالفته لفهم جمهور الأصحاب من دون قيام شاهد عليه.

__________________

(١) في ( ألف ) : « بالسعة ».

١٨٢

لكنّك قد عرفت أن مرجع القول المذكور إلى المشهور ؛ إذ لا فرق بعد ما بنى عليه القائل المذكور بين الضرب والجمع.

وأما القول الخامس فلم نقف له على مستند.

نعم ، روى الصدوق رحمه‌الله في المقنع (١) مرسلا أنّ الكر ذراعين وشبر في ذراعين وشبر.

ويمكن استناده إليه بعد حمله على المستدير ؛ إذ يصير مضروبه ثمانية وتسعين وسبعا ونصف ، وهو نحو مائة شبر ؛ لكنّ الرواية ضعيفة جدّا متروكة بين الأصحاب ، فلا معوّل عليها.

ومع ذلك لا يطابق ما ادّعاه ، فإن ظاهرها اعتبار خصوص القدر المذكور.

وأما القول السادس فوجهه الجمع بين الأخبار بحملها على التخيير. ومرجعه عند التحقيق إلى الأخذ بالأقل وحمل الزائد على الاستحباب ، فيرجع القول بحسب المساحة إلى مذهب القميين إذ لم يقل أحد بما دونه.

[ تنبيهات ]

وهاهنا أمور ينبغي التنبيه عليها :

أحدها : إن العبرة في الأشبار بأشبار مستوى الخلقة حملا للإطلاق على الشائع ، فلا عبرة بالقصيرة جدا ولا الطويلة فيرجعان إلى المستوي.

ثانيها : ان من الظاهر اختلاف أشبار مستوى الخلقة جدا ، فقد يستشكل معه في تحديد الكر به لعدم انضباطه.

ويجاب عنه بأنّ التفاوت على الوجه المذكور لا ينافي الانضباط العرفي ؛ إذ ليس الضبط (٢) في العرف على وجه لا يقع فيه الاختلاف أصلا ، كيف والتحديد بالوزن أضبط مع أنه لا يخلو

__________________

(١) المقنع : ٣١.

(٢) في ( د ) : « المنضبط ».

١٨٣

أيضا عن التفاوت.

فالضبط العرفي أوسع دائرة من الضبط العقلي (١).

والأظهر أن يقال : إن العبرة حينئذ بأقل المستوية ، فلا يقضي باختلاف التحديد ، وكذا الحال في الوزن.

ويحتمل القول باعتبار كلّ واحد من المستوية شبر نفسه لوقوع التقدير على حسبه في العرف ، فيحمل عليه الاطلاق أو أنّ العبرة بشبر المعتبر ، ولا يخلو عن بعد وإن وافق الجواب الأول.

ويحتمل الرجوع إلى أوسط أشبار المستوية ، وهو أيضا بعيد.

ثالثها : الظاهر أن التحديد المذكور للكر تحقيقي لا تقريبي ، فلو نقص عن الحدّ المذكور بأقلّ قليل كان في حكم القليل على ظاهر المعروف بين الأصحاب.

وفي الحواشي الكركية أنّ هذا هو المعروف من المذهب.

وربما يومي عبارة المنتهى (٢) إلى اتفاقنا على الحكم حيث أسند القول بالتقريب إلى الشافعي من العامة.

والوجه فيه ظاهر ؛ فإن ظاهر التحديد قاض بإناطة الحكم بالحدّ المعيّن حقيقة ، والتسامح العرفي من قبيل التجوّز لا يحمل عليها الاطلاق من دون قيام دليل عليه.

وربّما يستفاد من عبارة الإسكافي حيث ذكر أنّ الكر ما بلغ بكسره (٣) نحوا من مائة شبر اختيار التقريب. وهو على فرض دلالة العبارة المذكورة عليه ضعيف جدا.

وربّما يقال بأن اختلاف التحديدات الواردة في الكر والاختلاف الحاصل في الأشبار والأوزان شاهد على كون التحديد مبنيّا على التقريب ، وإلّا لما أنيط بمثله.

__________________

(١) في غير ( د ) : « الفعلي ».

(٢) منتهى المطلب ١ / ٤١.

(٣) في ( د ) : « تكسيره ».

١٨٤

وضعفه ظاهر ؛ إذ غاية الأمر حينئذ أن يكون القدر (١) المعتبر حصول أقل تلك التقديرات ، وذلك لا يقضي بالاكتفاء بما ينقص عن الكلّ ممّا يقاربه كما هو قضية البناء على التقريب.

__________________

(١) في ( د ) : « المقدار ».

١٨٥

تبصرة

[ في موضوع البئر وبعض أحكامها ]

ماء البئر أحد أقسام المياه المعنونة في الأخبار وكلام الأصحاب ، وقد أنيط بها عدّة من الأحكام فالأولى أوّلا شرح موضوعها ثمّ اتباعه ببيان (١) أحكامها.

