وإذ تقرّر ذلك فلا بدّ لنا من بيان أنّ الثابت للجواب ـ تعالى شأنه ـ من المعاني الأربعة للقدرة ما ذا؟ ، والحقّ من المذاهب المحرّرة للعقلاء في هذا المقام أيّها؟.
فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : انّه لا ريب في ثبوت القدرة بالمعنى الأوّل للواجب ـ تعالى ـ ، كما أجمع عليه الكلّ. ويدلّ عليه ما يأتي من اثبات العلم والمشية والإرادة له ـ تعالى ـ. والقدرة بهذا المعنى صفة تؤثّر على وفق العلم والإرادة. وهي فينا من الكيفيات النفسانية وفي الواجب هي كون ذاته ـ تعالى ـ بحيث يصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير. فاذا اعتبر ذاته من حيث أنّ الممكنات صادرة عنه كان قدرة ، وإذا اعتبر من حيث أنّها منكشفة له كان علما. والفاعل إذا تعلّق فعله بعلم ومشية كان قادرا من غير أن يعتبر معه شيء آخر من تجدّد اعراض واختلاف دواع أو تفنن ارادات أو سنوح حالات (١) ، فانّ القدرة تتعلّق بالمشية سواء كانت المشيّة يصحّ عليها التغيير أولا. وعلى هذا فالقادر المختار من إن شاء فعل وإن لم يشاء فلم يفعل ، سواء شاء ففعل دائما أو لم يشاء فلم يفعل دائما. والشرطية غير متعلّقة الصحّة بصدق من كلّ من طرفيها ، بل قد يصحّ أن يكون أحد طرفيها أو كلاهما ممّا يكذب ، فانّ مثل الظلم والكذب ممّا لا يتعلّق مشية الله بفعله ولا يريده ، مع انّه قادر عليه. ومثل النقيضين ممّا لا يتعلق المشية بفعله ـ لامتناع اجتماع النقيضين ـ ، ولا بتركه ـ لامتناع ارتفاعهما ـ ، ففي مثله ممّا يمتنع وجوده وعدمه يصدق كذب تعلّقها بكلي طرفي الشرطية مع أنّه ـ تعالى ـ قادر على فعله وتركه ؛ وعلى هذا فالفعل الاختياري إذا صدر عنّا توقّف على مباد أربعة : / ٣٤MB / العلم ، والقدرة ـ بمعنى القوّة والتمكّن ـ ، والمشية ، والإرادة. وهذه صفات قائمة بذواتنا زائدة عليها.
وقد ينفكّ بعضها عن بعض ويستحيل صدور الأفعال الاختيارية عمّن يفقد كلّها أو بعضها ، فالفعل الاختياري هو ما يصدر عن الفاعل بتلك المبادي ؛ والقادر المختار من يصدر عنه الفعل بتلك المبادي. فلو فرضنا أنّ تلك المبادي حاصلة لواحد منّا بالقياس إلى فعل مخصوص دائما لكان صدوره عنّا دائما ، ولا يقدح ذلك في كون
__________________
(١) الاصل : خيالات.