وقبل الخوض في بيانه لا بدّ من بيان علّة احتياج الأشياء إلى المؤثّر. فنقول : الحقّ انّ علة احتياج / ٩DB / الممكن إلى المؤثّر هو الامكان ، وفاقا لجمهور الحكماء ؛
وذهب جماعة من المتكلّمين إلى أنّ العلّة فيه هو الحدوث (١) ؛
وقيل : الامكان مع الحدوث شطرا ؛
وقيل : شرطا (٢).
لنا : انّ العقل يحكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه ، وانّ ما يتساوى وجوده وعدمه فهو محتاج إلى مرجّح مغاير للممكن مرجح احد طرفيه المتساويين على الآخر ـ لبطلان ترجّح احد المتساويين على الآخر ـ ، / ٩MB / فيعلم منه انّ علّة الحاجة في الواقع هي الامكان. لانّ العقل رتّب الاحتياج على تساوي الوجود والعدم والترتّب العقلي الّذي هو مدرك مؤدّى تعطى التفاوت بين التساوي والاحتياج ، وهو المراد بالعلّية في نفس الأمر.
وممّا يدلّ على أنّ الحدوث ليس علّة الافتقار إلى المؤثر انّا نتصوّر حدوث الممكن ولا يحصل لنا العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ امكانه ، حتّى لو فرض حادث واجب بالذات وإن كان مما لا يحكم باستغنائه عن المؤثّر.
وأيضا لو كان الحدوث علّة الاحتياج لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب. بيانه : انّ الحدوث كيفية الوجود ووصف له ـ لانّه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم ـ ، فتأخّر الوجود المتأخّر عن الايجاد المتاخّر عن الاحتياج ، لانّ الشيء إذا لم يكن محتاجا إلى المؤثّر لم يتصوّر تأثيره فيه ـ كما في الواجب والممتنع ـ ، فالايجاد فرع الاحتياج والاحتياج متأخّر عن علّته ـ لوجوب تقدّم العلّة على المعلول ـ ، فلو كان الحدوث علّة للاحتياج أو جزء لها أو شرطا لها وجب تقدّمه على الاحتياج المتقدّم على الايجاد المتقدّم على الوجود المتقدّم على الحدوث ، فيلزم تقدّمه على نفسه بأربع
__________________
(١) هذا القول نسبه بعضهم إلى قدماء المتكلّمين. راجع : شرح المقاصد ج ١ ص ٤٩٠. تلخيص المحصّل ص ١٢٠.
(٢) راجع : المطالب العالية ، ج ١ ، ص ٧١ ، تجد ما فيه نافعا في المقام. وانظر أيضا : شوارق الالهام ، ص ١٣٨ ؛ شرح المقاصد ، ج ١ ، ص ٤٨٩ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ١ ، ص ٢٠٦.