فنقول : قد عرّفه جماعة (٢) منهم الشهيدان بأنها مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعداها غالبا ، ولا يخرج عن مسماها عرفا. والإحالة (٣) في تعيين مسماها إلى العرف من جهة عدم إمكان تحديد الأمور العرفيّة على وجه جامع مانع بدون الإرجاع إلى العرف.

وليس التحديد حينئذ لغو لبيان جملة من الأمور الشارحة لمعناها. غاية الأمر أن ضمّ إليها الرجوع إلى العرف لتتميم الحد.

ولا إحالة إلى المجهول ؛ لوضوح الحال بعد الرجوع إلى العرف.

ولا استعمالا للمشترك في الحد من دون قرينة ؛ لوضوح انصراف العرف مع الإطلاق إلى العرف العام. والمراد به العرف العام الحاصل في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، الظاهر من ملاحظة العرف العام في هذه الأزمنة كما هو الغالب في استعمال (٤) المعاني العرفية الحاصلة في أزمنتهم عليهم‌السلام.

فلا يلزم من ذلك إبهام الحدّ من جهة جهالة العرف المحال عليه لاستكشافه بالرجوع إلى العرف العام في أزمنتنا.

__________________

(١) في غير ( د ) : « بيان ».

(٢) لم ترد في ( ج ) : « جماعة منهم ».

(٣) في ( ج ) : « الأصالة ».

(٤) في ( ألف ) : « استعلام ».

١٨٦

ولا من الرجوع إلى العرف العام تغيير الحكم بتغيير العرف ؛ إذ لا معوّل على شي‌ء من المعاني العرفيّة في معرفة الألفاظ الواردة في كلام الشارع بعد العلم بتغيير العرف أو الظن به ، بل الشك أيضا. وإنّما يؤخذ بالمعاني العرفية من جهة الظن بالاتحاد والاستكشاف بما عندنا عمّا هناك كما هو الحال في المقام.

فالإيراد المذكور في غاية السقوط.

واعتبار النبع في مفهومها ظاهر من ملاحظة العرف العام المحكم في أمثال المقام ، ولذا لا يعدّ الماء النازل إلى الحفر الهابطة بئرا في العرف ، وإن أطلق عليها اسم البئر في بعض البلاد كما يحكى عن بلاد الشام ، فلا يجري عليه أحكام البئر ؛ لما عرفت من عدم الاعتداد فيه بالعرف الخاص.

والمراد بالنبع ما يعمّ الترشيح لصدق البئر معه قطعا ولو (١) (٢) فرق بين أن يكون الترشيح من أعماق الأرض أو من النهر (٣) الواقع في جنب الأرض في وجه قوي.

ولو كان ظهور الماء تحت الأرض على نحو الثماد (٤) ففي إلحاقه بالنبع وجه.

ولو كان هناك ماء مجتمع واقف تحت الأرض فحفر الأرض إليها كما يوجد في بعض البلاد ففي إجراء حكم البئر فيه إشكال ، ويعتبر فيه إبقاء النبع بمعنى اتصالها بالنبع ، فلو حبسه (٥) نبعا جرى عليها حكم الواقف في وجه قوي.

ولو اتصل بالماء المعصوم كالجاري خرج عن حكم البئر ، فلو ألقى فيه الكر وإن كان مأخوذا منه قوي اعتصامها به ما دام باقيا فيها ويحتمل فيه تغليب حكم البئر بعد استقراره فيها.

__________________

(١) لم ترد في ( ب ) : « لو ».

(٢) في ( د ) : « لا ».

(٣) في ( ألف ) : « الشهر ».

(٤) في ( ألف ) : « التماد ».

(٥) في ( ج ) : « جفّ ».

١٨٧

ولو أجري الماء إلى (١) البئر فسرى في أعماق الأرض ثمّ خرج بعد ذلك على سبيل النبع أو الرشح اندرج في حكم البئر في وجه قوي ، ويعتبر فيها البعد عن وجه الأرض ، فلو أشير إليه في الحد كان أولى ويرجع في مقدار البعد إلى العرف.

وظاهر الشيخ في التهذيب تنزيل العيون (٢) الراكدة منزلة البئر. وإليه ذهب ابن القطان في المعالم وبعض المتأخرين. فإن أريد بذلك دخولها في اسم البئر فهو بيّن الضعف بعد الرجوع إلى العرف ، وإن أريد مجرّد إلحاقها بها في الحكم فكذلك أيضا ؛ لعدم وضوح دليل على الإلحاق مع ما للبئر من الأحكام المخالفة للأصل. فالأقوى إذن إلحاقها على القول بعدم عاصميّة (٣) المادة إلى المياه المحقونة ، وإلّا فالأقوى اعتصامها وجريانها مجرى الجاري كما مرّ.

ويظهر من المفيد رحمه‌الله مخالفته في الحكم للجاري والراكد والبئر ، وهو غريب.

ويعتبر أيضا في صدق البئر أن يكون على النحو المعتاد وما يقاربه فلو حفر سرداب ونحوه إلى أن ظهر الماء لم يكن بئرا.

وفي جريان حكمها فيه وجهان ، ومقتضى الأصل عدمه.

وما اعتبر في الحد من عدم جريان الماء وتعدّيه عن النبع (٤) هو الظاهر من إطلاق البئر في العرف ، فالقنوات الجارية تحت الأرض بحكم سائر المياه الجارية سواء ظهرت على وجهها أولا.

وعن بعض أفاضل المتأخرين صدق البئر مع الجريان أيضا كما في أكثر آبار المشهد المقدس الغروي ـ على مشرفه آلاف السلام ـ ، وحينئذ فيندرج آبار القنوات الجارية في محلّ البحث ، وهو بعيد جدا.

__________________

(١) في ( د ) : « في ».

(٢) في ( ب ) : « العنوان ».

(٣) في ( ألف ) : « عاصمة ».

(٤) في ( د ) : « المنبع ».

١٨٨

وحمل الإطلاقات الواردة في المقام (١) ما يعمّها في غاية البعد عن الفهم ، فالظاهر خروجها عن محلّ الكلام في المقام وعدم جريان أحكام البئر فيها (٢).

نعم لو وقف مياه القنوات وانقطع جريانها فالأظهر اندراجها في محلّ البحث وإن كانت جارية في الأغلب واتصل مياه تلك الآبار بعضها بالبعض.

ولو فاض ماء البئر في بعض الفصول قوى خروجه عن البئر. واندراجه إذن في اسم العين وإن كان حين غور مائها مندرجا في البئر ، ومغلوبية الحالة الأولى لا يقضي بشمول اسم البئر لها في تلك الحال.

ومع البناء على (٣) الشمول فالظاهر عدم شمول الإطلاق لمثله.

وظاهر الحد يومي إلى اندراجه إذن في البئر بخلاف ما لو كان الغالب فيه الجريان واتفق غوره في بعض الأحيان أو تساوى فيه الحالان.

ولو توصّل إلى جريان الماء في الظاهر ببعض الآلات ففي جريان حكم البئر على مائها (٤) وجهان.

وأمّا الماء الخارج المتّصل بالمنبع ففي إلحاقه بالجاري أو الراكد أو البئر وجوه ؛ كان أوجهها الأوّل.

ثمّ إن الظاهر من الحد المذكور اتحاد المنبع والمجمع ، ولا يخلو عن قرب إلّا أن يتقاربا فلا ، يبعد معه صدق البئر.

هذا ، ومقتضى الأصل في موارد الشكّ في صدق البئر هو الإلحاق بغيرها لما لها من الأحكام المخالفة للأصل سيّما على القول بنجاستها بالملاقاة ، ولو كان الشكّ بعد اليقين بصدق البئر احتمل استصحاب الحكم السابق ، فتأمّل.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « على ».

(٢) في ( د ) : « لها ».

(٣) لم ترد في ( د ) : « الشمول .. واتفق غوره ».

(٤) في ( د ) : « ما فيها » ، بدل « مائها ».

١٨٩

تبصرة

[ في كيفية اعتصام البئر بالملاقاة ]

اختلف الأصحاب في اعتصام البئر عن الانفعال بالملاقاة وعدمه على أقوال :

أحدها : القول بانفعالها بمجرّد الملاقاة مطلقا.

وإليه ذهب معظم المتقدمين من فقهائنا. وقد نصّ عليه ابن بابويه في رسالته إلى ابنه والمفيد في المقنعة والسيد المرتضى في الانتصار والشيخ رحمه‌الله في عدّة من كتبه والديلمي ، والقاضي ، والحلبي ، وصاحب الإشارة والطوسي وابن زهرة ، والحلّي والمحقق ، وابن عمّه يحيى بن سعيد ، و (١) العلّامة في تلخيص المرام والشهيدان في عدّة من كتبهما والشيخ عبد العال.

وحكاية الإجماع عليه ودعوى اشتهاره بين الأصحاب مستفيضة سيجي‌ء الإشارة إلى جملة منها.

ثانيها : القول بالطهارة وعدم الانفعال بمجرّد ملاقاة النجاسة.

وإليه ذهب معظم المتأخرين من أصحابنا ، بل الظاهر استقرار المذهب عليه واتّفاقهم أخيرا على القول به ؛ ذهب إليه العلّامة رحمه‌الله في معظم كتبه وولده المحقّق في الايضاح والسيورى في ظاهر التنقيح وابن فهد في عدة من كتبه ، والمحقق الكركي ، وتلميذه الشيخ أبي طالب ، والفاضل القطيفي ، والشهيد الثاني ، فيما اعتمد عليه أخيرا حسبما نصّ عليه ولده المحقّق في المعالم وصرّح به في رسالته المعمولة في المسألة ، والمحقق الأردبيلي ، وتلميذاه المحقّقان ، وشيخنا البهائي في اثني عشريته ، والفاضل الخراساني ، والعلّامة الخوانساري ، وولده ، والعلّامتين المجلسيّين وغيرهم.

__________________

(١) لم ترد في ( ج ) : « والعلّامة في تلخيص المرام ».

١٩٠

وقد حكي القول به أيضا عن جماعة من قدماء أصحابنا منهم العماني ، والصدوق في الهداية ، والحسين بن عبد الله الغضائري شيخ الشيخ قد حكى في غاية المراد عن الشيخ أبي يعلى الجعفري خليفة المفيد عنه القول به ، والشيخ الفقيه مفيد بن جهم شيخ العلّامة رحمه‌الله حكاه الشهيد أيضا عن شيخه السيد العميدي عنه.

ويظهر القول به عن الشيخ رحمه‌الله في كتابي الحديث. وكلامه فيهما مضطرب إلّا أنّ حمل كلامه على الحكم بالطهارة والقول بوجوب النزح تعبّد هو مقتضى الجمع بين كلماته.

وقد حكاه المحقّق عن قوم من الفقهاء القدماء ، وتلميذه الآبي عن جماعة من معاصريه.

وربّما ينسب ذلك إلى جماعة من أساطين المحدثين وفقهاء الرواة كزرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير ومعاوية بن عمار وعلي بن جعفر وأبان بن عثمان وابن رئاب ومحمّد بن اسماعيل بن بزيع والبزنطي والحسين بن سعيد وأحمد بن محمّد بن عيسى والصفار والزيات وغيرهم ممّن روى عدم انفعالها بالملاقاة ؛ بناء على ما اشتهر من انّهم إنّما يفتون بمضمون ما يروون.

وقد اختلف القائلون بهذا القول في وجوب النزح تعبّدا وعدمه على قولين :

فعن جماعة منهم الشيخ في كتابي الحديث على ما مرّ هو الأول ، وإليه ذهب العلّامة رحمه‌الله في المنتهى ، وابن فهد في عدة من كتبه.

وربّما يستظهر من الصدوق في الهداية ، ويظهر من السيوري الميل إليه.

والمعروف بين المتأخرين بل المتّفق عليه في الظاهر بين متأخريهم هو استحباب النزح.

وهو مختار العلّامة رحمه‌الله في جملة من كتبه ، والمحقّق الكركي ، والشهيد الثاني ، وهو المنقول عن جماعة من القدماء منهم العماني على ما حكاه جماعة.

وتفرّد ابن فهد في حكاية الأوّل عنه.

ثمّ على القول الأوّل يتوقف جواز استعمال الماء على النزح على ما نصّوا عليه. وكأنّه المراد بالوجوب وإلّا فلا وجه للقول بوجوبه الشرعي فيأثم بتعمّد استعماله من دونه.

وأمّا مع الجهل به فلا حرج ، كما نصّ عليه الشيخ. ومع التعمّد والإثم فهل يصحّ التطهير به؟ قولان.

١٩١

وظاهر التهذيب صحة الاستعمال وإن أثم كما هو المصرّح به في المحرر ، وظاهر الاستبصار بطلان الاستعمال ولزوم إعادة الوضوء والصلاة.

والظاهر أنّه إنّما يقول به فيما يتوقف على نية القربة كالوضوء دون غيره كتطهير الثياب ، فينحلّ القول المذكور إذن إلى أقوال ثلاثة.

ثالثها : التفصيل بين الكثير والقليل ، فلا يعتصم (١) ما دون الكر منه وان (٢) الكر على ما حكي القول به عن محمّد بن محمّد البصري من تلامذة السيد المرتضى رحمه‌الله وربّما يعزى ذلك إلى السيد في الجمل (٣) حيث قال : « إن كلّ ماء على أصل الطهارة إلّا أن يخالطه ـ وهو قليل ـ نجاسة فينجس أو يتغير ـ وهو كثير ـ أحد أوصافه من لون أو طعم أو رائحة ».

فإنّه يعم ماء البئر والجاري وغيرهما ، لكن القاضي في شرحه حمل ذلك على القليل من الراكد ، وذكر أن أصحابنا يذهبون إلى نجاسة مياه الآبار ممّا يلاقيها من النجاسة ولا يعتبرون فيه قلة ولا كثرة.

واختار هذا التفصيل شيخنا البهائي في بعض مصنّفاته ، وألزم العلّامة رحمه‌الله القول به ، فإنه إذا قال به في الجاري كان التزامه به في البئر أولى وليس كذلك ؛ إذ الطهارة والنجاسة من الأحكام التوقيفية ، وظاهر الإطلاقات في المقام انتفاء (٤) التفصيل في البئر بين القليل والكثير.

والأولوية المذكورة لا تنهض حجة شرعية مع عدم إشعاره قدس‌سره بالتفصيل ، ولو كان قائلا به لأشار إليه في شي‌ء من كتبه.

وعن الجعفي أنه اعتبر في اعتصام البئر أن يكون كل من أبعاده الثلاثة ذراعين ، ثمّ إنه حكم بالنزح.

وكلامه هذا يحتمل التفصيل المذكور عن البصروي ؛ بناء على تحديده الكر بالقدر

__________________

(١) في ( د ) : « فلا يعصم ».

(٢) في ( د ) : « دون » بدل : « وإن ».

(٣) رسائل المرتضى ٣ / ٢٣.

(٤) في ( ب ) : « عدم انتفاء ».

١٩٢

المذكور لكنه غير معروف في حدّ الكر.

ويحتمل أن يكون تفصيلا آخر في البئر.

ثمّ حكمه بالنزح إن كان بالنسبة إلى ما بلغ القدر المذكور أيضا ، وكان قولا منه بوجوبه كما يومي إليه العبارة المذكورة كان ذلك أيضا فارقا بين قوله وقول البصروي ؛ إذ لم ينقل عنه الحكم بوجوب النزح بالنسبة إلى ما ذهب اعتصامه ، وظاهر مذهبه يعطي عدم الوجوب.

وكيف كان ، فالظاهر أن هذا القول أيضا ينحلّ إلى قولين.

والمختار في المسألة هو القول بعدم (١) انفعالها بالملاقاة وعدم وجوب النزح.

ويدلّ عليه بعد قضاء الأصل به من وجوه عديدة ودلالة العمومات عليه من الكتاب والسنة المعتبرة المستفيضة المشتملة على الصحاح وغيرها منها صحيحة محمّد بن اسماعيل ابن بزيع المروية مشافهة تارة ومكاتبة أخرى عن مولانا الرضا عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادة » (٢) ، وهي مع وضوح إسنادها واضحة الدلالة على المقصود بل فيها دلالة على المدعى من وجوه شتّى.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار عن الصادق عليه‌السلام : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلا بنتن (٣) فإن نتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » (٤).

وفي صحيحة أخرى له عنه في الفأرة تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها ويصلي وهو لا يعلم أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ قال : « لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه » (٥).

ونحوها في موثقة أبان (٦) عنه عليه‌السلام ، وقد وقع السؤال فيها عن إعادة الوضوء.

__________________

(١) في ( ألف ) : « بعد ».

(٢) الإستبصار ١ / ٣٣ ، ح ٨ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٤ ، ح ٧ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٢ ، ح ٦ و ٧.

(٣) في ( ب ) : « أن ينتن ».

(٤) تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٢ ، ح ١ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٣ ، ح ١٠ ، لكن عبارة « إلّا بنتن فإن نتن » في الرواية هكذا : « إلّا أن ينتن فإن أنتن ... ».

(٥) تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٣ ، ح ٢ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٣ ، ح ٩.

(٦) تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٣ ، ح ٣ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٣ ، ح ١١.

١٩٣

ومنها : صحيحة الشحام وابن عثيم عنه (١) عليه‌السلام : « إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء. قلنا : فما تقول في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا؟ فقال : « لا بأس » (٢).

ومنها : ما رواه المشايخ الثلاثة رحمهم‌الله تعالى في الكتب الأربعة عن أبي بصير قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بئر يسقى منه ويتوضأ به ويغتسل منه الثياب ويعجن به ثمّ يعلم أنّه كان فيها ميت؟ قال : فقال : « لا بأس ولا يغسل منه الثوب ولا يعاد منه الصلاة » (٣).

ومنها : صحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام قال : سألته عن بئر ماء وقع فيه زنبيل من عذرة (٤) رطبة أو يابسة أو زنبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها؟ قال : « لا بأس » (٥).

ومنها : مرسلة علي بن حديد ، قال : كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في طريق مكة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد الله عليه‌السلام دلوا فخرج فيه فأرتان ، فقال أبو عبد الله : « عليه‌السلام : « أرقه » فاستقى آخر فخرجت فيه فأرة فاستقى الثالث ، فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال : « صبه في الإناء » (٦).

واستعماله عليه‌السلام للماء المفروض من دون نزح المقدّر مع ما تقرّر من عدم إقدامهم اختيارا على المكروهات ومخالفة السنن إما لمكان الضرورة من جهة السفر أو لبيان الجواز أو من جهة التوسعة والأخذ بالرخصة ، وهي قد يكون جهة مرجّحة كما ورد « أنه تعالى يحبّ أن يؤخذ

__________________

(١) في ( ج ) : « منه ».

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٣ ، ح ٥ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٣ ، ح ١٢ ، في الرواية : « لا بأس به ».

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٤ ، ح ٨ ؛ الكافي ٣ / ٧ ، ح ١٢ ؛ الإستبصار ١ / ٣٢ ، ح ٦ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧١ ، ح ٥.

(٤) لم ترد في ( ج ) : « عذرة رطبة أو يابسة أو زنبيل من ».

(٥) الإستبصار ١ / ٤٢ ، ح ٣.

(٦) الإستبصار ١ / ٤٠ ، ح ٧ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٢٣٩ ، ح ٢٤ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٤ ، ح ١٤ ، لكن في الرواية : « فقال : صبه في الإناء ، فصبّه في الإناء ».

١٩٤

برخصته (١) كما يحبّ (٢) أن يؤخذ بعزائمه » (٣).

ونحوه ما رواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان في المدينة بئر في وسط مزبلة ، فكانت الريح تهب فتلقى فيه (٤) القذر وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ منها » (٥).

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يتطهّر من بئر بضاعة ، وفيها العذرة والنجاسات (٦).

والظاهر إن الرواية من طرق العامة ، وما أورده المحقق رحمه‌الله (٧) من (٨) أن عادته عليه‌السلام (٩) التنزه عن النجاسات والتباعد عن المكروهات فلا يظن به (١٠) المسامحة (١١) باستعمال المياه المتنجّسة مع وجود غيرها مدفوع بما قرّرنا.

ومنها : صحيحة زرارة عن الصادق [ عليه‌السلام ] ، قال : سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ به من ذلك الماء؟ قال : « لا بأس به ».

وروى ولده الحسين بن زرارة في الموثق عنه عليه‌السلام نحو ذلك (١٢).

واحتمال أن يكون الوجه فيه عدم العلم بوصول الشعر إلى الماء مدفوع بقضاء العادة بخلافه ، مضافا إلى ترك الاستفصال.

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه ممّا لا مجال لذكرها في المقام.

__________________

(١) في ( ألف ) : « ترخصه ».

(٢) في ( ج ) : « يجب ».

(٣) وسائل الشيعة ١ / ١٠٧ ح ٦٣ ، نقلا من رسالة المحكم والمتشابه : ٣٦ ـ ٣٧ ، وفيه : « برخصه ».

(٤) خ. ل : « فيها » ، كما في ( ألف ).

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢١ ، ح ٣٣.

(٦) مسند احمد ٣ / ١٥ و ٣١.

(٧) الوسائل التسع : ٢٢٦.

(٨) لم ترد في ( ب ) : « من ».

(٩) في ( ألف ) : « إعانة » ، وفي ( ب ) : « اعانة عليه‌السلام ».

(١٠) في ( د ) : به عليه‌السلام.

(١١) في ( ج ) : « عدم المسامحة ».

(١٢) وسائل الشيعة ١ / ١٦٩ ، ح ٢.

١٩٥

ويؤيده الأخبار المستفيضة الدالّة على الاكتفاء في البئر المتغير بعده من النجاسات نزحها إلى أن يزول التغيير فيفيد الاكتفاء ولو مع عدم استيفاء المقدّر ، وهو لا يوافق القول بالانفعال.

وفي الأخبار الواردة في المنزوحات أقوى شاهد عليه من وجوه شتّى ؛ نظرا إلى شدّة اختلافها في التقديرات المشيرة إلى بناء الأمر فيها على الندب ؛ إذ لا يناسب التفاوت الفاحش مقام الوجوب.

وقد أطلق في عدّة منها نزح الدلاء من غير تعيين لمقدار المنزوح ، ولا يناسب مثله من التسامح مقام الوجوب ، والتزام الاجمال (١) في تلك الأخبار بعيد جدّا.

وقد ورد في عدّة منها نزح الماء لورود غير النجاسات ، ولا وجه لتنجيسه الماء ولا لوجوب النزح حينئذ من دون ورود نجاسة عليها.

ويعضد ذلك أيضا الروايات المستفيضة الدالّة على اعتصام الماء الكثير منه ، فيثبت الحكم في غيره أيضا لضعف القول بالتفصيل.

ومع الغضّ عنه فهي كافية في دفع القول بانفعالها مطلقا.

[ و ] منها : قوية الثوري المتقدم في بحث الكر (٢).

ومنها : موثقة الفطحيّة عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة؟ فقال : « لا بأس إذا كان فيها ماء كثير » (٣). وكأنّ اشتراط الكثرة حينئذ من جهة عدم تغيّره بالنجاسة المفروضة.

ومنها : ما في الفقه الرضوي : « وكلّ بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها فسبيلها سبيل الماء الجاري إلّا أن يتغيّر لونها وطعمها ورائحتها ، فإن تغيّرت نزحت حتى تطيب » (٤).

__________________

(١) في ( ب ) : « الاحتمال ».

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٤٠٨ ، ح ١.

(٣) الإستبصار ١ / ٤٢ ، ح (١١٧) ٢ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٤١٦ ، ح ٣١ ؛ وسائل الشيعة ١ / ١٧٥ ، ح ١٥.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.

١٩٦

ويؤكد ذلك أيضا أنّه لو انقطع قدر كرّ من ماء البئر عن مادّته أو جفت مادة البئر وكان ما فيها من الماء مقدار الكر لم ينجّس بملاقاة النجاسة لاندراجه في الكثير الراكد وخروجه عن اسم البئر ، فلو كان مع الاتصال بالمادة متنجسا بالملاقاة لكان (١) وجود المادة قاضيا بضعفه وقبوله للانفعال.

وهو بعيد جدا بل لا وجه له إذ لو لم يكن وجود المادّة قاضيا بقوّة الماء لم يكن باعثا على ضعفه.

مضافا إلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرد آبار المشركين ولم ينقل عنه الأمر بالرجوع (٢) من جهة ورودهم عليها ، بل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة المشرفة يستعمل مياه آبارها مع شرك أهلها. وكذا يستعمل ماء زمزم مع مزاولة المشركين لها.

وكون نجاسة المشركين واردة في المدينة لا ينافيه ؛ إذ لا ينحصر نجاسة المشركين في كفرهم لمزاولتهم لسائر النجاسات إلّا أن يقال : إنّ شيئا من النجاسات لم يكن نجسة حينئذ ، وهو بعيد ، والظاهر فساده.

على أنّه لم ينقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمر بتطهير آبار المشركين بعد ذلك ، ولا أمر بتطهير بئر زمزم بعد الفتح مع ورود نجاسة المشركين قبله على أنّ في القول بانفعال البئر بالملاقاة من الحرج والمشقة الشديدة ما لا يخفى إذا غلب المياه دورانا مياه الآبار سيّما في الحرمين الشريفين وما والغالب والاها عدم تحفّظها من ملاقاة النجاسات أو المتنجّسات.

وإلزام النزح منها دائما حرج عظيم لا يناسب الشريعة السمحة السهلة.

مضافا إلى أنها لو تنجّست بمجرد الملاقاة لورد في الشريعة بيان لكيفيّة تطهيرها ، ولم نجد ذلك في شي‌ء من الأخبار سوى ما ورد في أخبار المنزوحات بالنسبة إلى أمور مخصوصة عديدة وقع السؤال عنها ، وقد خلت معظم النجاسات والمتنجسات عن النص.

ولا وجه لإهمال الشارع بيان الحكم في مثل هذه المسألة العامّة البلوى الّتي يحتاج إليها

__________________

(١) في ( ج ) : « لمكان ».

(٢) في ( د ) : « النزح ».

١٩٧

عامة الورى ولا (١) تقدّم نقل النقلة ذلك إلينا.

وأيضا لو تنجّس البئر بالملاقاة لم يمكن تطهيرها بالنزح إلّا مع التزام أمور مستبعدة لا وجه للالتزام بها إلّا مع قيام دليل واضح عليها ، وهو مفقود في المقام.

وذلك لتنجس الدلو بورود البئر ، فيكون وروده ثانيا على البئر بمنزلة إصابة نجاسة جديدة ، وكذا الرشاء والماء المتساقط منه في البئر ، فكيف يصحّ القول بتطهيره بذلك مع ملاقاته النجاسة من جهته.

وأيضا كيف يحكم بطهارة الماء عند انفصال الدلو النجس عنه ، وكذا بطهارة الدلو عند تفريغ ما فيه من الماء النجس المنزوح من البئر من دون ملاقاة المطهر.

وكذا الحال في طهارة الرشاء وأطراف البئر بما (٢) تقاطر عليه الماء النجس ، وما هبط عنه الماء من أطراف البئر من جهة بعض الماء بالنزح.

وكذا الحال في ثياب النازح وسائر ادوات النزح ، فإنّه و (٣) إن أمكن القول بطهارة الجميع على الوجه المذكور إلّا أنّه بعيد يتوقّف القول به على قيام دليل واضح عليه.

والقول (٤) بعدم انفعال البئر بالملاقاة أقرب منه ، ولا شي‌ء يلزم من ذلك على القول به فيما إذا تغيّر ماء البئر بالنجاسة فإنّا لا نقول بطهارة الرشاء وجوانب البئر وسائر ما يلاقيه الماء المتغيّر إلّا بملاقاة المطهّر على النحو المعمول.

حجّة القول بالانفعال مطلقا أمور :

أحدها : الإجماعات المحكيّة على ذلك المعتضدة بالشهرة القديمة بين الطائفة ، الظاهرة من ملاحظة الفتاوى وكلمات الأصحاب ، والمنقولة في لسان جماعة من علمائنا الأطياب ، وممّن

__________________

(١) في ( د ) : « وامّا لعدم » بدل « ولا تقدّم ».

(٢) في ( د ) : « ممّا ».

(٣) لم ترد في ( ب ) : « و ».

(٤) في ( د ) : « العمل » بدل « القول ».

١٩٨

حكى الإجماع عليه السيد في الانتصار (١) حيث عدّ ذلك ممّا انفردت الامامية به ، وذكر أنّ حجة الإمامية فيما ذهب إليه في البئر ما تقدّم من الحجة ، وأشار به إلى الإجماع.

وفي كلام الشيخ في التهذيب (٢) نفي الخلاف عن نجاسة ماء البئر إذا وقع فيه البعير والخمر.

وفي شرح الجمل للقاضي : إنّ أصحابنا يذهبون إلى نجاسة مياه الآبار بما يلاقيها من النجاسة ، ولا يعتبرون فيه قلّة ولا كثرة. وظاهره (٣) الإجماع عليه.

وفي الغنية (٤) التصريح بالإجماع عليه قليلا كان ماؤها أو كثيرا.

وفي السرائر (٥) نفى الخلاف عن الحكم بالنجاسة قليلا كان الماء أو كثيرا.

وقد نفى الخلاف عنه في خصوص بعض النجاسات بل نصّ فيها (٦) بالإجماع.

وعن المحقّق في المسائل المصريّة (٧) وفي غاية المراد : الأكثر من الأصحاب وكاد أن يكون إجماعا منهم على النجاسة ، ولعلّه الحجّة.

ويظهر من جماعة منهم إجماع السلف على نزح البئر لوقوع النجاسة في الجملة وأنّه يطهّرها ففي الانتصار (٨) أنّه لا خلاف بين الصحابة والتابعين في أنّ اخراج بعض ماء البئر يطهّرها ، وإنّما اختلفوا في مقدار ما ينزح.

وهذا يدل على حكمهم بنجاستها على كل حال من غير اعتبار لمقدار مائها.

ونحوه ما في الغنية (٩).

__________________

(١) الانتصار : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٢٤٠.

(٣) في ( ب ) : « ظاهر ».

(٤) غنية النزوع : ٤٦ و ٤٧.

(٥) السرائر ١ / ٦٩.

(٦) في ( د ) : « في بعضها » بدل « فيها ».

(٧) زيادة في ( د ) : « نفي الخلاف عنه ».

(٨) الانتصار : ٩٠.

(٩) غنية النزوع : ٤٨.

١٩٩

وفي غاية المراد أنّ النزح للبئر مرويّ عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، والحسن البصري. وعليه عمل الاماميّة في سائر الأعصار والأمصار.

وحكاية الشهرة عليه مستفيضة في كلماتهم ، حكاه القطيفي في شرح الإرشاد والفاضل الاصبهاني في كشف اللثام (١).

ثانيها : أخبار النزح ؛ وهي في غاية الكثرة والاستفاضة بل متواترة في الجملة.

فإنّ ظواهرها كون النزح لأجل التطهير من جهة ملاقاة النجاسة كما هو الحال في سائر الأوامر المتعلّقة بغسل الثياب والأواني ونحوها بعد ملاقاة النجاسة ؛ فإنّ مفادها تنجّس تلك الأشياء بملاقاة النجاسة وطهرها بذلك حسبما هو المعلوم منها في العرف.

وقد جرى عليهم فهم الفقهاء في تلك المقامات ، فكذا في المقام بل جرى عليه فهم معظم القدماء هنا أيضا كما عرفت.

وذلك من أقوى الشواهد على المقصود ؛ فإنّ فهم الأصحاب وفتواهم من أعظم المؤيّدات بل يجري مجرى الدليل في بعض المقامات.

وحمل تلك الأوامر على الوجوب التعبدي بعيد جدّا بل يمكن القطع بفساده وحملها على الندب خروج عن ظواهرها من غير دليل عليه يكافئها ، بل في ورود النزح في صورة التغيير بالنجاسة وغيرها على نحو واحد أقوى شاهد على كونه في المقامين من قبيل واحد ، والمقصود به مع التغيير هو التطهير فيكون ذلك هو المراد مع عدمه.

ثالثها : الأخبار المستفيضة المشتملة على الصحاح الدالّة عليه بالخصوص :

منها : صحيحة محمّد بن اسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر يكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيه شي‌ء من عذرة كالبعرة أو نحوها ، ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟

فوقّع عليه‌السلام في كتابي بخطّه « ينزح منها دلاء » (٢).

__________________

(١) كشف اللثام ١ / ٢٧٨ و ٢٧٩.

(٢) الإستبصار ١ / ٤٤ ، ح (١٢٤) ٢ ؛ تهذيب الأحكام ١ / ٢٤٤ ، ح ٣٦.

٢٠٠